- En
- Fr
- عربي
اقتصاد ومال
تواجه الدول العربية تحدّيات جسامًا على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، خصوصًا في ظلّ الظروف السائدة منذ سنوات، والتي شهدت انتشار ظاهرة الإرهاب وصراعات عنيفة أدّت إلى نزوح ولجوء أعداد هائلة، مع ما لذلك من تداعيات، فضلًا عن ارتفاع مستويات البطالة والفقر.
ما الذي خرجت به «القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية» التي انعقدت في بيروت (19 و20 كانون الثاني الماضي)؟
وكيف يمكن قراءة «إعلان بيروت» الذي صدر عنها؟
تضمّنت كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في افتتاح القمة، مبادرة قوامها إنشاء مصرف عربي لإعادة إعمار البلدان المتضرّرة من الحروب والأزمات. ولفت الرئيس عون في مستهلّ كلمته إلى واقع المنطقة العربية بفعل «زلزال حروب متنقّلة» ضربها. بعض دولنا كانت في وسطه مباشرة وبعضها الآخر طاولته الارتدادات، وفي كلتا الحالتين الخسائر فادحة، بشريًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا...
أين نحن من التنمية المستدامة؟
وقال: «الحروب الداخلية، وتفشّي ظاهرة الإرهاب والتطرّف، ونشوء موجات نزوح ولجوء لم يعرف العالم لها مثيلًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أثّرت سلبًا على مسيرة التنمية التي تشقّ طريقها بصعوبة في المنطقة، خصوصًا في بعض الدول التي تعاني أساسًا من مشاكل اقتصادية واجتماعية، فإذا بهذه الحروب تلقي بثقلها عليها وتفرمل كل محاولات الاستنهاض، وستستمر انعكاساتها وتداعياتها عليها لسنين عدّة، ممّا سيعيق حتمًا تنفيذ أي روزنامة اقتصادية واجتماعية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة فيها، ويجعلها تتأخر عن باقي دول العالم.
فأين دولنا من مسيرة تحقيق الأهداف العالمية للتنمية المستدامة، من القضاء على الفقر المدقع، إلى محاربة عدم المساواة والظلم، أو إصلاح تغيّر المناخ، في وقت تُهدم البيوت على رؤوس أصحابها، وتُنتَهك أبسط حقوق الشعوب بالحرية والعيش الكريم، وينتشر الدمار في عدّة مناطق من الدول العربية، ويغادر ملايين الناس أوطانهم نحو دول أخرى هي أصلًا تنوء تحت أحمالها وتضيق بسكانها؟»
وأضاف قائلًا: «إني أتكلم من موقع العارف، إذ إنّ لبنان قد دفع الثمن الغالي جرّاء الحروب والإرهاب، ويتحمّل منذ سنوات العبء الأكبر إقليميًا ودوليًا، لنزوح الأشقاء السوريين، مضافًا إلى لجوء الإخوة الفلسطينيين المستمر منذ سبعين عامًا، بحيث أصبحت أعدادهم توازي نصف عدد الشعب اللبناني، وذلك على مساحة ضيقة ومع بنى تحتية غير مؤهلة وموارد محدودة وسوق عمل مثقلة.
من ناحية أخرى هناك الاحتلال الإسرائيلي المتربّص بنا، والذي لا ينفكّ يتمادى منذ سبعة عقود في عدوانه واحتلاله للأراضي الفلسطينية والعربية وعدم احترامه القرارات الدولية، وقد وصل اليوم إلى ذروة اعتداءاته بتهويد القدس وإعلانها عاصمة لإسرائيل وإقرار قانون «القومية اليهودية لدولة إسرائيل»، غير آبه بالقرارات الدولية، مع ما يعني ذلك من ضرب للهوية الفلسطينية ومحاولة الإطاحة بالقرار 194 وحق العودة. أضف إلى ذلك التهديدات الإسرائيلية والضغوط المتواصلة على لبنان، والخروقات الدائمة للقرار 1701، وللسيادة اللبنانية، برًا وبحرًا وجوًا. ولكن أخطر من ذلك كله هو حال التعثّر الداخلي والتبعثر التي يعيشها الوطن العربي...».
