- En
- Fr
- عربي
قضايا معاصرة
د. ألكسندر أبي يونس – كاتب وباحث وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية
تجربة لبنان أنموذجًا
ليست الصين الدولة الوحيدة التي لجأت إلى شراء كميات كبيرة من الذهب، بل إنّ هناك دولًا صغيرة وأخرى ذات اقتصادات ناشئة لجأت إلى شراء الذهب لحماية عملتها وتنويع استثماراتها وتحويل الذهب لأي عملة في حال حدوث أزمات. وهذا تمامًا ما فعله لبنان حينما اشترى حاكم مصرفه المركزي فيليب تقلا سنة 1964 الذهب لأنّه ضمان الثقة بالليرة ودعامة الاستقرار النقدي. وقد كرّس ذلك المفهوم وطوّره الحاكم الياس سركيس (1967-1976) الذي أقدم على شراء كميات هائلة من الذهب سنتي 1967 و1971 ما أبهر الولايات المتحدة الأميركية، إذ وصل لبنان إلى تغطية الليرة اللبنانية بنسبة 90٪ من الذهب، الأمر الذي انعكس إيجابًا على قيمتها وبقيت متماسكة إجمالًا على الرغم من الحرب التي اندلعت في لبنان. فبتاريخ 15 آب 1971، علّقت الولايات المتحدة السعر الثابت لصرف الدولار، وأصبح الذهب سلعة تباع بسعر السوق، واستمرت أهمية احتياطي الذهب في لبنان أكثر من أي وقت كمصدرٍ ملموس لثروة البلد خصوصًا في فترات الأزمات. وبعد أن زاد احتياطي مصرف لبنان من العملة الصعبة، عمد حاكم مصرف لبنان الياس سركيس الذي كان يتمتّع ببُعد نظر إلى شراء مليون أونصة «تروي» من الذهب بالسعر الرسمي الذي كان 35 دولارًا للأونصة بموجب اتفاقية Bretton Woods التي وقّعت سنة 1944، ثم عاد واشترى مليون أونصة إضافية، حتى بات لبنان يملك خلال 3 سنوات فقط تسعة ملايين ومئتين وعشرين ألف أونصة من الذهب جعلته يحتل حينها المرتبة 16 في العالم بين الدول التي تملك احتياطيًا من الذهب. وعلى أثر ذلك أبلغ لبنان البنك الفدرالي Federal Reserve Bank Of New York بقرار إيداع الكمية المشتراة لديه خوفًا عليها في حال اندلعت الحرب، فتفاجأت الولايات المتحدة بأمر شراء لبنان هذه الكميات الهائلة من الذهب قبل يوم واحد من إصدار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون قرارًا بإعلان التوقّف عن بيع الذهب. تكمن الأهمية في أنّ هذا الأمر كان مُربحًا بالنسبة إلى لبنان لأنّ الأسعار ارتفعت كثيرًا بعد صدور قرار الرئيس الأميركي، إذ انخفضت القيمة الخارجية للدولار الأميركي بنسبة 20٪ ما سبّب ارتفاع سعر أونصة الذهب إلى 43 دولارًا كسعرٍ رسمي، لكن في الأسواق بيعت الأونصة بضعفي ذلك. فبالنسبة إلى مساحة لبنان وحجمه واقتصاده ومُجتمعه، كانت عملية شراء سركيس للذهب وتخزينه في ذلك الوقت مهمة جدًا مقارنةً مع تجربة الصين حاليًا.
تحرص المصارف المركزية لبلدان العالم على تنمية احتياطها من الذهب كونه يشكّل تغطية وضمانة للثقة بعملتها الوطنية وهو ملاذ آمن في أوقات الاضطرابات الأمنية والاقتصادية، إذ يملك قيمة ذاتية حقيقية لا يبخس ثمنها ويشكّل جزءًا أساسيًا من الثروة الوطنية. فالنظام النقدي تمّ ربطه بكتلة الذهب منذ العام 1900، لذلك فإنّ استقرار العملة هو الشرط الأساسي للتطور الاقتصادي والاجتماعي في بلدٍ ما. وأكدت الوقائع هذه الحقيقة، إذ إنّ البلدان الأكثر ازدهارًا هي التي اتّبعت سياسة نقديّة تقليديّة للدفاع عن عملتها، ولم يبدأ ازدهارها أصلًا إلّا عندما أصبح سلوكها النقدي سليمًا.
