- En
- Fr
- عربي
أيّ مصير للعرب في مشروع "إمبراطورية العولمة"؟ إدماج بالقوة وحروب أهلية بالجملة
شهدت دولة الإمارات العربية المتّحدة في النصف الثاني من شهر أيار/ مايو 2005، ندوة مهمة شاركت فيها كوكبة من كبار المفكرين والباحثين والصحافيين العرب، حملت عنوان "الهوية العربية في مواجهة العولمة" .
العنوان كان مثيراً بما فيه الكفاية ، إذ هو اختزن في جوفه كلّ الثورات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية الراهنة التي يشهدها العالم ومن ضمنه الشرق الأوسط.
ومع ذلك ، هذا العنوان المثير كان عنواناً خاطئاً. ولو أنّ القيّمين على الندوة وضعوا مبدأ موازين القوى والسياسات الواقعية (بين العرب والغرب) بعين الإعتبار، لانحازوا سريعاً إلى عنون آخر: "كيف تغّير العولمة المنطقة والهوية العربيتين ؟"، ولساعدونا على تلمّس التطوّرات السريعة التي شهدتها (وتشهدها) المنطقة منذ سقوط جدار برلين، ثم بشكل أكثر وضوحاً بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001 :
أولاً، في أفغانستان والعراق اللتين اجتاحتهما العولمة العسكرية، وسلّمت مقاليد الأمور فيهما لرأسماليين متعولمين أسمتهم صحيفة "ناشن" الأميركية "رأسمالية الكارثة" ([1])، وهم يتشكّلون أساساً من المقاولين والسماسرة والشركات الإستشارية والمؤسسات الهندسية. هؤلاء سيطروا على مفاصل الاقتصاد في البلدين بعد خصخصتها على يد بول وولفوويتز قبل انتقاله إلى البنك الدولي، بتنسيق كامل مع دوائر عليا في البيت الأبيض والبنتاغون .
حصيلة أعمال "رأسمالية الكارثة" كانت كارثة : نهب 10 مليارات دولار من العراق وملياري دولار من أفغانستان خلال سنتين اثنتين، مقابل عقود إعادة بناء بدون أن يبنوا شيئاً في الواقع. والنهب من دون بناء في إطار الفساد الشامل، متواصل على قدم وساق.
ثانياً، في منطقة الخليج، الخوف كل الخوف أن تؤدّي العولمة العسكرية والاقتصادية والثقافية إلى تهديد الهوية العربية، عبر التطبيق التدريجي لنظرية الولايات المتحدة الخليجية التي أطلقها عبد الله بشارة في أوائل الثمانينات، والتي ستؤدي في النهاية إلى اعتبار العنصر العربي "أقلّية عنصرية واستغلالية" يجب تصفية الحساب معها بصفتها خارجة على المواثيق الدولية.
ثالثاً، دول المغرب العربي، حيث تنشط أوروبا (في إطار المتوسطية) وأميركا (في إطار الأوسطية) لتحقيق عملية الإدماج أساساً عبر فصل المنطقة عن العالم العربي والهوية العربية، ومن دون أن يبدو في الأفق حتى الآن احتمال بروز نمور آسيوية هناك، على رغم الإشارات الأولية المشجعة التي برزت في تونس خلال السنوات الماضية.
وأخيراً، هناك "المصير المتعولم الخاص" الذي تعدّه إمبراطورية العولمة لمنطقة الهلال الخصيب، والذي ستكون فيه للرؤى الإستراتيجية الإسرائيلية اليد العليا. وهذا يتضمن العمل الأميركي - الإسرائيلي المشترك على تفكيك وإعادة تركيب دول المنطقة على أسس قبلية وطائفية، الأمر الذي سيسهل على الدولة العبرية التحّول إلى مركز إقليمي فرعي لإمبراطورية العولمة الاقتصادية والعسكرية.
البداية كانت في العراق، مع إعادة تركيب بلاد العباسيين على أسس طائفية إثنية. لكن الوقت لن يطول قبل أن تنتقل الظاهرة إلى لبنان وسوريا وربما أيضاً إلى الأردن وفلسطين.
حقائق وكوابيس
كيف يتفاعل العرب مع انقلابات هذه العولمة المتأمركة . وما الأساليب التي تنتهجها الولايات المتحدة لتنفيذ هذه الإنقلابات ؟
سنحاول، لأغراض عملية، الإجابة عن السؤال الثاني قبل العودة إلى الأول. وهنا سنجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام العديد من الحقائق كما الكوابيس.
أولى الحقائق، وأهمها، أن الولايات المتحدة انتقلت، بعد انهيار التحدّي الشيوعي لها، ثم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر ، من كونها قوة أمر واقع في الشرق الأوسط إلى كونها قوة "مراجعة (revisionist)"، أي قوة ثورية رافضة لهذا الأمر وعاملة على تغييره بشتى الوسائل. وهذا عنى إعادة رسم طوبوغرافيا السياسة، وربما أيضا الخرائط، في المنطقة ، وفق ما تتطلبه مصالح ومطامح دولة عظمى في عالم "وحيد القرن".
كتب مايكل ماكفل ، وهو باحث أميركي بارز في "بوليسي ريفيو "، ([2]) : "لم يعد في وسع الولايات المتحدة الإكتفاء بالحفاظ على الوضع الراهن في النظام الدولي (وفي الشرق الأوسط). عليها الآن أن تكون قوة مراجعة، أي دولة تسعى إلى التغيير في النظام لتحسين أمنها القومي الخاص. وهذه المهمة يجب أن تكون عدوانية بطبيعتها، لان أميركا لم تعد قادرة على مجرد الإنتظار ثم القيام برد فعل على الهجوم الآتي".
أيّ تغيير؟.
ماكفل يراه عبر التدمير أولاً، ثم البناء، في إطار ما بات يعرف بـ "الفوضى الخلاّقة او البنّاءة". وهو رسم اللوحة الآتية لرؤيته حول كيفية إعادة تنظيم الشرق الأوسط:
* يتعّين على الإدارة الأميركية الإلتزام بـ "مبدأ الحرية" كدليل للسياسة الخارجية الآمنة، تماما كما التزمت مبدأ الاحتواء خلال الحرب الباردة. وهذا يعني توسيع الحريات الفردية في الشؤون السياسية والاقتصادية، واحتواء ثم إزالة القوى المعارضة للحرية، سواء أكانوا أفراداً أو منظمات أو أنظمة.
* المبدأ يجب أن يتضمّن مرحلتين: التدمير ثم البناء. والعدو الذي يجب تدميره هنا أيديولوجي في الدرجة الاولى. ولذا يجب التوضيح بأنّ الولايات المتحدة في حالة حرب مع التوتاليتارية (الشمولية) الإسلامية وليس مع الإسلام نفسه.
* التجارب دلّت على أن المصلحة القومية الأميركية العليا، تكمن في نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. وهذا يجب ان ينفّذ، برغم أنّه في بعض الدول يجب التركيز أولاً على الحريات الفردية ثم تطبيق الديمقراطية لاحقاً.
رؤى أخرى
بالطبع، رؤى ماكفل لم تكن السلعة الوحيدة في سوق أصحاب القرار الاميركيين. إلى جانبها كان ثمة رؤى أخرى تستند أساساً الى نظرية موازين القوى المادية وليس إلى مبدأ الحرية الإيديولوجي .
أقطاب هذه الدعوة هم بعض المحافظين الأميركيين الجدد (خصوصاً ريتشارد بيرل وفيث ووولفوويتز)، مع حلفائهم الإسرائيليين (خصوصاً شارون وموفاز)، الذين دعوا الى تفكيك وإعادة تركيب الشرق الأوسط على أسس عشائرية وقبلية وطائفية، على أن تتكفل "اليد السحرية الخفية" لموازين القوى بإقامة التوازن بين الكيانات والوحدات السياسية الجديدة في المنطقة.
وقد كسا هؤلاء مشروعهم التقسيمي الكبير بغلالة إيديولوجية. وهكذا، إقترح الكاتب الاميركي المقرّب منهم روبرت ليفاين "تعميم التجربة الديمقراطية السويسرية على الدول العربية". وكما هو معروف، أقام السويسريون ديمقراطيتهم ودولتهم استناداً إلى فكرة الكانتونات اللغوية والدينية والاجتماعية الصغيرة . لكن ، إذا ما طّبقت هذه التجربة في المشرق العربي، فإنها ستعني إقامة فدراليات أو كونفدراليات قبلية وعشائرية وطائفية متناحرة لا متصالحة ، بسبب غياب الأسس الصناعية الإنتاجية والليبرالية الديمقراطية التي تضمن التعايش السلمي بين هذه الفئات. وهذا بالتحديد هو المشروع الإسرائيلي القديم للمنطقة.
بيد أن التباين في واشنطن حول أنجع السبل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، لا يغيّر شيئا من الحقيقة بأن ثمة قراراً أميركياً "نهائياً" بنسف الأمر الواقع الراهن فيه، حرباً أو سلماً.
