- En
- Fr
- عربي
إنتفاضة مصر إلى أين؟
تساؤلات عديدة اجتاحت المتابعين للحدث المصري، منها ما يخص الإمكانية، ومنها ما يتعلَّق بالعامل الاجتماعي، ومنها ما يدور حول النظام وصلابته، وأخرى ناقشت تجارب التحركات السابقة، وتركز الكثير من التساؤلات حول الشباب المنتفض وطبيعة روابطه وتواصله، ولم تخطر على بال أحد التساؤلات عن دوافع التحرك وصوابيته، فقد كانت قساوة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في مصر، تستدعي وتفتح آفاق الانتفاض والتغيير، باختصار شديد التساؤلات تتعلق بمدى العنصر الذاتي وفعاليته في التحرك والثورة والتغيير، أما الجانب الموضوعي، فكانت سمة التسليم بنضوجه شاملة وجامعة.
ولأن حسم الوضع هو انتصار للثورة التي قدمت نموذجًا فريدًا في شكل قوى التحرك ووسائله ، ولأن هذه الثورة قد أجابت عن أشواق أربعة أجيال متعاقبة وتمنياتها، كابدت التخلف والجوع وعانت من القمع ومصادرة الحريات، وتعفن مجتمعها في الفساد والإفساد، يمكن الآن طرح سؤال أساس: ماذا بعد الثورة؟ ولكل ثورة ما قبلها وما بعدها، فكيف الحال اليوم، والثورة المصرية تخترق الحجب و«الأساسيات» في زمن غير الأزمان السابقة؟
تنطبق كلمة ثورة بالمعنى السياسي على ما حدث في مصر، فالكتلة التاريخية الفاعلة في الثورة تجاوزت مئات الألوف إلى الملايين، وحجمها الأفقي إتسع ليشمل مختلف المدن المصرية في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وبناؤها الرأسي ضمَّ الشرائح الاجتماعية المصرية المختلفة، وفي صلبها الطبقات المتوسطة ومطالبها كانت سياسية بامتياز متجاوزة انتفاضات الخبر والمطالب الفئوية على مشروعيتها ونبلها، فقد خرجت الجماهير ملبية نداء الثورة وتبلورت مطالبها تحت شعار أساس هو «إسقاط النظام» شعار تحركت تحت لوائه الملايين ودافعت عنه ودفعت ثمنه باهظًا دمًا وعرقًا ودموعًا.
تغيير المكوِّن الاقتصادي
أي نظام يحتوي مكونًا اقتصاديًا – إجتماعيًا يعتبر جوهر النظام ولبّه وأساسه المادي، بحيث ينبني معه وعليه ثلاثة أعمدة: نظام سياسي، ونظام ثقافي، ونظام قانوني (البنية التشريعية والحقوقية)، تعكس الأعمدة الثلاثة مصالح المكون الاقتصادي – الاجتماعي، حيث العامود السياسي يخدم مصالحه، والثقافي يبلور خطابه القيمي، والقانوني يرفع مصالحه إلى مقام الثبوت التشريعي والحصانة الحقوقية.
وإذا كان إسقاط رأس النظام، يعد انتصارًا تاريخيًا للمصريين كونه رمز الفساد والاستبداد، فإن تحقيق شعار إسقاط النظام لا يستقيم إلا بتغيير المكون الاقتصادي – الاجتماعي، الذي يعتبر مفتاح التغيير والمهمة الانطلاقية نحو تغيير الأعمدة الثلاثة، وإعادة بناء هذه المهمة ليست سهلة وسريعة المنال، فهناك مصالح تشابكت طيلة العهد البائد، وزبائنية تشكلت بخيوط عنكبوتية ترسخت قيمًا وسلوكًا، لذلك يمكن القيام بالبناء الدستوري والحكومي والانتخابي والتشريعي في زمن محدد لكن عليه أن يكون إطارًا لإعادة النظر الجذرية بالمكوِّن الاقتصادي – الاجتماعي، أساس المشكلة ومنطلق التغيير، حينها تستريح الثورة إنجازًا بنيويًا جديدًا، تتشكل في إطاره مصالح جديدة لفئات اجتماعية تمتد عاموديًا وأفقيًا في كامل بنيات النظام.
تمثّل المكوّن الاقتصادي – الاجتماعي في مصر عصر حسني مبارك، الذي امتد لثلاثين عاماً حالكة السواد، في عائلة حاكمة تمسك بيدها مقاليد الأمور بالاعتماد على شريحة ضيقة لا تتجاوز العشرين من «الكومبرادور»، وفئة من رجال الأعمال المرتبطين بالخارج والمعتمدين عليه في مراكمة أرباحهم المتأتية من غير طريق العمليات الإنتاجية، بل من طريق المضاربة والريعية، يضاف إليهم جماعة من كبار موظفي الدولة لا تتجاوز المئات سهلت ورعت عمليات النصب الرسمية المغطى قانونًا عبر تحويل الملكية العامة إلى ملكيات خاصة لأعضاء النادي الحاكم، فيما أطلق عليه «عملية الخصخصة»، حيث لم يعرف عموم المصريين على وجه القطع، أسماء الشركات والمصانع والأراضي التي تمت خصخصتها ولا أسماء المشترين ولا شروط البيع، ناهيك عن الأثمان التي دفعت لقاء ذلك والأهم المصارف المكان الذي أنفقت فيه هذه العوائد. كل هذا في وزارة الداخلية التي بلغ عدد منتسبيها مليونًا وسبعماية ألف فرد بين ضابط وجندي ومخبر وموظف، تمثلت مهمتهم الأساسية في حماية المكوّن الاقتصادي – الاجتماعي.
