- En
- Fr
- عربي
قضايا اقليمية
تبرز في إسرائيل ظاهرة تسجيل أرقام قياسية في الإقبال على العيادات النفسية ومستشفيات الأمراض العصبية وتعاطي المهدئات والمخدرات
في خلفية مشهد الحرب الدموية المروعة الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تدور رحى حرب طاحنة من نوع آخر، وهي الحرب النفسية والمعنوية، حيث يستخدم الفريقان كل ما لديهما من مخزون احتياطي، أدبي ومادي وسياسي وديبلوماسي، لكي يحطم أحدهما إرادة الآخر، ويدخله في حالة اليأس والقنوط والإنكسار. وما من شك في أن إسرائيل التي تمر في مرحلة تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية وفكرية وأمنية في إتجاه الأمركة، تدرك أن لديها الكثير مما تخسره في هذا الميدان، كما وتدرك بالتالي أن مدى انكشافها وسرعة عطبها هي أكبر بكثير مما يمكن أن يتعرض له المجتمع الفلسطيني، المعتاد على تحمل الأسى والألم بصبر، نابع من العمق الديني والتراثي والتربوي والواقعي الذي يعيشه منذ النكبة الكبرى عام 1948، على الرغم من كل ما لحق به في الماضي والحاضر من مجازر وحصار وتجويع وتهجير جماعي. واحتشاد الشبان والأولاد والرجال والنساء الفلسطينيين في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الرهيبة في السماء وعلى الأرض، لممارسة شعيرة الجهاد بالحجارة، أو ما تيسر من أدوات الدفاع البسيطة والخفيفة، ما هو الا تعبير عملي واضح عن الشعور العميق بالأمل وعزة الحق، وأيضاً عن الإحساس العميق بإرادة النصر. في المقابل تبين بعض الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية التي تصدر تباعاً أن نسبة الجنود الإسرائيليين الذين يفرون من الخدمة ارتفعت الى 13% خلال العام 2002 مقارنة مع العام الذي سبقه، كما وتمت محاكمة 11200 مجند ومجندة خلال العام نفسه، الأمر الذي جعل المؤسسة العسكرية برمتها تهتز بفعل هذا الرفض. كما وأن حياة الإسرائيليين في المستوطنات قد انكمشت بصورة غير مألوفة، هذا الى ظاهرة تسجيل أرقام قياسية في الإقبال على العيادات النفسية ومستشفيات الأمراض العصبية وتعاطي المهدئات والمخدرات. ويترافق ذلك مع حصول تغيرات دراماتيكية في السلوك اليومي الفردي والجماعي، حيث تم تسجيل ارتفاع في حدة العنف الكلامي داخل البيوت والمدارس والشوارع والمؤسسات العامة، الى تفضيل غالبية الناس المكوث في بيوتهم وتلافي الركوب في الباصات أو المرور في الطرقات والأماكن المكتظة وخصوصاً المقاهي والملاهي والمجمعات التجارية، التي طاولتها جميعاً عمليات الاستشهاديين والاستشهاديات من الفلسطينيين. حتى بات الأهل يودعون أبناءهم والأبناء يودعون أهاليهم لأنهم لا يعرفون ما إذا كانوا سيعودون الى بيوتهم سالمين أم لا.
في مقابل كل هذه الظواهر، أعرب 35% من الشبان الإسرائيليين عن رغبتهم في الهجرة، كما وارتفعت طلبات المغادرة الى كندا وبريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا بنسبة تتراوح بين 25 و50% عما كانت عليه قبل الانتفاضة. وتحدثت المصادر الفرنسية والألمانية عن إقبال غير مألوف على استصدار جوازات سفر ألمانية وفرنسية، حتى قيل إن نحو مليون إسرائيلي قد غادروا إسرائيل فعلاً بصورة مؤقتة أو دائمة.