والحال ان مثل هذا القرار لم يتخذ بعد 11 أيلول / سبتمبر، بل قبله . ففي أول حزيران/ يونيو 2001، وفي وست بوينت، قال الرئيس الأميركي بوش: "القرن العشرون إنتهى ببقاء نموذج وحيد للتقدّم البشري، يستند الى المطالب غير القابلة للتفاوض للكرامة الانسانية، وحكم القانون، ووضع قيود على سلطة الدولة، وأحترام المرأة، والملكية الخاصة، وحرية التعبير، والتسامح الديني. الأمهات والآباء والأطفال في طول العالم الإسلامي وعرضه، وفي كل العالم، يتشاطرون التطلعات والمخاوف المشتركة".
ثم في 3 شباط/فبراير 2003، عشية الحرب العراقية، شدّد بوش في خطاب أمام "أميركان إنتربرايز" على ضرورة وأهمية "دمقرطة" العالم العربي "لأنّ الامم المستقرة والحرّة لا ترعى إيديولوجيات القتل"، ملمحاً بذلك إلى أن واشنطن أسقطت من اعتبارها ما كان يوصف بـ "الإستثنائية العربية" التي جعلت الشرق الأوسط (وفق مؤسسة "فيدام هاوس") "المنطقة الأقل حرية في العالم والأكثر مقاومة للموجة الثالثة من الديمقراطية التي اجتاحت آسيا واميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية خلال الثمانينات والتسعينات".
ويتفق المحللون الأميركيون على القول إنّ العنصر المعادي للإرهاب في النظرية الديمقراطية الأميركية حيال الشرق الأوسط، لم يكن في الواقع الدافع الوحيد لهذه السياسة. فالحاجة إلى تعزيز الإصلاح العربي، تجد جذورها أيضا في حتمية تغيير أساسيات السياسات العربية والعلاقات العربية الأميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة .
ويضيفون أنّه في حين أنّ المصالح الأميركية في الشرق الأوسط كانت تفرض في السابق دعم أنظمة الأمر الواقع التي يمكنها ضمان الأمن الاقليمي، إلاّ أنّ هذه الانظمة تستند إلى أسس ضعيفة. فثمة الآن اعداد ضخمة من الشباب تدخل سوق العمل، فيما الإقتصادات التي تقودها الدولة راكدة، والبيروقراطيات متكلسة، والفساد مستشرٍ. وكل هذا يوحي بلا استقرار واسع مع تزايد الفجوة بالنسبة للمواطنين العرب بين التوقعات والحقائق. ومع انحدار القومية العربية والإسلام الأصولي كوسيلة لإضفاء الشرعية على الحكومات وحمايتها من مطالب مواطنيها، ومع ازدياد مصادر المعلومات المستقلة، فإن الرفض للأوتوقراطيين العرب سيتفاقم .
وتلخّص الباحثة الأميركية تامارا كوفمان ويتس هذا النمط من التحليل بقولها : "باختصار، الأمر الواقع السياسي الراهن في الشرق الأوسط لا يمكن أن يستمر. وتحقيق نوع جديد من التوازن في السياسات العربية وتأسيس نوع جديد من البيئة في العلاقات العربية الأميركية، سيتطلّب إضطرابات وتغييرات قصيرة المدى".
التعثّر الداخلي
"إضطرابات وتغييرات قصيرة المدى"؟. هل هذا يعني أيضا الحروب الأهلية؟.
الأمر وارد، لأسباب داخلية أيضا وليس فقط خارجية. وهذا ناجم أساساً عن تعثّر مشروع "الدولة الأمّة" في الدول العربية التي برزت الى الوجود في اوائل ومنتصف القرن العشرين .
فهذه الدول الأمم، ومعها نظامها الإقليمي المتجّسد بالجامعة العربية، عاجزان عن مواجهة التحدّيات الجديدة. فلا هما قادران على بناء "الأمّة القطرية" المتطابقة مع الدولة القطرية، في زمن بدأ أصلاً مفهوم الدولة الأمّة نفسه ينهار تحت ضربات ثورة العولمة. ولا في مستطاعهما حماية شعوبهما من مخاطر التهميش الاقتصادي والتبعية والتفكيك السياسي، ناهيك بمنحها حرياتها وحقوق الانسان. وأخيراً، ما عاد بإمكانهما (بسبب تبعية نخبهما للخارج) بلورة أيّ عمل عربي مشترك ومستقل، قادر على وضع الرأي العربي على جدول الأعمال العالمي.
والى أزمة الدولة القطرية العربية ، هناك أزمات المجتمعات القطرية العربية. فهذه الأخيرة، (وبسبب الضربات العنيفة التي تلقّاها العمل القومي العربي منذ العام 1967، ثم انقلاب الأحزاب القومية في السلطة الى أحزاب قطرية سلطوية إستبدادية في الدول التي حكمت)، تحللت الى تجمعات أهلية منقسمة على أساس المذهب أو الطائفة أو القبيلة، أو كلها معاً، وباتت الصراعات الأهلية الباردة والساخنة هي الإطار شبه الوحيد للعمل السياسي وحتى الفكري فيها.
هذه الديناميّة لم تكن واضحة في اوائل السبعينات. فمن بين كل الأنظمة التي كانت قائمة في الشرق الأوسط يوم نشوب حرب تشرين/ أكتوبر 1973، لم يحدث أيّ تغيير جذري وعنيف إلاَّ في اطراف الشرق الأوسط، كأفغانستان والصومال. في ذلك الوقت، حصل انقلاب عسكري في بلد عربي واحد هو السودان؛ والحرب الأهلية والتدخل الخارجي كادا أن يمزقا دولة اخرى هي لبنان. اما اليمن الجنوبي فقد محي عن الخريطة من خلال وحدة سلمية مع جاره الشمالي. "التغيير الثوري"، بالمعنى الكامل للكلمة، لم يحدث إلا في إيران الشيعية، وقد تعثّر تمدّده بسبب الحرب مع العراق. أمّا في ما يتعلق بباقي الدول العربية، فإن العمر المديد قد بدا وكأنه القاعدة وليس الإستثناء.
الإنفجار الديموغرافي
ليس من الواضح ما إذا كانت أنظمة الشرق الآمن التي كانت شديدة الإستيعاب للصدمات، قادرة هذه المرة أيضاً على استيعابه، خصوصاً وأن المتغيرات الدولية في الخارج تتوافق مع "الإنفجار العظيم" للظاهرة الديموغرافية (السكانية) في الداخل .
أول من التفت الى هذه الحقيقة كان فؤاد عجمي. قال: "أسس الإستقرار في الدول العربية بدأت تهتز منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، بفعل التوسّع الديموغرافي الكبير الذي اكتسح كل ما تم إنجازه في مرحلة ما بعد الإستقلال. وبعد ذلك، تراءت في الأفق ظلال التيارات الأصولية المتطرفة، ثم ما لبثت هذه الظلال أن تحولّت إلى ريح قاتلة".
يقال عن حق أنّ الثورة تقع على كاهل الفتية والشبّان. وهذا ما يدفع الآن إلى الاهتمام الشديد بالمتغيّرات السكانية الكبرى في العالمين العربي والإسلامي، والتي قد تكون لها مضاعفات كبرى على الحرب ضد التطرف. فالزيادة الكبيرة في أعداد الشبّان، مؤشر على تحّول ديموغرافي ذي طبيعية ثورية، إذ هو يساعد الى حد كبير على انتشار الأصوليات، ولاسيّما في الدول التي تزاوج بين نقص الفرص وبين نقص الشرعية في مؤسساتها الدستورية.
وثمة وفرة من الأدلة التاريخية التي تشير إلى أن فترات التمرّد والحروب الأهلية ، تحدث بالتزامن مع فترات تزداد فيها إلى حد كبير أعداد الشبّان والعاطلين عن العمل وتندر الموارد . وعلى سبيل المثال، كانت الدول في حقبة التسعينات التي يشكّل فيها الشبان 40 في المائة من السكان، عرضة أكثر بكثير لخطر الحروب أو الإضطرابات الأهلية.
نماذج
ألآن، إذا ما مزجنا المتغيّرات الإستراتيجية الدولية مع الإنقلابات الديموغرافية والتخثّر السياسي والتأخر الاقتصادي في المنطقة، فعلامَ سنحصل؟.
على حروب أهلية ، أو على الاقل على تربة مؤاتية لهذه الحروب. وهذه بعض النماذج :
* العراق :
كل الدلائل تشير، مع الأسف، الى أنّ بلاد العباسيين باتت على قاب قوسين أو أدنى من الحرب الأهلية. فالجهود تبذل الآن على قدم وساق لفصل الشيعة عن السنّة (تحت شعار الفيدرالية الشيعية الكردية، كما يطالب فرانسيس فوكوياما وغيره )، وربما أيضا لفصل الشيعة عن الأكراد.
لائحة الأطراف المهتمة بهذا المشروع الدموي تبدو طويلة.
فالاميركيون يتّهمون "القاعدة". وهم نشروا وثيقة منسوبة الى أبو مصعب الزرقاوي، أحد قادة حركة "أنصار الإسلام" الحليفة لأسامة بن لادن، تقطر دماً وتحريضاً على شنّ حرب أهلية ضد كل من "الشيعة الرافضة"، والغالبية السّنية "الدهماء والهمج الرعاع"، وفق لغة الوثيقة المزعومة.
وبعض المحللين العرب في واشنطن أوردوا أيضا تقارير، أكدّوا فيها أنّ المحافظين الجدد المسيطرين على الإدارة الأميركية "لا يشعرون بالقلق من اندلاع الحرب الأهلية "، لأنّ ذلك قد يخدم مصالحهم .
