- En
- Fr
- عربي
ازرع العنصريّة تحصد الحرب
يعود أول فعل عنصري ، في نظر عدد من المحلِّلين، إلى مقتل هابيل على يد أخيه قابيل. فقد انطلق إذّاك القاتل من كونه ينتمي إلى مجموعة رعاة، في حين أن المغدور به كان ينتمي إلى فصيلة كانت تعتبر دُنيا، هي فصيلة المزارعين. ففي نظر قابيل، مجتمع الرعاة أرقى وأعرق من مجتمع المزارعين لذلك من الطبيعي قتل هذا العنصر الضعيف والهجين الذي يشكّله هابيل ، الموضوع على مرتبة سُفلى في التقويم المُعتمد آنذاك.
العبرة من هذه الحكاية هي أن العنصريّة منظومة فكرية يعتمد إنسان عليها لتبرير قهره أو قتله لإنسان آخر هو، في نهاية المطاف، أخوه في البشريّة.
فالعنصرية تقوم على مستوين متداخلين: مستوى الإختلاف الموضوعي، في الحياة اليومية والعملية، ومستوى التأسيس الفكري على هذا الاختلاف. من هنا وقوعها على خط التماس بين الفكر والممارسة. فالإنسان العنصري لا ينطلق من مجرّد خيار أو ميل ظهر في رأسه فجأة، بل من اقتناع بصحّة مجموعة من الأفكار المتناسقة، تشكّل منظومة، يحتاج لها لتحريك طاقاته العدوانية كافة. مما يعني ارتباط مفهوم العنصرية بمفهوم آخر هو مفهوم الايديولوجيا.
فالعنصرية تُحاك على نول الايديولوجيا، بهدوء ودقّة، قبل أن تُلبس لأصحاب العصبيّات الجيّاشة والوعي الضعيف. ذلك أن العنصريّة تتعارض مع الحسّ السليم المُعتمد على صعيد عامة الناس. وهي تركيب منهجي لأشباه أفكار يُراد بها إبعاد الإنسان المتّزن عن قواعد السلوك الإنساني السويّ.
تقوم العنصرية على أحكام مسبقة وقاطعة وغير قابلة للنقاش، ولكن غير قابلة أيضاً للتأكيد العقلاني. فعندما يعامل معظم الشعب الهندي قسماً من الشعب الهندي نفسه على أسس القطيعة الاجتماعية، في ما يسمّى بنظام المنبوذين، ينطلق هذا الرأي العام المؤولج عنصرياً من أفكار مسبقة لا تقبل الجدل ولا المناقشة. فالمنبوذ هو كل شخص يولد ويعيش في إطار مجتمع المنبوذين. ولا يحق له الإختلاط بغير ابناء جماعته.
فبهذه السهولة يُشهر الحُكم المسبق ويحوَّل إلى ممارسة نابذة للآخر، مع محو فوري لأسسه الإنسانية أو الوطنية أو حتى القرابية، بشكل إطلاقي لا يقبل المراجعة. واختصار التفكير العنصري لعملية الوعي باعتماده على الأحكام الجاهزة، مريح نوعاً ما للإنسان غير المثقَّف، الميّال لاعتماد زالقادوميّاتز الفكرية، التي توفّر عليه المجهود الذهني. من هنا أيضاً سرعة انتشار بعض الايديولوجيات العنصرية على مستوى شعبي واسع في العديد من الأمثلة التي سنأتي على ذكرها. فالعنصريّة منظومة فكرية ساخنة تحرك في المرء مشاعره، لا أفكاره. وهي، مثل “الفاست فود”، جاهزة للاستهلاك المباشر، إذ أنها لا تحتاج إلى طهو في وعي الفرد.
1- العنصريّة في تجلّياتها التاريخية المختلفة:
من بلاد الإغريق القديمة، وعلى الرغم من رقيّ التفكير الفلسفي الاغريقي، انطلق أول تمييز عنصري زحضاريس إذا صحّ التعبير. فقد إعتمد المجتمع إذّاك تقسيماً وضع المواطنين، أصحاب الحقوق والواجبات المدنيّة، داخل أسوار الحاضرة. في حين أن من كانوا يعيشون خارج هذه الحواضر الكبيرة كانوا يُنعتون بالبرابرة.
فالمتحضّر هو إبن الحاضرة، أما سواه من الناس، حتى لو كانوا من الشعوب الإغريقية، فمن البرابرة. وقد سُنَّت القوانين والأنظمة لأهل الحواضر فقط إذ أنها كانت تطبَّق عليهم بشكل حصري. في وقت كان نصيب البرابرة، أي كل ما تبقّى من شعوب وأقوام الأرض، النبذ السياسي والقانوني والإجتماعي.
فالقانون كان يطبّق على أهل الحواضر؛ والحقوق السياسية المعترف بها كانت تطال فئة المواطنين المدينيين إياها؛ وكذلك الحال بالنسبة للقيم الإجتماعية. فأهل الحواضر الاغريقية كانوا يمارسون الديمقراطية ضمن هذه الحلقة الضيقة ويحجبونها عن البرابرة. فالبرابرة كانت حصتهم الأعراف، لا القوانين؛ والحقوق السياسية لم تكن تشملهم بل منطق الغلبة العسكرية والإخضاع القسري لمشيئة أهل الحواضر من الإغريق.
فهذا التميز بين أصالة قسم من المجتمع، على أساس انتمائه لحواضر محددة، وهجانة قسم آخر من هذا المجتمع هو القاعدة التي تعتمد عليها العنصريات كلها، حيث أن العنصرية تقوم في الأساس على تمييز يقوم بدوره على حُكم اطلاقي. وعبرة المثل الإغريقي هي في أن العنصرية منظومة فكرية بإمكانها أن تشق طريقها داخل المجتمعات المتحضِّرة، لا بين الشعوب القليلة التحضّر فقط.
فشرط التعلّم أو التحضّر ليس كافياً لتجنيب المجتمع المعني الاصابة بالوباء العنصري. وقد شغلت هذه المسألة المفكر النمساوي كارل بوبر، في أحد أبرز مؤلفاته، وهو المجتمع المنفتح وأعداؤه ([1])، حيث أظهر أن المنظومات الفكرية العشائرية والمنغلقة غالباً ما نمت في إطار مجتمعات متقدّمة ومتحضرة، بالمعنى المادي للكلمة.
فالأفكار التوتاليتارية والمنظومات الفكرية العنصرية التي فتكت بالشعوب الأوروبية خلال القرن العشرين، يعيدها كارل بوبر إلى فكر أفلاطون الذي كان قد انطلق من نظرية هيراقليطس في التغيير. فالتغيير بحسب هذا الأخير قاعدة الحياة الطبيعية، إذ أن النهر الذي تغطّس فيه رجليك ليس هو نفسه بعد لحظة واحدة من مبادرتك أنت. بيد أن أفلاطون قد نقل حتميّة التغيير من الحقل الطبيعي إلى الحقل الاجتماعي، في فلسفته، وبخاصة في جمهوريته الفاضلة، بعد تعطيلها بفضل نظرية عالم المُثل التي هدفت، في نظر بوبر، إلى تجديد فكرة التغيير، من خلال الدعوة إلى دعم الطبقة الحاكمة على أسس التقليد القائم، أي على أساس العنصريّة، والتمييز الطبقي وغياب الديموقراطية. فأفلاطون قد دعا إلى بناء مجتمع الانغلاق والعلاقات العشائرية والعبودية والذي تمنّى له أن يبقى خالداً، كجمهوريته الفاضلة. ويقول المفكر النمساوي أن هيغل قد نقل، في العصور الحديثة، تصوّرات أفلاطون هذه وأعطاها منحى جديداً، مع الإبقاء على جوهرها السلبي.