كما وانخفضت نسبة المهاجرين الوافدين الى إسرائيل بنسبة 45% عما كانت عليه قبل الانتفاضة. واعتبر العام 2001، العام الأسوأ منذ 12 سنة الأخيرة على صعيد معدل الهجرة.
يضاف الى ذلك الخسائر البشرية والخسائر الاقتصادية (بلغت حسب الإحصاءات الرسمية نحو خمسة مليارات دولار) وارتفاع معدلات البطالة بأكثر من %31، والركود الإنتاجي والتجاري، وتوقف مئات المصانع عن العمل وتضرر القطاع السياحي، وسواها من الأضرار المباشرة وغير المباشرة. يشكل كل ما سبق ذكره عوامل توضيح وتفسير واقعية وموضوعية لحالة الإنجراف والإنجرار التي يتعرض لها المجتمع الإسرائيلي، بفعل السياسة الشارونية، نحو هاوية سحيقة من مشاعر الإحباط واليأس والاكتئاب. وهي مشاعر عبّر عنها الخبير والمحلل الاقتصادي سيغر بلوتسكر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» حيث يقول: «الناس يُقتلون، الناس يموتون، الناس ينزفون، الناس يخافون، الناس يتحدثون عن الكارثة، والنهاية، والضياع، الناس يصبّون جام غضبهم على اليسار وعلى اليمين، من دون حساب. في الثالثة فجراً تعلن الاذاعة عن العملية الاولى في اليوم، وفي منتصف الليل يتم الاعلان عن العملية الأخيرة. وبين هذه وتلك يتم إحصاء الموتى والقبور... الناس يترقبون أن يحدث شيء ما، يوقظهم من كابوس الرعب اليومي. والناس يعرفون أنهم ينتظرون عبثاً».
بهذه العبارات، اختصر بلوتسكر لسان حال الاغلبية الصامتة الإسرائيلية، التي تجري منذ اليوم حساباتها العسيرة للانتخابات المقبلة، بعد أن أدركت خطورة ما أقدمت عليه من منحها الثقة والتفويض لشارون وحكومته العرفية العسكرية بامتياز. وهذه الحكومة قال عنها بلوتسكر: «إنها من أكثر الحكومات الإسرائيلية فشلاً في أيام هي من أشد الأيام التي عرفتها إسرائيل صعوبة. إنها حكومة ولّى زمانها لن يخرج منها أي شيء جيد، وهي لن تتخذ أي قرار حكيم ينقذنا من الأزمة، على طاولتها العقيمة... إنها ممتازة في شتم عرفات ولعن التنظيم وتهديد حماس، لكنها عاجزة عن عمل أي شيء يجعلنا نعيش هنا حياة طبيعية أو شبه طبيعية بعض الشيء. والجواب الوحيد الذي تقدمه للشعب المعذب والغاضب والذي يفقد بسرعة أمنه وثقته، هو أنه ليس لها جواب، لأن الوضع معقد».
ويمضي بلوتسكر الى التوضيح إن الشعب الإسرائيلي فقد الحد الأدنى من أمنه الشخصي والإقتصادي، وبات قلبه مملوءاً بالسأم والضجر ومشاعر العجز والاكتئاب، فهذه الحكومة حرمته من أي بصيص أمل في السلام والخلاص، كما وجعلته طعماً لعمليات المقاومة المتصاعدة بسبب رفعها وتيرة الاضطهاد والتصفية العرقية بحق المواطنين الفلسطينيين.
وقد كتب المحلل غابي بخور في صحيفة «يديعوت أحرونوت» حول حالة الهستيريا الجماعية التي انتابت المجتمع الإسرائىلي فقال: «جمهورنا، على ما يبدو، مصاب بما يشبه الجنون الاكتئابي بالنسبة لكل ما يحصل. ففي سنوات أوسلو جرى عندنا الاحتفال بنهاية عهد الحرب... واليوم الوضع معاكس: كآبة عميقة شخصية وجماعية». وهذا كله بالرغم من أن إسرائيل هي - حسب قول بخور - واحدة من بين 25 دولة ثرية في العالم مع ناتج قومي يصل الى 114 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل الناتج القومي في جميع الدول العربية المجاورة (الناتج القومي للسلطة الفلسطينية 2.5 مليار، والأردن 6 مليار، ولبنان 18 مليار ومصر 83 مليار).