وانطلاقًا من كون الذهب يمثّل احتياطًا استراتيجيًا عالميًا دون استثناء، وضعت القوى الاقتصادية العالمية استراتيجيات الذهب على المستوى الوطني بشكل متساوٍ مع النفط ومواد الطاقة لضمان عملتها واقتصادها، وبخاصةٍ خلال التوترات الجيوسياسية والأزمات المالية العالمية. ومن أهم تلك التوترات المعاصرة الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية. فبعد الحرب العالمية الثانية، برزت الولايات المتحدة كقوةٍ عالمية عسكرية واقتصادية في مواجهة الاتحاد السوفياتي. وبعد سقوط هذا الأخير سنة 1991، تزعّمت أميركا العالم وأصبح القرار أحاديّ الجانب، إلّا أنّ جمهورية الصين الشعبية التي تأسّست سنة 1949 وضمّت أعلى نسبة سكان في العالم، حَكَمها الحزب الشيوعي الصيني.
اعتبارًا من العام 2018، أصبحت الصين في المرتبة الثانية على صعيد الناتج المحلي الإجمالي وذلك بسبب إقبال الشركات العالمية، وبخاصةٍ الأميركية، على التصنيع لديها بسبب تدنّي بدل أتعاب اليد العاملة. وبالتالي فإنّ مكانة الصين الاقتصادية تتصاعد بفضل تجارتها الناجحة لأنّ المنتجات الاستهلاكية التي تُصدِّرها منخفضة التكلفة. هذا الأمر أصبح يزعج الولايات المتحدة الأميركية وبات ينافسها لأنّ التجارة الأميركية تعتمد على تصدير المواد الأولية العالية الكلفة، بالإضافة إلى طلب بكين المتراكم على السلع والمعادن الاستراتيجية ودعوتها لاعتماد العملات المحلية في التبادل التجاري من أجل الحدّ من استخدام الدولار الأميركي. فالصين تعمل على زيادة مشترياتها من السلع الاستراتيجية في الوقت الراهن، من الذهب والفحم والغاز الطبيعي والنفط وخام الحديد، إلى الحبوب والبذور الزيتية والشعير، وهي بدأت تعتمد على الزراعة المستدامة والطاقة المتجدّدة. وكل ذلك يؤكّد أنّ بكين تريد تعزيز قيمة عملتها وتدعيم اقتصادها.
وقائع وأسئلة
دا اهتمام الصين بالذهب لافتًا منذ العام 2016، إذ أطلقت تطبيقًا للهواتف الذكية سمّته YIJINTONG لتسهيل تداوله للجميع، الأمر الذي يدل على أنّ بكين سهّلت بشكل أساسي البنية التحتية لتجارة الذهب في الصين. ومنذ العام 2022، باتت الدولة ومعها جميع فئات الشعب الصيني يستثمرون بالذهب بشكلٍ كبير. ولأنّ ديموغرافية الصين تشكّل وحدها ربع سكان العالم تقريبًا البالغ عددهم 9 مليار نسمة، أثّر شراء الصينيين للذهب بالأطنان على سعره عالميًا، فعرف مستويات قياسية غير مسبوقة بعدما اجتاز سعره الـ 2400 دولار للأونصة في النصف الأول من العام 2024. وبرزت الصين كأهم مشترٍ للذهب على مدار 18 شهرًا على التوالي منذ تشرين الثاني 2022 وحتى نيسان 2024. فوفق مجلس الذهب العالمي، بلغ صافي مشتريات بنك الشعب الصيني وحده 225 طنًا من الذهب في العام 2023 مقابل 1037 طنًا استحوذت عليها جميع البنوك المركزية في العالم. السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الأسباب التي دفعت الصين إلى شراء الذهب في الآونة الأخيرة وتخزينه بكمياتٍ كبيرة وتكديسه كأنّه سيختفي من الأسواق، وما هي تداعيات ذلك؟ ولماذا توقّفت الصين فجأةً في أيار 2024 عن شرائه؟ وإلامَ أدّى هذا التوقف؟