أمّا الديبلوماسي العربي الدولي المخضرم الأخضر الإبراهيمي، فقد كان أول من حذّر من هذا الخطر. قال: "أحذّر القادة والشعب في العراق من إحتمال وقوع حرب أهلية. إنّي قلق بسبب وجود مخاطر كبيرة جداً. الحرب الأهلية لا تندلع بقرار من شخص ما، بل هي تقع بسبب وجود أنانيين وجماعات (كتلك التي وجدت في لبنان والجزائر) تفكّر في نفسها اكثر مما تفكر في بلادها". وعشية تحذير الإبراهيمي، كانت "فاينانشال تايمز" تنشر تقريراً سرّياً أميركياً يحّذر هو الآخر من أن "بلقنة العراق" باتت وشيكة.
من ينبغي أن نصدّق: الأميركيين أم خصومهم، أم المحايدين بين الأميركيين وخصومهم كالأخضر الإبراهيمي ؟.
كلّهم!.
فواشنطن المحافظون الجدد لها مصلحة حقاً في اندلاع مثل هذه الحرب، إذ هي قد تحوّل سهام المقاومة المسلحة في العراق بعيداً عن صدور الجنود الأميركيين، وتجعل الوجود العسكري الاميركي نفسه في بلاد ما بين الرافدين حاجة دولية، ومطلباً شعبياً عراقياً، وتمنّياً رسمًياً عربياً.
و"القاعدة" لها كلّ المصلحة بالحرب، لانها سترجىء قيام الدولة العراقية وستحوّل العراق الى "جنّة أفغانية" جديدة بالنسبة لها.
وهذا بالطبع تقاطع محلي دولي خطر بما فيه الكفاية. وهو قد يصبح أكثر خطورة بكثير إذا ما انضمّت اليه دول كبرى وإقليمية، إذ حينها سنعرف متى تبدأ الحرب، لكن سيكون من المستحيل معرفة متى تنتهي.
* السودان:
ليس ثمة ضرورة للتساؤل عن احتمالات الحروب الأهلية في السودان. فهي وقعت بالفعل وانقضى الأمر.
فبعد أن قاد سلام جنوب السودان الى الحرب في دارفور غرب السودان، بدأت كل القوى التقسيمية في البلاد، خصوصاً في النوبة ومناطق النيل الأبيض وغيرها، تشعر بأن زمن الوحدة ولّى ، وأن عصر الإنفصال بدأ، وهو شعور في محله .
فأيّ حدث داخلي في السودان، بات يتحوّل بسرعة فائقة الآن الى حدث خارجي بامتياز. وأي قرار سيادي تتخذه الخرطوم ، باتت تجابهه واشنطن ولندن وسيدني فوراً بقرارات "فوق سيادية" ترفع، إما شعار الأخلاق والإنسانية، أو لواء التدخل الوقائي في "الدول الفاشلة".
البداية كانت في الجنوب، الذي تم تبرير التدخل الأميركي الكثيف فيه بفشل الحكومة المركزية في وقف الحرب الدموية المتواصلة ضد المسيحيين والوثنيين على أرضه منذ عقود. بيد أن هذا التدخل سرعان ما تمدّد أيضاً إلى الغرب في دارفور، برغم أن الأزمة هناك لم تبدأ سوى العام 2003، وبرغم أن الخرطوم وافقت على التفاوض مع زعماء التمرد في تنظيمي "حركة العدالة والمساواة" و"حركة تحرير السودان". إلا أن هذين الأخيرين رفضا الحل السياسي لسبب غير خفي: الرهان على أن التدخلات العسكرية الخارجية، لا المساومات الداخلية، هي التي ستحسم الموقف في النهاية.
كلّ هذه التطوّرات المتلاهثة التي يمسك بعضها بخناق بعض، وضعت، وستضع أكثر، وحدة السودان أرضاً وشعباً على أكف كل عفاريت التفتيت الخارجي.
وهنا نحن لا نتحدث عن احتمال تفكيك السلطة المركزية السودانية، تمهيداً لتحويلها الى سلطة فيدرالية ديموقراطية، (فهذا في النهاية خيار يتطابق مع قدر السودان الجغرافي الديموغرافي)، بل عن تفتيت الكيان برمته إلى كيانات أو حتى إلى دول مستقلة عدة.
العديد من المحللين البريطانيين يؤكد وجود مثل هذا التوجّه. والعديد منهم واثق بأن اتفاق السلام في الجنوب سيؤدي في النهاية الى استقلال الجنوب، وأن اتفاق دارفور العتيد سيقود الى انفصال الإقليم . وكذا الأمر بالنسبة لجبال النوبة ومناطق النيل الأبيض .. الخ.
* فلسطين :
التوتّرات الداخلية الخطيرة في الضفّة وغزّة ، كشفت بشطحة قلم واحدة عن كل الجهود التي تبذلها تل أبيب، ومعها واشنطن، لإشعال لهيب الحرب الأهلية الفلسطينية: إسرائيل، عبر الاعلان عن خطة انسحاب ملغومة من غزّة، مشفوعة بانحيازها العلني الى بعض القوى الأمنية الفلسطينية داخل حركة "فتح" التي تستعد الآن لملء الفراغ في القطاع. وأميركا، بشلّ السلطة الفلسطينية عملياً وإشعال التناقضات بينها وبين حركة حماس.
حتى الآن، الفلسطينون تمكّنوا من تجنّب تجرّع كأس الحرب الأهلية. لكنّ النار لا تزال تحت الرماد، والخطر ما زال قائما. الكلّ على سلاحه، والكلّ متحفّز ليكون "دولة ورجال" المرحلة المقبلة.
* الأردن :
من بين كل الدول العربية ، يبدو النظام الاردني الأكثر تأثّراً بتقلّبات القضية الفلسطينية، والأكثر حساسية للإنقلابات في التوجهات الدولية إزاءها. وهذا ما يجعله يتأرجح بشكل مثير بين الصعود إلى نفوذ إقليمي يكاد يكون "إمبراطورياً"، تارةً، والهبوط الى قوقعة صغيرة تنغلق على كيانها الأصغر خوفا عليه من الإندثار، تارة اخرى .
غداة غزو العراق، كانت الأحاديث تتمحور إما حول كيان عراقي هاشمي بقيادة الأمير الحسن، أو حول حلف بغداد جديد لقيادة الشرق الأوسط بين تركيا وإسرائيل والعراق، يكون فيه الأردن واسطة العقد. لكن، وبعد تعثّر المشروع الاميركي في بلاد ما بين النهرين وانقضاض إسرائيل على الضفة الغربية لنهر الأردن، إنحسر الدور الأردني بشكل خطر، وبات فجأة "حاضر الاردن في العام 2004 شبيهاً بماضي لبنان في العام 1975، على الاقل من بعض وجوهه: المتغيرات الدولية ، الظروف الإقليمية، الأوضاع الأمنية، والمخاطر من ألعاب إعادة رسم الكيانات الجغرافية".
وبرغم أن المقارنة مع لبنان، الذي شهد العام 1975 سلسلة حروب أهلية وإقليمية دامية دامت اكثر من 14 عاماً، تبدو مبالغاً فيها بسبب اختلاف التراكيب السكانية والطائفية والتاريخية بين البلدين، إلا انه ليس من المبالغة في شيء دق نواقيس الخطر تحسّباً لما قد تتعرض له مملكة الهاشميين في مقبل الأيام .
الأسباب؟ إنها كثيرة، في مقدمها الإنقلاب الكبير الذي أدخله الرئيس بوش على التوجّهات الأميركية إزاء فلسطين. فهو بتقديمه ضمانات الى إسرائيل بدعم مطالبها بابتلاع نحو نصف الضفّة الغربية، وإبقاء ستة مجمعات إستيطانية كبرى فيها ورفض عودة اللاجئين الى أراضي 1948، نسف عملياً أيّ / وكل فرصة لقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة.
لا دولة فلسطينية في الضفّة وغزّة تعني عودة الروح إلى شعار الدولة الفلسطينية في الأردن الذي لطالما طرحه اليمين الإسرائيلي، ومفاده أن فلسطين كلها هي الدولة الإسرائيلية، والأردن كله (شرق النهر) هو الدولة الفلسطينية. ومعروف أن اكثر من نصف المواطنين الأردنيين ، أي 1,7 مليون نسمة، هم من أصل فلسطيني. وفي حال بدأت إسرائيل بتهجير فلسطينيي الضفة وغزة الى الأردن ، فهذا قد يطيح بالتوازن الديموغرافي الهش فيه، ويضع بشكل جدي المشروع الإسرائيلي لإقامة دولة فلسطينية في الأردن على جدول الأعمال الدولي.
وقد عكس مسؤولون أردنيون هذه المخاوف مؤخراً، حين قالوا ان "تغيّر السياسة الأميركية إزاء الصراع في المنطقة وتجاه مصالح حلفائها العرب ، يثير قلق المملكة من ترتيبات وتفاهمات أميركية إسرائيلية لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن".
