- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
هل يختلفان أم يلتقيان؟
هل صحيح أن كل ما نفعله ونتفوّّه به يصدر عن إرادتنا، أم أنه مرتبط بخلفيات متجذّرة في لاوعينا؟ وإذا كان الإفتراض الأخير هو الأقرب الى الواقع العلمي في الوقت الحاضر، فإلى أي حدٍ يمكن للوعي أن يؤثر في اللاوعي والعكس بالعكس؟
أسئلة كانت قبل عقود، ما تزال ألغازاً محيّرة، وخصوصاً قبل اختراع تقنيات التصوير الحديثة، وفي مقدّمها التصوير بالرنين المغنطيسي (IRM)، وهي تقنية تسمح حالياً بمتابعة نشاط الدماغ في أثناء الانفعالات المختلفة، وهو ما أتاح مؤخراً تحقيق الدمج بين علم الأعصاب والعلاج النفسي التحليلي، أو العلاج بالكلام.
كيف حدث ذلك؟
باعتبار أن التقنية المشار اليها تؤمن قياس أنشطة الدماغ بشكل مباشر، واختباراتها على المرضى والأصحاء، أتاحت مؤخراً مراقبة التفاعل بين مناطق الدماغ، وتحديداً في أثناء المراحل التي يتمّ خلالها قمع الذكريات الأليمة واسترجاعها. وهذا ما أعاد الى الأذهان مفاهيم التحليل الفرويدي، أي تلك المرتكزة على القوى الداخلية الخارجة عن الوعي، والمؤثرة في التفكير والسلوك.
وعلى هذا الأساس، تمّ الأخذ بالاعتبار أن العملية المحرّكة للوعي هي عملية دفاعية، تطغى على النزوات الانفعالية، وتتمثّل بردّات فعل تمنع الأفكار غير المرغوب فيها من التسرّب الى الوعي. إنها بمعنى آخر آلية دفاع قوامها القمع والكبت والتفكك.
القمع والكبت وتأثيرهما على السلوك
القمع كما فسّره المحلل النفساني سيغموند فرويد العام 1892، هو كبت إرادي. وهو يحصل عندما يدفع الوعي الأفكار والأحاسيس والذكريات، وأحلام اليقظة غير المرغوب فيها الى خارج دائرة الوعي.
ويعتبر القمع أكثر ارتباطاً بالتجارب الضابطة، أي التي تُجرى للتأكد من صحة تجارب أخرى. وهو بعكس الكبت الذي يحقّق هدفاً مماثلاً، ولكن بطريقة لا إرادية.
لنأخذ على سبيل المثال الحزن على موت عزيز أو قريب، أو بسبب إنقطاع علاقة حميمة. في حال كهذه، يتمكّن أيّ منا بإرادته قمع أو تحييد الأفكار الأليمة ليتمكّن من متابعة حياته العادية. وهذا ما يحصل ايضاً بالنسبة الى المشاعر والنزوات بما فيها الحب والحسد والكراهية وسواها. لكن للأسف، فإن النبضات أو الدوافع المسيّرة لهذه المشاعر والنزوات قد تظهر خفيّة الى العلن بأشكال يُساء فهمها، حتى من قبلنا.
فالكبت الجنسي مثلاً، قد يظهر بشكل تصرّفات أو زلّات لسان تفضح مكنوناتها. وقد تؤثر الأفكار المنسية والدوافع المكبوتة على السلوك، أو تظهر بشكل عوارض مَرَضية، أو حتى أمراض عقلية.
وعلماً أن الكثيرين كانوا يعتقدون أن الأمراض التي تنجم عن القمع والكبت، هي مجرّد خرافة لا يعرف بها الطب، إلاّ أنّ المعطيات التي سبق وأشرنا اليها أكّدت العكس.