وقد قامت لاحقاً النظريات والإيديولوجيات التوتاليتارية (النازية والماركسية على نحو خاص) بتجديد مقولات أفلاطون وهيغل الإطلاقية، مما سمح لإيديولوجيات الانغلاق والعنصرية باختراق الأزمنة وبلوغ القرن العشرين بحلّة عشائرية مستَحدَثَة. فتجديد الفكر العشائري والعنصري ممكن على الدوام، والمثقفون الجاهزون للقيام بعملية إعادة التأهيل النظرية هذه كثر ، وهم معروفين بمثقفي السلطة وأزلامها.
واتهام بوبر هذا خطير، إذ أنه يحمّل المثقفين مسؤولية أساسية في نقل وتطوير وترويج النظريات العنصرية والعشائرية الآتية من الأزمنة الغابرة.
فمجتمع العنصرية لا يشمل فقط أبناء الشعب الذين يمارسون الأعمال العنصرية في حياتهم اليومية والعملية، دون تفكير كبير ومجهود عقلاني يُذكر، بل أنه يضمّ أيضاً شرائح واسعة من المثقفين والإعلاميين الذين يعملون على تهذيب وترويج ونشر النظريات العنصرية بغير أسلوب. وفكرة بوبر صائبة تماماً، إذ أنها توسِّع جمهور العنصريين ، فتجعله يشمل العامة، الغوغائية والطائشة، والخاصة، المهذَّبة والمنكفئة، في سياق بنية متكاملة من الشرائح الاجتماعية الجامعة للمجتمع بأسره.
فالمجتمع العنصري ، بحسب بوبر يحتضن مَن هم قليلو العلم ومن يكثرون منه، على السواء. ذلك أن العنصرية ليست حكراً على من يمارسها فقط، بل أنها أيضاً مسؤولية من يعمل لها ويعمّمها وينشرها ويُقنع الناس بصحتها.
محطات:
- في العصر الروماني بقي التقسيم العنصري الإغريقي قائماً، مع توزيع الدنيا إلى أهل روما وبرابرة. غير أن أهل روما باتوا يضمّون بينهم أقواماً غير لاتينية. فالمعادلة العنصرية بقيت على حالها من التمييز في إطارها العام، أي أن المنتمي إلى حضارة متفوّقة، إلى حضارة تعتبر نفسها عليا، يسمح لنفسه دون توبيخ ضمير باعتبار ذاته من صنف مختلف مقارنةً مع الذين لا حضارة لهم.
وقد عامل الرومان على هذا الأساس الإيديولوجي العنصري، العالم المتوسط كله، حتى أنهم ذهبوا بادعائهم هذا إلى تسمية البحر المتوسط ببحرهم. لم يتمكنوا من إدعاء التفوّق على الإغريق، لكنهم استعبدوا قسماً منهم وأوكلوا إلى البعض منهم مهمة التعليم ونقل علومهم إلى اللاتينية.
لكن عنصريّتهم الحضارية تعدّلت بعض الشيء بفعل تركيب مجتمعهم العسكري. فالأولوية العسكرية التي كانوا يولونها لكل الشؤون الخارجية، دفعتهم للإتصال الدائم بشعوب وأقوام مختلفة والإختلاط بها. وكان من هذا الاختلاف الطويل أن أدّى إلى صهر أبناء هذه الشعوب والأقوام في بوتقة الجيش الروماني، فانضمّت لاحقاً هذه الشعوب والأقوام إلى الجنسية الرومانية، فأضحت المواطنة الرومانية متعددّة المشارب على المستوى السوسيولوجي المعيشي.
لكن ذلك لم يمنع الرومان من البقاء على عنصريّة التفوّق تجاه الشعوب والأقوام الأخرى التي سيطروا عسكرياً عليها، متعاملين معها كأفراد ليس إلا، لا كشعوب مساوية لهم.
فالإيديولوجية الرومانية، القائمة على الذهنيّة العسكرية، لم تتقبّل التنازل عن نزعتها العنصرية، معتبرة أن المحافظة عليها ضمانة للمحافظة على إمتيازاتها الحضارية. فعنصريّة التفوّق وتقسيم الدنيا إلى أهل روما وبرابرة عنصران أساسيان في نظرة الرومان الى أنفسهم وإلى العالم الخارجي. ومع أن الرومان كانوا يملكون في نمط إختلاطهم بشعوب المتوسط كافة أرضيّة معيشة لإعادة النظر في هذا الموقف الفكرية المسبقة، فإنهم لم يتخلّوا عن تمييزهم العنصري لأنه كان يحفظ لهم تمايزهم وامتيازاتهم.
فجديد الرومان في هذا المجال هو عدم السعي لتبرير نزعتهم العنصرية تجاه زبرابرتهمز، في إطار فلسفة مكتملة البيان، كما حصل عند الإغريق، مع الإصرار على ممارسة هذا الإنحياز العنصري في حياتهم العامة.
أما الشعوب الأخرى فقد عاشت هي أيضاً عنصرياتها العرقية كما كانت متوارثة عندهم أباً عن جد. فالمغول كانوا يعتبرون أنهم يتفوقون عرقياً على الزنوج، الخ ...
المفيد هنا أن تقليد التمييز العنصري، المنتشر عند جميع الشعوب القديمة بشكل أو بآخر، كان يعاش ويمارس على الطريقة الرومانية، أي دون تأسيس نظري، لدرجة أن كل شعب كان ينتج تطوراً يضع نفسه فيه في المرتبة العليا ويضع الأقوام الأخرى، خصوصا عندما كانت تنتمي إلى أعراق مختلفة عن عرقه، في مصاف الشعوب الدنيا.
- وقد كرّر العرب، مثلهم مثل سواهم، مقولات العنصرية المعتمدة في ذلك الزمن، دون سوء نيّة مبني ودون فلسفة داعمة لهذا الانحياز والتمييز. فنقرأ مثلاً عند صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم ([2])، الذي ألفّه عام 1068 أن أمم الأراضي تنتمي إلى صنفين إثنين: الأمم الناهبة والأمم غير الناهبة. ويضع في خانة الشعوب والأمم الناهبة ثماني أمم (منها العرب) عرفت بحضارتها وبتقديماتها للبشرية وابداعها.
ويلاحظ مؤكداً أن جميع هذه الأمم تقع في أقاليم جغرافية متوسطة وتعيش في إطار مناخات معتدلة.
أما الأمم غير الناهبة فهي جميع الأمم الأخرى، التي تعيش “شمال الأقاليم السبعة، التي هي نهاية المعمور في الشمالس وسجنوب خط الاستواء”. علماً أن صاعد الأندلسي ينعت في كتابه أبناء هذه الأمم بـ “أنهم أشبه بالبهائم منهم بالناس”.
وبالطبع لم يستند صاعد الأندلسي إلى تعاليم دينه للولوج إلى هذا الإستنتاج بل على عكس ذلك، استمدّه من المعتقد الاجتماعي العام ومما يسميه المفكر الألماني كارل مانهايم تسميته الإيديولوجية العامة عليه. فهذه الإيديولوجيا العامة تضم في متونها باقة من الأحكام العامة والمنتشرة بين عموم الناس، كما أنها تختزن في بطونها سلسلة من التطوّرات العجولة وغير الدقيقة.
فصاعد الأندلسي وبسبب عدم وجود طرق علمية لقياس هذه الأمور، كان يعتبر أن “إفراط بُعد الشمس عن مسام رؤوس أهل الشمال قد برّد هواءهم وكثّف جوّهم، فصارت لذلك امزجتهم باردة وأخلاقهم جافة ... فعدموا دقّة الأفهام وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل والبلادة وفشا فيهم العمى والغباوة”.
أما الذين يسكنون قريباً من خط معتدل النهار، ناحية الجنوب، فاقترابهم من الشمس ومقاربة هذه الأخيرة لرؤوسهم قد جعلا “أمزجتهم حارة وأخلاطهم محرقة، فعدموا رجاحة الأحلام وثبوت البصائر، وغلب عليهم الطيش وفشا فيهم الجهل”.