وما يعنيه المسؤولون هنا لا يتعلق فقط بمتغيرات فلسطين، بل أيضاً بما يجري في العراق. إذ أنهم يخشون أن يؤدي احتمال السيطرة الأميركية الإسرائيلية المشتركة على بلاد ما بين النهرين وعبرها على الهلال الخصيب العربي، إلى نسف ركن أساسي من الأركان الإستراتيجية التاريخية التي قام على أساسها الكيان الأردني، وهو لعب دور الحاجز الجغرافي والأمني بين إسرائيل وبين العراق وسوريا.
وحيث تنتفي الحاجة إلى الأردن كحاجز، يصبح كيانه مفتوحاً أمام شتّى المباضع، وعلى رأسها مبضع اليمين الإسرائيلي.
بيد أن المخاوف الخارجية الأردنية ليست نهاية المطاف. هناك أيضا المخاوف الداخلية.
فبعد الكشف عن ضمانات بوش لإسرائيل، أصدرت "جبهة العمل الاسلامي" الأردنية القوية ، وهي الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين التي تعتبر أكبر مجموعة معارضة في البلاد، فتوى تحظر فيها على المسؤولين الأردنيين الاجتماع بزملائهم الأميركيين. ويشمل هذا الحظر زيارة واشنطن.
ثم بعد هذه الفتوى الخطيرة التي تجاوزت الخطوط الحمر المتعلقة بعدم إنتقاد العاهل الأردني، كانت السلطات تكشف النقاب عن عملية إرهابية كبرى كان ينوي بموجبها أنصار أبو مصعب الزرقاوي، الحليف الأبرز لأسامة بن لادن، القيام بهجوم كيماوي على مقار رئاسة الوزراء، ودائرة المخابرات العامة، والسفارة االأميركية في عمان. ولو لم تعتقل السلطات عشرة من أعضاء الخلية المناط بهم تنفيذ هذه العملية، لسقط أكثر من 80 ألف قتيل و160 ألف جريح، وفق البيان الرسمي الأردني.
هل سيكون الملك عبد الله الثاني قادراً على الصمود في وجه هذه الأعاصير الإقليمية - الدولية العاتية، كما فعل والده الملك حسين طيلة نصف القرن المنصرم؟.
حسنٌ. الكثير، إن لم يكن كل شيء، يعتمد على القرار الأميركي الإسرائيلي في هذا الصدد، وعلى إذا ما كان ثمة حاجة بعد الى الدور الاردني في المنطقة. وهنا يبدو الخوف كبيراً من حدوث التشابه الذي أشار اليه المحللون الشرق أوسطيون بين أردن 2004 ولبنان 1975 . فكلاهما وجد نفسه وسط إطلاق نار إقليمي ودولي من كل ناحية. وكلاهما فقد دوره (لبنان الخدماتي، الأردن الأمني) بسبب متغيرات المنطقة. وأخيرا كلاهما دفع ثمن وجود عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه.الفارق الوحيد بين النموذجين هو ضعف الدولة اللبنانية الكبير ، وقوة الدولة الأردنية الكبيرة .
لكن هل كانت الدولة الأردنية ستبقى قوية، لو نجح الزرقاوي في نسف مقرات مجلس الوزراء والاستخبارات والسفارة الأميركية، أو لو نجحت إسرائيل غداً في تنفيذ عمليات تستهدف أسس هذه الدولة ومداميكها ؟.
* إسرائيل:
آخر كيان سياسي في الشرق الأوسط كان يعتقد أنّه سيكون عرضة للصراعات أو الحروب الأهلية، هو إسرائيل. ولا عجب. فالدولة العبرية هي الأقوى في المنطقة، وهي تتمتع بمؤسسات ديمقراطية متينة وسلطة قانونية محترمة. ثم إنها أيضاً القابلة القانونية لولادة "الوطن اليهودي" نفسه ليس فقط اقتصاداً وسياسية وثقافة، بل حتى أيضاً مجتمعاً مدنياً.
ومع ذلك، كانت إسرائيل ترقص طيلة الشهور الماضية على وقع نغمة واحدة تحّذر من نشوب حرب أهلية فيها. لماذا؟ ماذا حدث ؟.
العديد من المحللين الإسرائيليين يعتقدون أن تحذيرات كل من أرئيل شارون والمستوطنين من حرب أهلية بسبب مسألة الإنسحاب من غزة، هو مجرد تهويل سياسي وتخويف إعلامي .
فاليهود المتطرّفون، الذين يفترض أن يكونوا الشرارة التي ستشعل لهيب هذه الحرب، أقلّية محدودة لن تستطيع سوى خلق إضطرابات أمنية أو زرع الفوضى. (أو اغتيال أرئيل نفسه مثلاً ) .
والدينيون والعلمانيون ليسا معسكرين مكتملي الإنفصال إيديولوجياً وسياسياً وإقتصادياً، ليكونا أرضاً مؤاتية للصراع الأهلي. فهناك بين الدينيين من يؤيد فصل الدين عن الدولة ، وهناك بين العلمانيين من يدعم تزويج الدولة (والصهيونية) للتوراة والتلمود .
ثم إن الدولة نفسها قوية للغاية، وهي تستند ليس فقط الى أقوى مؤسسة عسكرية في الشرق الأوسط، بل أيضاً إلى قاعدة صناعية وتكنولوجية وإدارية وتخطيطية متطورة . كما إنها ما تزال منذ 60 عاما تقود بنجاح المجتمع المدني الإسرائيلي في شتى المجالات الإقتصادية - الإجتماعية والثقافية، برغم كل تنوّعه الإثني وتناقضاته الإيديولوجية .
كل هذه المعطيات تجعل من تحذيرات شارون والمستوطنين بالفعل مجرد سلاح تكتيكي هدفه التخويف السايكولوجي و الإخضاع السياسي .
لكن مهلاً.
إستبعاد الحرب الأهلية الكاملة لا يعني أنه لن تكون هناك صراعات أهلية قد يقود تفاقمها وتراكمها إلى حصيلة الحرب نفسها. الأمر هنا أشبه بالحرب الباردة السوفياتية الأميركية التي كانت تخاض سلماً بين الطرفين على الصعيد الإيديولوجي، وحرباً بالواسطة على الصعيد العسكري. وهذا يمكن أن يحدث وفق السيناريو الآتي :
نشوب مواجهات حقيقية بين دولة إسرائيل القائمة داخل حدود فلسطين 1948 ودولة المستوطنين داخل حدود فلسطين .1967 وهذه ليست توقعات إفتراضية: فدولة المستوطنين تبدو مستقلة بالفعل عن المركز في تل أبيب إقتصادياً و قانونياً وحتى أمنياً، إلى درجة أن أحد المسؤولين الإسرائيليين إعترف مؤخراً بأن الحكومة لا تعرف ما يجري في المستوطنات وحولها، ولذا فهي تضطر الى مراقبتها عبر الأقمار الإصطناعية. لا بل لقد خطّط المستوطنون في وقت مبكر منذ العام 1989 لإعلان "دولة مستقلة لهم في الضفة وغزة لها جيش خاص واقتصاد خاص" .
دولة المستوطنين، التي حصدت منذ حرب 1967 أكثر من 80 مليار دولار معفاة من أي ضرائب، أطلقت موجة إيديولوجية عاتية نقلت التزمّت الديني والقومي في الأحزاب والمجتمع الإسرائيلي، من حيّز الثقافة الى رحاب السياسة .
كتب أرثر هرتزبرغ ( في مؤلفه الجديد "مصير الصهيونية" ): "الانتصار العسكري في العام 1967 وإستيطان الضفة وغزة ، حوّلا الحركات الدينية اليهودية الى حركات متطرفة باتت تهدد الوحدة الوطنية الإسرائيلية ، وتسعى الى طلي الصهيونية العلمانية بألوان دينية خلاصية ".
وقال يوئيل ماركوس ( في "هآرتس" ): "دولة المستوطنين نجحت بعد 1967 في السيطرة على حزب الليكود وتمددت إلى العديد من البنى السياسية والثقافية في إسرائيل. وإذا ما إنتصرت دولة المستوطنين على الدولة العبرية، فهذا سيعني نهاية الدولتين معاً".
وهذا يعني، بكلمات أوضح، أن الحركات اليهودية المتطرفة التي تعشعش الآن في دولة المستوطنين، قد لا تكون قادرة على إشعال حرب أهلية ، لكن في وسعها حتما إطلاق ما هو أسوأ منها بكثير : نسف قدرة الدولة اليهودية على مواصلة توحيد المجتمع المدني اليهودي حولها. وهذا سيؤدي، في حال تكرّسه، الى تفجير كل التناقضات الإثنية والدينية والطائفية الإسرائيلية دفعة واحدة او بالتقسيط.
* لبنان وسوريا :
15 سنة مرت حتى الآن على وقف الحرب الأهلية (وحروب الآخرين) في لبنان. لكن السلام الأهلي لمّا يتحقق بعد لأسباب داخلية وخارجية في آن. لبنان ما زال منذ 1989 في منزلة بين المنزلتين، بين الحرب والسلام الأهليين، الأمر الذي جعله بالفعل في مرحلة إنتقال حرجة.
إنتقال الى ماذا ؟.
هنا ترتسم في الأفق معالم وطبيعة الصيغة اللبنانية المعقّدة. فهي صيغة داخلية ترتكز برمّتها على توازنات خارجية إقليمية ودولية. حين يكون التوازن الخارجي قائماً، يتحقق الإستقرار. وحين يختلّ هذا التوازن ، يهتز الإستقرار.
