- En
- Fr
- عربي
التحوّلات الاستراتيجية التركية
المقدّمة
"رغم أنّ الدول الكبرى لا تغيّر استراتيجياتها بسهولة، فهذه الاستراتيجيات لا تُصنع بالإلهام والنزوات. ولا تتغيّر بتغيير حكم أو بسقوط رئيس أو حزب أو ملك. إلّا أنّ انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي شكّل عاملًا حاسمًا في إعادة قراءة دور الدول وبخاصةٍ عند استقراء المستقبل وإعادة صياغة استراتيجياتها كي تتلاءم مع المستجدات والتطوّرات التي طرأت على النظام العالمي الجديد"[1]. فثنائية التواجد القطبي على أرض العالم الثالث والتي كانت المحرّك الأساسي لصياغة استراتيجيات الدول قد انتهت بنهاية الحرب الباردة. وبدأت معظم الدول التي تأثّرت بهذا الصراع في إعادة رسم استراتيجياتها بهدف إعادة ترتيب أوراقها في البيئتين الإقليمية والدولية.
1- دوافع السياسة التركية الجديدة
خلال الحرب الباردة, اختارت تركيا طواعيّة البقاء عند الحد الخارجي للأقاليم المحيطة بها من دون أن تكون أي جزء منها وبالتالي من دون أي دور استراتيجي محدّد. فقد أخضعت الجمهورية التركية نفسها بعد سقوط الخلافة العثمانية، لجراحة تاريخية في فصوص المخ ما جعلها ثلاثة أرباع قرن تنفي و تختبئ من ماضيها العثماني الذي حكم فيه الأتراك إمبراطورية واسعة. وبعد انتهاء الحرب الباردة، كانت تركيا ولعدّة اعتبارات جغرافية وتاريخية من أبرز الدول التي قامت بإعادة صياغة سياساتها الخارجية بهدف تحقيق العمق الجيوستراتيجي والجيوسياسي الذي افتقدته في أثناء الحرب ويعطيها حرية التحرك الإيجابي في كل الاتجاهات وبخاصةٍ بعد زوال الخطر الكامن على حدودها والمتمثّل بالتأثير السوفياتي، فمع بروز معالم نظام عالمي جديد، كان لا بد لتركيا كما كل الدول أن تختار موقعها وتتبنّى استراتيجية جديدة تتلاءم مع المتغيرات الاستراتيجية والجيوسياسية الجديدة. في صلب هذه الاستراتيجية الجديدة - والتي بدأت ملامحها تتّضح بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2002 - عمل الأتراك على خلع ثوب عزلتهم الطوعيّة عن محيطهم الشرق الأوسطي واستبدال أوهامهم بالالتحاق بالغرب والتطلع نحو الشرق حيث التاريخ و العادات و الدين المشترك، لتعود من جديد نقطة المركز في مساحة اليابسة الأوراسية الشاسعة، وَصِلَة الوصل بين أطرافها. شكّل العالم العربي أوّل المناطق التي سعت تركيا إلى تطبيق سياستها الجديدة فيه وذلك لعدة اعتبارات اقتصادية وسياسية وجيوسياسية لا بد من ذكرها:
أ- الأهمية الجيوستراتيجية والجيوسياسية للعالم العربي:
يتمتّع العالم العربي بأهمية كبرى على الصعيدين الإقليمي والدولي، ممّا يجعله قوّة مؤثّرة في النظام الدولي، وتُستمد هذه القوّة من خصوصياته الجيوستراتيجية والجيوسياسية التي تكوّن أحد أهم عناصر هذه المنطقة وخصائصها. يُشير مفهوم الأهمية الجيوستراتيجية والجيوسياسية إلى تلك الأهمية التي تتخطّى الإطار الجغرافي الإقليمي والمحلي والخصائص السكانية والقوّة الاقتصادية إلى مجال أوسع ذي بُعد عالمي يؤثّر على العالم ككل.
يعتبر العالم العربي من الناحية الجيوسياسية أكثر اتّساعًا من ناحية الجغرافيا الطبيعية، فيتخطّى تأثير الأحداث فيه الحدود السياسية لدُوَلِه، ليصل إلى القوقاز وأفغانستان وباكستان والهند، نتيجة التواصل الديني والحضاري منذ القدم. لذلك، اعتبرت هذه المنطقة مفصلًا استراتيجيًا في علاقات الشرق والغرب ومركزًا بين حضارات العالم الكبرى كالحضارتين العربية والفارسية، ومن ثم الإسلامية والهندية والصينية. وبالتالي تحوّل العالم العربي إلى مركز لعدّة دوائر جيوسياسية متداخلة ومترابطة في ما بينها، حيث كل حدث يقع فيه، يُسْمََع صداه في هذه الدوائر.
