- En
- Fr
- عربي
رحلة في الانسان
من حين الى آخر، تراود معظمنا أفكار ومشاعر نخجل من البوح بها حتى لأقرب الناس إلينا. فنفرح أحياناً لفشل صديق، أو نشعر ضمناً بالتحرر على أثر وفاة قريب أقعده المرض، أو نشمئز لرؤية معوق أو مشوّه، الى ما هنالك من أحاسيس نبقيها طي الكتمان ونظهر عكسها للعلن. هذه الأفكار التي تؤرق البعض وتشعرهم بالذنب بدرجات متفاوتة، هي في الواقع ظاهرة طبيعية متجذرة في النفس البشرية. وهي وإن اختلف تأثيرها لناحية تحريك الضمائر، والقيم الأخلاقية والحضارية، تبقى ضمن إطار الدوافع الفطرية الضرورية لاستمرار الجنس البشري. فما هي الدوافع المحرّكة للأفكار والمشاعر السلبية المكبوتة، وكيف ينظر إليها علم النفس المعاصر؟
الشعور بالذنب
علم النفس التطوّري المعاصر، والذي يتابع بالدراسات الأفكار والمشاعر البشرية المكبوتة، يؤكد بدون ريب أنها أسهمت بفعالية في نجاح رحلة الإنسان الشاقة على صعيدي مواجهة الصعاب وبقاء النسل. إلا أن الشعور بالذنب الذي يعقب عموماً هذه الأفكار، (وذلك نتيجة الصراع بين أنانية الغرائز والمثل، وسواها من الصراعات الداخلية) ، قد وصم وجودها بالعار، ما أجبر أصحابها على إخفائها، وبالتالي الوقوع ضحية الكبت والقلق والخوف، وسواها من المشاعر الناشئة من وخز الضمير. من هنا النظريات المختلفة التي وضعها القيمون في الحقل النفسي، وفي مقدمتهم "فرويد" واضع نظرية الكبت، وتأثير الباطن، ومؤسس تقنية العلاج النفسي المرتكزة على الاعتراف بكوامن النفس، وتفاعل المشاعر. هنا نتساءل: لماذا الخوف والمعاناة من الأفكار والنوايا المبيّتة، ما دامت سراً لا يبارح العقول، ولا يتسبب بالأذية المباشرة؟
الخوف من انكشاف السر هو السبب
يؤكد الباحثون في الحقل النفسي أن الشعور بالذنب تجاه الأفكار والنوايا المخجلة، ينجم عن الخوف من انكشافها للعلن. وهو شعور فطري يهيئ أصحابها تدريجاً للدفاع عن النفس، منعاً لحصول الصدمة لدى انفضاح نواياهم بشكل مفاجئ، وذلك كما يحصل لدى انكشاف الجرم المادي كالسرقة مثلاً، حيث يفاجأ السارق بانكشاف أمره، وتتباطأ ردات فعله، فيستسلم طوعاً. الشعور بالذنب إذن، والتأهب الدائم للمواجهة المتجلي بالانفعال والخوف والترقب، هو سلاح فطري يبقي ضامر السوء يقظاً. فهو في قرارة نفسه يعلم أنه يرتكب جرماً معنوياً، لذا يتولى في لاوعيه التسلّح بالانفعال، أو الاستعداد الدائم لتبرير جرمه في حال انكشافه. على كل، فالمعنيون كما سبق وذكرنا، يعترفون بالدور الطبيعي المحرّك للأفكار والمشاعر المخجلة والتي يعتبرونها شكلاً من الحماية الذاتية، او توقاً الى الظهور حتى على حساب فشل الآخرين. وللمزيد من التوضيح، وضعت مجموعة من المحللين النفسيين قائمة بالمشاعر الفطرية التي تبقى طي الكتمان، اضافة الى الدوافع المحرّكة لها وتأثيراتها السلبية.
عدم الإرتياح لرؤية المعوقين
جميعنا يعلم أن الإعاقة الجسدية تخيف البعض وتبعدهم عن المعوق لأسباب لاواعية. وباعتبار أن القيم والأخلاق تقضي بمساعدة المعوّق والتقرب منه، فإن الأحاسيس الفطرية السلبية تجاهه تشعر المعنيين بها بالذنب، وخصوصاً إذا كانوا مضطرين الى الإختلاط بأحد المعوقين بحكم العمل أو الجوار.