الصيغة اللبنانية الآن في حال إنتظار لما سيسفر عنه شدّ الحبال الخطر في الشرق الأوسط، وأيضا للسياسات التي سيتّبعها قادة لبنان الطائفيون في التعاطي مع الصراع الجديد. فإذا ما كانوا حكيمين بدرجة معقولة، سيتمكّنون من أكل عنب المتغيّرات الجديدة بدون قتل ناطور الإستقرار. وإذا ما كانوا من الغباء بدرجة خطيرة، سيقبلون تحويل أنفسهم(ولبنان) مجدداً الى وقود حروب بالوكالة تعيده الى أجواء ما قبل 1989. سوريا بدورها تقف عند منعطف تاريخي خطر. وقد دلّت وعود التغيير المتكررة ودعواته، على أن صيغة التحالفات القديمة التي أقامها النظام وقرنها بحكم شمولي، ربما لم تعد كافية لمنع عودة شعار "الصراع على سوريا" الذي أطاح به الرئيس الراحل حافظ الأسد من خلال سياساته الواقعية المستندة الى مبدأ موازين القوى .
سوريا عليها الآن أن تتغير خارجياً وتغيّر توجّهاتها الداخلية في آن. وهذه معادلة صعبة للغاية أشبه بالرقص على حدّي السيف. بيد أن التأقلم سيكون حتمياً إذا ما كان ثمة رغبة بالبقاء. فالظروف الإستراتيجية إنقلبت رأساً على عقب في المنطقة، وأحداث 11 أيلول/سبتمبر دمجت الشرق الأوسط بشكل لا فكاك فيه بالنظام العالمي (الأميركي). ومثل هذه التغييرات لن تتغير، حتى ولو واصلت الولايات المتحدة التخبّط بدمائها في العراق . وليس أدل على ذلك من من تلك الحصيلة التي خرج بها كل من أنطوني كوردسمان، رئيس دائرة الإستراتيجيا في مركز الدراسات الدولية في واشنطن، و أميتي شيلز، المحللة في "فايننشال تايمز".
قال كوردسمان: "الولايات المتحدة لم تخسر العراق، بل خسرت إستراتيجيتها فيه" . وبالتالي، فإن تعثّر مشروع الاحتلال، لن يدفع لا الى الإنسحاب من العراق، ولا إلى التخلي عن فكرة السيطرة عليه. كل ما سيحدث، هو مجرد تغيير مؤقت في الإستراتيجية، ثم مواصلة العمل الدائم لتحقيق الهدف.
وقالت أميتي : "موضوع الجدل الرئيس هو مقارنة العراق بفيتنام. لكن هذا بالتأكيد ليس نمط النقاش الفيتنامي القديم . فتدهور السيطرة العسكرية الأميركية على العراق، يثير بالفعل ذكريات فيتنام، لكنه لا يؤدي الى المطالبة بالانسحاب من بغداد كما من سايغون، بل الى مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر وهذه خلاصات يجب أن تُقرأ جيداً في دمشق.
"العربي التائه"
هذا عن التوجّهات الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط . ماذا الآن عن السؤال الأول الذي طرحناه في البداية حول كيفية تفاعل العرب مع انقلابات إمبراطورية العولمة المتأمركة ؟.
أبرز من أجاب عن هذا السؤال كان محمد حسنين هيكل. قال (في كتابه "أزمة العرب ومستقبلهم"): "العرب يبدون بالفعل تائهين، مشتّتين، لا يعرفون في أي طريق يجب أن يسيروا. وإذا ما ساروا لا يعرفون الى أين سيقودهم الطريق. لا هم جزء من النظام العالمي الجديد ، ولا هم خارجه. لا هم عضو في نادي أنصار العولمة، ولا هم مرشحون للإنضمام الى معسكرات خصومها. لا هم رضخوا للحضارة الغربية الغالبة ، ولا هم قادرون على إنعاش حضارتهم الشرقية المغلوبة ([3]).
بكلمات أخرى : العرب الآن في منزلة بين منزلتين. لكنهم لا يملكون شيئاً من أمر أيّ من هاتين المنزلتين. وهذا ما يجعلهم مجرد جسر يعبر فوقه الآخرون. والجسر كما قال صموئيل هانتنغتون عن حق، في معرض انتقاده لإعتبار تركيا نفسها جسراً بين الشرق والغرب: "ليس انتماءً ولا هوية" ([4]).
لكن مهلاً . ألا يحتمل أننا هنا نبالغ في توصيف الأزمة العربية ؟. ما الجديد في أن تمر الأمم في حقبات من التخبّط والضياع ؟. الصينيون عاشوا 400 عام من الإحتلالات والحروب الأهلية المدمّرة وأزمات الهوية والحداثة والأصالة، قبل أن يستفيقوا ويستقلوا في منتصف القرن العشرين ([5]). اليابانيون هم أيضا "ناموا" 300 سنة بعد أن قرروا إغلاق أبواب بلادهم في وجه الجميع ، ولم يعيدوا فتحها إلا في أواخر القرن التاسع عشر في عصر ميجي([6]). وحتى روسيا التي كانت قبل عشر سنوات فقط دولة عظمى تتقاسم حكم العالم مع أميركا، تجد نفسها مضطرة لإعادة البناء من الصفر ، بدون أن تحدد بشكل نهائي هويتها: هل هي غربية أوروبية، أم أورو آسيوية ، أم حضارة بيزنطية أورثوذكسية مستقلة عن الغرب والشرق وقائمة بذاتها؟([7]) .
ما "العيب"، إذاً، بأن يعيش العرب التخبّطات نفسها ؟. ثم: أليس صحيحاً ما يقوله الكاتب اليساري الأميركي هاري ماغدوف من أن الأزمات ربما تكون أحياناً خلاّقة وهبة من السماء لأنها تسمح بالإجهاز على القديم وإدخال التطويرات الجديدة والحديثة ؟ ([8]).
ليس هناك عيب. لكن هناك مشكلة . مشكلة كبرى في الواقع. إذ من سوء حظ هذه المنطقة ان "أزماتها الخّلاقة" الراهنة لا تجري في فراغ دولي. على العكس تماماً: أنها تحدث في الوقت ذاته الذي يمر فيه المجتمع العالمي بواحدة من أضخم ثوراته التاريخية، التي لن تغّير فقط النظام العالمي الراهن، بل ربما أيضا الطريقة التي عاش بها البشر طيلة العشرة آلاف سنة الماضية .
إنها في آن ثورة في التكنولوجيا كما في الإيديولوجيا؛ في الاقتصاد كما في الفكر؛ في الزراعة التي ستنتقل قريبا مع البيوتكنولوجيا من الأرض الى المختبرات، كما في الصناعة التي بدأت تنتقل بالفعل من عالم المادة الى عالم المعلومات والافكار؛ في الطبّ العضوي كما في الطب النفسي؛ في مفاهيم القوة كما في نظريات السيادة والدولة الأمّة والحدود ([9]) .
د. حازم الببلاوي كان دقيقاً حين أطلق على هذه الثورة إسم "عصر الإنقطاع" ([10]). فإذا ما كان ظهور الزراعة قبل عشرة آلاف سنة ثورة وانقطاعاً بين نمط حياة القنص والبداوة ونمط الحياة الإنتاجي المستقر، وإذا ما كانت الصناعة انقطاعاً ضخماً آخر قلب الحياة البشرية رأساً على عقب، فإن الثورة التكنولوجية الثالثة الراهنة المستندة الى المعلومات والإتصالات، ستكون فاتحة عصر جديد يمثّل انقطاعاً كبيراً آخر في نمط الحياة والإنتاج .
ومن لا يسير في تيار هذه الثورة، سيجد نفسه سريعاً كمّاً مهملاً ملقى على ضفاف مجراها الذي سيعج ببقايا "القديم" و "غير الفعاّل". من لا يكون على وليمتها الكبرى، سيكون جزءاً من الطعام .
هل بدأنا نلمّح هنا إلى أن عرب ومسلمي الشرق الأوسط سيكونون بشكل أساسي على لائحة طعام هذه الوليمة ؟.
ربما. سنأتي الى هذا الموضوع بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة لمحاولة إستشراف طبيعة النظام العالمي الجديد الذي بدأت تبلوره الثورة التكنولوجية الجديدة .
وبالطبع سنكون مضطرين هنا لطرق أبواب العولمة التي قد لا تكون ظاهرة جديدة في التاريخ، ولكنها بدأت ترتدي حلّة تاريخية جديدة كلياً مع ثورة الإتصالات والمعلومات ([11]).
بات ثمة شبه إجماع حالياً على أن العولمة ليست أيديولوجيا (برغم تقديسها لـ "الايدي الخفيّة" للسوق والتجارة الحرة)، ولا حتى نظاماً. إنها قوى وشبكات قوى تعتبر الكرة الأرضية كلها مجال عملها ، وهي بدأت تضع للمرة الأولى في التاريخ السلطتين السياسية والاقتصادية في آن في يد الرأسمالية.