لم يكن الشرق الأوسط بحكم موقعه الجغرافي، بمعزل عن تأثير الصراعات الإقليمية والدولية. فهو لعب دورًا كبيرًا في العام 1971 في الحرب الهندية - الباكستانية، فاليمن والعراق ساندا الهند، ووقفت المملكة العربية السعودية إلى جانب باكستان، خصوصًا بعد توسّع الحرب البحرية بين الطرفين لتصل إلى مشارف مضيق هرمز. كما نجد أنّ باكستان، من خلال قوات البلوش، كانت جزءًا من الجهد السلطاني في حرب ثوار ظفار في عمان في السبعينيات وشاركت بفعالية في القضاء على الثورة الاشتراكية في البلاد. وهذا يعتبر طبيعيًا، لأنّ شبه القارة الهندية يجمعها بالعالم العربي تداخل جغرافي وعرقي متجذّر، بالإضافة إلى الجاليات الباكستانية والهندية التي تتخطّى أعدادها الملايين والتي تشكّل موردًا اقتصاديًا هامًا داخل بلادها. كما أدّى الترابط الوثيق على مستوى الممرات البحرية بين البحر المتوسط وبحر العرب، دورًا بارزًا في تداخل المنطقتين جيوسياسيًا، حيث تقع صلالة العمانية وكراتشي الباكستانية وبومباي الهندية على الامتداد نفسه، بالإضافة إلى هرمز. لكل ما ذكر، اعتُبِر التأثير الجيوسياسي المتبادل بين المشرق العربي وشبه القارة الهندية نتيجة حتمية لتداخل قضايا الأمن بين الطرفين، وهي صورة سوف تنعكس على الكثير من المقاربات الإقليمية والدولية.
كما امتد التأثير الجيوسياسي للمشرق العربي ليشمل منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، فقد تحوّلت دوله إلى لاعبٍ هامٍ في الصراعات الأفريقية الداخلية لعدّة عوامل، أبرزها العامل الاقتصادي، إذ شكّلت المساعدات الخليجية الاقتصادية ورقة ضغط بيد دول الخليج للتأثير على الدول الأفريقية الفقيرة، بالإضافة إلى العامل الديني الذي أدّى دورًا بارزًا في ربط هذه الدول بمنظومة الدول الإسلامية التي أدّت فيها المملكة العربية السعودية دور المركز.
ب - عدم واقعية السياسة التركية القديمة:
تشكّل مسيرة تركيا الطويلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، خيبة أمل كبيرة عاكسة العديد من الخطوات الناقصة والفرص الضائعة. قبل مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2002، كانت السياسة الخارجية التركية تقع تحت عبء التقييدات التي فرضتها المؤسسة العسكرية التركية باعتبارها الطرف الأقوى. وكانت هذه المؤسسة لا تزال تراهن على إمكان تحقيق حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي معتمدة على عدة عوامل قوّة، أهمّها يتمثّل في الدور التركي المتفاني آنذاك، في خدمة المجهود العسكري الغربي، وبروزها كأهم أعضاء حلف شمال الأطلسي[2] وخط الدفاع الأول عن أوروبا ضدّ المشروع الروسي التوسعي الجديد. كما راهن الأتراك آنذاك من أجل تذليل صعوبات الانضمام، على علاقتها الودية والمتميزة مع إسرائيل، والتي توّجتها بحزمة ضخمة من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتعاون الاستخباري[3]، ضد كل الأخطار التي تهدّد البلدين. لم تُعِر تركيا الاهتمام إلى نتائج تلك السياسة على علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي، فكان لتباعدها الحتمي مع العرب نتيجة التماهي مع المواقف الإسرائيلية ثمنٌ زهيدٌ مقابل تذليل عقباتها نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وصبغ هويتها الحضارية بالصبغة الأوروبية، التي من شأنها تقوية الجبهة الداخلية التركية من خلال الحفاظ على علمانية الدولة التركية الحديثة، وإضعاف الجناح الإسلامي الداخلي الذي كان لا يزال في طور النضوج. لكنّ هذه السياسة لم تنجح في إقصاء تركيا عن محيطها العربي، بسبب قصر نظر واضعيها. فأوروبا آنذاك وحتى اليوم بقواها التقليدية وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، لم تكن مستعدة لقبول تركيا في الاتحاد، وبخاصةٍ مع نظام البرلمان الأوروبي، الذي يُعطي كل دولة نوّابًا داخل البرلمان نسبة لعدد المواطنين، ما يعني إعطاء الأتراك دورًا وازنًا في تقرير السياسات الأوروبية بسبب الكتلة السكانية الكبيرة، مقارنة بغيرها من الدول الأوروبية (70 مليون). كما أنّ انضمام تركيا باقتصادها المتهالك آنذاك ونسب البطالة العالية وحجم العمالة التركية الكبير داخل أوروبا[4]، كان سيؤدي إلى توجيه ضربة اقتصادية قاصمة للمشروع الأوروبي.