ومن المسلّم به أن مبارك قد رحل لكن أعوان نظامه ما زالوا يشغلون مواقع مهمة في أكثر من قطاع ومجال، وبخاصة في المؤسسات المالية والبنوك تحديدًا، وهم يتقاضون رواتب عالية ويستحوذون على مكافآت وعقود مبرمة، ترهق وتزيد من أعباء الإنفاق العام لصالح انتفاع أفراد. هذا ما يجب أن تحاول متابعته الثورة بعد الرحيل، لذلك تستمر الإضرابات والمطالبات فبالأمس كان تغيير الرأس الحكومي وبعض وزرائه، ويبدو أن التحركات ستتواصل حتى تصفية ذلك الإرث، والقيام بمحاسبات دقيقة لاسترجاع ما يمكن استرجاعه، وكف اليد حيث يجب.
إن الثورة التي تهدم فقط، ليست بثورة، وسريعًا تأكل نفسها وتفشل، لأن أهم ما في الثورة هو البناء، وبمقدار ما يكون صحيحًا تدوم الثورة وتتغير الأمور نحو وقائع أكثر تطورًا ورسوخًا وتمثيلاً.
إذًا كيف يتطور المكون الاقتصادي – الاجتماعي المصري؟ وما هي أهم أبواب الخروج من نفقه المظلم إلى رحاب التغيير والبناء؟
«أم الدنيا»، والمؤشرات الاقتصادية
يبلغ عدد السكان في مصر حسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نحو %79.9 مليون نسمة[1]، وتشكل الفئة العمرية 15 سنة وما دون حوالي %34، والفئة العمرية الشبابية من 15 – 35 سنة نحو %35، أما الفئة العمرية بين 35 و65 فتقدر بحوالى %27، ومن 65 سنة وما فوق فتقدر نسبتهم بنحو %4. تعكس هذه التركيبة السكانية أمرين أساسيين: الأول فئة الشباب – صانعو الثورة، والذين يشكلون ثلث السكان، والثاني أن السكان الذين يمثلون قوة العمل في الفئة العمرية من 15 – 65 سنة تمثل حوالي %62، وهذا يتطلب وضع خريطة واضحة للاستفادة من قوة العمل في النشاط الاقتصادي.
يتركز أغلب سكان مصر في وادي النيل، بالذات في المدينتين الكبيرتين، القاهرة الكبرى التي تحضن حوالى ربع السكان، الإسكندرية، يعيش أغلب السكان الباقين في الدلتا وعلى ساحلي المتوسط والبحر الأحمر ومدن قناة السويس.
هذا وتمتد مصر «البسيطة» أو «الممتدة» على مساحة أكثر بقليل من مليون كلم2، %96 من هذه المساحة صحراء و%4 فقط صالحة للزراعة والنشاط الفلاحي[2]. لذلك فالمناخ السائد فيها هو المناخ الصحراوي وشبه الصحراوي، ويسود المناخ المتوسطي في السواحل الشمالية، والمداري في أقصى الجنوب.
مصر، هي الدولة التي تقع في أقصى الشمال الشرقي من قارة أفريقيا، وهي وإن تتربع معظم مساحتها في القارة الأفريقية، فهناك جزء بسيط من أراضيها (شبه جزيرة سيناء) يقع في قارة آسيا، لذلك هي دولة عابرة للقارات تشترك في الحدود مع ليبيا غربًا، ومن الجنوب مع السودان، وفي الشمال الشرقي مع قطاع غزة، وتطل على البحر الأحمر من الجهة الشرقية، وتمر عبر أرضها قناة السويس التي تفصل الجزء الآسيوي منها عن الجزء الأفريقي.
هذه السمات الجغرافية والصفات الطبيعية، تقدم بفضل النظام الاقتصادي الذي كان سائدًا حتى 25 يناير 2011، الأرقام والمعطيات الآتية:
الناتج المحلي الإجمالي بقياس القدرة الشرائية[3]«ppp»ة500.9 مليار دولار عام 2010 وعام 2009 ما يساوي 475.7 مليار دولار، أما عام 2008 فلم تتجاوز القيمة حوالى 454.8 مليار دولار.
وبسعر الصرف الرسمي فإن الناتج المحلي الإجمالي يساوي 216.8 مليار دولار عام 2008.
وهكذا كان تقدير القوى العاملة حوالى 26 مليون شخص، حيث تحتل مصر من خلاله الموقع 21 عالميًا.
والبطالة التي تشغل فيها مصر موقع 108 عالميًا فإنها وصلت عام 2010 إلى %9.7، في حين أن نسبة المواطنين تحت خط الفقر حوالى %20. واللافت في هذه المؤشرات أن نسبة التضخم حسب أسعار الاستهلاك هي %13 عام 2010 و%12 عام 2009.
ومما يؤسف له، أن معظم التقارير التي صدرت عن النمو الاقتصادي في مصر وغيرها من البلدان العربية، سواء منها المحلية أو الدولية، جميعها مضللة، حيث تركز على الإشارة إلى معدلات النمو حسب الناحية المطلقة، من دون أن تتطرق إلى أمرين في غاية الأهمية؛ الأول هو مصادر هذا النمو، حيث هي في مصر مصادر هامشية أو ريعية، في وقت تتراجع فيه القاعدة الإنتاجية، سواء منها الصناعية أو الزراعية، الأمر الذي انعكس في العجز الهائل للميزان التجاري المصري (الصادرات عام 2010 حوالي 25.34 مليار دولار، في حين أن الواردات هي %46.52 مليار دولار)[4]. أما الأمر الثاني الذي تهمله التقارير والمؤشرات فهو كيفية توزيع هذا النمو، أو بالأحرى من استفاد من هذا النمو»، هذا وقد اعترف مدير صندوق النقد الدولي قائلاً: «إن تقارير الصندوق عن النمو في مصر لم تكن دقيقة، لأنها ركزت على معدلات النمو من الناحية المطلقة، دون أن تأخذ في الاعتبار معايير التوزيع أو اعتبارات العدالة الناجمة عن هذا النمو»[5].