الأسباب داخلية وخارجية
ثمة مجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية دفعت بالصين إلى شراء كميات كبيرة من الذهب. تتلخّص الأسباب الداخلية في أنّ الصين واجهت تحديات كبيرة في سوق العقارات والأسهم وبخاصةٍ بعدما تراجع عدد سكانها لمصلحة الهند، عندها لم يعُد العديد من الصينيين يستثمرون في العقارات، ففرغت أبنية كثيرة وانخفض سعر الشقق السكنية. ومع توقّع انخفاض عدد سكان الصين في العقود المقبلة انهارت الشركات العقارية، وترك المستثمرون الذين التزموا شراء العقارات مبانيهم نصف مكتملة. وفي ما خصّ الأسباب الخارجية، فإنّ العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على موسكو بسبب الحرب على أوكرانيا سنة 2022 وبسبب ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم سنة 2014 والحجز على أصولها بالدولار الأميركي واليورو، دفعت بالصين إلى تفادي مثل تلك العقوبات بخاصةٍ إذا اتخذت بكين قرارًا بغزو تايوان، لذلك أرادت شراء أطنان من الذهب لتضعه في خزناتها مكان الدولار واليورو من أجل حماية عملتها وتجنّب العقوبات الاقتصادية. وقد ردّت واشنطن بفرض ضرائب باهظة على كل ما يتم تصنيعه في الصين ويدخل إلى الولايات المتحدة الأميركية. أمام هذا الواقع، قرّرت الصين الهيمنة على أسواق الذهب العالمية فاشترت خلال سنة ونصف 316 طنًا من الذهب، الأمر الذي رفع السعر العالمي للذهب بنسبة 50٪.
هذا الشراء الضخم للذهب وضع الصين سنة 2024 في المرتبة السادسة عالميًا على صعيد احتياطي الذهب وباتت تملك اليوم 2265 طنًا، ويسبقها كل من الولايات المتحدة الأميركية التي تملك 8133 طنًا، ومن ثمّ ألمانيا التي تملك 3353 طنًا، فإيطاليا التي تملك 2452 طنًا، وفرنسا 2437 طنًا، وروسيا 2333 طنًا، بينما يحتل لبنان المركز العشرين عالميًا في احتياطي الذهب إذ يملك 287 طنًا.
أمام هذا الواقع، قرّر الاحتياطي الفدرالي الأميركي الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول، لكنّ الصين لم تتأثر وبقيت مسيطرة على أسواق الذهب العالمية، فبشرائها أطنان الذهب استطاعت أن تخفّض حيازتها لسندات الخزانة الأميركية بمقدار الثلث مقارنة بالعام 2011، كما أنّها احتاطت لاحتمال تعرّضها لعقوباتٍ وتجميد ممتلكاتها بالدولار كما حصل مع روسيا. وقد توافقت سياستها مع أهداف مجموعة البريكس (الصين-روسيا-الهند-البرازيل-جنوب أفريقيا- الإمارات العربية المتحدة-مصر-الأرجنتين-أثيوبيا وإيران) التي من المتوقع أن تنافس اقتصاد مجموعة السبع G7 (بريطانيا-فرنسا- إيطاليا-الولايات المتحدة الأميركية-كندا- ألمانيا واليابان) بحلول العام 2050، ونوّعت اقتصادها على المدى الطويل بعيدًا عن الدولار الأميركي. وباتت الصين تستغل الأزمات الاقتصادية للدول للاستحواذ على مصادر ومناجم الذهب تمامًا كما فعلت مع شركة TMAC resources INC وهي شركة تعدين كندية صغيرة باعت منجم ذهب Hope Bay لشركة تعدين صينية ضخمة.
