- En
- Fr
- عربي
قضايا ساخنة
استقلالية القضاء شرط ضروري لتمكينه من تأدية دوره في تنفيذ القانون ومعاقبة المرتكبين.
ما هو تحديدًا مفهوم استقلالية القضاء، وهل يعني ذلك إرساء فصل تام ومطلق بين السلطات؟ وما هي آليات استرداد الأموال المسروقة والمنهوبة؟
الدكتورة حلو
الدكتورة ماري حلو رزق (أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية في مادة القانون الجزائي) تحدّثت إلى «الجيش» عن مفهوم استقلالية القضاء وكيفية تحديده إجرائيًا، فأوضحت أنّ «استقلالية القضاء كمفهوم، هي الحق الذي تَملكه السلطة بعدم الخضوع إلى هيمنة سلطة أخرى، وهو ينبثق من مبدأ فصل السلطات، والذي يعرَّف بالتالي: «توزيع السلطات على أجهزة الدولة، بحيث يقوم كل جهاز على حدة بوظيفة تختلف عن الأخرى». وعادة يتمّ الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية».
ومن هنا ننطلق من مبدأ فصل السلطة القضائية عن غيرها من السلطات الأخرى وأهميته، فلكلّ سلطة وظيفتها.
وأضافت: إنّ الدستور اللبناني أسّس لسلطة قضائية فعلية مستقلّة، بدليل ما جاء في الفقرة (هـ) من مقدمته حول قيام النظام على الفصل بين السلطة وتوازنها وتعاونها من جهة، والمادة عشرين منه التي أشارت إلى أنّ السلطة القضائية تتولاها المحاكم (الباب الثاني – الفصل الأول، أحكام عامة) من جهة أخرى.
والمقصود بالاستقلالية القضائية التي نطالب بها اليوم، ليس الفصل التام والمطلق بكل ما للكلمة من معنى، بل إنّ مبدأ الاستقلالية القضائية يُؤخذ بمعيارين، أحدهما خارجي وآخر داخلي.
- المعيار الخارجي: هو علاقة السلطة القـضـائيـة بالسلطـتـيـن التنـفـيـذيـة والتشريعية. فالأولى تعمل على تعيين القضاة من جهة، والثانية تعمل على تشريع القوانين ولا سيما تلك المتعلقة بالتنظيم القضائي والمحاكم من جهة أخرى. كما يشمل هذا المعيار علاقة القضاة بالمتقاضين والإعلام.
- المعيار الداخلي: هو علاقة القضاة بعضهم مع البعض الآخر، وعلاقتهم بالجسم المهني كالنقابات. وإذ تساءلت الدكتورة الحلو عن كيفية تطبيق هذه المعايير في القانون اللبناني، أشارت إلى تجربة القانون الفرنسي، الذي تناول مبدأ استقلالية القضاء في دستور ١٩٥٨. وقد أسهمت التعديلات اللاحقة، خصوصًا تعديل ٢٨ تموز ١٩٩٣ وتعديل ٢٥ تموز ٢٠٠٨، في إعادة التوازن في مجلس القضاء الأعلى، وتفعيل صلاحياته وإبعاد تدخّل السلطة التنفيذية في عمله.
ولكن على الرغم من هذه التعديلات التي حققت مبدأ فصل السلطات في فرنسا، فإنّ الفصل التام بين السلطتين التنفيذية والقضائية لم يحصل.
أما عن المطالب اللبنانية اليوم حول استقلالية القضاء فأوضحت الدكتورة حلو أنّه يوجد في المجلس النيابي أكثر من مشروع قانون يضع تصوّرًا للسلطة التشريعية في ما يتعلّق بقضية الاستقلالية وإعادة هيكلة السلطة القضائية، ولكنّ درس هذه المشاريع يحتاج إلى وقتٍ طويل، للوصول إلى مشروع متكامل، يحقّق مبدأ الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية.
وأشارت في هذا السياق إلى البيان الصادر عن مجلس القضاء الأعلى في ١١/١١/٢٠١٩، والذي يطلب بموجبه تعديل المادة الخامسة من القانون العدلي، ما يعطي مجلس القضاء الأعلى صلاحية إجراء المناقلات والتشكيلات القضائية، من دون الحاجة إلى استصدار مرسوم لذلك.