عيوب متأصلة في الاقتصاد المصري
يعاني الاقتصاد المصري منذ فترة طويلة حزمة مشكلات، من أبرزها الآتي:
- عجز الموازنة العامة الذي يبلغ في حدود %9 وبسببه وصل الدين العام إلى أكثر من تسعماية مليار جنيه في شقه المحلي، ونحو 32 مليار دولار في شقه الخارجي. تكبد هذه الديون الموازنة العامة للدولة نحو 173 مليار جنيه، عبارة عن أقساط وفوائد. هذا المبلغ الضخم، يفوق مخصصات التعليم والصحة، كما يبلغ قرابة ضعف مخصصات الأجور التي تقترب من تسعين مليار جنيه.
- تمثل البطالة معضلة كبرى في الاقتصاد المصري، وتختلف التقديرات حولها، حسب طريقة الاحتساب، حيث تتراوح بين %10 و%15، والجزء الأكبر منها بسبب نظم التعليم، التي لا تربطها بحاجات سوق العمل أي سياسات، ويخرج إلى سوق العمل حوالى 750 ألف طالب سنوياً.
- يغلب على الموازنة المصرية الطابع الاستهلاكي، فمعظم نفقاتها جارية وتقل فيها الاستثمارات العامة، بفعل عدم التوجه الحكومي في استثمارات عامة جديدة، باستثناء بعض مخصصات المرافق العامة. أما صيانة الأصول الرأسمالية المملوكة للدولة، فيخصص لها مبالغ ضئيلة جدًا وحسب موازنات 2009/2010، فقد رصد لها حوالى %1 من حجم الموازنة.
- يجير ميزان المدفوعات إيرادات ريعية متمثلة في البترول، الذي يمثل %50 من الصادرات المصرية، ويحقق عشرة مليارات دولار سنويًا، وتحقق السياحة حوالى ثمانية مليارات دولار، والتحويلات المالية للعاملين في الخارج نحو 6.3 مليارات دولار، وإيرادات قناة السويس حوالى 4.8 مليارات دولار.
لذلك فإن الميزان الجاري، هو الذي يحقق الفوائد في ميزان المدفوعات بينما الميزان التجاري لم يصرف سوى العجز على مدار العقود الثلاثة الماضية وتمثل الصادرات عادة حوالى %50 فقط من الواردات.
- أما الواردات الضريبية فهي تتأتى من الضرائب على الموظفين والعاملين بقيمة حوالى 9.5 مليارات دولار، الإيرادات المتأتية من النشاط التجاري والصناعي فلا تتجاوز 4.5 مليارت أما ما يتعلق بضرائب شركات الأموال والتي تقدر بـ60 مليار دولار، فإن هيئتي البترول وقناة السويس تدفعان منها حوالى الثلثين 40 مليار دولار، والباقي موزع بين شركات الأموال للقطاعين العام والخاص.
إذًا فإن مساهمة القطاع الخاص ضئيلة في الضرائب، وضريبة المبيعات (أبرز صور الضرائب غير المباشرة) فقد بلغت 28.7 مليار دولار، بعد أن كانت في منتصف التسعينات حوالى أربعة مليارات جنيه فقط لا غير[6].
- وإذا كان النشاط الاقتصادي يأخذ مداه الإيجابي في ظل القضاء العادل والقانون الصارم، فإن عهد الرئيس مبارك قد تميز بتنحية القانون جانبًا، حيث أن هناك آلاف القضايا المحالة إلى القضاء ولا استجابة لها، لذلك يسود في مجتمع الأعمال والنشاط الاقتصادي، فقدان تام للثقة في القضاء والقانون، والأغرب من كل هذا، هو أن القوانين غير المدونة في منظومة القانون المصري، هي التي تحكم النشاط الاقتصادي، من خلال العلاقات بين رجال الأعمال والسلطة.
- أما فيما يتعلق بالاستثمار، المحرك الرئيسي لأي نشاط، فإنه على الرغم من وجود ترسانة من التشريعات الاقتصادية حوله، فإن مردوده بقي ضعيفًا خاصة في النشاط التنموي، وكذلك أمر الاستثمار الأجنبي المباشر، فإنه يفتقد إلى أجندة وطنية لتوجيهه حيث تلزم الحالة التنموية والاقتصادية في المجتمع المصري، لذلك يتوجه معظمه إلى قطاع البترول وإلى النشاط العقاري والسياحي، وهو بالتالي لم يسهم في خلق فرص عمل بالقدر المطلوب نظرًا إلى استخدامه الأساليب الكثيفة لرأس المال وليس الاستثمارات الكثيفة العمل. وحسب آخر التقديرات، فقد بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة عام 2009/2010 نحو 6.7 مليارات دولار.
الفساد آفة الاقتصاد المصري
أوضح تقرير صادر عن مركز سلامة النظام العالمي[7]، أن مصر تكبدت خسائر قيمتها 57.2 مليار دولار، خلال الفترة بين عامي 2000 و2008 من جراء الجريمة والفساد، وكان المعدل السنوي لتلك الخسائر 6.4 مليارات دولار.
وقد احتلت مصر المرتبة الثالثة بين كل الدول الأفريقية كأكبر مصدِّر لرأس المال غير الشرعي.
وقد قال ديف كار «معد التقرير»: عن ضعف الحوكمة في مصر سمح بتفشي الرشاوى والسرقات والجرائم والتهرب الضريبي، مما دفع مليارات الدولارات إلى خارج البلاد كل عام[8].