يُرجّح بعض المحلّلين أن تسير الصين في الطريق نفسها التي سلكتها الولايات المتحدة، ويرون أنّها تريد أن تنهي عهد الدولار وتستبدله باليوان، لكنّ ذلك مستبعد حتى لو أرادت الصين أن تسيطر على العالم من خلال إعادة إحياء طريق الحرير وإنشاء قواعد عسكرية لها، بخاصة في أفريقيا، إلّا أنّها ما زالت بعيدة كل البعد عن الولايات المتحدة الأميركية في احتياطي الذهب، كما أنّ واشنطن تخلّت عن ربط عملتها بالذهب وربطتها بالطاقة وبخاصة النفط، بموجب اتفاقية البترودولار.
بأيّ عملة تشتري الصين الذهب؟
في الماضي كانت تشتري الصين الذهب محليًّا باستخدام اليوان، لكن هذه المرّة فإنّ البنك المركزي الصيني يستخدم العملات الأجنبية لشراء الذهب مما يقلّل فعليًّا من تعرّضه للدولار الأميركي وعملات أخرى. وهكذا زادت نسبة الذهب في احتياطيات النقد الأجنبي في الصين، فبعد أن كانت حوالي 1,37٪ في الـ2008 بما يعادل نحو ٤٠ مليار دولار، ارتفعت في الـ2016 إلى 2,2٪ بما يعادل ٦٥ مليار دولار، إلى أن وصلت اليوم إلى 5٪ أي بحدود 170 مليار دولار، من أصل حوالي 3,4 تريليون دولار من احتياطيّات الصين من النقد الأجنبي، بينما تصل هذه النسبة إلى 69٪ في ألمانيا، و26٪ في روسيا، وإلى 34٪ لدى البنك المركزي الأوروبي. وعدا عن القيمة الأساسية للذهب، ما زال الدولار هو الأقوى في المعاملات العالمية ولم يتأثّر إلّا بنسبة قليلة وبخاصةٍ في استمرار تسعير السلاح والدواء والنفط والتكنولوجيا بالدولار، أي إنّه ما زال يتحكّم في أكثر من 40٪ من الصادرات العالمية، وكل المحاولات التي تجري اليوم هي من أجل تقليل الاعتماد عليه وليس لإنهائه. فالصين ليس من مصلحتها أن تتخلّص كليًّا من الدولار كونها بلدًا مصدّرًا وأكثرية دول العالم تشتري السلع بالدولار، لكنّها في الوقت نفسه لا تريد أن يكون الدولار الأميركي بعد اليوم العملة الاحتياطية الأساسية لديها.
يُعتبر تحرّك الصين نحو تخزين الذهب محاولة لدعم وضعها المالي بأصول مستقرّة وقابلة للبيع بشكل كبير في ظل معاناة أسواق العقارات والأسهم وتدهور علاقاتها مع بعض الدول، ولا سيّما أنّها تواصل تقليص حيازاتها من سندات الخزانة الأميركية محاولة التهرّب من العقوبات. فالذهب لا يخضع للضغوط الجيوسياسية مثل العملات الورقية، والتعامل به يوفّر مزايا رئيسية للتهرب من العقوبات، منها عدم الكشف عن الهوية، وانخفاض إمكان التتبُّع، وتوفير بدائل للمراكز المالية الغربية إذ تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها تقييد التدفقات التجارية بسهولة.
التداعيات
إن شراء الصين لأطنان الذهب خلال سنة ونصف سيكون له تداعيات، وهي:
- دخول الصين سوق الذهب العالمية بقوةٍ وتأثيرها عليه ما سينعكس على أسعاره صعودًا أو هبوطًا الأمر الذي جعلها اللاعب الأبرز في بورصة الذهب. وهو أمر سيكون له تأثيرات في بنية النظام الدولي، وعلى هيمنة الولايات المتحدة على هذا النظام.