في الواقع، تمكّن الميراث التاريخي الأوروبي من التغلّب على العقلانية الديبلوماسية، فقد عمدت أوروبا إلى اتباع سياسة "العصا من الوسط"، فهي لا ترغب بتحمّل نتائج إقصاء تركيا، ولكنّها في الوقت نفسه غير قادرة على تبعات انضمام تركيا إلى دول الاتحاد، خصوصًا "أنّ للاتحاد الأوروبي مجموعة من المعايير على الأعضاء المحتملين التزامها: ضمان حرية التعبير، احترام حقوق الأقليات، العمل بشفافية، تنظيم الأعمال عن كثب وعدم تدخّل العسكر في السياسة"[5]، و هذا ما كان مستحيلًا بسبب طبيعة النظام التركي السائد آنذاك.
ما عجز عن فهمه الحزب الجمهوري التركي، كان واضحًا وجليًا لحزب العدالة والتنمية الذي عمل بخطوات ثابتة منذ تولّيه الحكم على إنهاء القطيعة الناظمة لاستراتيجية تركيا في العالم العربي وقضاياه، بدلًا من إضاعة الوقت في محاولة اللّحاق بالغرب سعيًا إلى التخلّص من صفة الدولة الهامشية على الأطراف. أوجز داوود أوغلو وزير الخارجية التركي مبادئ السياسة التركية الجديدة تجاه العالم العربي بعدة مبادئ، "فهي عبارة عن خطاب جديد ونمط ديبلوماسي يهدف إلى التعاون من أجل عدم وجود مشاكل مع دول الجوار باعتماد ديبلوماسية سلام استباقية وقائية وسياسة خارجية متعددة الأبعاد مع محيطها حيث لتركيا العديد من الشركاء من دون الدخول في منافسات"[6].
ج - تغيّر مفهوم الجيوبوليتيك بعد سقوط الاتحاد السوفياتي:
يتمتّع العالم العربي، لاعتبارات جيوستراتيجية وجيوسياسية، بمكانة كبيرة وموقع مميّز في النظريات الجيوسياسية كلّها. فقد اعتبر مكايندر،[7] صاحب نظرية قلب العالم، أنّ العالم العربي من الأماكن الاستراتيجية المركزية في الكرة الأرضية التي تؤدي السيطرة عليها إلى السيطرة على العالم"[8]، فهو البوابة التاريخية لمنطقة غربي آسيا وبقعة الوثوب الاستراتيجية على أوراسيا[9]. بالتالي كان لزامًا على من يريد أن يُحكم سيطرته على قلب أوراسيا أن يعمل أوّلًا على تأمين هذه المنطقة وإحكام سيطرته عليها .
في مقابل نظرية مكايندر التي أَوْلَى فيها قلب الأرض الأهمية الكبرى، طرح سبيكمان[10] نظريته الجيوبوليتيكية التي قلّل فيها من أهمية قلب القارة لصالح الشواطئ الملاصقة للقارات والبحار الهامشية التي تحيط بالكتلة البرية. فالسيطرة على أوراسيا لا تبدأ من قلب هذه القارة بل من البحار الهامشية التي تُطِلّ على سواحلها في الأطراف. لذلك عُرِفَت نظريته بنظرية الأطراف أو حوافي الأرض"Rimland".