وعلى وقع أخبار الفساد التي أثيرت في الأيام الأخيرة، فقد كشفت صحيفة «غارديان» اللندنية أن ثروة عائلة مبارك تتراوح بين أربعين وسبعين مليار دولار، وكذلك أمر عدد واسع من الوزراء السابقين والحاليين ورجال الأعمال والمسؤولين، وتفيد المصادر أن ثروات معظم هؤلاء تحتسب بالمليارات. ومثال على ذلك، ثروة أحمد عز، أمين التنظيم السابق للحزب الوطني الذي كان حاكمًا، وصلت إلى ثلاثة مليارات دولار.
وللتدليل على حجم الفساد ورائحته المرعبة، كان أول تنازل قدمه مبارك للثوار بعد أربعة أيام من الثورة الشعبية، هو إقالة الحكومة التي تضم عددًا من رجال الأعمال، أثيرت حولهم إتهامات بالفساد، وقد هدفت هذه المحاولة إلى تهدئة الرأي العام من دون جدوى.
هذا وقد أشار الخبير الاقتصادي المتخصص بقضايا الفساد عبد الخالق فاروق[9]: «إن الحالة المصرية تكاد تكون نموذجية في دراسة كيفية تحول الفساد في مجتمع ما من حالات انحرافات فردية معزولة – مهما اتسع وازداد عدد المنخرطين فيها في قمة هرم السلطة - إلى ممارسة مجتمعية شاملة بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة».
وقد أضاف في دراسة له لمركز الجزيرة للدراسات نشرت مؤخرًا: «أنه يمكن التمييز في ظاهرة الفساد بين نوعين: أولهما جرى تسميته «بفساد الكبار» المتنفذين والمتربصين على قمة الهرم، والثاني هو ما يطلق عليه «فساد الصغار والفقراء» حيث لم تعد ممارسات الفساد والرشوة والوساطة والمحسوبية تقتصر أو تنحصر في الكبار وحدهم، بل إنها، وعبر سياسات الإفقار واتساع الفجوة بين الدخول وارتفاع الأسعار وغياب «القدوة» في المجتمع وتآكل أجهزة الرقابة، تحولت إلى ممارسات عادية للناس».
ومن المتداول به أن هناك خسائر بشرية ومالية ضخمة نجمت عن فساد إداري ومالي لا ينساها المصريون، ارتبطت برجال أعمال وباختلاسات للمال العام. وكذلك أمر عقود أراضٍ، حيث أشار فاروق جويدة في مقدمة كتابه الذي صدر مؤخرًا بعنوان «اغتصاب وطن» إلى جرائم نهب الأراضي، حتى وصلت إلى ضياع ثروة مصر من الأراضي.
بهذه المعاني والسلوك كان الفساد يتحدى المؤسسات والنظم والقوانين وينتصر عليها، لا بل وأحيانًا كثيرة فهي قد وجدت لأجله ولخدمته لذلك كان الفساد محرك الثورة، كما أنه كان الدافع لصلابة المطالبة بالتغيير الشامل.
أسئلة المستقبل
أما الآن وبعد سقوط آخر فراعنة النيل، وبعد أن حط حكم الفساد والإفساد رحاله، ماذا بعد؟ كيف يمكن النهوض؟ ما هي عناوين الإصلاح وأطره ؟ هل تقتصر على إجراءات دستورية، وبعض التغيير في البنى السياسية الفوقية أم أنه يجب إعادة النظر الشاملة بالحكم والتوجهات الإدارية والسياسية والاقتصادية؟
هناك فيض من الأسئلة، قد يكون من المبكر الجزم بالإجابات عنها، فمصر الدولة الأكبر، والأكثر تأثيرًا في المنطقة، والتي غابت طويلاً عن الفعل والتقرير، هل انتهت تداعيات انتفاضتها الأخيرة؟ وهل بدأت عملية البناء المعقدة والطويلة؟
نعم إن ما حدث شيء جديد وغير مسبوق، ليس في الشكل فقط بل وفي المضامين أيضًا.
فقد تجاوزت الأحداث منطق الاحتجاج على ظروف معيشية مذلة، أو فساد سياسي واقتصادي متمادٍ، أو استبداد ونزعة توريثية، أو حتى رفض لتركيز الثروات في أيدي قلة قليلة من المنتفعين والمستغلين للسلطة والمال، إن الذي حدث في مصر هو أكثر من رفع ظلم أو تعديل لأسلوب الحكم، إنه تطلع جديد لشروط جديدة، مسعى لتأسيس مبادئ حكم مختلفة تقوم على عقد سياسي جديد بين الحاكم والمحكوم. المطلوب استكماله بالسير نحو عقد اجتماعي جديد، في البلد الوحيد الذي تتوفر فيه شروط الدولة والتجانس الاجتماعي، بعيداً من أشكال الطائفية والقبلية، تلك السائدة في كثير من البلدان المنتفضة، والتي تهدد بحروب أهلية وليس انتفاضات تغيير سياسي كامل.
إن استهداف إيجاد معايير مغايرة لممارسة السلطة وتداولها، يستلزم نظرة ورؤية تنموية واقتصادية جديدة، فلا يكفي المطالبة باسترجاع الحقوق المستلبة، بل يجب المطالبة بتغيير قواعد توزع الحقوق والصلاحيات.
الآن وبعد الإسقاط وبدء المرحلة الانتقالية، تبدأ مواجهة الحقائق القاسية، والمهمات الصعبة في بناء نظام جديد يضم مؤسسات شفافة قادرة على الاستجابة للتوقعات المرتفعة للشعب، فكما كانت الثورة فريدة في نشوئها ومسارها ومآلها، لا بد من أن تكون فريدة في بنائها للجديد.