تأثير القمع والكبت في الجهاز العصبي
أهم هذه المعطيات كانت تلك التي أفرزتها تجارب أجراها المعالج النفساني ميشال أندرسون مؤخراً في جامعة كاليفورنيا. وكانت هذه التجارب قد أخضعت مجموعات من المتطوّعين للتصوير الدماغي، من أجل دراسة تأثير قمع الأفكار والذكريات على الوعي. وفي أثناء ذلك، تمّ التأكّد من أن عملية القمع الإرادية التي كان يمارسها المتطوّعون، تسبّبت بزيادة نشاط الدماغ بشكل لافت، الأمر الذي تجلّى تأثيره بوضوح في الجهاز العصبي. وهي حقيقة كان قد تعرّف اليها سيغموند فرويد منذ أكثر من قرن. والمعروف أن فرويد كان طبيباً نفسياً واختصاصي أعصاب بالممارسة.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار العلاقة بين عمليتي التحكّم الإرادي واللاإرادي بالأحاسيس والنزوات، وبين آلية الدفاع المتحكّمة بالسلوك، والتي أكّدتها التجارب العلمية الأخيرة، يسهل علينا الانتقال بهذا المفهوم، من المجال التحليلي الفرويدي، الى الحقل الفيزيائي، أو تحديداً الى عمل الخلايا العصبية الدماغية.
فالحقائق الملموسة التي أكّدتها الصور الحيّة لأدمغة المتطوّعين في أثناء عملية القمع، أثبتت أن بعض أقسام الدماغ المتعلقة بالتحكّم التنفيذي، والواقعة في القشرة الدماغية الأمامية (Pre frontal Cortex) يحول دون وصول المعلومات المكبوتة كافة الى مراكز الذاكرة، وخصوصاً الى منطقة قرن آمون (Hippo - Campus).
هذا يعني أن الدماغ في مرحلة قمع الذكريات أو كبتها والأفكار والأحاسيس، يكون أنشط من المراحل التي يتذكّرها فيها. وهو ما يضرّ بالتواصل العصبي، وقد يتسبّب بتفكّك عملية الوعي، وصولاً الى مرض الفصام أحياناً. وهنا لا بد من الإشارة الى دور الإستعداد الوراثي المقرون بالضغوط البالغة القسوة، والتي تتسبّب بإشعال فتيل المرض.
بعيداً عن المشاعر
حسب تأكيد الطبيب النفساني الفرنسي بيير جانيت، والذي أشارت اليه مجلة العلوم الأميركية، فإن انفصام الشخصية يحصل في حال انفصال المشاعر والأحاسيس والذكريات عن باقي المقومات النفسية، أو الإدراكية. وبرأيه، فإن الأشخاص الأصحاء يعانون أحياناً حالات من الفصام، تتجلّى بالضياع أو التفكّك أو التشرذم. والنماذج على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال: نسيان الهدف الذي من أجله تمّ الذهاب الى مكان ما أو التصرّف بشكل غير واعٍ في مناسبات تفرض الوعي والجدية، الى ما هنالك من سلوكيات غريبة تحرج أصحابها ولا يعلمون لماذا حصلت.
لكن المعروف أن أقصى حالات الفصام هي التي تتمثّل بالمرض العقلي المعروف بانفصام الشخصية، أو اضطراب الهوية الفصامي. وهو مرض ذهاني أبرز أعراضه ظهور شخصيتين منفصلتين، يميّزهما اختلاف في المشاعر وردّات الفعل والمزاج ورؤية الذات والغير. وهي بمجملها انفعالات متضاربة تسيطر على وعي المعنيين بها وسلوكهم بأشكال مختلفة. وحسب الطبيب جانيت، فإن السبب الرئيس لهذا المرض هو تفكّك الهوية وليس كما هو معتقد، تعدّد الشخصيات.