اعتبر سبيكمان العالم العربي في نظريته "الأرض الخصبة وبقعة الصدم لأي معركة مستقبلية بين قوى البر والبحر نظرًا لطبيعته المزدوجة التي تجمع بين الصفتين". فهو بنظره أهم الأطراف المحيطة بأوراسيا لاتصاله بالبحر الأبيض المتوسط من جهة ولتأثيره الجيوسياسي من جهة ثانية، على المحيط الهندي وبحر قزوين والمسطحات المائية الأخرى.
مع نهاية الحرب الباردة وتعاظم دور المواد الأولية في بناء اقتصاديات الدول، طرأ تغيير عميق على المفهوم التقليدي للجيوبوليتيك، لصالح مفهوم جديد أرست دعائمه الرأسمالية الغربية والذي يعرف بجيوبوليتيك البترول. بفضل التفكير المعولم الملغي للحدود، حقّق هذا المفهوم الجديد للجيوبوليتيك المكانة الاقتصادية والتطوّر الصناعي ونال مرتبة أعلى من مسألة التوسّع الإقليمي، أي بمعني آخر أصبح كسب الموارد الطبيعية والأسواق الاستهلاكية أكثر أهمية من كسب الأراضي أو احتلالها. لذلك فإنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون حسب هذا المفهوم الجديد، بين دول قومية على أساس إيديولوجي أو ثقافي. "فالمحرّك الأساسي للصراعات التي سوف يشهدها العالم يكمن في العامل "الجيو-ستراتيجي" وليس "الإيديولوجي" الذي يعتبر مجرّد وسيلة أو رافعة. بمعنى آخر، إنّ العلاقات بين الدول تقوم على المصالح والتنافس الإقليمي والجيو-استراتيجي وليس على الأيديولوجيا والخطابات والشعارات التعبويّة الحماسية. بالتالي، لا بدّ على الدول التي ترغب في الحصول على مكانة اقتصادية أن تسعى للحصول على جزء من الموارد الاقتصادية المتاحة في الإقليم. ما يعني الدخول في النفوذ المشروع بما يستجيب لمصالح الدول من المنظور الاستراتيجي، وبخاصةٍ تلك التي تتمتّع بفائض من القوة نسبة لمحيطها"[11].
ينطبق هذا المثال بشكل كبير على تركيا ومشروعها الجديد فبعد أن تحقّق للأتراك قوّة متزايدة بفعل الطفرة الاقتصادية، بدأوا بالسعي الدؤوب لتعزيز مصالحهم المختلفة المتعلّقة بالأمن والمكاسب الاقتصادية. كان من الطبيعي أن يشكّل العالم العربي بثقله الاقتصادي وموارده الطبيعية، أهم المناطق التي رغبت تركيا في الولوج إليها واستثمار ما يمكن أن يقدّمه من منافع اقتصادية وسياسية لها، لاسيّما وأنّ المقارنة العسكرية والاقتصادية بينها وبين الدول الأخرى هي لصالح الأولى. وهكذا اعتُبِر هذا التحوّل الجديد في الاستراتيجية التركية تجاه العرب، بمثابة رهانٍ جديدٍ على مواقع جيوبوليتيكية، تساعد وتخدم المصالح العليا للدولة في وجه ما يمكن أن يكون تصاعدًا لقوى إقليمية تسابقها على الإقليم. بالتالي، سعت تركيا من خلال هذا التغيير الاستراتيجي في سياستها، إلى التعويض عن فقدانها أهم وظائفها الجيوبوليتيكية الأساسية، كخط الدفاع المتقدم لحلف شمال الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي، من خلال استغلال مركز ثقلها الجيوبوليتيكي، عبر ملء الفراغ الحاصل في المنظومة العربية بعد احتلال العراق و الصعود الدراماتيكي لدور إيران الإقليمي، الذي أثار خوف الدول الخليجية من جهة وقلق الولايات المتحدة من جهة أخرى .