واستشهد الرئيس في كلمته بقول للأديب والمفكر الكبير جبران خليل جبران «ويلٌ لأمة تلبسُ ممّا لا تنسج، وتأكل ممّا لا تزرع، وتشرب ممّا لا تعصر» وقال: «كي تصبح أمتنا أمّة منتجة «تنسج وتزرع وتعصر» وتحقق أمنها الغذائي، أمامها الكثير من التحديات، وأول تحدٍّ يواجهنا اليوم هو أن نجعل من كل الأحداث المؤلمة التي أصابتنا حافزًا للعمل معًا على الخروج من الدوامة المفرغة لسلسلة الحروب وتداعياتها، والمضيّ بمسيرة النهوض نحو مستقبل أفضل لشعوبنا، ولنا مثال في أوروبا التي عرفت كيف تلملم جراح حروبها، ووصلت إلى السلام عبر الازدهار الاقتصادي والاجتماعي».
بناء الإنسان العربي أساس للعمل المشترك
وتابع قائلًا: «تنعقد قمّتنا بعد انقطاع دام عدّة سنوات شهدَ العالم خلالها القرار التاريخي الذي اتخذته الدورة السبعون للجمعية العامة في الأمم المتحدة في العام 2015، تحت الرقم 70/1، وأقرّت بموجبه خطة التنمية المستدامة للعام 2030 القائمة على سبعة عشر هدفًا...
إنّ معالجة جذور الأزمات والسعي إلى القضاء على الفقر الذي يولّد عدم المساواة والحروب والإرهاب، يجب أن يكونا أولوية، كذلك محاربة الفساد والقيام بالإصلاحات الضرورية على الصعد كلها وتأمين استقرار التشريع وعدالة القضاء لتوفير عامل الثقة للاستثمارات الداخلية والخارجية...
وبالتلازم مع السير بالمشاريع الاقتصادية والاستثمارية والزراعية ضمن رؤية شاملة ومتكاملة، يجب أن يرتكز أساس عملنا المشترك على بناء الإنسان العربي، وحفظ حقوق المرأة وإبراز دورها الأساسي في مجتمعاتنا وحماية الطفولة، وتثقيف الشباب وتحصينهم علميًا، والتشجيع على معرفة الآخر، من هنا كانت مبادرتنا بالعمل على إنشاء «أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار» لما لها من أبعاد ثقافية واجتماعية، ولما تشكّل من مساحة لقاء بين البشر».
وأمل الرئيس «في أن تُسهم هذه القمّة في تفعيل النشاط بالمشاريع العالقة، والعمل على إكمالها وإنجازها لما في ذلك من مصلحة أكيدة لكل شعوبنا...» كما تمنّى « أن تلحظ مشاريع عصرية مفيدة للعالم العربي...».
عودة آمنة للنازحين ومبادرة
وأضاف: «إنّ لبنان يدعو من هذا المنبر المجتمع الدولي إلى بذل كل الجهود الممكنة وتوفير الشروط الملائمة لعودة آمنة للنازحين السوريين إلى بلدهم، ولا سيّما إلى المناطق المستقرّة التي يمكن الوصول إليها، أو تلك المنخفضة التوتر، من دون أن يتم ربط ذلك بالتوصل إلى الحل السياسي، وعلى تقديم حوافز للعودة لكي يسهموا في إعادة إعمار بلادهم والاستقرار فيها.
وقد عملنا على اقتراح مشروع بيان ختامي يصدر عن القمّة حول أزمة النازحين واللاجئين نظرًا لانعكاسات هذه الأزمة الخطرة على اقتصادات دولنا، وأبعد من ذلك، لما تشكّله من مخاطر وجودية على النسيج الاجتماعي القائم في المنطقة».
وتابع: «في ظل التحديات الجسام والمهمات الكبرى التي تواجهنا بعدما عصفت الحروب والأزمات في عدد من البلدان العربية، أتقدم بمبادرتي الرامية إلى اعتماد استراتيجية إعادة الإعمار، في سبيل التنمية داعيًا إلى وضع آليات فعالة تتماشى مع هذه التحديات، ومع متطلبات إعادة الإعمار وفي مقدمها تأسيس مصرف عربي لإعادة الإعمار والتنمية، يتولّى مساعدة جميع الدول والشعوب العربية المتضرّرة على تجاوز محنها، ويسهم في نموها الاقتصادي المستدام ورفاه شعوبها وتحقيق أهداف التنمية المستدامة».
