- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
في 23 نيسان الماضي (الموافق 15 أيار بالتقويم العبري) احتفلت إسرائيل بالذكرى الـ67 لإنشائها على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني، الذي اقتلعته من أرضه وشرّدته في دول الجوار وأصقاع الدنيا. لكن بعيدًا من الاحتفالات، فإنّ المزاج العام في الكيان الغاصب يسوده القلق، فالجميع يشعرون أنها النهاية...
دولة خائفة وغاضبة
يعتبر تسفي بارئيل الكاتب في صحيفة «هآرتس» أنّ الدولة الإسرائيلية اليوم هي دولة «غريبة الأطوار، غاضبة، خائفة، ممزّقة ومشحونة بالكراهية. دولة بلا حدود مع قدم واحدة، عالقة في حلق شعب آخر، تحتفل بنجاحها في الوصول إلى عامها الـ67»، ويضيف: «يوم الاستقلال يبدو وكأنّه عيد ديني ليهود اسرائيل، فالدولة «المستقلّة» لا تزال تدير حربًا من أجل البقاء ضدّ خُمس عدد مواطنيها». وعلى الرغم من حصولها على الاعتراف الدولي، فإنّها تتصرف كأنها لا تزال تتلهّف للحصول عليه، وذلك كما لو أنّ المجتمع الذي صادق على قيامها يمكنه إلغاء الاعتراف بها أو المسّ بسيادتها. وفي كل مرة تخترع إسرائيل اختبارًا جديدًا كي تتفحّص ولاء المجتمع الدولي لقراره المتّخذ سابقًا بشرعية وجودها. وعلى سبيل المثال هي تعتبر أنّ رفضها قيام الدولة الفلسطينية بمثابة اختبار لدول العالم فمن يدعم الدولة الفلسطينية إنّما ينفي في الوقت نفسه حقّها في الوجود، فالأغيار مشبوهون دائمًا بكراهية اليهود وإسرائيل».
ورطة الهوية
هذه المفارقة تعمل كحجر الرحى على رقبة كل يهودي يعيش داخل إسرائيل أو خارجها لأنّه سيبقى متهمًا بالخيانة العظمى إن لم يكن صهيونيًا ملتزمًا الإقامة الدائمة في الكيان، فهو لا يقوّض القاعدة الديموغرافية المقدسة المطلوبة للحفاظ على الغالبية اليهودية في إسرائيل فقط، وإنمّا يعترض على مبدأ الملاذ وعلى حقيقة الادّعاء بأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يمكن لليهود فيها أن يحقّقوا يهوديتهم. وورطة الهوية هذه لا تزال تطارد الدولة منذ قيامها، وهي التي تؤجج الشعور المتواصل لدى الإسرائيليين بالملاحقة والاضطهاد، وبالحاجة الدائمة إلى تجديد الإعتراف بمبرر وجودها. وبالتالي فإنّ الإسرائيليين يطرحون سلسلة من الأسئلة المحيّرة على أنفسهم: هل يمكن للدولة غير المتأكّدة من هويتها أن تعتبر نفسها مستقلة؟ وهل يمكن لدولة لا تستطيع إقناع غالبية شعبها بالإقامة فيها، أن تدّعي امتلاك تعريف نفسها كدولة ملاذ، وهو الإدّعاء الذي تبني عليه سبب وجودها من الأساس؟ هذه الأسئلة لا تطرح في أي بلد آخر في العالم لأنّ الدول المستقلة هي دول لكل مواطنيها، حتى الذين تنغرس أصولهم العرقية أو الدينية في أماكن أخرى. والدولة التي تربط حقّ وجودها بولاء يهود العالم لها، سيكون من الصعب أن تقنع حتى نفسها باستقلالها، ومثل هذا الاستقلال لا يمكن أن يتحقق فعلاً إلّا عندما توافق هي على الاعتراف باستقلالية يهود الشتات وبحقّهم في حسم قرارهم الخاص المتعلّق بمكان إقامتهم وحياتهم، وتكتفي بأن تكون دولة للإسرائيليين الذين يعيشون داخل حدودها.