د- العامل الاقتصادي:
على الصعيد الاقتصادي، "مال حزب العدالة والتنمية نحو القطيعة مع سياسة الانعزال التي أرساها أتاتورك. ففي ظل اقتصاد معولم، رأى الحزب أنّ مفهوم الاقتصاد الوطني المعتمد على السوق المحلية لم يعد قابلًا للحياة، وأنّه بات على تركيا الانفتاح على العالم والاندماج في السوق العالمية"[12]. لذلك فإنّ أي نظرة تشريحية للنظام الاقتصادي لتركيا بعد العام 2002، يُبرِز بوضوح الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه العالم العربي كمحور اقتصادي استراتيجي لتركيا. فالبلاد العربية، بقدراتها النفطية الضخمة من جهة وبأسواقها الاستيعابية واقتصادها الريعيّ من جهة أخرى، تشكّل فرصة لا يمكن تجاهلها أو عدم الاستفادة منها، لذلك كان لا بد للأتراك من أن يبدأوا بتعبيد الطريق اقتصاديًا نحو العالم العربي عبر إيجاد آليات تنسيق وتعاون مؤسساتي بين الطرفين، من أجل تطوير خطط التعاون الاقتصادي، عبر تشجيع السياسة التنافسية التشاركية بدلًا من السياسات التشابكية الاحتكارية. أدرك الأتراك أنّ ضرورة تحقيق هذه الأهداف الاقتصادية، لا يمكن أن يتحقّق بالشكل المطلوب من دون أي تأثير جيوسياسي تركي، لذلك عملت تركيا على زيادة نفوذها ومحاولة الدخول إلى العمق الاستراتيجي للعالم العربي من خلال سياستها الجديدة .
هـ- القبول الأميركي:
أدرك الأميركيون، نتيجة المتغيرات الدولية الجديدة، تراجع الدور الجيوسياسي لمنطقة البحر المتوسط لصالح المحيط الهندي، إذ تمّ تحديد المنطقة التي سوف تشهد الحراك الجيوسياسي مستقبلًا. تمتد هذه المنطقة من القرم في البحر الأسود إلى مقاطعة زيانجينج الصينية، بعد مجاورتها الحدود الجنوبية لروسيا، ثم نزولًا إلى المحيط الهندي ومنه غربًا لتشمل منطقة الخليج العربي وصولًا إلى البحر الأحمر ثم شمالًا لتشمل تركيا رجوعًا إلى القرم. إنّ ازدياد الاهتمام الأميركي بهذه المنطقة، التي يصطلح تسميتها بآسيا الباسيفيكية، جاء نتيجة تعاظم الدور الصيني، ورغبته في الحصول على مكاسب جيوسياسية وجيوستراتيجية، من الممكن أن تقوّض أسس المشروع الأميركي. استجابةً لهذه التحديات المتمثلة بالصعود الصيني المَهول والتحالف مع الروس لتشكيل تحالف مضاد للهيمنة الأميركية وضمان حرية الملاحة في بحر الصين، سعت الولايات المتحدة إلى نقل جزء من قوتها الجيوسياسية والعسكرية من الخليج إلى منطقة آسيا الباسيفيكية. لم يكن هذا التغيير الاستراتيجي الأميركي ليتمّ لو لم تجد الولايات المتحدة البدائل ، فتجربة الانسحاب البريطاني من الخليج في العام 1971 وانعكاساتها على المصالح الأميركية آنذاك، لا تزال حاضرة في الأذهان.ولتأمين المنطقة العربية من أي فراغ قوّة نتيجة هذا التغيير الأميركي، كان النفوذ التركي المشروط حاجة أميركية أملتها لحظة جيوسياسية حرجة. خصوصًا أنّ المنطق الإقليمي يدفع بهذين البلدين أحدهما في اتجاه الآخر بسبب تقاطع المصالح الاستراتيجية. فبناء شراكة استراتيجية مع تركيا في المنطقة، قد يكون الحل الوحيد لمأزق السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة، والتي يمكن تلخيصها بالآتي: تريد أميركا استقرار المنطقة العربية بُغية الحفاظ على الوضع الراهن الذي يضمن تفوّقها ويخدم مصالحها الطويلة الأمد، ولكن سياساتها تُحدِث التأثير المعاكس. فما هي الطرق أو السياسات الجديدة التي يمكن لأميركا تبنيها بعد افتقارها إلى الأدوات التاريخية والثقافية للتحرك نتيجة السياسات الخاطئة؟
في الواقع، لا يمكن لأي من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين لعب هذا الدور، إذ لا يمتلك هؤلاء الوسائل الثقافية والسياسية والنفسية والمؤسساتية للقيام بالتسويات التي يتطلّبها هذا الدور.