وفي هذا الإطار دعا الرئيس عون المؤسـسات والصناديق التمويلية العربية للاجتماع في بيروت خلال الأشهر الثلاثة المقبلة لمناقشة هذه الآليات وبلورتها.
نتائج القمة
ركّزت مقررات القمة إلى حدٍّ كبير على أهداف التنمية المستدامة وفق الخطة التي وضعتها الأمم المتحدة ورأت ضرورة تحقيقها مع حلول العام 2030، وتمّت صياغة هذه المقررات في ضوء الاحتياجات العربية. ويمكن اختصارها وفق الآتي:
- ضرورة تكاتف جميع الجهات الدولية المانحة والمنظمات المتخصصة والصناديق العربية من أجل التخفيف من معاناة اللاجئين والنازحين وتأمين تمويل تنفيذ مشاريع تنموية في الدول العربية المستضيفة لهم، وضرورة دعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتزايدة وما أعقبها من تدمير للاقتصاد الفلسطيني وبنيته التحتية.
- إنشاء صندوق للاستثمار في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي برأس مال قدره مائتا مليون دولار أميركي بمشاركة القطاع الخاص (أسهمت الكويت بمبلغ 50 مليون دولار، وقطر بمبلغ مماثل من رأس مال هذا الصندوق).
- ضرورة متابعة التقدم المحرز في إطار منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى ومتطلبات الاتحاد الجمركي العربي، أملاً في الوصول إلى سوق عربية مشتركة.
- اعتماد مشروع الميثاق الاسترشادي لتطوير قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر من أجل ضمان اندماج اقتصادي في الدول العربية وخلق مزايا تنافسية.
- اعتماد الإطار الاستراتيجي العربي للقضاء على الفقر المتعدّد الأبعاد 2020-2030 وتحقيق التنمية المستدامة الشاملة في المنطقة العربية.
- الموافقة على مبادرة «المحفظة الوردية» كمبادرة إقليمية لصحة المرأة في المنطقة العربية، وذلك في إطار تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030، وللحد من انتشار الأوبئة والأمراض السارية وغير السارية.
- ضرورة تنمية المهارات وتشجيع الإبداع والابتكار بهدف بناء الإنسان...
- اعتماد وثيقة منهاج العمل للأسرة في المنطقة العربية.
- الموافقة على برنامج إدماج النساء والفتيات في مسيرة التنمية بالمجتمعات المحلية، والذي يهدف إلى توعية المرأة وتثقيفها وتدريبها.
- اعتماد الاستراتيجية العربية لحماية الأطفال في وضع اللجوء/ النزوح بالمنطقة العربية، كوثيقة استرشادية، وإنفاذ حقوقهم.
- انطلاقًا من أهمية دور القطاع الخاص في تمويل التنمية المستدامة في الدول العربية لتحقيق النهوض والتكامل الاقتصادي والاجتماعي المنشود، وكذلك دور المجتمع المدني الذي يعتبر شريكًا فعّالًا للحكومات، رحّبت القمة بنتائج المنتدى الرابع للقطاع الخاص العربي الذي عقد على هامش القمة العربية التنموية في بيروت، والذي هدف إلى بلورة تطلعات القطاع الخاص العربي، وتفعيل دور المجتمع المدني فيه.
- تمكين الشباب من المشاركة الفعّالة في المجتمع، وتعزيز دور المنظمات الشبابية في تحقيق التنمية الشاملة.
قراءة في المقررات
في حديث إلى مجلة «الجيش» يرى الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني أنّ القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية انعقدت في ظروف اقتصادية ومالية صعبة للغاية في منطقة الشرق الأوسط، إذ أدّت الانخفاضات في أسعار النفط منذ العام ٢٠١٤ إلى تراجع مداخيل الدول النفطية (من ١٠٠ دولار إلى ٥٥ دولارًا للبرميل الواحد)، ناهيك عن التباطؤ في النمو الاقتصادي بمعدل 1،5 في المئة، والعجوزات المرتفعة في المالية العامة، والظروف السياسية. مع ذلك نتج عن هذه القمة عدّة مقرّرات مهمة منها:
أولًا: تسليط الحكومة اللبنانية الضوء على معضلة النازحين السوريين في المنطقة العربية (الأردن، لبنان والعراق)، لما لها من تداعيات وأعباء كبيرة جدًا (على لبنان خصوصًا) من النواحي الاقتصادية والاجتماعية.