فهذه الأحكام المسبقة التي تدعونا اليوم للابتسام كانت ضحيّة قوة الايديولوجيا العامة الطاغية خلال تلك الأزمة وقلّة المعارف العلمية. لكن الناس كانوا يؤمنون بها ويمارسون حياتهم العامة على أساسها. فعلى الرغم من أن الحضارات الأولى التي عرفتها البشرية كانت تقع في أفريقيا، بحسب الاكتشافات الأركيولوجية المعاصرة، فإن شعوب الأرض كلها تميل إلى دمج أبناء العرق الأسود مع العبيد، وهؤلاء مع فصيلة بشرية سفلى، اليوم، في مطلع الألفية الثالثة. فكم بالأحرى كان من الصعب على صاعد الأندلسي وسواه من المفكرين العرب وغير العرب، إقامة حدود فكرية وعقلانية بين ما هو شائع وما هو واقعي وموضوعي.
فالجدير ذكره في هذا الصدد أن شعوب العالم قد عاشت في الأزمنة القديمة تحت مظلة من الأحكام العنصرية سيطرت على ممارساتها جميعاً. فالتمييز العنصري كان القاعدة العامة المعتمدة عند الجميع، بشكل مُدْرَك أو بشكل غير مُدرَك، في تحديد مسالك الأقوام والشعوب، بغضّ النظر عن العقائد التي كانت تعتمدها هذه الشعوب والأقوام، وعلى نحو خاص أتباع الديانتين المسيحية والإسلام، الداعيتين للمساواة والتسامح.
وقد ساهم في انتشار هذا الغباء المعمَّم، والذي كان مكلفاً جداً للبشرية، غياب الكتاب والعلوم الدقيقة، بحيث بقيت المعادلة الرومانية طاغية، في أشكال مختلفة، عبر الأرض قاطبة. فحتى صاعد الأندلسي، العاكس بوضوح لوجهة نظر عنصرية، لم يعمل على تبريرها نظرياً، بل ألقى بالملامة في نهاية الأمر على المناخ، المسؤول الوحيد في نظره، عن نباهة أو عدم نباهة الأمم.
مما يعني أن العنصرية كانت معيشة ، دون أن تنتمي إلى مجال المفكَّر فيه (le pensé)، على حدّ تعبير المفكر الجزائري محمد أركون.
- أما الأوروبييين فقد تعاملوا ، اعتباراً من القرن الثامن عشر مع مسألة العنصرية، بشكل مختلف مقارنة مع ما كانت عليه الحال قبلهم. فمنذ مطلع القرن الثامن عشر، شعر الأوروبيين أنهم يهيئون لعصر جديد، وصفوه بعنصر الأنوار، سيفضي بهم إلى الحداثة. لذلك أرادوا أن يتعاملوا مع جميع شؤون الحياة بشكل عقلاني ومنهجي، أي بكلام آخر، بشكل علمي.
- لكن العلم بامكانه أيضاً أن يوضع في خدمة غايات إيديولوجية. وهذا ما حصل تحديداً مع المفكر الفرنسي الشهير مونتسكيو، صاحب كتاب روح القوانين([3])، إذ يخرج المؤلف بملاحظة مفادها أن جميع شعوب الأرض تعتمد على أنظمة تقوم على سلطات ثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
إلا أن المفكر الفرنسي يلاحظ أن ترتيب هذه السلطات الثلاث يأتي مختلفاً في بقاع الأراضي المختلفة. فهنا تتقدّم السلطة التشريعية على التنفيذية، وهناك تتقدّم السلطة التنفيذية على التشريعية، مع بقاء للسلطة القضائية، وهناك تُغيَّب بشكل كامل للسلطة القضائية، إلى ما هنالك من نماذج لا يتبع فيها توزيع السلطات ترتيباً متشابهاً. أما الحل، فهو يكمن في نظر مونتسكيو في فصل السلطات. وقد اعتُمِدَ فعلاً هذا المبدأ لاحقاً في الأنظمة البرلمانية الديمقراطية كافة عبر العالم.
لكن مونتسكيو تابع تساؤله فقال: ما سبب هذا الاختلاف يا تُرى؟
وللإجابة “علمياً” عن هذا السؤال طلع علينا بنظرية للمناخ مفادها أن الشعوب التي تعيش في المناخات الباردة هي أكثر قدرة على استغلال طاقاتها الذهنية، فهي بالتالي أكثر عقلانية وعمقاً وتقدماً. والشعوب الأوروبية تقع كلها في هذه الخانة.
أما الشعوب التي تعيش في مناخات حارة، فإن العواطف تغلب عندها على العقل. فتستبدل هذه الشعوب السلطة التشريعية بالتنفيذية، وتكتفي بها في أحيانٍ عديدة، مما يعني أنها غير عقلانية وغير مستعدّة للقبول طوعياً بالعدالة والمساواة. ومن هذه الشعوب، الشعوب الأفريقية والعربية التي يضعها مونتسكيو جميعاً في كيس واحد، ناعتاً إياها بالمتأخرة والمختلفة.
ولإضفاء صبغة علمية على هذا الانحياز العنصري يقول مونتسكيو بأنه قام شخصياً باختبار على لسان خروف وصفه بادئ الأمر في قبوه البارد، ثم فحصه على المجهر، فتبيّن له أن شكله ملس وناعم. أما بعد وضعه في الشمس وفحصه بالطريقة نفسها فقد تبيّن له أن نتوءات قد ظهرت على سطح هذا اللسان، وفي داخلها شعيرات صغيرة قال انها أدوات حساسة تشبه مثيلات عند الإنسان.
ومن هذا الإختبار العَجول استنتج مونتسكيو متسرّعاً، مبدأً أساسياً يعتبر أن المناخات الحارة تغلّب الحواس في حياة الإنسان، في حين أن المناخات الباردة تغلّب العقل في حياة هذا الإنسان.
وتكمن خطورة هذا التدعيم المنهجي الزائف لمقولة عنصرية قديمة، تقوم على إعتبار الشعوب البيضاء أكثر تقدماً وذكاءً من الشعوب الملوّنة، في أنه سعى للاتكاء على العلم، تماشياً مع روح العصر آنذاك في أوروبا. وقد استفاد الإستعمار من هذا التأسيس النظري لبناء نظريته ولإحتلال مناطق عديدة من العالم وفرض ثقافته “العلمية” عليها وعلى شعوبها “المتأخرة”.
ولم تنتهِ المسألة هنا، إذ أن عدداً لا يستهان به من المفكرين والجامعيين الأوروبيين قاموا بعدها بدعم هذا التوجّه في تبرير مسألة التمييز العنصري. وكان أبرزهم، في القرن التاسع عشر، غوبينو، وفي مطلع القرن العشرين، لوسيان ليفي ـ بروهل ([4]).
أما لوسيان ليفي ـ بروهل فقد عمد إلى الكلام عن الوظائف الذهنية عند المجتمعات السفلى في كتاب شهير له صدر عام 1910 بالفرنسية. وميزة طرح هذا العالم الإنتروبولوجي أنه اعتمد على أبحاثه الميدانية للاستنتاج بأن الشعوب البدائية ، في أفريقيا وعبر العالم أجمع، يستحيل عليها أن تلتقي على قدم المساواة، ذهنياً، مع الشعوب الأوروبية والغربية المتقدمة.
ففي نظره أن الشعوب البدائية ليست شعوباً منطقيّة، بل أنها شعوب تعيش ذهنياً في أنماط التفكير القبمنطقي. فالذهنية القبمنطقية (mentalité prélogique ) التي تعتمد عليها هذه الشعوب لا تدع مجلاً للمناقضة، وبالتالي للجدل بحيث أن عالم البدائيين الفكري عالم مسطّح مغلق وغير قابل للتجديد، ذلك أنه يقوم على تكرار مقولات الأسلاف إلى ما لا نهاية.
