- En
- Fr
- عربي
منارات
مثل القابض على الجمر أمام محكمة التاريخ، أو فاقد البوصلة وسط متاهات الحروب، والاقتلاع وصراع الهويات: يراكم أمين معلوف (74 عامًا) مسارات الكتابة الباحثة عن مثل أعلى إنساني، تقوده إلى أن يتربّع على قمة "مجمّع الخالدين": "الأكاديمية الفرنسية"، التي أسسها الكاردينال ريتشيلو، أشهر وزراء الملك لويس الثالث عشر في العام 1634.
إنه الآتي من "صخرة طانيوس" في "عين القبو"، جارة جبل صنين وبسكنتا، يحمل جراح الهجرة القسرية في العام 1976، إلى مدينة النور باريس، كي لا يكون شريكًا في الحرب التي دفعت لبنان نحو التشرذم والدم. وهناك خاض غمار الكتابة ذات الشغف المسكوني، حافرًا ثلمًا طويلًا وعميقًا، تتصارع فيه الهويات والانتماءات والمصالح ولعبة الأمم. وعلى الرغم من طول المسافات، وألم الغربة والاغتراب، بقي وفيًّا لجذوره والينابيع الأولى التي نهل منها مادة نصوصه، لم تبارحه الأمكنة التي أتى منها، وكان همّه في نهاية المطاف أن يعبّر عن حركة الصراع لدى الإنسان، ويوائم بين التناقضات والتباينات، وصولًا إلى الرهان المستحيل: سلام العالم وأمانه.
إن الالتفاف حول أمين معلوف، وانتخابه أمينًا عامًا دائمًا للأكاديمية الفرنسية، وإلى جانبه وزيرة الثقافة ريما عبد الملك، ذات الأصل اللبناني، ينطويان على جذوة الأمل بأنّ نهوض لبنان ممكن بفضل إبداع مواطنيه، ولو في الدياسبورا، كما أنّه فعل إيمان بوطن عصيّ على الموت.
لماذا أمين معلوف؟
المعايير التي أفضت إلى فوزه بهذا المنصب متشابكة ومترابطة:
- سيرته ومؤلفاته تستجيبان لجوهر الرسالة الفرنكوفونية* التي تقوم على الانفتاح بين الدول والشعوب، وعلى تجسيد التضامن الفعّال بين حكومات هذه الدول. ومن ناحية أخرى، الترويج للغة والثقافة الفرنسيتين من خلال نتاج تشكّل اللغة الفرنسية خياره الأساسي.
- تحظى شخصيته بالإجماع نظرًا إلى انخراطه القوي والدؤوب في أنشطة المؤسسة العريقة منذ انضمامه إلى أعضائها في العام 2012، فهو لم يتخلّف يومًا عن الحضور منذ ذلك الحين، وأذهل الأعضاء بمثابرته.
- في زمن الضحالة الثقافية، حتى في البلد الينبوع- فرنسا، وفي زمن التشكيك بجدوى العمل الثقافي، حيث النمط الاستهلاكي يوجّه الكثيرين، ثمّة منارات لم يخفت ضوؤها، بقيت تقاوم التراجع، وتبشر بالثقافة والتلاقي الحضاري بين الشعوب. وأمين معلوف، هذا الناسك الذي يعيش في جزيرة في المحيط الأطلسي قرب مدينة نانت Nantes الفرنسية، هو أحد أبرز تلك المنارات: فهو واحد من الكبار في ثقافة أهل العلم، أغنى الثقافة بشكل عام، والفرنسية تحديدًا، بنتاج روائي ومعرفيّ تجلّى في مؤلفاته التي يتعانق في مضمونها الماضي والراهن، على إيقاع المستجدات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وقد تُرجمت إلى حوالى 40 لغة.
- "إنّه خيار ممتاز، كاتب عظيم، ورجل أخوّة وحوار وتهدئة، وانتخابه يحمل رمزية رائعة لجميع الناطقين بالفرنسية في العالم"، كما علّقت وزيرة الثقافة الفرنسية، ريما عبد الملك.
- هو جسر بين عالمين وفق صديقه في الأكاديمية، جان كريستوف روفني، الذي كان مرشّحًا للمنصب عينه، وقد توّجه إليه إثر الانتخاب قائلًا: "كل أعمالك، كل أفكارك، كل شخصيتك هي جسر بين عالمين يحمل كل منهما نصيبه من الجرائم، ولكن أيضًا من القيم، هذه القيم هي تلك التي تريد توحيدها".
- أمين معلوف هو أحد رموز الرواية التاريخية ذات الإلهام المشرقي، وقد كرّس عمله للتقارب بين الحضارات. ذهب بعيدًا في رواياته وعمله الإبداعي بمجمله، في الإحاطة بإثنيات متعددة، متقصّيًا آثارها، مدقّقًا في الدور الذي لعبته في التاريخ، وفي تلمّس المراحل النوعية في الثقافتين العربية والعالمية، إذ تمازجت في كتاباته أصول عديدة من الحضارات الإنسانية، تظهر تبدّل الهويّات والمصائر عبر التاريخ، وهو استلهم في ذلك الوقائع التي فرضت تغييرات جذرية طاولت النفوس والبنى الاجتماعية والسياسية.