وهنا بالتحديد كان هاردت ونيغري دقيقين في كتابهما المهم "الإمبراطورية"([12])، حين أطلقا على السلطة الجديدة إسم "إمبرطورية العولمة"، وحين أشارا إلى أن هذه الإمبراطورية تولد مباشرة أمام أعيننا الآن. فخلال العقود القليلة الأخيرة، وفيما كانت النظم الكولونيالية تتعرض الى الإطاحة، ثم تنهار الحواجز السوفياتية أمام السوق العالمية بسرعة كبيرة آخر المطاف ، كنّا شهوداً على ظاهرة مبادلات اقتصادية وثقافية غير قابلة للمقاومة، إتفق على تسميتها العولمة.
فجنباً إلى جنب مع السوق العالمية ودورات الإنتاج العالمية، برز نظام عالمي، ومنطق وآلية جديدان للحكم. باتت الإمبراطورية الجديدة التي تتولى الاضطلاع بمهمة تنظيم هذه المبادلات العالمية، هي السلطة السيادية التي تحكم العالم.
ليس تدهور السيادة القومية للدول وعجزها المتزايد عن تنظيم المبادلات الاقتصادية والثقافية، سوى أحد الاعراض الرئيسة لعملية قدوم إمبراطورية جديدة. لقد كانت سيادة الدولة القومية حجر زاوية النظم الإمبريالية التي دأبت القوى الأوروبية على إقامتها عبر الحقبة الحديثة . غير أن كلمة إمبراطورية في قاموس القرن الحادي والعشرين باتت تعني شيئاً مختلفاً تماماً عمّا تعنيه كلمة الإمبريالية. فالحدود التي فرضها نظام الدول القومية الجديدة كانت أساسية بالنسبة الى الكولونيالية الأوروبية، وإلى التوسع الاقتصادي. الحدود الإقليمية للدولة كانت تعّين مركز السلطة الذي يمارس حكم الأقاليم الأجنبية الخارجية عبر منظومة القنوات والحواجز. لم تكن الإمبريالية في الحقيقة إلاّ تمدداً للدول القومية الأوروبية الى ما وراء حدودها الخاصة.
ويشير هاردت ونيغري إلى أن الإنتقال الى الإمبراطورية الجديدة لا يأتي الاّ من غسق احتضار السيادة الحديثة ([13]) . فعلى النقيض من الإمبريالية، لا تقوم الإمبراطورية بتأسيس مركز إقليمي للسلطة، كما لا تعتمد على أية حدود أو حواجز ثابتة. لإنها أداة حكم لا مركزية ولا إقليمية تسعى، تدريجيا، إلى إحتضان المجال العالمي كله في إطار تخومها المفتوحة المتسعة.
وتتولى الإمبراطورية إدارة الهويات الهجينة، والمنظومات التراتبية المرنة، والمبادلات المتعددة عبر شبكة طبقات متباينة من الحكم والقيادة. لقد باتت الألوان المتمايزة لخريطة العالم الإمبريالية متداخلة ومندمجة في قوس قزح العالم الإمبراطوري (قوس قزح العولمة الجديدة في الحقيقة).
ويشكل إنقلاب الجغرافيا، الإمبريالية الحديثة للعالم، مع تحقق السوق العالمية ، نقطة عبور وتحّول في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي . ولعلّ الملاحظة الأبرز هنا هي ان الفواصل المكانية بين العوالم الأول والثاني والثالث قد إختلطت حتى أصبحنا نجد العالم الأول في الثالث، والأخير في الأول، والثاني نكاد لا نجده في أيّ مكان على الإطلاق.
يصّر كثيرون على القول أن السلطة النهائية التي تتحكّم بسيرورات العولمة والنظام العالمي الجديد، موجودة في أيدي الولايات المتحدة التي يطريها الموالون بصفتها زعيمة العالم والقوة العظمى الوحيدة، في حين يدينها المنتقدون بوصفها قوة إمبريالية مضطهدة.
ووجهتا النظر هاتان، تستندان إلى فرضية تقول أن الولايات المتحدة باتت، ببساطة ، تلبس عباءة السلطة العالمية التي سقطت أخيرا عن أكتاف الدول الأوروبية. فإذا ما كان القرن التاسع عشر قرناً بريطانيا، فإن القرن العشرين هو قرن أميركي؛ أو: إذا ما كانت الحداثة ظاهرة أوروبية في حقيقة الأمر، فان ما بعد الحداثة ظاهرة أميركية. وبالتالي فإن الإنتقاد الأعنف الذي يستطيع المنتقدون توجيهه هو أن الولايات المتحدة تكرر ممارسات الإمبرياليين الأوروبيين القدامى، في حين يحتفل المؤيدون بالولايات المتحدة بصفتها زعيمة عالمية أعلى كفاءة، وأكثر نزوعاً للخير والعدل، وقادرة على تصحيح أخطاء الاوروبيين .
غير ان فرضية كتاب "الأمبراطورية" الأساسية المتمثلة بأن شكلاً إمبراطورياً جديداً للسيادة قد ظهر الى الوجود ، تتناقض مع وجهتي النظر كلتيهما. فالولايات المتحدة، مثلها مثل أي دولة قومية أخرى في الحقيقة، لا تستطيع أن تشكل مركزا لأي مشروع إمبريالي. لقد ولّت الامبريالية الى غير رجعة. ما من دولة قادرة بعد على أن تصبح زعيمة عالمية مثلما سبق للدول الأوروبية الحديثة أن فعلت ([14]).
قلنا إن العولمة الجديدة هي التي أطلقت المشروع الإمبراطوري الجديد. لكن كثرة من المنظّرين المعاصرين ترفض الإعتراف بأن عولمة الانتاج الرأسمالي، وسوقه العالمية، شكلت حالة جديدة جذرياً او إنقلاباً تاريخياً مهما. وهم يقولون مثلا بأن الرأسمالية كانت على الدوام، ومنذ لحظة وجودها، تعمل بوصفها اقتصاداً عالمياً. وبالتالي فإن من يكثرون الكلام عن جدة عولمتها اليوم ليسوا إلا من أساء فهم تاريخها.
غير أن إيلاء الاهتمام المناسب للأبعاد الشاملة والتعميمية الأصيلة المتجذّرة للتطور الراسمالي، لا يجوز أن يعمينا عن الثورة أو الحركة الانقلابية الحاصلة على صعيد الإنتاج الرأسمالي المعاصر وعلاقات القوة العالمية الراهنة. ففي هذا التحّول يتمّكن المشروع الرأسمالي اليوم ، بصورة بالغة الوضوح ، من الجمع بين السلطتين الاقتصادية والسياسية ، أي من تحقيق نظام رأسمالي خالص وحقيقي.
العولمة لم تعد واقعاً مجرداً، بل هي أصبحت منبعاً لتحديدات حقوقية تعكس صورة فوق قومية واحدة للسلطة السياسية العالمية . انها مفهوم إمبراطوري للحق، روما جديدة، وإمبراطورية واحدة تقود "الحروب العادلة" التي يفرضها الإجماع لا الحق، والتي تستهدف سحق "المتمردين والبرابرة" على الحدود.
أميركا، التي تتزعم الآن ظاهرة العولمة، تفعل ذلك وهي تجد نفسها منشطرة الى نصفين في ما يشبه حالة الشيزوفيرانيا :
فهي، من جهة، تنشط في كل مكان لخدمة قوى العولمة بكل أطرافها متعددة الجنسيات، من خلال تأمين أمن الاسواق، وضمان حرية التجارة، وفتح أو خلق أسواق جديدة.
وهي، من جهة أخرى، تتحّرك أيضاً إنطلاقا من مصالح الدولة - الأمّة الأميركية ، التي بات أمنها الداخلي نفسه معتمداً على الأمن العالمي بعد أحداث 11 سبتمبر، ناهيك بالطبع عن ضرورة حماية المصالح الأميركية في العالم.
هذه الإزدواجية الأميركية قد تفسّر كون الأميركيين والأوروبيين واليابانيين (والآن الصينيين والهنود) حلفاء حتى العظم حين يكونون في إطار لعبة العولمة الاقتصادية، وخصوم حتى النخاع حين يأتي الأمر الى لعبة العولمة السياسية.
وهذا ليس تطورا مستغربا . فالنظام الدولي يمر في مرحلة إنتقالية حرجة على كل المستويات :
أ- من نظام الدولة الأمّة الذي أرسته معاهدة وستفاليا العام 1648 ، الى نظام دولي جديد لم تتحدد معالمه النهائية بعد([15])، وإن كانت الإمبراطورية وصف مبدئي مقبول له.
ب- ومن مفاهيم الحداثة و القوة العسكرية وموازين القوى، إلى مفاهيم ما بعد الحداثة والقوة التنافسية الاقتصادية ([16]).
ج- ومن الأسواق القومية الى الأسواق القارية، وعبرها الى الاسواق العالمية.
د- والأهم : من الهويات القومية الى الهويات الفردية المتذررة ([17]) .
وربما تكون الصين في بعض الجوانب إنعكاسا فاقعا لهذه المرحلة الانتقالية، حيث تتعايش بشكل مدهش فيها (وإن مؤقتاً) الحداثة وما بعد الحداثة، والقومية (في الأرياف والداخل) مع العولمة (على السواحل)، وفي النهاية الرأسمالية والإشتراكية.