إن أكبر المهمات ذات النفس الطويل، هي التغيير الاقتصادي، وتجنب الوقوع في الاستراتيجيات الشعبوية التي ترضي مؤقتًا الجماهير، والمثال على ذلك أن مسألة رفع الأجور، هي مسألة مغرية، بيد أن احتساب تأثيراتها وتجنب انعكاساتها هما الأجدر والأفعل، وللاختصار في ذلك وكي نحاول الإجابة عن حجم المطروح، هناك مستويان اقتصاديان يجب القيام بهما، المباشر منها والملح، والبعيد المدى والذي يتمتع بالرسوخ ويمكن البناء عليه.
المهمات الملحة:
- المهمة الأولى والأكثر إلحاحًا، هي كيفية كسب معركة محاربة الفساد المستشري بصورة عميقة في أرجاء الجهاز الإداري كافة، وفي نظام القيم الاجتماعي، وهذا يستدعي، بالإضافة إلى حملة الإدانة، تشريعات قانونية بخاصةٍ في أنشطة الفساد والضرب بقوة على أيدي الفاسدين، وتكوين أجهزة مستقلة وفعالة للتعامل مع الفساد، وقوة خاصة لمكافحته، وتوجيه المجتمع المدني نحو محاربة هذه الآفة، التي خلفها النظام البائد.
كذلك فإن أمر ملفات الفساد، التي اتخمت المحاكم والمجالس، تتطلب عدم التهاون والتعامل بصرامة وقسوة، بغض النظر عن شخصية من يشتبه في قيامه بممارسة الفساد، وهناك أمثلة ونماذج كثيرة وكبيرة جرى التداول بها في السنوات الأخيرة في المجتمع المصري.
- تشير إحصاءات المنظمات الدولية المتخصصة إلى أن ما يعادل ثلث عدد السكان يعيش تحت خط الفقر، أي بدولارين أو أقل في اليوم حسب المعيار العالمي لخط الفقر، وما يفاقم من خطورة هذه المشكلة انتشار الأحياء العشوائية والسكن في المدافن لذلك من التحديات الكبيرة هي مواجهة هذه المشكلة القاسية والصعبة، والتي تتطلب برامج وخطط تبدأ منذ اللحظة الأولى لتعديل السلطة في مصر، فمن غير المنطقي أن تبقى نسب النمو التي كان يتم التبجح بها، لصيقة بنشاطات وفئات اجتماعية محددة، من دون أن تنعكس رؤية ومشاريع تنموية شاملة للسكن والتعليم والعمل.
- تواجه مصر اليوم وأكثر من غيرها مسألة الارتفاع المتزايد في أسعار المواد الغذائية؛ فقد فاقم هذا الأمر من صعوبة الموقف الاقتصادي فيها، كونها من أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم، علاوة على أنها تستورد الجزء الأكبر من المواد الغذائية لإطعام كتلتها السكانية الضخمة، كما أنها تنفق سنويًا قرابة 15 مليار دولار على دعم المواد الغذائية. هذا الوضع يتطلب اتخاذ تدابير تمويلية وإعادة تنويع وتشجيع زراعي يغير من التركيبة الهيكلية لاهتمامات الزراعة والتصنيع، قد تكون هذه المهمة غير مباشرة، لكنها ملحة وهي ستقض المضاجع في وطأتها المباشرة على المدى القصير الأجل، تطلبًا لتعديلات وتوجهات جديدة.
- من أهم التحديات التي ستواجه مصر الثورة هي الضغوط التضخمية، التي من المتوقع أن تتعمق بصورة كبيرة في المرحلة المقبلة، ولسوء الحظ فإن محاربة التضخم في هذا التوقيت بالذات ستكون مهمة في غاية الصعوبة، وذلك نظرًا للمناخ الدولي غير الملائم، لدولة تستورد معظم سلعها الغذائية الأساسية.
ربما يكون من المهم بالنسبة للمقبل من الأيام التركيز على محاربة الضغوط التضخمية، بدلاً من الاهتمام برفع مستويات المداخيل، كي ترتفع القدرة الشرائية للمواطن، خصوصًا لفئات الدخل المحدود، الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية.
والمعضلة هنا أن الكثير من المطالبين بالمزيد من الأجور، لا يقدرون قواعد اللعبة في الاقتصاد، بصفة خاصة الشروط اللازمة لحدوث زيادات حقيقية في مستويات مدخولهم، إذ أن أي زيادة بمقدار جنيه في الدخل لا بد وأن يصاحبها زيادة صافية في الإنتاجية تساوي هذا الجنيه، بمعنى أن الزيادات الحقيقية في الأجور يجب أن تنتج، لا أن تمنح. ذلك أن الزيادات التي تأتي عن طريق الحكومة هي في غالب الأمر ستزيد من العجز المالي في الميزانية، وبالتالي ستنعكس في زيادة مستويات الدين العام، أو طباعة المزيد من النقود، وبالحالتين ستزداد الأعباء التضخمية. إن الخيارات في هذا المجال صعبة ومربكة ومقلقة ومحيرة، والتقرير فيها سيعود إلى التطورات اللاحقة في معالجة التداعيات ككل وليس كظاهرات منفردة.
- من أخطر التحديات التي ستواجهها مصر في المستقبل القريب هي ارتفاع معدلات البطالة، بخاصةٍ في المرحلة الانتقالية، وهي خطرة لأن الاستقرار الاقتصادي يتطلب خلق عدد كافٍ من الوظائف المنتجة لإشغالها من الملايين من العاطلين عن العمل حاليًا وللداخلين الجدد في سوق العمل. واللافت في مصر أن نسبة صغار السن تعد مرتفعة جدًا، وعامًا بعد آخر ترتفع أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل ولأن المرحلة انتقالية، فإن الصعوبات وعدم الفهم سيزيدان من عبء الضغط، حيث لا يمكن اجتراح الحلول.