فقد ذهب ليفي -بروهل في طرحه الداعم للعنصرية، إلى مستويات في التحليل العقلاني عميقة جداً. لكن المشكلة، كمشكلة مونتسكيو، كانت في التعميم الإطلاقي فالشعوبسالبدائيةس ، كاليابان مثلاً بالأمس، واليوم الصين، قد خالفت طروحات عنصريّة الذكاء والتقدّم الغربي.
إلاّ أن هذه الطروحات المتشبّهة بالطروحات العلمية قد أعطت مصداقية ما للنظريات العنصرية ودعمتها على مستوى التفكير السياسي. وهذا ما يعيدنا إلى ما كان قد أشار إليه النمساوي كارل بوبر في مجال مسؤولية المثقفين عن تحوير الأفكار وجعلها تخدم مصالح سياسية وإيديولوجية محددة. فالذين دعموا نظريات التمييز العنصري قد خدموا بشكل واعٍ مشاريع الإستعمار.
2- التوظيفات الميدانية :
يوصلنا كل ذلك إلى مسألة أساسية، هي التوظيف الميداني للطروحات العنصرية. فكيف تمّ استغلال نظريات العنصرية في حياة البشر اليومية والعلمية؟
أبرز مجالات هذا الاستغلال ظهرت في الحياة الاقتصادية والسياسية والدينية للشعوب.
أ- التوظيف الإقتصادي :
بعد فتح القارة الأميركية، عقب اكتشافها عام 1429 على يد كريستوفر كولومبوس، بدأ الكونكيستادورس الجشعون بتعقّب الذهب عند السكان المحلييّن وبالإستيلاء عليه بأي ثمن كان. لكن معظم هذا الذهب كان محفوظاً في معابد الإنكا (في البيرو وكولومبيا) والمايا والأزتيك (في المكسيك وأميركا الوسطى). فعمد الفاتحون الاسبان والبرتغال إلى تشبيه السكان المحليين بالبهائم، نازعين عنهم صفتهم الإنسانية بغية تبرير قتلهم واستباحة أرزاقهم. إلا أن البابوية عمدت، عام 1601، إلى إصدار حُكم ديني يساوي بين أبناء العرق الأبيض والهنود الحمر في مجمل القارة الأميركية، ولم يوقف استباحة أرزاقهم وأعراضهم، إلا أنه وقف في وجه شرعنة العنصريّة التي قام بترويجها الفاتحون الإسبان والبرتغاليون منذ اللحظة الأولى، لتغطية أعمالهم وتبريرها أخلاقياً.
وكان استغلال العنصرية هنا مباشراً وفجاً، إذ حاول الفاتحون تغليف مشروعهم الاقتصادي الاستبدادي بنظرية عنصرية تضعهم في خانة المستفيدين والشرعيين والطبيعيين من خيرات لا مالكين لها. وكأني بالفاتحين يعتبرون الأرض الأميركية التي غزوها أرضاً بلا شعب. وهذه المقولة سيرددها الصهاينة عند استباحتهم لأرض فلسطين.
فالنظرية العنصرية تسعى لسلخ إنسانية الإنسان لشرعنة استباحتها لأرضه وخيراته. وقد نجحت العملية ميدانياً أيام الكونكيستادورس، بالقوة العسكرية، لكنها لم تتمكن من تأمين الغطاء العقائدي لها. فالدين المسيحي ليس عنصرياً، وكذلك هي الحال بالنسبة للإسلام؛ لكن ذلك لا يمنع من أن يكون بعض المسيحيين وبعض المسلمين عنصريين، في حياتهم العملية. ذلك أن الطمع نزعة إنسانية، والإنسان، في حالات غياب التشريعات والأخلاقيات والقوانين، بإمكانه بسهولة أن يتحوّل إلى ذئب يفترس أبناء قومه، على حدّ تعبير المثل اللاتيني القديم ([5]).
شكل آخر من العنصرية ذات الاستغلال الاقتصادي هو ما عرفته الولايات المتحدة الأميركية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فبعد انشاء مزارع شاسعة لزراعة القطن في جنوب البلاد، عمد المالكون الكبار إلى شراء اليد العاملة من أفريقيا، بعد تحويلها إلى العبودية. فقد قامت ثروة الولايات الجنوبية من هذه البلاد، في قسم كبير منها، على استغلال العبيد في الحقول والمزارع، وعلى مدى أكثر في قرن ونصف.
ولتبرير استغلالهم الاقتصادي لهذه الفئة من البشر المنتمية إلى العرق الأسود، عممّ المالكون إيديولوجية قوامها أن أبناء العرق الأسود لا يصلحون سوى لأعمال اليدوية ولأعمال الأرض، مشبّهينهم، مرّة جديدة، بالبهائم ([6]).
ولتعميق الهوّة بين إحتمالات الرقيّ الإجتماعي وابناء المجتمع مع الأسود، العاملين في ولايات الجنوب ضمن نظم العبوديّة (التي كان يقبل بها الدستور الأميركي آنذاك) قرّر المالكون حجب التعليم عن أبناء العبيد. فكان البيض يتعلمون ويترقون، ويبقى السود في العمل الزراعي من بداية حياتهم حتى آخرها. فالأميّة كانت لازمة لوضعيتّهم الاجتماعية التي كان يراد لها أن تكون قريبة من وضعية مجتمع بعيد عن الحضارة كلياً.
لم يتمكّن المالكون الجنوبيون في أميركا من حجب إنسانية أبناء العرق الأسود عنهم، كما حاول الكونكيستادورس، لكنهم حاولوا أن يقفوا بحزم أمام أي تقدّم للمجتمع الأسود في مناطقهم. فكانوا بذلك قريبين من النموذج العنصري الروماني والإغريقي، القائل بتفوّق أبناء عرقهم على أبناء العرق الأسود.
وأساس هذه العملية الايديولوجية التي أدّت، كما هي الحال في كل سبك نظري لتمييز عنصري، إلى فصل فئتين من البشر عن بعضهما بهدف استغلال أحدهما الآخر. فالعنصرية أداة معرفية تتميز بوظيفة محددّة، ألا وهي التمهيد الفكري وحتى الوجداني لاستئثار فريق من البشر بخيرات هي من حق فريق آخر.
ذلك أن البشر أنفسهم هم الذين ينتجون عنصرياتهم، طبقاً لمصالحهم الاقتصادية ولتبرير أساليبها ولعدم إستقامتها وعدم خضوعها لمبادئ الإنسانية البديهية. فالعنصرية منظومة فكرية هادفة، تنتجها الفئات المسيطرة التي لها مصلحة فيها لتفرض سيطرتها عل الفئات التي تنوي استغلالها. والنموذجان الأميركيان، مع الهنود الحمر ثم مع الزنوج، من أسطع الأمثلة على هذه الحقيقة. فالعنصرية لا تقوم بذاتها، بل تقوم لصالح جهة تعمل على انتاجها وترويجها وتعميمها، بغية استثمارها اقتصادياً. فهي رأسمال رمزي يقوم بمظاهرة رأسمال مادي.
ب- التوظيف السياسي:
ما من شك في أن كل توظيف اقتصادي لعنصرية يقوم، في الأساس، على تمهيد سياسي لانتشارها وسيادتها على الأرض. فالقاعدة السياسية حاجة أساسية لنجاح مشروع تعميم المنظومة الفكرية العنصرية. إلا أن هذه القاعدة قد تكون “برانية” بالنسبة للعنصرية لأن الفاتحين، هم الذين كانوا عنصريين. بحيث أنهم قد استغلّوا سلطتهم على الأرض لنشر وممارسة عنصريتهم تجاه العرق الأحمر، بغرض نهب خيراته واستغلاله على المستويات كافة.