كما قد تكون شركة الهند البريطانية نموذجا آخر . فكما ان هذه الشركة امتلكت في القرن التاسع عشر الجيوش وبنية الدولة وأجهزتها، كذلك بدأت الشركات متعددة الجنسيات تحوز في القرن الحادي والعشرين على العديد من مقومات السيادة التي كانت حكراً على الدول.
بيد أن التنافس بين العولمة الاقتصادية والعولمة السياسية لا يعني الصراع التناحري. ففي اللحظة التي يكون فيها الاقتصاد العالمي عرضة للمخاطر، تبرز الوحدة سريعاً في أجلى مظاهرها بين القوى الفاعلة في "إمبراطورية العولمة" . لقد بات العدو المشترك واضحاً، وهو ليس شيئا آخر سوى الدول الفاشلة أو المتعثّرة في العالم الثالث، والحركات الإرهابية، وإنتشار أسلحة الدمار الشامل بين "محاور الشر"، والهجرات السكانية من الجنوب الى الشمال.
وما يجري الآن من خلافات بين أقطاب النظام العالمي حيال هذه التهديدات، سببه تباين الإجتهادات حول أنجع السبل للقضاء عليها، مع لمسة شكوك بينها حول النوايا الذاتية الخاصة بكل منها، أو حول المدى الذي يجب السماح به لزعيمة العولمة الولايات المتحدة في ممارسة هيمنتها بدون قيد أو شرط.
لكن في لحظة ما (والأرجح أن هذه اللحظة لن تكون بعيدة)، سيتمّ التطابق بين العولمة الاقتصادية والعولمة السياسية - الأمنية. وسيحدث ذلك بحكم الحاجة. فالولايات المتحدة لن تتمكن من حكم العالم بمفردها فترة طويلة بسبب الأكلاف الباهظة، من ناحية، وخوفاً من وقوعها في الفخ الذي حذر منه بول كينيدي في "صعود وسقوط القوى الكبرى"، وهو التمدد الاستراتيجي الزائد ([18])، من ناحية أخرى.
وحينها سيولد نظام عالمي تعدّدي جديد سبق لهنري كيسنجر أن تنبأ في وقت مبكر فور إنتهاء الحرب الباردة بأنه سينشأ، ليضمّ الى أميركا، اليابان وأوروبا والصين وربما الهند، وأنه سيكون على شاكلة النظام العالمي الذي نشأ في القرن التاسع عشر([19]).
وبرغم أن كيسنجر كان مصيباً حين إستنتج أن النظامين القديم والجديد سيستندان الى قاعدة واحدة هي موازين القوى، إلا انه أخطأ حين لم يلحظ تغيّر الظروف التي ستطبّق فيها نظريات موازين القوى في القرن الحادي والعشرين، إذ هي موازين تقوم على تقاسم العالم لا التسابق على تناتشه كما حدث مع قوى القرن 19 العظمى . أما التنافس الإقتصادي فإنه سيجري في إطار منظمة التجارة الدولية التي ستصوغ لإمبراطورية العولمة قواعد السلوك فيها ([20]) .
بالطبع، نحن نتحدث هنا عن مخلوق لمّا يولد بعد، وعن ترتيبات جديدة لم تتبلور حتى الآن، وعن حصص وأنصاب لماّ يحسم أمرها بعد :
1 فلمن، على سبيبل المثال، ستؤول "ملكية" الشرق الأوسط الكبير؟. هل سيكون الخليج حصة أميركية صافية، والمغرب العربي حصة أوروبية صافية، والهلال الخصيب حصة أوروبية - أميركية مشتركة مع دور رمزي روسي؟.
2 وماذا عن إفريقيا التي ما تزال متناتشة بين أوروبا وأميركا ؟.
3 وهل ستتمكن الصين وأميركا واليابان وروسيا (والهند) من العثور على صيغة سحرية يخرج فيها جميع هؤلاء الأطراف راضين ؟.
4 ومتى سيولد مجلس أمن دولي جديد يعكس حقيقة موازين القوى الجديدة في العالم ؟.
أسئلة ستحتاج الى وقت (وربما الى حروب أو مجابهات) كي تظفر بإجابات ما .
3- ثورات
نحن، إذاً، أمام ثلاث "ثورات"، إذا ما جاز التعبير، تجعل من المرحلة الإنتقالية الراهنة التي يمرّ بها العالم، واحدة من المراحل التاريخية الفاصلة في التاريخ .
الأولى هي بالطبع الثورة العلمية - التكنولوجية الكبرى الثالثة .
والثانية هي ثورة العولمة، أو بالأحرى وصول الرأسمالية العالمية إلى "نهاية تاريخها" هي، كما يرى الباحث الأميركي البارز إيمانويل فاليرشتاين.
والثالثة هي النظام الدولي الجديد الذي سيرث نظام القطبية الثنائية لحقبة الحرب الباردة ، والذي يفترض به أن ينتج قريباً مؤسساته وهيئاته المدنية و "جيوشه" العسكرية، تماماً كما أنتجت الحرب العالمية الثانية الأمم المتحدة وحلف الاطلسي وصندوق النقد الدولي، ناهيك بـ "مؤسسة" يالطا.
هذه الثورات الثلاث كانت تتفاعل بقوة منذ حقبة السبعينات. لكنها وصلت إلى ذروتها مع انتهاء الحرب الباردة العام 1989. فمنذ ذلك الحين برزت الحاجة إلى :
أ إنهاء إنقسامات وترتيبات يالطا في أوروبا،
ب الإسراع في إزالة العقبات من أمام السوق الرأسمالية العالمية في كل القارات ، من خلال شعاري حرية التجارة ورأسمالية السوق (إضافة الى شعار "فرعي" هو الديموقراطية..)،
ج بدء التحضير إما لمؤسسات جديدة تعكس السلطة العالمية الجديدة أو لتطوير وتغيير المؤسسات الراهنة بما يؤدي الغرض نفسه .
طيلة فترة التسعينات ، كان يبدو أن الشرق الأوسط في منأى عن كل هذه الإنقلابات الجذرية في العالم كما في التاريخ. والمؤشر الوحيد على أنه موضوع على جدول الأعمال الدولي الجذري. هذا إقتصرت على الجهود الأميركية الكثيفة التي بذلها الرئيس كلينتون لتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، والتي كان يفترض أن تؤدي في حال نجاحها الى نشوء "شرق أوسط جديد" يلتقي المتغيرات الدولية في منتصف الطريق .
بيد أن أحداث 11/9 قلبت الأمور رأساً على عقب. فقد تحّول الشرق الأوسط فجأة من جغرافيا على هامش التاريخ (عدا جوفها الذهبي الأسود (النفط) وفلسطين) إلى منطقة في قلب الإعصار التاريخي الدولي. فجأة، أمن النفط وحده لم يعد كافياً، ولا أمن إسرائيل. بات ثمة حاجة إلى دمج كل المجال الحيوي الجغرافي للنفط وإسرائيل ، أي عملياً الشرق الأوسط الكبير كله، في المنظومات الدولية الأمنية والسياسية والاقتصادية الجديدة.
وهذا ترافق مع تحّول الولايات المتحدة نفسها بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر (كما أسلفنا) الى دولة مراجعة )revisionist) ورافضة للأمر الواقع في الشرق الأوسط، بعد أن كانت منذ أن ورثت النظام الإمبرلاطوري الفرنسي - البريطاني في المنطقة بعد حرب السويس العام 1956، دون أن تدخل عليه أي تغييرات جذرية تذكر.
أما الآن فإن نزعة المراجعة ستدفع الولايات المتحدة الى إدخال كل ما تراه مناسباً من تغييرات تخدم مصالحها، بما في ذلك التغييرات في الأنظمة والخرائط، كما أسلفنا.
بالطبع، الحرب الأميركية ضد الإرهاب حرب حقيقية ، وهي تملي على الولايات المتحدة الكثير من أولياتها في الشرق الأوسط . ومع ذلك هذه الحرب تكاد تصبح الآن ثانوية إذا ما قورنت بالنزعة الإنقلابية الأميركية الجديدة .
صحيح أن نتائج المجابهة بين الولايات المتحدة والأصوليات المتطرّفة في المنطقة معروفة سلفاً، وسبق لبنجامين باربر أن عبّر عنها بالقول إن "مقاتلي الجهاد نجحوا في قلب الزخم في الصراع بين الجهاد وماكوورلد (العولمة الاستهلاكية)، إلاّ أن النصر النهائي سيكون حتماً لهذا الأخير". لكنّ الصحيح أيضاً أنه إذا ما كان مصير "التمرّد الاصولي" على العولمة والنظام العالمي الجديد معروف ومحتوم، فإنّ مصير و مستقبل الشرق الأوسط ، ومعه مصر، لا يزال غامضاً، بسبب غموض الطريقة التي سيتم فيها الإدماج السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي للمنطقة في هذا النظام، والاحتمالات الآن تتراوح بين الآتي :
1- "الإدماج الليّن" )soft integration) على النمط الذي نفذّته الولايات المتحدة في أوروبا الغربية واليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث تم تزويج الإدماج الاقتصادي ( مشروع مارشال ) مع المشروع العسكري (حلف الأطلسي) في القارة العجوز، والإدماج العسكري - السياسي مع الإدماج الاقتصادي في اليابان (مشروع ماك آرثر ) .