- نجحت الصين بحماية عملتها والاعتماد عليها بشكل كبير في التبادل التجاري، ما سيؤدّي إلى تقليل اعتمادها على العملات الغربية وبخاصةٍ الدولار الأميركي، والدليل على ذلك أنّه في آذار 2024 عمدت الصين إلى تسوية أكثر من 53٪ من مدفوعاتها بالرنمينبي (عملة الجزء القاري من جمهورية الصين الشعبية)، بينما تمّت تسوية 43٪ بالدولار، في حين كانت هذه النسبة خلال السنوات الخمس الماضية 86٪.
- اندفاع معظم طبقات الشعب الصيني إلى استثمار الأموال في الذهب لما يشكّله من مصدر ثقة وأمان بعد انهيار سوق العقارات وتقلّب سوق الأوراق المالية، والحرب التجارية مع واشنطن وأزمة تايوان، وتراجع الطبقة العاملة لمصلحة طبقة الشيخوخة التي تحاول مواجهة مخاطر الاقتصاد بتعزيز مدّخراتها التقاعدية بمزيد من تخزين الذهب.
- استطاعت الصين من وراء تخزينها للذهب تقوية عملتها ودعم صادراتها، وأخذ احتياطاتها في الحرب التجارية التي تخوضها مع الولايات المتحدة الأميركية التي رفعت التعرِفات الجمركية بنسبة 100٪ على السيارات الكهربائية الصينية، و50٪ على الخلايا الشمسية وأدوات التكنولوجيا، و25٪ على البطاريات ورافعات الموانئ.
- إن شراء الصين لأطنان الذهب مؤشّر على أن بكين لا تريد الاحتفاظ بكامل احتياطها المقوّم بالدولار الأميركي لكي لا تبقى عرضة لضغوط الولايات المتحدة. وهذا يعني أنها توجّه رسالة إلى الدول الأخرى أيضًا لتحذو حذوها، الأمر الذي قد يؤثر في النفوذ الاقتصادي والسياسي الأميركي على الساحة العالمية.
- إن عمليات شراء الذهب التي تقوم بها الصين دفعت بمصارف مركزية أخرى، لا سيما في الأسواق الناشئة التي تواجه عملتها تحدّيات واسعة، إلى زيادة حيازاتها من الذهب في ظل الصراع في الشرق الأوسط والحرب الروسية – الأوكرانية. وأدى الطلب الكبير على الذهب من مختلف بلدان العالم إلى تصاعد الصراع في أفريقيا لأنّ دولها تستحوذ على 25٪ من إجمالي الإنتاج العالمي من الذهب، فتحوّلت مناجم الذهب إلى ساحات للصراعات الداخلية والتنافس الدولي.
- تدرك كل من الصين وروسيا أنّ قوة الولايات المتحدة تعتمد على الدولار الأميركي المضمون من الطاقة، وعندما يفقد الدولار قوّته ستفقد أميركا سيطرتها على النظام المالي العالمي، لذلك تريد الدولتان إعادة جعل الذهب المال الحقيقي، وجعل عملتَيهما مضمونتَين من الطاقة المتجدّدة المستمدة من الموارد الطبيعية (الطاقة الشمسية- طاقة الرياح- الطاقة الكهرومائية- طاقة الكتلة الحيوية- طاقة حرارة باطن الأرض- الطاقة البحرية) وليس من النفط. ومن أجل تحقيق ذلك، لن تخوض الصين حربًا تقليدية عسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية، بل ستخوض حربًا تجارية ومالية من أجل إنهاء عهد اتفاقية البترودولار التي وقّعتها واشنطن مع السعودية في العام 1974 ونصّت على تسعير جميع الصادرات النفطية بالدولار الأميركي. لكن منذ العام 2023، بدأت الصين تشتري النفط من السعودية باليوان بموجب اتفاق بين الدولتين، الأمر الذي يُعتبر نقطة تحوّل أساسية في الاقتصاد المالي العالمي، وفي حال انضمت السعودية إلى مجموعة البريكس، سيؤثّر ذلك على التعاملات بالدولار.