وهنا يكمن الفرق بين التوظيف الاقتصادي للفكر العنصري، والتوظيف السياسي له. ففي التوظيف السياسي للفكر العنصري، كما حصل مع النازية مثلاً، نلاحظ أن الفكر العنصري هو الذي أوصل أصحابه إلى السلطة وليس العكس. فلم ينتظر مثلاً النازيون تبوأهم السلطة للعمل على إشهار عنصريتهم، بل أنهم بدأوا باكراً جداً بأعمالهم العنصرية ضد اليهود، وبنوا عليها خطهم السياسي المميز، القائل بتفوّق العرق الآري على سواه من الأعراق البشرية، واضعين اليهود في أسفل القائمة، والجرمان في أعلاها.
فالتوظيف السياسي للعنصرية هنا جاء مباشراً ومنذ الأساس، إذ أنه تماهى عملياً مع الخط السياسي والعقيدة الحزبية التي قامت النازية باعتمادها منذ نشأتها. ويكفي في هذا الإطار الإطلاع على كتاب “كفاحي” الذي كتبه هتلر في السجن، أيام كان مناضلاً شاباً، والذي يتحوّل لاحقاً إلى ما يشبه القاموس الأساسي للنظرية النازية. ففي هذا الكتاب المثير دمج دائم بين حقوق الألمان المنهوبة والغبن اللاحق بهم كشعب جرماني متفوّق بسبب سياسة حكامهم السابقة، المهادنة لليهود، المسيطرين على الثروة والرساميل في البلاد قبل وبعد الحرب العالمية الثانية.
فالنظرية النازية معجونة بالعنصرية في تكوينها الأساسي، لا في استغلالها السياسي اللاحق، بحيث يستحيل فصل السياسي عن العنصري فيها، لشدّة ارتباطهما الكياني في العقيدة. وهذه الميزة قد جعلت العنصرية جزءاً رئيسياً من المشروع السياسي الذي بفضله وصل هتلر والنازيون إلى السلطة عام 1933 في ألمانيا.
فبعد بلوغهم السلطة وامساكهم التدريجي بزمامها، دخل النازيون الحرب العالمية الثانية بعقيدة إعتبروها فولاذية وبترسانة حربية هائلة. فالأعمال العنصرية التي مارسوها باتت معروفة جيداً لشدّة ما تمّ التشهير بها بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. فالأنظمة الظافرة بالحرب وكذلك منظمة الأمم المتحدة والإعلام الصهيوني قد عملوا جميعاً على التشهير بالفظائع التي ارتكبتها النازية بحق الإنسانية واليهود في آن معاً. وهذا اللعب الدائم على الإنساني واليهودي هو الذي شكّل قاعدة التوجّه الإعلامي العالمي في هذا المجال، بحيث أن “تسويد” النازي والألماني عموماً قد جاء مرافقاً “لتبييض” اليهودي الإسرائيلي لاحقاً، ولنا عودة بالطبع الى هذا التلاعب المفرط بالوقائع التاريخية والذي يشبه، بالمناسبة، تلاعب النازيين أنفسهم بنظريتي تفوّق العرق الجرماني وانحطاط العرق السامي.
ج- التوظيف الديني:
أخطر أشكال العنصرية وأكثرها تغلغلاً في وعي الإنسان، هي العنصرية الدينية. ففي هذا الصنف من العنصرية تمازج خطير بين المقدَّس والعنف ([7])، على حدّ تعبير الكاتب الفرنسي رنيه جيرار الذي يشير إلى ارتباط هذا التقليد، في اللاوعي البشري الجماعي، بالاضحيات البشرية التي كانت تقدّمها الديانات القديمة للآلهة، تكفيراً عن أخطاء الجماعة. فالإيمان هنا لا يقف في وجه العنف، بل في صلب الممارسة الطقسية المطهّرة روحانياً لأعمال البشر.
ويبدو أن أصحاب مشاريع التطهير اللاتيني في البوسنة وعموم بلاد البلقان خلال العقد الأخير من القرن المنصرم قد سعوا لاستنهاض هذا التقليد البربري القديم، الخارج من بطن معتقدات وثنية أو من ديانات سابقة للدين المسيحي، للشروع بمشاريعهم السياسية العنصرية والنابذة للآخر.
فقد رفع الصرب في يوغوسلافيا القديمة شعار الشعب المغبون، مدّعين أنهم كانوا يشاركون في كل الحروب العادلة إلى جانب الحلفاء ، خلال الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، لكن نصيبهم السياسي كان معدوماً باستمرار. ولذلك إدعوا العمل على تحصيل هذه الحقوق السياسية والتاريخية المهضومة، بقوة السلاح، بعد إنهيار يوغوسلافيا السابقة.
ومن خلال اللعب على الهوية الدينية المميزة، لكون الصرب من المسيحيين الأرتودكس والغبن التاريخي المتأتي عن إخضاعهم بالإكراه للسلطنة العثمانية طوال ستة قرون متواصلة، ثم للنازيين، خرج مثقفو الصرب، عام 1989، ببيان تأسيس لعقيدتهم الدينية والسياسية، يدعو الشعب الصربي لاستعادة مجده السابق، بقوة السلاح، فما كان هذا البيان الصادر عن أكاديمية الآداب والعلوم، إلاّ أن تمخّض عن التطهير الأثني، الممارس ضد المسلمين البوسنيين (البوشناق) والألبان من بعدهم.
واللافت هنا أنه كما أن الموقف العنصري قد شكّل قاعدة إنطلاق النظرية السياسية في النازية، فإن موقف التمييز الأثني قد شكّل أساس النظرية السياسية عند الصرب. وبالتمييز الأثني نعني التمييز الديني والثقافي للشعوب الصربية والبلقانية التي ترى أن مسارها التاريخي مختلف عن مسار الشعوب المحيطة بها والتي تنتمي إلى دين مختلف. وبما أن تاريخ البلقان قد ارتبط طويلاً بتاريخ السلطنة العثمانية، فإن الصرب يعتبرون أن أندادهم هم المسلمون البلقانيون، الذين نكّلوا بهم طويلاً في الأزمنة السابقة.
في الواقع، يستحيل تحميل المسلمين الحاليين، والذين يعيشون في البلقان مسؤولية ممارسات الحكم العثماني، فهذا تحوير إيديولوجي للحقائق التاريخية، لكن أصحاب النظرية التطهيرية الصربية، العنصرية حتى العظم، قد لعبوا على هذه الثنائية الملتبسة، القائمة على استحضار الماضي السياسي على قاعدة الاختلاف الديني الراهن. فاختلط الأمر على عامة الناس والمقاتلين الصرب (الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة في الجيش اليوغسلافي قبل حلّه) فعمدوا الى معاملة المسلم الحالي على أساس أنه حفيد سياسي مباشر للعثماني الظالم الذي عانوا منه الأمرين في الماضي.
فالإنتقام التاريخي هنا جاء على قاعدة الإنتقام الديني. فقد مورست بحق البوشناق ممارسات عنصرية ظالمة، كتلك التي مارسها العثمانيون بحق الصرب في بلاد البلقان، بعد كسرهم عسكرياً في مدينة كوسوفو عام 1283. وكان مثلاً من عادات الميليشات الصربية قتل البوسنيين المسلمين والإحتفاظ بالشابات خلال المرحلة الممتدة بين 1990 و1996، في فيلات محروسة، واغتصابهن بشكل دائم حتى يحبلن. ثم كانت تنقل الحوامل إلى فيلات أخرى استعدادا للإنجاب. أما بعد عملية التوليد فكان الطفل الرهينة يُعطى لأحدى العائلات الصربية المحرومة من الأولاد كي تتبناه.