وقالت: تكمن أهمية تعديل المادة الخامسة في إطلاق يد مجلس القضاء الأعلى في إجراء التشكيلات فور صدورها وتطبيقها من دون المرور بالسلطة التنفيذية، ما يعني وضع حجر الأساس لمبدأ الاستقلالية وفصل السلطات. ومع تحقيق هذا الإنجاز نكون قد دخلنا في تطبيق المعيار الخارجي، من خلال تعاون السلطة التشريعية في إقرار تعديل هذه المادة من قانون القضاء العدلي، بدلًا من تعديل القانون نفسه، أو إعداد قانون جديد يرسي فصل السلطات، فهذا الأمر يحتاج إلى وقت طويل. وهكذا تكون المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي قد أسهمت في إبعاد السلطة التنفيذية عن قضية التشكيلات القضائية.
وقد يبدو ما يُطرح اليوم في المجلس النيابي، جدّيًا ومفيدًا للسلطة القضائية لناحية إضافة أعضاء من خارج الجسم القضائي الأعلى ذوي خبرة في القانون (محام، أستاذ جامعي) لتكوين مجلس قضاء أعلى حديث النهج والفكر...
واعتبرت الدكتورة حلو أنّه «نظرًا للحاجة المُلحّة والسريعة، ونظرًا لدقّة المرحلة، وتحسّبًا لاحتمال وجود تباين في وجهات النظر بين السلطة القضائية والوزير (السلطة التنفيذية)، نرى أنّه من الأفعل والأجدى، كخطوة أولى، تعديل المادة التي سبق ذكرها بانتظار صدور قانون جديد للتنظيم القضائي، يُحدث تعديلًا جذريًا ويحقّق الاستقلالية القضائية المطلوبة».
الأموال المنهوبة وآليات استردادها
وعن آليات استرداد الأموال المنهوبة، أوضحت أنّ هذه الآليات تختلف باختلاف مكان وجود الأموال. فإذا كانت في داخل البلاد، أي في أحد المصارف، تُطبّق الآلية العادية، أي التقدّم بشكوى أمام النيابة العامة، ثم تُحال القضية إلى المحكمة، ويُصار بعدها إلى حجز هذه الأموال ومن ثمّ استردادها. أما إذا كانت الأموال المنهوبة معلومة ومعروفة المصدر (بعد إجراء التحقيقات المعمّقة وفق تقنيات حديثة)، وموجودة في أحد المصارف الخارجية، فعندها تُشكّل لجنة تعمل على استردادها، من خلال مخاطبة الدولة المُضيفة بواسطة وزارة الخارجية والمغتربين، والتي تقوم بدورها التنسيقي مع تلك الدولة، فيُصار إلى حجز الأموال، ويتمّ استردادها وفق الآليات القضائية المعيّنة، والتي تَفرض نفسها في حينها.
وثمّة احتمال آخر، هو أن يكون قد تمّ تبييض هذه الأموال من خلال شراء عقارات، وإنشاء شركات وتسجيلها بأسماء مختلفة، وعندها تحتاج عملية استرداد هذه الأصول إلى إجراءات طويلة وآليات دقيقة ومعقّدة.
وأكّدت أخيرًا أنّه «ثمّة تجارب عالمية في مجال استرداد الأموال المنهوبة، منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي. والأمر مرهون بمدى كفاءة الاختصاصيين وجدّيتهم بالمتابعة. ولقد لمسنا اليوم استعداد خبراء عالميين ذوي خبرة عالية في هذا المجال لمساعدة لبنان، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى عنصرَي الوقت والمال. وجدير بالذكر هنا، أنّه في معظم الجرائم التقليدية تكون الضحيّة معروفة، ولكن في حالة الأموال المنهوبة، الضحيّة هنا هي الدولة، وإذا تضرّرت بشكل كبير، تضرّر معها المجتمع وانهار الهيكل على رؤوس الجميع».
وتجد حلو أنّ الفرصة متاحة أمامنا اليوم بشكل كبير وجدّي، في ظلّ جيل واعٍ. ولكن للأسف، تحكم لبنان الطوائف والأحزاب والانتماءات، ما يزرع الألغام في وجه تحقيق العدالة ومكافحة الفساد.
الفرق بين الأموال المنهوبة والمسروقة
السرقة: هي الاستيلاء عنوة أو خفيّة على مال الغير بقصد التملّك، وقد تقتصر عملية السرقة على بعض الأشياء.
النهب: هو الاستيلاء على كل شيء، وتتمّ هذه العملية عادة في أثناء إدارة الشأن العام.