- لقد أدّى الجمع بين عمليات شراء الذهب من قبل المستهلكين الصينيين ومشتريات البنك المركزي إلى جذب اهتمام المضاربين في أسواق شنغهاي الذين يراهنون على أنّ هذا الاتجاه سيستمر لأنّ الصين تسيطر الآن على سوق الذهب، وقد تضاعف متوسط حجم تداول الذهب في بورصة شنغهاي للعقود الآجلة بأكثر من الضعف في نيسان 2024 مقارنةً بالعام 2023.
التوقف المفاجئ للشراء وتداعياته
بعد أن اشترت الصين 316 طنًا من الذهب على مدى سنة ونصف متواصلة، توقّفت فجأةً في أيار 2024 عن الشراء من دون أن يصدر البنك المركزي الصيني أي بيان يوضّح فيه سبب خطوته تلك، الأمر الذي أثار موجة من التحليلات والتكهّنات حول آثار هذا التوقف على أسعار الذهب وسوقه العالمية. من الممكن أن يكون أحد أسباب هذا التوقف المفاجئ هو أن شراء الذهب باليوان أصبح أكثر تكلفة مع ارتفاع قيمة العملة الصينية، لذا أعادت السلطات الصينية تقييم أولويات الإنفاق لكي لا يتباطأ الاقتصاد كونها بلدًا مصدّرًا. وقد يكون السبب هو سعي الصين إلى التنويع في احتياطها وفق استراتيجيتها في الاستثمار التي تخضع للعوامل الجيوسياسية. وربما كان قرار الصين بالتوقف عن الشراء حاليًا صحيحًا نظرًا للارتفاع الحاد في أسعار الذهب، وعندما يتراجع سعر الذهب بشكلٍ ملموس ستعاود شراء كميات كبيرة بوقتٍ قصير. فمن الطبيعي أن يتأثّر سعر الذهب بقرار الصين، والدليل على ذلك هو أنّه عندما توقّفت الصين عن الشراء في أيار 2024 انخفضت أسعار الذهب، وانخفضت العقود الآجلة للذهب في بورصة نيويورك بنسبة 2,2٪. لذا أمام هذه البورصة في أسواق الذهب الخاضعة للّعبة الصينية، من الصعب تحديد التداعيات بشكلٍ قاطع لأنّ ذلك يعتمد على عوامل أخرى أيضًا مثل الظروف الاقتصادية العالمية والمشهد الجيوسياسي، وسياسات الاحتياطي الفدرالي الأميركي، وسلوكيات المستثمرين الآخرين. ومَن يعتبر أنّ الصين انتهت من شراء الذهب فهو مخطئ، لأنها ستستمر بشراء المعدن النفيس كجزء من احتياطها من العملات الأجنبية لتنويع محافظها. وبشكلٍ عام، فإنّ هذا التوقّف ما هو إلّا تطوّر مهم في سوق الذهب لأنّ تراجع أسعاره في الفترة المقبلة سيكون انخفاضًا تصحيحيًا وليس هبوطًا بالمعنى الحرفي.
لاعب بارز ومسار طويل
أصبحت الصين من اللاعبين البارزين في سوق الذهب العالمية، وهي نجحت في اختيار الوقت المناسب لشراء كميات كبيرة من الذهب الأمر الذي أثّر على سعره. وعلى الرغم من أنّها تستخدم تكتيك المفاجأة في الشراء والتوقّف، إلّا أنّها ما زالت بعيدة جدًّا في احتياطها الذهبي عن الولايات المتحدة الأميركية ويَلزمها امتلاك 5868 طنًا إضافيًا لتلحق بها. وتأمين هذه الكمية يحتاج إلى ثلاثة عقود في حال استمرّت الصين على وتيرتها تلك، لكن يبدو أنّ هنالك صعوبة في ذلك بسبب التضخم الذي يُعتبر مسألة معقّدة شعبيًا واقتصاديًا بالنسبة إلى الصين فيما لو ارتفعت نسبته وبخاصةٍ مع أزمة العقارات الأخيرة، ومع ذلك أدرك الشعب الصيني هذا الأمر وبات يهتم أكثر بالاستثمار في الأصول الحقيقية، ومنها الذهب.