وكانت الأم المسكينة ضحية مرتين: مرّة عند الإغتصاب، ومرّة أخرى عند سلبها طفلها. وكان يعزو عسكر الميليشيات الصربية هذه الممارسة انها رد منهم على نظام “الدوشرمة” الذي مارسه طويلاَ العثمانيون في حق الصرب. والمعروف عن نظام الدوشرمة أنه كان يقضي بخطف دائم لأطفال من الصرب بغية سلخهم باكراً عن أسرهم وتجنيدهم في سلك الإنكشارية. ففقدان روابطهم الأسرية كان يجعل منهم عسكراً طائعاً بشكل مطلق للسلطان وفاقداً لذاكرته الإجتماعية.
وكانت عنصرية الصرب تجعلهم ينتقمون من العثمانيين والمسلمين على حد سواء، في عملية خلط إيديولوجية سياسية، مبنية على أساس العداء الديني المطلق.
3- العنصرية الصهيونية:
أكثر ما يزعج أبناء الكيان الاسرائيلي اليوم أن يتهموا بالعنصرية. فلماذا هذه الحساسية يا تُرى؟ ربما لأن هذا الاتهام طالما استعمله مثقفوهم وإعلاميوهم كحصان طرواده لاختراق الرأي العام العالمي، بعد توجيهه حصرياً نحو النازيين.
لكن النازيين ولّوا، ونظامهم في ألمانيا قد استُبدل بنظام ديموقراطي عصري ومتقدّم. وانتقلت العنصرية من ضحايا الأمس إلى جلادي الدولة العبرية الذين تمادوا في عنصريتهم لدرجة أنها أضحت أخطر من العنصرية النازية، على المستوى الإنساني، لكونها نابعة من ظلم وراغبة في عكسه على أناس آخرين، بدلاً من رفعه.
أما العنصرية الصهيونية، التي هي عقيدة “آباء” الدولة العبرية، فلا داعي للبحث فيها طويلاً ذلك أنه بالامكان العثور عليها في المجالات كافة. فهي، خلافاً لكل أمثلة العنصرية التي استعرضناها سابقاً، نموذج للعنصرية البنيوية. أي لعنصرية شاملة تطال بنية التفكير والممارسة عند معتنقيها في اسرائيل وعبر العالم أجمع، في المجالات كافة.
فميزة هذه العنصرية أنها تقوم على مشروع سياسي يقترن بمشروع اقتصادي يتجلّى في رؤية دينية للعالم وللآخرين. وبنيويّة هذه العنصرية هي التي تصنع فرادتها. فكل شيء مقولب فيها على أساس أنانية مطلقة للشعب اليهودي يريد منها ان تجعل الدنيا كلها خادمة له.
فالعنصرية الصهيونية، كعنصرية الصرب في هذا المجال، تقف على أرضية تفوّق ديني افتراضي بدونه لا تستقيم العقيدة اليهودية. فشعب الله المختار ينظر إلى الدنيا والى الآخرين من فوق. وهو حكماً عنصري في تمييزه هذا إذ أنه يضع نفسه معرفياً على مرتبة مختلفة نظرياً عن تلك التي يقف عليها الآخرون. فعندما يقبل المؤمن اليهودي بأنه من الشعب الذي اختاره ربّه، فهذا يعني أن الشعوب الأخرى هي غير مختارة. أي، عملياً، أنها منبوذة.
فكيف، والحال هكذا، للمؤمن اليهودي أن يكون غير عنصري، وهو مجبر على الانطلاق إيمانياً من فرضية أساسية تضع الشعوب الأخرى خارج المجال الإلهي، أي خارج المجال الإنساني أيضا. فالإيمان بالله هو للاقتراب أكثر من الإنسان الآخر في كل الأديان المعروفة على وجه الأرض. أما في الدين اليهودي، فإن الإيمان يضع الفرد ضمن جماعة مغلقة، ثم يضع هذه الجماعة فوق مستوى الإنسانية جمعاء وخارج فضائها المعرفي.
ومن هذا المنطلق بالذات سمح دوماً أهل السياسة في إسرائيل لأنفسهم بالتطاول على إنسانية الفلسطينيين والعرب عامة. فها هو ذا رئيس الوزراء شامير ينعتهم بالجراد وما من أحد يفاتشه أو يحاكمه على كلامه في دولة تدعي أنها ديموقراطية وتضمّ في عداد مواطنيها نظرياً، 18 في المئة من عرب الـ 48، كما يسمّون، أي من الفلسطينيين الذين لم يغادروا أرضهم خلال النكبة.
وها هو ذا الحاخام يوسف أوفيدا يصف الفلسطينيين بالأفاعي، ويزوره بعد بضعة أيام رئيس الدولة العبرية، المسؤولة نظرياً عن تطبيق الدستور، بحيث يتضح أن كلام هذا الحاخام الأكبر قد جاء ضمن الخط السياسي المعتمد في البلاد.
فبين الجراد والأفاعي يجد الفلسطيني نفسه مطوّقاً بمصطلحات عنصرية لا يخجل من استعمالها أهل السياسة في إسرائيل، ولا يحاكمون عليها، بل يُهنأون عليها ويزدادون شعبيّة. ماذا يعني ذلك؟ يعني بكل بساطة أن الأيديولوجيا الإسرائيلية تتماهى في العقيدة الصهيونية وتعمل على نصرة ز الشعب المختار ز.
وفي مقابل هذا الشعب، ما الذي نجده؟ على الأرض هناك شعب فلسطيني، عربي الثقافة. أما في أذهان الطبقة السياسية الإسرائيلية فنجد مجموعات من الأفراد لا وجود سياسياً لهم.
ولماذا لا وجود سياسياً لهؤلاء الأفراد؟ لأن النظرة العنصرية التي تضعهم فيها الدولة الإسرائيلية الحالية هي نظرة تغييب. فلا وجود سياسياً، على مستوى القرار والمصير، للفلسطينيين الموجودين في إطار الدولة العبرية. إنهم موجودون على الأرض، إسوة بباقي الكائنات الحية، لكنهم غير موجودين في الممارسة الدستورية، مما يعني أن حضورهم محض مادي وبيولوجي. لذلك فإن حقوقهم تقف عند حدّ تأمين البقاء المعيشي، كل يوم بيومه.
وتتكرّر هذه المعادلة منذ سنة 1948، أي منذ أكثر من نصف قرن على إنشاء دولة إسرائيل، الأمر الذي يشير إلى أن المسألة ليست مجرد صدفة أو خطأ في التقدير. إن المسألة العنصرية هذه كيانيّة، ترافق الكيان طالما هو قائم على أسس الافتراضات الصهيونية القائلة بأن فلسطين أرض بلا شعب، والدينية القائلة بأن الشعب اليهودي (الذي من أجله أوجدت دولة إسرائيل) شعب مختار من الله.
فالعنصرية الدينية، والتي تمارس على الأكثرية المسلمة والأقلية المسيحية على السواء في إسرائيل، عنصرية نبذ للآخر سرعان ما استغلّها الكونكيستادورس الإسرائيليون لصالح أغراضهم السياسية. فتناسق الموقف السياسي مع المنطلق الديني العام، جعل من العنصرية الصهيونية أداة تفكير وعمل يغرف منها الكل أعماله. ولذلك نلاحظ أن لا توبيخ ضمير لا عند أبناء الطبقة السياسية ولا عند أبناء الطبقة الدينية في إسرائيل، لشدّة ما احتوتهم التصوّرات العنصرية التي أتت منسجمة مع مصلحة الطرفين.
ويذكرنا نبذ الفلسطيني إلى عالم الحيوانات وحتى إلى عالم الحشرات، في الوجدان الإسرائيلي السياسي، بموقف البيض في دولة جنوب أفريقيا السابقة، حيث كانت إيديولوجية الدولة تعامل أبناء البلد السود على أنهم أشبه بالبهائم، فلا يسكنون مع البيض ولا يخالطونهم ولا يعملون معهم سوى على قاعدة رئيس ومرؤوس.