2- "الإدماج الصلد" )hard integration)، على النمط الإستعماري الأوروبي في الشرق الأوسط منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
3- مزيج من هذين النوعين من الإدماج .
والى هذه الخطوط الإستراتيجية (إذا جاز التعبير) لمستقبل المنطقة، ثمّة عوامل تكيتكية (إذا ما جاز التعبير أيضاً) ستلعب دوراً في تحديد مصير كل من المنطق والباكس أميركانا :
1- الدور الذي سيعطى لإسرائيل في الترتيبات الجديدة لـ "الشرق الأوسط الجديد"، وما إذا كانت هذه الترتيبات ستلبّي الطموحات الشرهة للحركة الصهيونية في السيطرة الفعلية على كل فلسطين وعلى "مجالها الحيوي" في الهلال الخصيب، إضافة الى مساهمتها مع أميركا وتركيا في الهيمنة على الشرق الأوسط الكبير.
2- كيفية التعاطي الأميركي مع جغرافية المنطقة وتاريخها، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستتبنّى أم لا، المشروع الإسرائيلي الخطر لإعادة تفتيت المنطقة على أسس قبلية وعشائرية وطائفية على حساب طموحاتها التوحيدية القومية العربية والإسلامية المشروعة.
3- الشكل الذي سيرتديه الإدماج الاقتصادي، وما إذا كان سيتمّ إعادة إنتاج التركيبات ما قبل الرأسمالية الراهنة، أم سيتمّ تشجيع الإنتقال من البنى القروسطية التي تنتج حالياً الفقر والإنفجارات الديموغرافية إلى الإنتاج الرأسمالي، أي من الاستهلاك إلى الإنتاج، خصوصاً في الدول كثيفة السكان مثل مصر والمغرب.
4- مدى إستعداد الولايات المتحدة لتحّمل الأكلاف البشرية والمادية الباهظة لمشروعها الكبير في الشرق الأوسط الكبير، ومدى إستعدادها لـ "تقاسم" السلطة في هذه المنطقة الشاسعة مع الإتحاد الأوروبي.
5- كيفية تفاعل الشعوب العربية والإسلامية مع ما سيجري فوق أرضها، وطبيعة النخب الحاكمة الجديدة التي سيفرزها المشروع الأميركي، إضافة الى طبيعة النخب التي سيفرزها الشارع العربي، إما لمقاومة هذا المشروع بالقوة والأساليب الديموقراطية في آن، أو لتحسين شروط الإدماج.
وهنا مجدداً لا شيء مضموناً. فالكثير سيعتمد ليس فقط على بند بعينه من البنود "الإستراتيجية والتكتيكية" المذكورة أعلاه، بل حتى على كل بند منها، حيث أن أيّاً منها سيكون قادراً على تأبيد الصراعات المتفجرة في الشرق الأوسط الكبير إلى نصف قرن آخر .
فـ "العربي التائه"، إذا ما بقي تائهاً ومجبولاً باليأس المادي والاكتئاب القومي، سيكون مادة دسمة للغاية لتاريخ جديد قد يحوّل هذه المنطقة الى بؤرة لـ "البرابرة" (أي ثلثي البشرية الفقير) الذين بدأوا يتدفقون الآن نحو أسوار إمبراطورية روما الجديدة .
[1] ناشن" 01 أيار /مايو 2005
[2] بوليسي ريفيو - نيسان / إبريل 2004
[3] محمد حسنين هيكل : العربي التائه 2001 . المصرية للنشر العربي والدولي - القاهرة الطبعة الأولى يناير 2002 - ص 5
[4] Samuel P. Hantington : The clash of civilizations and the remaking of world order .first touchstone edition 1997- NewYork .p. 149
[5] هاري ماغدوف : من عصر الإستعمار حتى اليوم . مؤسّسة الأبحاث العربية بيروت . الطبعة الاولى 1891 .ص 53 -60
[6] راجع : د. محمود عبد الفضيل : العرب والتجربة الأسيوية - الدروس المستفادة . مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 0002 . ود. مسعود الضاهر : النهضة اليابانية المعاصرة مركز دراسات الوحدة العربية -بيروت 2002 . و د. دعد بوملهب عطاالله : اليابان من الشروق الى السطوع. مكتبة لبنان 4991 . و د. رؤوف عباس : التنوير بين مصر واليابان .ميريت للنشر والمعلومات - القاهرة 2001
[7] Huntington. Ibid .p 139
[8] ماغدوف : المرجع السابق . ص 84 بعدها
[9] راجع : Paul Kennedy : Preparing for the 21st century .Vintage Books.NY .1993.p 63,82
[10] د. حازم الببلاوي : النظام الاقتصادي الدولي المعاصر . عالم المعرفة - الكويت 2000 .ص 144
[11] Kennedy.ibid. p.47
[12] مايكل هاردت وأنطونيو نيغري : إميراطورية العولمة الجديدة . العبيكان - الرياض 2002
[13] المرجع السابق . ص 13
[14] المرجع السابق . ص 14
[15] Mathew horsman and Andrew marshall : After the nation state .harpercollins publishers . 1994.p.3 to 22
[16] bert cooper : the post-modern state and world order .London 1997
[17] سعد محيو : العرب والعولمة والتحضير للقرن الحادي والعشرين .دار الخليج - الشارقة 1999 . ص 73
[18] Paul kennedy : The rise and fall of the great powers .random house .ny 1987 . introduction.
[19] Henry Kissinger: Diplomacy toushtone 1994 p.17.28
[20] راجع هناالدراسة المهمة للباحث الاسلامي غريب حول النظام الدولي الجديد في :www.ummah.org.uk/kashmir/docs
What is the Arab destiny in the process of the empire of the globalization: Merger by force and several civil wars
The researcher evokes how the globalization aims to modify the region and the Arabic identities, exposing the facts and the nightmares resulting from the means used by the United States of America to restructure the Middle-East. The researcher doubts about the capacity of the countries in the region to face the big explosion of the demographical phenomenon which leads to civil wars taking as testimonies
-iraq where the country of the Abbasids is facing vast civil war.-Sudan: where a war existed in fact, long time ago by taking apart the whole entity. -Palestine: where everyone conserves his arms and fire is always imminent. Jordan: where the state gains a regional influence and sometimes the state falls to disappear. Israel: the last entity in Middle –East. It has been exposed to civil wars. Israel is suffering today from a real danger to fall towards the civil war Lebanon and Syria: the researcher sees that Lebanon where the war finished didn’t completely know civil peace. The Lebanese formula is in expectation, and if the Lebanese leaders are wise enough, this will be better otherwise the country will return to the same situation before 1989. As for Syria, the researcher sees that it has changed from interior and exterior side The strategic circumstances completely changed and the events of September 11 combined the Middle-East with world – wide American system. While evoking the Arab’s subject, the researcher sees that they lost. They didn’t agree with the globalization, and they are affiliated to the camp of the enemies of the globalization. It’s not anymore just a reality but it became a source of huge problems that Arabs face, especially that the events of September 11 turned into the Middle-East in a region which has been located inside the whirl wind The American war against terrorism imposed now to Washington some of its priorities in the Middle-East. The researcher concludes that the lost Arab will be always a looser if it will join the barbarian humanity that erupt towards the new empire of Rome
Quel destin pour les arabes dans le projet de “l’empire de la mondialisation” – Incorporation par la force et guerre civiles
Le chercheur explique comment la mondialisation cherche à modifier l’aspect de la région arabe ainsi que son identité. Et si le chercheur a des doutes concernant la capacité des Etats de la région à faire face à la grande explosion du phénomène démographique, la conséquence serait alors, sans doute, des guerres civiles. Il prend comme exemple
- l’Irak où le pays des Abbasites s’apprête à affronter une immenseguerre civile
- Le Soudan : il remarque que ces guerres ont eu lieu depuis delongues années et ceci afin d’anéantir son entité
- La Palestine où tout le monde conserve ses armes et où le feu esttoujours imminent.
- La Jordanie qui serait tantôt un pouvoir régional important et tantôtun état menacé de disaprition.
- Israel : la dernière entité au Moyen-Orient qui souffre aujourd’huid’un réel danger de guerre civile
- Le Liban et la Syrie : la guerre civile est terminée au Liban mais cepays n’a pas encore complètement connu la paix civile
Si les dirigieants libanais savent être sage, l’Etat connaitra le meilleur, sinon le pays retrouvera un climat similaire à celui de l’avant l’an 1989
Pour la Syrie, les changements sont importants, à l’interieur tout comme à l’exterieur et ceci pour survivre
Les circonstances stratégiques ont changé de fond en comble et les évènements du 11 septembre ont amalgamé étroitement le Moyen-Orient avec le régime mondial américain
Le chercheur remarque que les arabes sont perdus : ils ne sont pas soumis à la mondialisation ni contre elle. La mondialisation est devenue une source d’énormes problèmes auxquels les arabes font face surtout lorsque les évènements du 11 Septembre ont transformé le Moyen-Orient en une région à l’interieur même du tourbillon
La guerre américaine contre le terrorisme impose maintenant à Wahington une grande partie de ses priorités au Moyen-Orient, ce qui n’est pas dans l’interêt des arabes
Le chercheur conclut que l’arabe perdu restera déséspéré et joignera alors les Barbares de l’humanité qui défèrlent actuellement vers les murs du Nouvel Empire de Rome