هذا التعقيد والإرث المتراكم سيتطلبان تبني استراتيجيات نمو مختلفة تعتمد أساسًا على وفرة عنصر العمل، وقد تكون هذه إحدى الميزات التنافسية في الاقتصاد المصري، وبمعنى آخر توفر قوة العمل وبالتالي تكلفتها المنخفضة. طبعًا لتحقيق ذلك تحتاج مصر إلى تقديم مجموعة مكثفة من الحوافز أمام الاستثمار الأجنبي، في المجالات الإنتاجية، التي توسع القاعدة الصناعية للاقتصاد، استنادًا إلى مواردها المحلية وطاقاتها البشرية الكبيرة.
- من المهمات الأساسية والمباشرة، التي ترهق الاقتصاد المصري، هي آلية وكيفية التعامل مع القيود المالية، وبصفة خاصة عبر الميزانية العامة، خاصة وأن نسبة العجز مرشحة للارتفاع في الفترة الحالية، تماشيًا مع الإنفاق المحتمل، والمطلوب قبل رفع نسبة الإيرادات، وتعديل النظام الضرائبي حيث لا تتجاوز نسبة الضرائب %15 من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه النسبة تعتبر منخفضة وأقل من المستويات المحققة في معظم دول العالم المتقدم منها والنامي. كما أن الجهاز الحكومي بتركيبته وفساده كان يسمح بالتهرب الضريبي، وحيث أن الجهاز الضريبي لا يتسم بالكفاءة والفعالية المناسبة.
طبعًا من الواجب تعديل الهيكل الضريبي ليكون أكثر عدالة ومحفزًا للاستثمار في المجالات المنتجة.
والسؤال المطروح اليوم بعد التغيير، وارتباطًا بحاجة مصر لدرجة معقولة من السيولة، فهل تستطيع الوصول إلى إعفاءات من بعض ديونها، أو على الأقل تأجيل سدادها وإعادة هيكلتها، بغض النظر عن الكلفة التي يمكن أن ترتفع لتلك الديون بسبب طلبات المقرضين في مثل هذه الظروف؟
- مصر بحاجة أيضًا إلى إعادة النظر بأجواء الاستثمار تشجيعًا للصناديق العربية، فقد أسهم فساد العهود البائدة في تسميم مناخات الاستثمار، حيث اتجهت الاستثمارات الوافدة إلى التوظيف المضاربي كالأراضي والعقارات وبناء المدن السكنية والمجمعات التجارية، ومثل هذه الاستثمارات لم تساعد على التعامل مع مشكلة البطالة، لذلك من المطلوب استثمارات ذات بعد تنموي وفي قطاعات الإنتاج الحقيقي، وللوصول إلى هذا الشأن والمستوى، على العهد الجديد أن يقدم خطوات تحفيزية، وحالة من الشفافية عالية، وقضاء مستقل وقادر وخارطة استثمار ذات أولويات تشجيعية.
المهمات الإستراتيجية
- تبدو مشكلة التنمية، أساسًا في البنية المجتمعية المصرية، إثر سنوات طويلة من إحلال مهمات مناقضة للتنمية وعلى حسابها، من مهمات الحروب ولا «صوت يعلو فوق صوت المعركة»، إلى ما سمي بالانفتاح الاقتصادي، وصولاً إلى تسخير طاقات مصر واقتصادها لخدمة حفنة تبوأت السلطة فاستباحت كل المحرمات لمصلحتها. وفي هذا السياق كله لم يكن للتنمية المستدامة، أدنى مراجعة أو اهتمام، لذلك ظهر في مصر %40 من السكان تحت خط الفقر، وبطالة عالية، ونظام تعليمي متراجع عن أداء مهماته في تأمين الكادرات العلمية والمهارات الإنتاجية، إلى إشاعة الفساد والإفساد. لهذا كله تتصدر مهمات التنمية المستدامة لائحة الأولويات الإستراتيجية، لمواكبة التغيرات المطلوبة كلها في المهمات الملحة والمباشرة، وفي هذا، من الضروري وضع خطة واضحة للتنمية، تحدث التوازن المطلوب والصعب بين العناصر الثلاثة الخاصة، بالدفاع والاستهلاك والاستثمار، وعلى قاعدة معطيات تحديثية، تستند إلى زيادة الإنتاجية وتحقيق قدر من المساواة الاقتصادية والاجتماعية وترسيخ المعرفة الحديثة وتطوير المؤسسات الإنتاجية والخدماتية، أخذًا بعين الاعتبار الأهداف الآتية: عدد المواطنين تحت خط الفقر، والحد الأدنى للاستهلاك والحد الأقصى للبطالة وتوزيع الدخل وأشكال الاستهلاك والتنوع في الاقتصاد القومي. كل هذا مع إحداث نمو جيد دون معدلات تضخمية، وإيجاد التوازن بين مزايا الاندماج في الاقتصاد العالمي وبين مخاطر الانفتاح، على إمكانات الصناعات الوطنية أنها مهمات طويلة ومعقدة، لكنها أساس إعادة البناء والانطلاق نحو آفاق جديدة.