وهذا ما يقودنا إلى الكلام عن البعد الثالث للعنصرية الصهيونية التي لا تكتفي بالقهر السياسي والمعرفي فحسب، بل تضيف إليهما القهر الإقتصادي.
ويتمثل هذا البعد الإقتصادي للعنصرية الصهيونية في نمط التعامل مع شعب وخيرات أرض فلسطين. فالأرض مصادرة وملكيتها ومجيّرة بقوة المال ثم السلاح إلى المغتصبين والمستوطنين الجدد الذين يعملون على تحويل القرى الفلسطينية السابقة، المهجورة، إلى خرائب، ثم يبنون بالقرب منها مستوطناتهم. وفي الخطوة التالية، بعد عدة سنوات، تعلن السلطات الحكومية ضم هذه الخرائب إلى مشاعات المستوطنات المجاورة لها. فتذهب بعدها بقايا بيوت القرى الفلسطينية، الواحدة تلو الأخرى، تحت شفرات الجرافات وتزول؛ ويحل اسم المستوطنة الإسرائيلية مكان القرية الفلسطينية على الخرائط الرسمية.
هذه السياسية الظالمة هي التي شكلت منطلق اقتصاد العنصرية الصهيونية التي عمدت مباشرة إلى مصادرة الأرض بغية استغلالها لمصلحة رعاياها وأنصارها. وتشبه هذه العملية مصادرة الإستعمار الفرنسي، في نهاية القرن التاسع عشر، للأراضي الجزائرية الأكثر خصباً، في السواحل، لمصلحة المستعمرين الفرنسيين.
فالعنصرية الصهيونية التي لا تقيم وزناً للعنصر البشري الفلسطيني، والتي لا تعترف به على المستوى الإنساني، لن تتمكن من التعامل مع الأرض الفلسطينية على أساس عادل وعلى أساس أنها تخص شعب هذه الأرض. فاستلاب إنسانية الأفراد يستتبع سلباً مماثلاً للأرض، في إطار تناسق منهجي وبنية في التفكير واحدة. وهذا يعني أن الثروة التي يسعى إلى تجميعها أتباع العنصرية الصهيونية هي ثروة ناتجة عن عملية سلب كبيرة.
فتماماً كما أن النظرية الإستعمارية قامت على عملية سلب منهجية كبيرة، في ثلثي أراضي المعمورة، خلال القرون الثلاثة الماضية، فإن النظرية الصهيونية، القائمة على العنصرية، قد سعت لتحقيق هذا المشروع الطوباوي أولاً في أرض أوغندا، ثم في أرض فلسطين لأسباب استراتيجية ، وبالتنسيق مع القوى العظمى الغربية آنذاك.
لكن، لو قام المشروع في أوغندا، لحصلنا على دولة جنوب أفريقيا ثانية في القارة السوداء، ولو قامت في أي مكان آخر لجاءت هذه الدولة على الصورة التي هي عليها الآن. فالمشكلة ليست فقط في قيام الدولة، بل ايضاً في تأسيسها على ذهنية عنصرية، تأبى التعامل مع الإنسان الآخر، وتطمع في سرقة خيراته وأرضه، وتعمل على ذلك بإصرار أعمى.
فمشكلة العنصرية الصهيونية الكبرى هي أنها عاجزة عن تصور الآخر مساوٍ للإنسان اليهودي على قدم المساواة. فتتعامل معه بذهنية القهر المتعمد. فطرد الفلسطينيين من أرضهم عام 1948 جاء من وحي هذه الذهنية. وكذلك طرد المزيد منهم خلال الحروب الإسرائيلية العربية التالية. وأيضاً وضع اليد على أراضي وممتلكات الذين غادروا، وإعتماد سياسة جعل المستوطنات الإسرائيلية تلتهم الأراضي الفلسطينية تدريجاً.
فالعمران الاقتصادي في دولة إسرائيل الحالية لا يقوم على خيرات وقدرات وطنية متراكمة، بل على قاعدة أساسية تتمثل في سلب خيرات وأرض أهل فلسطين. وميزة العنصرية الصهيونية في هذا المجال أن تعاملها مع هذه المسألة، من وحي فكرها، قد أضحى قانونياً، إذ أن التشريعات الإسرائيلية تقر بعمليات الضم القسري وتمنحها غطاءً قانونياً، وتتعامل مع أراضي “الحاضرين الغائبين” على أساس تجييرها لمصلحة المواطنين الإسرائيليين.
فالعنصرية الصهيونية، المتغلغلة في ثنايا الفكر والممارسة، في مجالات الحياة اليومية والعملية كافة، في إسرائيل وعبر الشتات اليهودي عموماً، تتعامل مع الآخر على أساس المعاداة الدائمة. وهي لذلك لا تسمح لأتباعها بمشاركة الفلسطينيين في عمران دولتها، بل أنها تتعامل معهم على أساس أنهم يشكلون مجرد يد عاملة رخيصة، في مجال البناء بشكل خاص، وتحجب عنهم مراكمة رساميل ذات وزن، لكي تبقى المعادلة كما هي داخل البلاد.
فالشعب الذي يعتبر نفسه مختاراً من الخالق، يعتبر نفسه سيداً على الشعوب الأخرى. من هنا فإن الكائنات الأخرى لا يحق لها، في منظوره المتعالي والمستكبر، أن تساويه شأناً، لا في الحقوق السياسية والمدنية، ولا في الخيرات. فالعوج المعرفي الذي تقوم عليه هذه المعادلة الإيديولوجية، المركبة تركيباً، عوج مشوّهٌ للشؤون كافةً وفي كل المجالات.
لكن العنصرية الصهيونية بحاجة إلى وقود لتغذية محركاتها الذهنية والعملانية، وهذا الوقود هو الحرب.
فلو قارنا بين العنصرية الصهيونية والعنصريات الأخرى التي عرفتها البشرية، للاحظنا أن الأولى تتميز بإعتمادها البنيوي على الحرب. فهي غير قادرة على الإستمرار بدون استمرار حالة الحرب والعداء، داخلياً مع الفلسطينيين وخارجياً مع العرب عموماً.
هناك عنصريات ساكنة، كعنصرية الأوروبيين تجاه أبناء مستعمراتهم السابقة. هذا الصنف من العنصرية، على النمط الروماني أو الإغريقي، ينطلق من إدعاء التفوق الحضاري. فاستكبار أصحابه استكبار حضاري على خلفية استكبار عرقي. لكنه حضاري في الأساس لأنه ينطبق أيضاً على شعوب من العرق نفسه. فالسويسريون مثلاً لا يستكبرون فقط على العمال المهاجرين ذوي البشرة السمراء، الآتين من أفريقيا، بل أنهم يستكبرون أيضاً على العامل المهاجر الإيطالي ويعاملونه عنصريا، مما يعني أن العنصرية تقوم هنا على موقف استكبار وتعالي، يطبق بالتدريج على كل الذين يتعامل معهم صاحب الموقف العنصري.
فداخل العنصرية الكبرى تجد سلسلة عنصريات صغرى، مبنية على أساس العنصرية الأم. إلا أنها تتبع تدرجاً ومواقف مختلفة. فالعنصرية الصهيونية، الموجهة ضد الآخر، المتمثل حالياً بالإنسان العربي، تحمل في أحشائها عنصرية داخلية، تقوم بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين.
لكن الفرق بين العنصرية الصهيونية الأم والعنصرية الداخلية التي تدور في فلكها، أن الثانية عنصرية ساكنة، تعمل على لجم الآخر واستبعاده عن مراكز القرار والسلطة، وعلى إبقائه في وضعية دونية، دون أن تعمل على محو هذا الآخر من الوجود.