أزمنة وتحولات
من العام 1975 انطلاقة الحرب اللبنانية التي أمعنت في ضراوتها، مرورًا بالأزمات من كل نوع، والمتتالية في معظم البلدان، إلى قضايا الهجرة والمعاناة الإنسانية: أحداث تتشعّب، تتداخل وتتلاحم في مناخ دراماتيكي طبع نتاج أمين معلوف. إلّا أنّ هذا النتاج، تجاوز الإطار الزمني ليبلور مفهومًا متمايزًا لمعنى الهوية غير الثابتة، التي تخضع لشروط الزمان والمكان والبنى كافة، والتي على خلفيتها تشتعل الحروب (Les Identités meurtrières). وهو يستعرض أزمنة تاريخية تستوعب التحوّلات الحضارية التي رسمت صورة الغرب والشرق على شكلها الحالي (Les croisades vues par les Arabes) ليكثّف دينامية الروائي في سرديّة تكشف بريق الأسلوب، وتصوغ الأحداث بجمالية مدهشة، وتضفّرها بالمتغيّرات الناجمة عن العبور من بلد إلى آخر، من طائفة إلى أخرى، في تواتر تاريخي لاهث (Léon l’Africain). ما آمن به أمين معلوف من انفتاح على الآخر، وما تشرّبه من تعمّق في مشرقيّته، ولبنانيّته تحديدًا، انعكس في كتابه “Les désorientés”، الذي استحضر فيه بحنين لبنان حيث كانت جميع الطوائف تتعايش بسلام. "ما كان ينبغي أن تختلف وتختفي نوعية التعايش بين الناس، كان يجب أن تكون طريقًا إلى المستقبل، وهي اليوم تنتهي إلى الماضي"، يعلّق على الواقع اللبناني بأسى.
هذا الشعور يعود إلى الأمس البعيد في كتابه "Origines"، ويشفّ عن الإلتزام الذي يربطه بالأسلاف وبالعائلة، "النسب المقدّس" الذي يؤسس هويّة المهاجرين مثله، ويستمر وجدانًا نابضًا في الزمن اللبناني الحيّ.
ذلك الزمن، تتواتر بصماته في كتابه "صخرة طانيوس"، في سياق نصّ مشوّق يمشي بخفّة تفضي إلى التاريخ، تواكبه صور ذات إيحاءات سياسية – إنسانية بعيدة.
وفيما تحتفظ سيرة الشاعر الفارسي عمر الخيام بنضارتها كتعبير جاد عن الغنائية في "سمرقند Samarcande" ، فإنّ المخيّلة النثرية تصوغ نفسها أثرًا أدبيًا لامعًا يتنامى ويتراصف في روايته "حدائق النور" Les Jardins de lumière، بينما ينحو كتاب "غرق الحضارات" نحو الرؤى الذاتية لأحداث عاصرناها وعشنا تفاصيلها.
التراث واليوميات والهواجس
بهذا البعد المعرفي المستفيد من الحضارات، وبالمواضيع المستقاة من التاريخ القديم والمعاصر، وبالمزاوجة بين التراث الفكري وتواتر اليوميات والهواجس، يتوغل أمين معلوف في المدى الرحب للكتابة، يحقق العبور من واقع إلى آخر، يلتقط جوهر الأحداث ومضمونها التعدّدي، ويدمجها في أخيلة روائية، أو يصهرها في تصاوير ورؤى، لتصبح أرضًا تنبت فيها المعاني الجديدة.
الفرانكوفونية:
المنظمة الدولية للدول والحكومات الناطقة بالفرنسية، كلغة رسمية أو لغة منتشرة. تضم 84 دولة، و900 مليون نسمة، بينهم 321 مليونًا ينطقون بالفرنسية. رسالتها الأساسية، تجسيد التضامن الفعّال بين الدول والحكومات الممثلة بهذا الفضاء الجغرافي- السياسي.
هدفها الترويج للغة والثقافة الفرنسيتين.
نبذة:
بدأ حياته صحافيًا في جريدة النهار، تتلمذ على يد غسان تويني، ثم انتقل إلى "النهار العربي والدولي"، وبعدها إلى فرنسا حيث عمل في مجلة “Economie” الاقتصادية ثم ترأس تحرير مجلة “Jeune Afrique”. واستمر في العمل مع جريدة النهار والنهار العربي والدولي حتى العام 2010.
أعماله:
لأمين معلوف عشرات المؤلفات، ومنها:
الحروب الصليبية كما رآها العرب - 1983، ليون الأفريقي - 1984، سمرقند - 1986، حدائق النور - 1991، القرن الأول بعد بياتريس - 1992، صخرة طانيوس - 1993، موانئ المشرق - 1996، رحلة بالداسار - 2000، الحب عن بعد - 2001، الهويّات القاتلة 2002-1998، بدايات - 2004، الأم أدريانا - 2006، اختلال العالم - 2009، التائهون - 2012، غرق الحضارات - 2019، إخوتنا غير المتوقّعين - 2020، ومتاهة الضالين - 2023.
جوائز:
- جائزة "الصداقة الفرنسية – العربية"، 1986، عن روايته Léon l’Africain”".
- جائزة "غونكورPrix Goncourt -"، كبرى الجوائز الأدبية الفرنسية، 1993، عن رواية صخرة طانيوس.
- جائزة "Aujourd’hui"، 2019، عن كتابة "غرق الحضارات".
- جائزة "أمير أستورياس للآداب"، 2010.
- جائزة "سفراء الدول الفرانكوفونية"، 2021.
تكريم:
منح الدكتوراه الفخرية من جامعات: لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، الجامعة الأميركية في بيروت، وجامعة إيفورا البرتغالية.
كما مُنح وسام الاستحقاق الوطني في العام 2020 تقديرًا لعطاءاته وإنجازاته في عالم الأدب.