- إعادة النظر في تشكيلة الإنتاج المصرية، على قاعدة المزايا التنافسية المبنية على المعرفة والتكنولوجيا، كونه لم يعد بإمكان المزايا النسبية تحقيق قدرات تنافسية بالمعدلات التي عرفت في الستينيات والسبعينيات حيث تتشكل أسس المنافسة تدريجًا من عمليات خلق واستيعاب المعرفة. لهذا فإن مهمة البناء والتخلص من التشويه الذي لحق بآليات الاقتصاد المصري، يجب أن تنطلق من حقائق العصر، الذي تخلفت عنه بفعل النظام الاستبدادي والريعي والزبائني، نحو اقتصاد يستفيد من إمكانات المجتمع المصري العريق وطاقاته «ثقافة وإبداعًا»، وحقائق معاصرة في الزراعة والبيئة والصناعة والخدمات والإدارة والتسويق.
- تتطلب المرحلة المقبلة من عمليات الإصلاح الاقتصادي في مصر، تطبيقًا جيدًا لآليات اقتصاد السوق، لما تقتضيه هذه المرحلة من ضوابط وتشريعات جديدة تؤمن الانتقال السليم، وتقي الاقتصاد المصري سلبيات التجربة التي قد تؤدي إلى تعثر الإصلاح برمته.
- بات العالم كله يتوجه إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، دعمًا وتطويرًا، واعتبارها إحدى أهم الآليات في التخفيف من البطالة وتحسين الأداء الاقتصادي وقد نشطت الأطر الإقليمية والدولية في تبني مثل هذا التوجه ودعمه. لذلك يبدو من الضروري، إيجاد الحيز اللازم والحاضنات الناشطة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتأمين سبل التمويل السهل والسريع والتشريعات المحفّزة والمشجعة لها. ولا شك أن التجارب الناجحة عالميًا في هذا المجال، هي خير مؤكدٍ على صواب هذا التوجه.
- إن إعادة النظر بتجربة الخصخصة المصرية، تفرضها الصيغ الملتوية التي تمت بها. فالواقع المصري أمام عنصرين رئيسين في عملية الخصخصة، أولهما الإدارة الشفافة وثانيهما الرأسمالية المصرية المدركة لأهداف الاقتصاد الوطني وتطلعاته.
إن الرأسمال الأجنبي مطلوب وخصوصًا في مجال التكنولوجيا والخبرات الإدارية وفتح أسواق خارجية، لكن ذلك يجب أن يكون بالقدر الذي لا يقضي على الرأسمالية المصرية في المهد.
من المهم الانتقال في رؤية الخصخصة وآلياتها وأولوياتها من الشأن الإيديولوجي إلى المستوى البراغماتيكي العملي المتوافق مع الحاجات والبرامج.
- دور الدولة جوهري في وضع خطط الانتقال وقيادتها، وكذلك الحفاظ على جوهر التنمية الاقتصادية المطلوبة، لكنه بالمقابل مطلوب إصلاح إداري شامل يحضن المهمات المطروحة، وينظم الطاقات بشكل إيجابي. بعيدًا من البيروقراطية المتمرسة في مصر، والفساد الذي كان سمة المرحلة السابقة.
وقد تأتي الإدارة الجيدة في الأولوية تنفيذًا للإصلاح الاقتصادي المطلوب، بخاصةٍ وأن مصر، في منطقة ندرت فيها الدولة الحديثة، أثبتت صيغة مجتمعية راقية وإرث دولتي رصين، لذلك أتت ثورة التغيير نقية، والمهم أن تتواصل استنادًا إلى تلك الميزات الراجحة والدافعة نحو التغيير الشامل.
- اليوم، وفي الوقت الذي يسعى فيه الشعب المصري إلى التغيير، ثمة واجب أساسي يهدف إلى تقليص الاقتصاد خارج القانون، حيث أنه وحسب دراسة أنجزت من قِبل مركز الحرية والديمقراطية في البيرو سنة 2004، نشر ملخصها مدير ومؤسس المركز السيد «هيرناندو دي سوتو» في صحيفة «الحياة»[10] جاء فيها:
«إن الاقتصاد السُفلي المصري هو أكبر «صاحب عمل» في مصر. فالقطاع الخاص يوفر 6.8 مليون فرصة عمل، ويوظف القطاع العام 5.9 مليون شخص، بينما يعمل 9.6 مليون شخص خارج الإطار القانوني».
هذا وقد أشارت الدراسة إلى أن %92 من المصريين لا يملكون مستندات ملكية رسمية وأن قيمة التبادلات والملكيات غير الشرعية في مصر كلها (في الأرياف والمدن) ليس أقل من 248 مليار دولار[11]، أي 30 مرة أكثر من قيمة سوق الشركات المسجلة في بورصة القاهرة، و55 مرة أكثر من قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر، واليوم، تبلغ قيمة هذه الأصول المالية الخارجة عن إطار الاقتصاد الرسمي نحو 400 مليار دولار.
وعلى الرغم من الصعوبات التي يعانيها هذا القطاع من عدم القدرة على التعامل مع مؤسسات وشركات خارجية، وتعذر الاستفادة من اقتصاد القطاعات الكبيرة واقتصار إنتاجها على دائرة ضيقة من الزبائن، فإن هذا الخيار تم الذهاب إليه بسبب ما كان سائدًا من بيروقراطية. لذلك، ومع هبوب رياح التغيير الديمقراطي في مصر، فإن رغبة الشارع المصري في تحسين مستوى عيشه لن يتم الوصول إليها ما لم يصلح الإطار القانوني والإداري، ويحرر قوى النمو من قيودها ويطلق المبادرة الفردية.
هذه المهمة دونها صعوبات عديدة، ولأنها تتعلق بإرث من التجاهل لهذه الشريحة، تواصل وتراكم إلى أن أصبح ظاهرة بالحجم الذي تحدث عنه السيد «هيرناندو»، والتي تشير أرقامها إلى شمول فئات واسعة، وضعت الثورة نصب أعينها إعادة الحقوق المستلبة منهم.