أما العنصرية الصهيونية الأم، فهي تنتمي إلى صنف عنصريات الإلغاء، التي تختلف عن العنصريات الساكنة في أنها تهدف، بشكل متعمد، إلى محو الآخر من الوجود بشتى الطرق، أو استغلاله إلى أقصى الحدود وبدون رحمة إنسانية، كما كانت الحال في عنصرية الإستعباد التي مارستها شعوب بيضاء عديدة في سابق الأزمنة.
فالعنصرية الساكنة غالباً ما تقوم على إدعاء التفوق الثقافي والحضاري والتكنولوجي، وهي مسالمة لكونها تهدف إلى الإستكبار على الآخر، لا إلى محوه. وهي منتشرة بين جميع شعوب الأرض، والأمثلة عليها ضمن أي بلد من بلدان العالم كثيرة جداً، شمالاً وجنوباً.
والعنصرية الأفتك والأشرس هي عنصرية الإلغاء التي تدخل في عدادها العنصرية الصهيونية والعنصرية الصربية والعنصرية النازية. فهذه العنصريات لا تقوم على ادعاء في التفوق الحضاري فحسب، في المجالين الثقافي والتكنولوجي، بل أيضاً على استكبار كلي، ثقافي وديني وتاريخي، بحيث أن الخيار الوحيد المطروح في هذه الإيديولوجية هو استعداء الآخر بشكل دائم والسعي لإبادته بقوة السلاح والمال.
من هنا دمويّة العنصرية الصهيونية التي تحتاج إلى إلغاء الآخر حاجة بنيوية. ففي هذا السياق، الحرب هي الخيار الوحيد المطروح، دون بدائل. فبالحرب يسعى صاحب العنصرية الصهيونية إلى كسر الآخر ومحوه من الوجود، حيث أن الآخر لا قيمة له بحد ذاته في نظره.
ولإبقاء نفسها على النار، تعتمد العنصرية الصهيونية على ثلاث مؤسسات إجتماعية رئيسة هي الأسرة والمدرسة والمؤسسة العسكرية. أما الملاك الحارس لهذه المؤسسات الثلاث فهو القضاء الإسرائيلي، العامل الدؤوب على إستمرارية المكتسبات الصهيونية.
ففي إطار الأسرة الإسرائيلية تكرار دائم لمقولات تفوق الشعب اليهودي وتمايز الذكاء الخاص بهذا الشعب، وديمومة العداء له، واضطهاده التاريخي في أقطار العالم كافة، ماضياً وحاضراً، بحيث أن الطفل الإسرائيلي ينشأ، داخل منـزله الأسري، على أحكام عامة ومطلقة سرعان ما يعمد إلى اعتمادها في وعيه وفي حياته اليومية. وقد أشارت أخيراً الصحافة العالمية إلى أن السواد الأعظم من الأطفال الإسرائيليين يتمنون الموت للأطفال الفلسطينيين والإصابة بالإيدز. فهذا الموقف لا يأتي من فراغ، بل أنه ينبع من تنشئة إجتماعية طويلة، في أحضان العائلة، يتشرّب فيها الطفل العنصرية الصهيونية يوماً بعد يوم.
أما المدرسة فهي المؤسسة العامة التي تعيد إنتاج العنصرية الصهيونية بشكل منهجي، في التكوين العقلي العام لتلاميذ دولة إسرائيل الذين ينشأون فكرياً على مفاهيم للتاريخ والجغرافيا والثقافة والدين تتلاءم مع إدعاءات الشعب المختار، والعداء للآخر، والتفوق الحضاري و التاريخي.
أما المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فهي الحصن الحصين للعنصرية الصهيونية، حيث تؤَكَد الأحكام العامة العدائية والدموية بشكل إطلاقي. فينشأ المجندون، وهم من فئة الشباب، على كراهية الفلسطينيين والعرب بشكل متواصل، من خلال زجهم في مواجهات دائمة مع الشباب الفلسطيني، بحيث تنتفي لاحقاً الإستعدادات للحوار بين الطرفين. علاوة على أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أضحت تضم اليوم أعداداً متزايدة من الضباط المتخرجين من مدارس للتعليم الديني اليهودي الأصولي. فمن أصل 2000 خريج أصولي تخرجوا من إحدى عشرة مدرسة من هذه المدارس (والتي تطلق عليها تسمية يشيفوت هيسدر) 70 في المئة منهم، أي 1400 عنصر، قد دخلوا خلال السنوات الماضية المدرسة الحربية وتخرجوا ضباطاً (7)، الأمر الذي يشير إلى الدور المحوري الموكل للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية الحالية، في توطيد وإعادة إنتاج مبادئ العنصرية الصهيونية والفكر الصهيوني عامة، كما يشير إلى زتطلبنس هذه المؤسسة من ناحية أخرى.
كيف الوقوف أمام المدّ العنصري؟
هذا هو السؤال الذي شغل الرأي العام العالمي، بخاصة في البلدان الديمقراطية. وقد جاءت الإجابة عند بأشكال مختلفة. فعلى الصعيد العملاني لجأت الدول الديمقراطية الغربية إلى إرساء تحالف سياسي وعسكري فيما بينها، مطلع الحرب العالمية الثانية، بهدف كسر العنصرية النازية كسراً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. وهذا ما حصل فعلاً في نهاية الحرب. فالعنصرية النازية لم تنتج سوى الحرب، ومعالجتها لم تأتِ سوى عن طريق الحرب نفسها.
لكن مؤسسات دولية، كمنظمة الأمم المتحدة، حاولت من ناحيتها استكتاب مفكرين عالميين كباراً للتذكير بأهمية شرعة حقوق الإنسان التي أطلقتها الثورة الفرنسية قبل قرنين من الزمن. كما أن عدداً آخر من هؤلاء المثقفين قد قام بتأليف كتب رصينة جداً تظهر زيف المقولات العنصرية، واعتماد البشرية جمعاء، في السابق كما في الحاضر، على التنوع الثقافي كأساس للتبادل الحضاري. ومن أبرز هذه المؤلفات كتاب الأنتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ـ “شتروس العرق والتاريخ” ([8]).
فمعالجة العنصرية النازية جاءت عسكرية وثقافية على حد سواء.
أما العنصرية الصربية فقد جابهها تحالف الدول الغربية أخيراً، عسكرياً، بتدمير آلتها الحربية، ولكن دون محوها من النفوس، إذ بقي السواد الأعظم من الصرب على موقفهم العنصري السابق، لا بل إزدادوا حقداً.
أما العنصرية الصهيونية فلم يجابهها الغرب حتى الآن لا عسكرياً ولا ثقافياً، تاركاً إياها تسرح وتمرح في الشرق الأوسط بحرية كبيرة. لكن فوائد هذه العنصرية التي استثمرتها الدول الغربية طويلاً لمصلحتها، بدأت تنقلب مفاعيلها على الغرب نفسه. بحيث أن هذا الأخير سيضطر، عاجلاً أم آجلاً، للتعامل معها بشكل مختلف، فيعالجها بالطرق المناسبة.
أما نحن فسنبقى نتصارع مع هذه العنصرية إلى أن تأتي ساعة زوالها.
[1] Karl POPPER, la société ouverte et ses ennemis, 2 tomes, ed. du Seuil, Paris, 1979
[2] صاعد الأندلسي ، طبقات الأمم ، منشورات دار الطليعة ، بيروت ، 1984 .
[3] Charles-Louis de MONTESQUIEU, Lesprit des lois, Genève, Suisse, 1748
[4] Lucien LEVY-BRUHL, Les fonctions mentales dans les sociétés inférieures, P.U.F., Paris, 1910.
[5] Homo Homini lupus
[6] René GIRARD, La Violence et le Sacré, ed. Grasset, Paris, 1972.
[7] Sylvain CYPEL, "La mentalité et le profil des cadres de l’armée israélienne”, in Le Monde, 3 Octobre 2001.
[8] كلود ليفي - شتروس، العرق والتاريخ، ترجمة سليم حداد، منشورات نجد، بيروت، 1982