الآليات الدولية المعتمدة لاسترداد الأموال المنهوبة
يقول البروفسور نصري أنطوان دياب في مقال له نشرته جريدة «الجمهورية» (الجمعة ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٩) إنّ عملية تعقّب الممتلكات العامة المنهوبة واسترجاعها ليست بالأمر المستحيل، لكنّها تحتاج إلى آلية واضحة وشفّافة تعتمد خطوات أساسية للوصول إلى الهدف، أبرزها تقييد قانوني واجتماعي لناهبي الممتلكات العامة، وتبديد أفكار مغلوطة من بينها ما يتعلق بآليات تعقّب واسترجاع الممتلكات المنهوبة، والتي تبدأ بالتدقيق التقليدي في الحسابات العامة وصولًا إلى التعقّب والاسترجاع الدوليين.
ويوضح دياب أنّ تعقّب واسترجاع الممتلكات العامة المنهوبة اتفاق وقّعه الرئيسان الكيني والسويسري، أوهورو كينياتا وآلان بيرسيت في تموز ٢٠١٨، وعُرِفَ بـ FRACCK، أي إطار عودة الممتلكات الناشئة من الفساد والجريمة في كينيا Framework for the Return of Assets from Corruption and Crime in Kenya.
ويهدف هذا الاتفاق إلى استرداد الأموال المنهوبة من قِبل مسؤولين كينيين فاسدين، والمخبأة في المصارف السويسرية. وقد ساعدت حكومة سويسرا في إيجاد الممتلكات المنهوبة وفي تجميدها، قبل إعادتها إلى كينيا. بالإضافة إلى ذلك، خضع موظفو الخدمة العامة داخل كينيا جميعهم لعمليات التدقيق في نمط الحياة Lifestyle وأُلزموا بتبرير مصادر ممتلكاتهم.
وحينما يصبح لبنان مستعدًا لبدء المسيرة الطويلة والشاقة، ولكن المرضية جدًا، في تعقّب ممتلكاته المنهوبة لعقود من قِبل آلاف العاملين في الخدمة العامة، والمسؤولين والسياسيين، لن يكون وحيدًا، ولن يُبحِر في مياه مجهولة.
خطوة خطوة
انطلاقًا من هذا الاتفاق يرى دياب أنّ لبنان يمكن أن يعتمد خطّة لاسترجاع الأموال المنهوبة، وذلك وفق الآتي:
- أولًا: التدقيق التقليدي في الحسابات العامة.
يجب إجراء تدقيق شرعي Forensic شامل لكل الحسابات العامة منذ العام ١٩٩٠ في لبنان من قِبَل محاسِبين مستقلين (ومن المفضّل أن يكونوا دوليين). وعلى هؤلاء التدقيق في الحسابات وفي مبررات الدفع، وصِحّة المناقصات والتعاقدات وغيرها. ومن الواضح أنّ النموذج الحالي من موازنة، وقطع حساب، وديوان محاسبة، وغيرها، ليس فعّالًا.
- ثانيًا: التحقيق مع كل ناهبي الممتلكات العامة المشتبه فيهم. لا يجدر تضييع الوقت والطاقة على قتال دونكيشوتي لرفع السرية المصرفية، قبل إجراء عمليات تدقيق أولية لنمط الحياة تشمل المشتبه فيهم.
- ثالثًا: تعقّب الممتلكات العامة المنهوبة.
واقعيًا، ناهبو الممتلكات العامة، يعرضون على العلن عائدات سرقاتهم من خلال نمط حياتهم.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يُستدعى المحققون الخاصون، والمختصون في الأدلة الجنائية المالية والحسابية، وتقنيو تكنولوجيا المعلومات، وبشكل روتيني، لتعقّب التدفقات المالية الخارجة من الحسابات العامة وانتقالها إلى أفراد أو كيانات خاصة، ولتعقّب مسارها في لبنان (أي الإيداعات المصرفية والاستثمارات في الشركات والاستثمارات العقارية).
- رابعًا: التعقّب والاسترجاع الدوليان.
وضعت الأمم المتحدة أداة دولية مهمة، ودخلت حيّز التنفيذ في شهر كانون الأول من العام ٢٠٠٥، وهذه الأداة هي «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد». وتلك كانت أول أداة أمميّة تتناول مسألة استرجاع الممتلكات المنهوبة كأولوية في مكافحة الفساد، وتهدف إلى العمل بمثابة معاهدة مساعدة قانونية متعددة الأطراف.
منذ ذلك الحين، وإلى جانب الآليات الخاصة الثنائية الأطراف، تمّ وضع العديد من المبادرات الدولية لدعم جهود تعقّب الممتلكات العامة المنهوبة من قِبل المسؤولين الفاسدين واسترجاعها. وإنّ «مبادرة استرجاع الممتلكات المنهوبة»، وهي شراكة بين البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة UNODC، تعمل مع دول نامية لتسهيل عودة الممتلكات المنهوبة وعائدات الفساد.