زمرة من الفاسدين
من جهته، يصف أبراهام بورغ، رئيس الكنيست الأسبق الذي اعتزل الحياة السياسية في العام 2004، إسرائيل بأنها «دولة فاشية واستعمارية تقودها زمرة لا أخلاقية من الفاسدين الخارجين على القانون». وقد قال كلامه هذا في حوار أجرته معه صحيفة «يديعوت أحرونوت»، عقب إصدار كتابه «الانتصار على هتلر»، الذي ذهب فيه إلى أن إسرائيل تسير على خطى هتلر, وأنها تنتظر المصير ذاته, طالما ظلّت متمسكة بالصهيونية ومعتمدة على السيف والعنف في إخضاع الفلسطينيين والعرب وسحقهم. وكتاب بورغ ليس وحيدًا في مجاله، فهناك عدد آخر من الباحثين الإسرائيليين (من سلالة حركة المؤرّخين الجدد) وجدوا أن مناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية كل عام تهيء ظرفًا مؤاتيًا لفتح الملفات وللحديث بصراحة عن»إختراع» الشعب اليهودي من قلب الخرافات والأساطير التي حفلت بها التوراة. وهذا ما خلص إليه شلومو ساند الأستاذ بجامعة تل أبيب في كتابه: «كيف تم اختراع الشعب اليهودي- من التوراة إلى الصهيونية». وما أيّده كتاب «كشف الغطاء عن التوراة», لمؤلفيه إسرائيل فينكلشتاين وأشير سيلبرمان. في الوقت نفسه كشف باحثون آخرون عن حقيقة الجرائم البشعة التي ارتكبتها الجماعات الصهيونية المسلّحة للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وطردهم, وخصوصًا المذابح التي أدّت إلى التطهير العرقي, والتي تكذّب الادعاءات التي روّجتها الأبواق الإسرائيلية بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم أو غادروا بلادهم باختيارهم. وقد فضح هذه الجرائم إيلان بابي في كتابه «التطهير العرقي لفلسطين». الأمر الذي أحدث صدمة في المجتمع الإسرائيلي, ما اضطره للاستقالة من منصبه كأستاذ بجامعة حيفا والهرب إلى بريطانيا ليعمل في إحدى جامعاتها. وكذلك فعل آفي شلايم الأستاذ بمعهد سان أنطوني في أوكسفورد الذي هدم في كتابه «الجدار الحديدي- إسرائيل والعالم العربي», أسطورة الدولة اليهودية المدّعية أنها محبّة للسلام, ومحاطة بعالم عربي يريد القضاء عليها.