كيف يحصل تفكّك الهوية؟
حسب نتائج الأبحاث التي أشارت اليها مجلة العلوم الأميركية، فإن مرض الفصام البيولوجي المنشأ، والذي يعالج بالأدوية الكيميائية، يصيب بشكل عام الأشخاص الذين سبق وتعرّضوا لأحداث وصدمات طفولية منها على سبيل المثال: الإهمال والعنف العائلي، والإساءة الجنسية، وفي مقدّمها الاغتصاب. وهي أحداث قد تكون مؤلمة الى درجة يصعب الاحتفاظ بها في الوعي. وعلى هذا الأساس يتمّ قمعها إرادياً من أجل الهروب من مؤثراتها. واللافت أن عملية الهروب هذه، تسمح للمعنيين بمتابعة حياتهم بشكل مزدوج. فهي من ناحية تؤمن كبت الذكريات المخيفة والمقلقة أو قمعها، ومن ناحية ثانية تتيح لأصحابها الاحتفاظ بمنفذ لا واعٍ يسمح بمواصلة التفاعل مع ما تفرزه هذه الذكريات من صراعات وردّات فعل دفاعية. والمعروف أن ردّات الفعل الدفاعية المرافقة لمرض الفصام، لا تظهر عموماً إلاّ بعد سنوات من حصول التجارب الأليمة.
وكانت الدراسات البيولوجية التي أجريت على مرضى الفصام، قد جاءت مساندة للتشخيصات العيادية النفسية. وهي تشخيصات سبق وأخذت بالاعتبار أن الدماغ الناشط في أثناء مرحلة القمع، يحدث حالتين منفصلتين من الوعي الذاتي، لكل منهما طريقة خاصة في التفكير والرؤية والتذكّر.
وقد ترافق هاتين الحالتين أعراض بيولوجية فارقة منها: تسارع دقات القلب، وتشنّج العضلات، إضافة الى أمراض جسدية في مقدّمها ارتكاسات الحساسية وتغيّرات في إفرازات الغدد الصماء. وقد تنعكس بشكل أمراض بالغة الخطورة في مقدّمها فقدان البصر.
بالنسبة الى فقدان البصر، أشارت إحدى الدراسات الى أن إحدى السيدات استعادت بصرها بعد حوالى خمسة عشر عاماً من فقدانه، وذلك على أثر خضوعها للعلاج النفسي التحليلي.
ما هو الجديد في هذا المجال؟
بحسب الإختصاصيين، فإن مرض الفصام لا يرتبط بنشاط منطقة دماغية معينة، بل بتقاطع نشاط عدة مناطق. وإشارة هنا الى أن الدمج الوظيفي بين منطقة القشرة الدماغية المسؤولة عن المشاعر والأحاسيس والأفكار، وبين المناطق المجاورة لها، يعتبر ضرورياً من أجل تماسك تجربة الوعي. وما يهم في هذا المجال، هو صحة الترابط والتواصل العصبي بين مناطق الدماغ المختلفة. وعلى هذا الأساس فإن مرض الفصام قد ينجم عن إنعدام هذا الترابط لعدة أسباب، في مقدّمها الاستعداد البيولوجي المقرون بالظروف الضاغطة. ومن هنا العودة الى نظريتي فرويد وجانيت، وبالتالي الى التشديد على العلاج النفسي التحليلي، أو العلاج بالكلام (Talking Cure)، والذي يتيح للمعنيين استعادة الذكريات المكبوتة ومعالجة مؤثراتها.
وتوجد حالياً تأكيدات على ابتكار طرق علاجية مستحدثة بالكلام الى جانب الأدوية. وهي طرق تؤمن اختبار عملية اللاوعي الدفاعية، والتي تختزن ضمنياً مؤثرات القمع والكبت، وما يتبعهما من تفكك في قواعد التواصل العصبي، وبالتالي الوعي الذاتي. وهذه الجهود ستقود حتماً الى علاجات أكثر فعالية بالنسبة الى المرضى النفسيين، وستساعد الأشخاص العاديين على تفهّم ذواتهم بشكل أفضل.