هنا يلفت الإختصاصيون الى أن عدم الإرتياح لرؤية المعوق، وخصوصاً إذا كان غريباً ولا يمت الى العائلة بصلة، هو شعور فطري يفرضه قانون التطوّر الطبيعي وحماية سلامة النسل. وهو شعور تطوّر مع الوقت للحؤول دون الزواج من أصحاب العاهات منعاً لولادة أطفال غير أصحاء. الى ذلك، هنالك كما يعتقد البعض، سبب تطوّري آخر، ربما يكون أحد الدوافع الطبيعية للابتعاد عن المعوّق.
فأصحاب العاهات يذكروننا بضعفنا كبشر، وبإمكانية تعرّضنا للمرض والإعاقة والموت في كل لحظة. من هنا الخوف الذي يعترينا لرؤية أحدهم، وكأن إعاقته قد تنتقل إلينا بعدوى الاختلاط.
على كل فالاختصاصيون في المؤسسات الرسمية والخاصة التي ترعى المعوقين، تنبهوا الى ما يدور في خلد الكثيرين تجاههم، وبالتالي جندوا طاقاتهم لاستبدال مشاعر الخوف من المعوّق والشفقة المجحفة تجاهه، بمشاعر المسؤولية الواعية. من هنا القوانين التي باتت تحمي حق المعوقين وتؤمن اندماجهم في المجتمع.
لماذا نرتاح للمشاركة في المآتم؟
في قرارة نفوسنا، نسعد ونشعر بالرضى عندما نشارك في مأتم قريب أو صديق أو حتى أحد المعارف البعيدي الصلة. واللافت أن البعض يبدي اعتزازه بمعرفة الفقيد، أو يبالغ في المشاركة بالحزن والأسى، حتى ولو لم تكن تربطه به علاقة حميمة.
فما هو السبب الفطري وراء شعور الرضى الذي يصاحب المشاركة في المآتم، هل هو الحزن على الميت، أم الرغبة في دعم ذويه والتخفيف من لوعتهم، أم هي ردّة فعل لاواعية تسيّرها قوانين الطبيعة؟
اتخذت المشاركة في المآتم مع الوقت طابعاً حضارياً الهدف منه تقديم الدعم والمساعدة لعائلة الفقيد، وبالتالي تمتين أواصر العلاقات الإجتماعية والبشرية الضرورية للإستمرار.
هذا التقليد الإجتماعي الذي تتنوع أساليبه من مجتمع الى آخر، ويتخذ طابع المبالغة في المجتمعات الريفية والبدائية، هو في الواقع ردّة فعل فطرية أنانية تعكس الخوف من الموت والرغبة باكتساب المناعة ضد المجهول عن طريق التعاون الجماعي.
من جهة أخرى، يرى علم النفس التطوّري المعاصر أن المشاركة بالحزن تمدنا بسعادة باطنية لاواعية. فهي بالإضافة الى كونها تؤمن ارتباطنا بالمحيط الخارجي، تعكس وجودنا كأفراد جديرين بالثقة، ما يعلي من شأننا ويرضي غرورنا.
أما المبالغة في الحزن والتفجّع، فقناع يخفي وراءه ضعفنا، ويذكّرنا بأننا لسنا خالدين. وقد يكون لعبة فطرية الهدف منها استجداء العاطفة والشفقة وبالتالي طاقة الإستمرار. من هنا اعتزاز البعض بصداقته مع الميت أو ذويه، وذلك من أجل اكتساب الشأن والإنصهار في بوتقة التعاطف الجماعي الضرورية للبقاء والاستمرار.
الابتهاج الضمني لفشل صديق
الشماتة، أو الإبتهاج الضمني لفشل صديق أو زميل أو قريب، هو شعور باطني يؤججه عموماً حب الإنتقام الفطري من كل ما يشعرنا بالنقص أو الهزيمة. وباعتبار أن نجاح الغير، وخصوصاً الأصدقاء المقربين، يثير في لاوعينا الغيرة المكبوتة، وخصوصاً إذا ما أدى الى حصول تفاوت لافت في مستوانا الإجتماعي والمادي، فإن سقوطهم أو فشلهم يمثل في لاوعينا انتقاماً لكبريائنا المجروحة، ويمدنا بالتالي بالفرح، ويعيد إلينا الكرامة والثقة بالنفس. وبالرغم من محاولة الأكثرية الساحقة إخفاء هذا الشعور وإظهار عكسه، باعتباره خبيثاً ومعيباً، إلا أن اختصاصيي علم النفس يرونه طبيعياً وضرورياً للتنفيس عن مشاعر الحقد والدونية.