تآكل منظومة القيم
البروفيسور أمنون روبنشتاين الوزير الأسبق وأستاذ القانون بجامعة تل أبيب الذي تخصّص في الكتابة عن مستقبل الدولة، ذهب إلى أكثر من ذلك, فقد نشرت له صحيفة «هآرتس» حوارًا قال فيه إن إسرائيل لا يمكنها البقاء بسبب نوعين من التهديد, أحدهما خارجي يتمثّل في فشلها في ردع العرب, والثاني داخلي يمثّله انتشار الفساد وتآكل ما يسميه »منظومة القيم الصهيونية» التي قامت عليها الدولة. وأضاف أنه على الرغم من انتصارات إسرائيل في حروبها الكبيرة مع الدول العربية, إلا أن هذه الانتصارات فشلت في اجتثاث الرغبة العربية والإسلامية في محاربة إسرائيل, وفي رأيه أن ما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا هو »أسلمة» الصراع, واتخاذه بعدًا دينيًا, الأمر الذي لا يزيد فقط رقعة العداء لإسرائيل, بل يجعله أكثر تصميمًا. واعتبر روبنشتاين أن إسرائيل قد تستيقظ في يوم ما وقد أحيطت بأنظمة حكم ذات توجّه إسلامي, لا ترفض وجود إسرائيل فحسب, بل تتجنّد من أجل إزالتها. ورصد روبنشتاين في الوقت نفسه مظاهر تحلّل منظومة «القيم الصهيونية» المزعومة، الأمر الذي تعكسه عدة ظواهر مثل ميل الشباب الإسرائيلي لعدم التضحية من أجل الدولة وتراجع الحماسة في صفوفهم للانخراط في سلك الجندية. هذه النقطة أيّده فيها أيريز إيشيل مدير مدرسة «إعداد القادة» في تل أبيب, الذي قال في مقال نشرته صحيفة «يديعوت أحرنوت» إن أحد مصادر هدم منظومة القيم هذه يتمثّل في حقيقة أن قادة الدولة لم يعودوا مثالًا يحتذي به الشباب الإسرائيلي. ففي حين يصرخ قادة الدولة مهددين بشنّ مزيد من الحروب, فإنهم يستثنون أبناءهم من تحمّل عبء هذه الحروب, ودلل على ذلك بهروب إبن رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت من الخدمة العسكرية بالسفر إلى الخارج.
مظاهر مضلّلة
ورأى الجنرال شلومو غازيت الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية «أمان» أن رفض إسرائيل التجاوب مع الرغبة العربية لحلّ الصراع سياسيًا يحمل في طيّاته دمار إسرائيل. ووجّه غازيت في مقال له في صحيفة «معاريف» انتقادًا حادًا للمستشرق الأميركي برنارد لويس الذي دعا إسرائيل إلى عدم التفاوض مع العرب, معتبرًا أن تخليد الوضع القائم هو الذي سيؤدي إلى تصفية إسرائيل, ما لم توافق حتى على هدنة طويلة المدى تتنازل مقابلها عن الأراضي التي احتلتها في العام 1967. وقال ناحوم برنياع كبير المعلّقين في صحيفة «يديعوت أحرونوت», الذي توقّع فشل إسرائيل في حرب لبنان الثانية (2006) من أول يوم فيها, إنه على الرغم من أن إسرائيل اليوم قوية من الناحية العسكرية وذات منعة اقتصادية, إلا أن الناس فيها يفقدون الثقة بمستقبلها وبقدرتها على البقاء. وروى حادثة طريفة وقعت مع الكاتب اليهودي الأميركي غوردس الذي ذهب ذات يوم إلى طبيب للحصول على وصفة دواء, فسأله الطبيب: بماذا تعمل؟ فرد غوردس: أنا كاتب. عندئذ سأله: ماذا تكتب؟. قال: حول مستقبل إسرائيل. فضحك الطبيب وقال: آه أفهم الآن, أنت تكتب قصصًا قصيرة! ويعلّق برنياع على تلك الإجابة بالقول إنها تعكس المزاج العام في إسرائيل, وهو مزاج الشعور بنهاية الزمان, مع أن لا أحد يتحدّث عنه لكن الجميع يشعرون به, إنه نوع من اليأس لا ينبع من الحرب التي كانت أو من الحرب التي قد تأتي, بل من مصادر أعمق, على حد تعبيره. وذكر أن مظاهر المنعة العسكرية والاقتصادية التي تتمتّع بها إسرائيل مضلّلة، مشيرًا إلى أن إسرائيل ذات اقتصاد مستقر, وأسعار العقارات فيها تبلغ عنان السماء, وجيشها قوي, وجامعاتها ذات نوعية عالية, ومع ذلك فهي تعجز عن توفير الأمن لليهود الذين يعيشون فيها, وهي لا تؤمن لهم الحياة الطبيعية. وختم قائلاً: إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يزال مجرد وجودها مثيرًا للجدل, في حين لا يشكّ أحد في العالم في حقّ الفلسطينيين بالحصول على دولة.