وقد حثّ البيان الدول العربية على دعم الدول المضيفة للنازحين من خلال الاستثمار في مشاريع تنموية، تخفّف الأعباء عن كاهل هذه الدول وتحسّن الوضعَين المعيشي والاجتماعي للنازحين. وفي هذا الإطار، توصلّت القمّة إلى تشجيع النازحين السوريين على العودة إلى بلدهم من خلال تقديم حوافز لهم داخل سوريا، وليس داخل الدول المضيفة.
ثانيًا: مبادرة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، المهمة جدًا بالنسبة إلى مستقبل المنطقة، والتي تقضي بإنشاء مصرف عربي لإعادة إعمار الدول المتضرّرة من الحروب والأزمات.
وفي هذا السياق رأى وزني أنّ تحقيق هذه المبادرة له تبعات إيجابية كبيرة على الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، لناحية التدفّقات المالية للبنان، وجذب المستثمرين ورجال الأعمال أو لناحية خلق فرص عمل، ولكن المهم أن يتوصّل رئيس الجمهورية إلى جعل مركز المصرف في لبنان.
ثالثًا: إنشاء صندوق للتكنولوجيا يهتم بقضية الاقتصاد الرقمي أو اقتصاد المعرفة، يبلغ رأسماله 200 مليون دولار، فالقطاع الرقمي قطاع واعد لمستقبل الدول العربية، ويفترض التركيز عليه بغية تطوير الاقتصاد العربي. وتعتبر إمارة دبي متقدمة جدًا في هذا المجال، ويلحقها لبنان الذي استثمر في هذا القطاع لغاية اليوم حوالى 700 مليون دولار.
ويضيف الدكتور وزني: المقررات الأخرى الصادرة في إعلان بيروت ملفات روتينية تقليدية تناولتها معظم القمم التنموية العربية، وهي إنشاء السوق العربية المشتركة (اتفاقية التيسير)، إنشاء منطقة التجارة الحرّة، الاتحاد الجمركي العربي، الربط الكهربائي، إضافة إلى الملفات الاجتماعية مثل حق المرأة في المشاركة الاجتماعية والسياسية وحماية الطفل....
ماذا عن إمكانية تنفيذ هذه المقرّرات في الظروف الصعبة؟ يوضح الدكتور وزني أنّ الدول الأعضاء في الجامعة العربية مُلزَمة تنفيذ المقرّرات الصادرة عن القمة، ولكنّ الأمر يحتـاج إلى ظـروف اقتصاديـة ملائمـة وإمكانـات ماليـة، وأكثـر من ذلـك يحتـاج إلى قـرار سياسـي.
أخيرًا أشار وزني إلى أنّ «قرار قطر بالاستثمار في سندات اليورو بوند اللبنانية بقيمة 500 مليون دولار (تشكل 1،5% من الدين العام) والذي أتى غداة القمة، يعتبر رسالة ثقة بلبنان وبقدرته على سداد ديونه، كما أنّه رسالة اطمئنان للأسواق المالية العالمية وللمستثمرين المؤسـساتيين في الخارج، فضلًا عن انعكاسها إيجابًا على الاستقرار النقدي».
أهداف خطّة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة -2030
وضعت الأمم المتحدة سبعة عشر هدفًا في إطار خطة التنمية المستدامة التي أعدّتها في العام 2015 لتحقيق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع. وتتصدى هذه الأهداف للتحديات العالمية التي نواجهها، بما في ذلك التحديات المتعلقة بالفقر وعدم المساواة والمناخ وتدهور البيئة والازدهار والسلام والعدالة.
أهداف الخطة هي: القضاء على الفقر، القضاء التام على الجوع، الصحة الجيدة والرفاه، التعليم الجيد، المساواة بين الجنسين، المياه النظيفة والنظافة الصحية، طاقة نظيفة بأسعار معقولة، العمل اللائق ونمو الاقتصاد، الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية، الحدّ من أوجه عدم المساواة، مدن ومجتمعات محلية مستدامة، الاستهلاك والإنتاج المسؤولان، العمل المناخي، الحياة تحت الماء، الحياة في البرّ، السلام والعدل والمؤسـسات القوية، وعقد الشراكات لتحقيق الأهداف.