وهنا يلفت البعض الى أن مبدأ المنافسة العصري المشروع، ما هو سوى شكل متطوّر من أشكال الإنتقام من نجاح الغير والرغبة بتحطيمه. أما الهدف اللاواعي من وراء ذلك فهو نفسه لا يتغيّر. إنه السعي الدائم للنجاح وحب الظهور عن طريق استغلال فرص سقوط الآخرين.
الحزن الممزوج بالإرتياح لوفاة قريب
من المشاعر المربكة التي تثير الإحساس بالذنب عند الكثيرين، الشعور ببعض الإرتياح والتحرر الذي يعقب أحياناً وفاة أحد أفراد العائلة، وخصوصاً إذا كان متسلطاً، أو مقعداً بسبب المرض. هذا الشعور الذي يمتزج فيه الحزن بالإضطراب ووخز الضمير، هو شعور طبيعي ينجم عن الصراع بين الأحاسيس الفطرية وما تفرضه أصول السلوك الإجتماعي. وبما أن إظهار الحزن والتفجّع لدى وفاة أحد المقربين، هو من ردات الفعل البشرية المألوفة، لذا فإن الشعور ببعض الإرتياح الضمني يعتبر خروجاً عن المألوف، ما يشعر المعنيين به بالذنب والخجل ويدفعهم أحياناً الى الإكتئاب والإنزواء. من هنا يلفت الإختصاصيون بعلم النفس الى أن الشعور بالتحرر الضمني المشار إليه، والذي يعقب وفاة أحد الأقرباء، هو إحساس فطري اعترفت بوجوده نسبة حوالى 75% من أقرباء المتوفين. أما سبب هذا الشعور فيعتقد أنه ناجم عن تفاعل الطاقات الشخصية بشقيها المعنوي والجسدي، من أجل إعادة شحن القدرات الذاتية، والاعتماد على النفس لمواصلة مسيرة الحياة.
تجدر الإشارة هنا الى أن آخر الدراسات التي شملت مجموعات من ذوي المتوفين، أشارت الى أن معظمهم عبّر عن أحاسيس معقدة، هي مزيج من الإكتئاب والشعور بألم انسلاخ علاقة شكّلت جزءاً من الذات، بالإضافة الى الشعور بالذنب نتيجة أخطاء ارتكبت بحق المتوفي خلال حياته، والشعور ببعض التحرر من علاقة، ربما شكلت قيداً غير منظور.
الخيانة الزوجية عبر أحلام اليقظة
أحلام اليقظة كما هو معروف، تشكل جزءاً من عملية التنفيس عن الأفكار والميول المكبوتة، وتعتبر طبيعية وصحية الى حد ما. فهي تنقلنا من واقع يقيّد سلوكنا، الى حلم يحررنا من الضوابط الإجتماعية ويغمرنا بنشوة سعادة نفتقدها. من هنا، غالباً ما يستعيد أحد الزوجين وخصوصاً الزوجة، عبر أحلام اليقظة، تفاصيل علاقة حميمة مرّت بها قبل الزواج، أو طيف رجل تعرّفت إليه ودغدغ أحاسيسها.
هذه النزعة الى الخيانة غير الواقعية والتي تشعر الكثيرين بالذنب وتبقى سراً طي الأعماق، يراها علم النفس نزعة طبيعية الهدف منها سد النقص في العلاقة الزوجية لاستكمال السعادة. إلا أنهم ينصحون المعانين من سلبياتها العمل على خط الواقع، وبالتالي إعادة تأسيس علاقة زوجية مبنية على الصراحة، أو حق المطالبة بما يحبون ورفض ما يكرهون. فهذا الأسلوب كفيل بردم الهوة بين الواقع والخيال، ما يغني عن الهروب الى عالم الأحلام.
هذه وسواها من الأفكار والمشاعر المكبوتة التي تثير في معظمنا الصراعات الداخلية وتقض مضاجعنا، تشكل في الواقع قاسماً مشتركاً يوحد تطلعاتنا وأسرارنا، ويرسم بالتالي خطوط كياننا الفطري لتأمين بقائنا واستمرارنا.