الاستنتاجات
وعليه يمكن أن نوجز الوضع بالاستنتاجات الآتية:
أولاً: المطلوب بناء نظام سياسي ديمقراطي يرتكز إلى سيادة القانون، وإقامة الدولة المدنية – لا الدينية أو العسكرية – بدءًا من تعديل الدستور الذي تمَّ، إلى إقرار دستور جديد مع الانتخابات الرئاسية المقبلة، يحمي حقوق المواطنة الشاملة للحقوق والحريات والواجبات، السياسي منها والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
إن هذه الديمقراطية، التي تنبع من الداخل، وليس بوصفة خارجية، وهي مختلفة عما سبقها الذي قام من رحم المدارس الحربية، هي نتيجة ثورة شعبية احتاجت إلى جسر الجيش، الذي اعترف سريعًا بمطالب الثوار، ويعتبر أن المرحلة انتقالية، سرعان ما يجب أن تصل الأوضاع إلى حيوية سياسية جديدة تعيد مصر إلى ألقها ودورها العروبي الريادي.
ثانياً: المهمات المطروحة، تسعى إلى تقدم شامل عبر إقامة نظام اقتصادي - اجتماعي، يرتكز إلى قيم اقتصاد سوق، متميز ومنضبط يجمع بين ضرورات الكفاءة الاقتصادية ومقتضيات العدالة الاجتماعية، لذلك رأينا أن التحديات تتركز على مفهوم التنمية المستدامة، وتغيير الهيكل الاقتصادي لجهة أولوية القطاعات المنتجة على حساب النمط الريعي و«المافيوزي» والذي كدس ثرواته ليس من حساب عمل المصريين فحسب، بل ومن حساب صحتهم وحياتهم.
ثالثاً: إن العالم العربي، ينتظر عودة المارد المصري، للعب دوره القيادي في خوض معارك المجابهة من أجل القضايا العربية، عودة بنمط جديد، يمتشق سلاح الديمقراطية والثورة الشعبية، ويرخي بثقل تأثيره إيجابًا على التغيير في كامل المنطقة العربية، وهذا ما نشهده اليوم في أكثر من بلد وإن كان بخصوصية لكل منها، لكن الشرارة التي انطلقت من تونس، وألهبت مصر، ستؤتي ثمارها في كامل المنطقة.
تغيير بعيدٌ من الغوغائية والفوضويات والشعارات التي جعلت من العرب ظاهرة صوتية وعلى امتداد عقود، يبدو أن القرن الحادي والعشرين قد بدأ في المنطقة العربية.
[1]- ويكبيديا، الموسوعة الحرة.
[2]- المصدر نفسه.
[3]- The world fact book C.I.A.
[4]- المصدر السابق نفسه.
[5]- الاقتصادية الإلكترونية، أخطر التحديات الاقتصادية لمصر الثورة، 25/2/2011.
[6]- The world fact book C.I.A.
[7]- الجزيرة نت، الفساد يستنزف الاقتصاد المصري، 12/2/2011..
[8]- المصدر نفسه.
[9]- الجزيرة نت، الفساد محرك رئيسي للثورة، 10/2/2011.
[10]- هيرناندو دي سوتو، «تحرير مصر من رق اقتصادي، إداري، وقانوني»، صحيفة الحياة، الأربعاء 23 فبراير 2011.
[11]- المصدر نفسه.
Where will Egypt’s uprising lead?
Many questions have swept those preoccupied in the Egyptian events, some of them addressed the potentialities as well as the social factor, other questions tackled the regime and its immunity in addition to discussing the experiences of previous movements. Many inquiries focus on the young revolts and the nature of their links and connections but it didn’t occur to anyone to question the motives of this movement and its pertinence since the harshness of the economic, social and political reality in Egypt opens the doors wide to revolts and change. In summary, the questions tackle the capacity and effectiveness of each individual in leading a movement, a revolt or a change. However, the objective side was that all the sides agreed unanimously on the inclusive and comprehensive maturity of these individuals.
Since the situation was resolved and the revolution has triumphed in presenting a unique model in the form of the movement’s forces and since this revolution has answered the desires and wishes of four consecutive generations which faced retardation and hunger and suffered from repression we can now raise one major question: what will happen after the revolution? Each revolution has its antecedent and subsequent events, with greater reason today while the Egyptian revolution is breaking the rules and fundamentals in an era different from previous eras?
Quel est l’avenir de la nouvelle Egypte?
Beaucoup de questions ont intrigue ceux qui se préoccupent des événements égyptiens, certains d'entre eux adressée aux potentialités ainsi qu’au facteur social, d'autres questions abordées sont relatives au régime et à son immunité, en plus de discuter les expériences des mouvements précédents. Les demandes se concentrent sur les jeunes et les révoltes de la nature de leurs liens et de connexions, mais nul n’a eu l’idée de remettre en question les motifs de ce mouvement et sa pertinence puisque la dureté de la réalité économique, sociale et politique en Egypte ouvre grand les portes aux révoltes et au changement. En résumé, les questions face à la capacité et l'efficacité de chaque individu à la tête d'un mouvement, une révolte ou un changement. Cependant, le côté objectif était que toutes les parties ont convenu à l'unanimité sur la maturité globale et inclusive de ces individus.
Depuis la situation a été résolue et la révolution a triomphé en présentant un modèle unique dans la forme de forces du mouvement et, depuis cette révolution a répondu aux désirs et aux souhaits de quatre générations consécutives qui faisaient face à un retard et a la faim ayant souffert de répression.Le chercheur pose une question majeure: quelles sont les répercussions de la révolution? Chaque révolution a ses antécédents et les événements ultérieurs, à plus forte raison aujourd'hui, alors que la révolution égyptienne enfreint les règles et les fondements à une époque différente de toutes les époques précédentes.