وعلى الرغم من معالم القوة هذه تبقى اسرائيل في حالة ضياع وجودي يردها يسرائيل هرئيل في «هآرتس» الى فقدانها امكانية ما يسميه الرد العسكري المنهجي الموصل الى الحسم. وفي هذا السياق يقول: «ان عدم قدرة شارون على عرض بديل استراتيجي هو السبب المركزي للاحباط والقنوط والعصبية ولتكرار السؤال: ماذا سيحدث في النهاية؟!». وبالتالي فالوحشية المنفلتة من عقالها التي يبديها شارون في تقتيل الفلسطينيين وتخريب كامل البنية التحتية الأساسية حتى لحياتهم المدنية البسيطة، انما تعود في قسم أساسي منها الى رفع المعنويات الإسرائيلية المنهارة، والى رغبته في كسب الوقت بعد أن ضغطت الانتفاضة على انفاسه وكادت تطيح به، هذا ناهيك عن إدراك شارون أن عامل الزمن مع ما يرافقه من خسائر مادية وبشرية، بات لا يستنزف قدرات الكيان الصهيوني وهيبته فقط، بل إنه بات يستنزف ما تبقى له من فرصة لإثبات جدوى استمراره السياسي في قمة السلطة.
وقد كتب الدكتور جاد برزيلاي، استاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، أن ظاهرة استعادة الكثير من الاسرائيليين جنسية بلدانهم الأصلية، تعبر عن «احتجاج جماعي». ويضيف: «إنه تعبير نخبوي يفصح عن ميل موجود داخل المجتمع الإسرائيلي يتضمن شعوراً بالاغتراب وعدم الثقة بقدرة المؤسسات الديموقراطية على إفراز زعامة سياسية جديدة». واستذكر ظاهرة المبادرين الى إنشاء «اسرائيل الجديدة» في مكان آخر من العالم. وقال إنه منذ وقت بعيد يلاحظ «وجود هجرة ادمغة. وقد أضيف إليها في الشهور الأخيرة أيضاً اليأس من قدرة الصيرورات المعهودة في المجتمع الإسرائيلي على إحداث التغيير» المطلوب.
أما الباحثة الاجتماعية روز نتال فكتبت تشرح هذه الظاهرة في صحيف «هآرتس» بقولها: «إن ظاهرة امتلاك جنسية مزدوجة هي جزء من الشعور بالنفي الداخلي، وأضافت: «هناك احساس بأن البيت يتفكك وليس بوسعك التأثير في ذلك. ولتيار التاريخ قوته الخاصة، والمزيد من الناس يشعرون أنهم غير مؤثرين. أنا لست على ثقة بأننا جميعاً نرغب في أن نكون مسؤولين عن أفعال تتم باسمنا، وأحد الاحتمالات، هو ترك البلد الى دولة أخرى».
إن شارون المضغوط بمثل هذه المواقف والحقائق، يستجير بالمنقذ الأميركي، وكلاهما لا يجدان من سبيل سوى الضغط على القيادة الفلسطينية، التي تتحول بالرغم من ذلك الى الرقم الأصعب، لأن قتل الرئيس عرفات بات أكثر إحراجاً من الحفاظ على حياته، ومن سخرية القدر ومفارقات الأمور أن الرئيس عرفات المحاصر والمأسور بات له اليد الطولى في الإبقاء على شارون في سدة السلطة، وأكثر من هذا إن استمرار الإنتفاضة بات هو العامل الحاسم الذي يحدد للشعب الإسرائيلي من سيكون رئيس حكومته المقبل.