فإسرائيل مثلًا، غير قادرة لا الآن ولا في المستقبل على التحول إلى عامل استقرار في منطقة الشرق الأوسط، فالنزاع العربي – الإسرائيلي تحوّل إلى نزاع مستعصٍ طويل الأمد، يقوّض باستمرار استقرار المنطقة ويعرقل تسوية كل الأزمات الملحة، وبالتالي، يزيد من حدّة التهديدات للمصالح الأميركية. فالسياسة الأميركية الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة تمارس باعتبار العالم مناطق متصلة وليس دولًا محدّدة، لذلك، فالقضايا التي تتناولها هذه السياسة تكشف عن آفاق وليس عن حدود ضيقة والحال كذلك في الأزمات. إنطلاقًا من هذا التعريف، قضية الصراع العربي الإسرائيلي هي نفسها قضية أمن الشرق الأوسط برمّته. أمّا قدرة الولايات المتحدة على التدخل من أجل حل هذا الصراع اضمحلّت إلى حد التلاشي، فأميركا أمام الرأي العام العربي هي بمثابة طرف منحاز إسرائيليًا وليست حَكَمًا عادلًا. بالتالي، كل محاولاتها وحلولها لا محل لها من الثقة، وبخاصةٍ أنّها أصبحت رهينة التركيبة الصاخبة للسياسات الداخلية الإسرائيلية. أمّا بالنسبة للدول العربية التقليدية، فهي من منظور استراتيجي غير مطابقة للمعايير التي تحكم الولايات المتحدة في اختيار حلفائها المحليّين، وأوّلها تمتُّع الحليف بموقع استراتيجي في منطقة النفوذ الأميركي، وثانيها أوضاع الحليف الداخلية، وثالثها قدرة هذا الحليف في الاعتماد على نفسه لتحقيق مطالبه. فالعرب هم أصدقاء و لكنهم من المنظور الاستراتيجي ليسوا حلفاء، على الرغم من التسليم الأميركي أنّهم صديق طيب ومريح، وإنّما ليسوا حلفاء لعدم قدرتهم على الاعتماد على أنفسهم في تحقيق مطالبهم، فالحليف من وجهة النظر الأميركية، وإنْ كان في بعض الأوقات مشاكسًا ومتعبًا، ويجب أن يبقى قادرًا على الاعتماد على نفسه في تحقيق مطالبه والحفاظ على مصالح حلفائه. أضف إلى ذلك، إنّ عجز هذه الأنظمة العربية الصديقة عن تحقيق مستويات مقبولة من التحسّن الاقتصادي والتطوّر الاجتماعي، هو القلق الأكبر الذي يعتري الولايات المتحدة إذ إنّه يزيد من وقوع هذه الأنظمة في مصيدة الفشل الداخلي ومن بعدها في الهاوية. وهذا السقوط سيؤدي إلى فشل رهان الولايات المتحدة على إمكانية استقرار المنطقة، ويجر محيطها وجوارها إلى الهاوية. وبالتالي، سوف يغرق مناطق نفوذ أميركية بأكملها في أتون الفوضى، واضعًا بذلك الولايات المتحدة أمام خيارات شديدة الصعوبة في الحفاظ على مواقعها ومصالحها، وتترك لها هامش مناورة ضيّق لا يسمح لها إلا بتدخّلات محدودة ومخاطر محسوبة. وبالفعل عانت الولايات المتحدة تاريخيًا من تجربتين في هذا السياق. حصلت الأولى في العام 1979 حين شكّلت الثورة الإيرانية التي اندلعت في العام 1979، نتيجة لحكم الشاه الديكتاتوري والقمعي وفشل سياسته الداخلية صدمة عنيفة للسياسة الأميركية في الخليج، تصاعدت من خلالها أحداث إيران بسرعة كبيرة وفاقت كل التوقعات؛ لتطيح بشكل نهائي بنظام الشاه، ومعه أهم أعمدة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، طوال عقد السبعينيات"[13]، فخادمها الأمين الذي أوكلته ضمان استقرار الخليج لم يعد قادرًا على ضمان استقرار وبقاء نظامه على الرغم من الدعم الأميركي الهائل لإيران. أمّا التجربة الثانية على الرغم من أنّها كانت أقل وطأة على الولايات المتحدة من الأولى، لكنّها أربكت كل الحسابات الأميركية وبعثرت كل الأوراق في منطقة الشرق. ففي العام2011، أطاحت ثورة شعبية عارمة بحكم الرئيس المصري حسني مبارك الحاكم العربي الأوّل الذي يعتبر أميركيًا، حيث وقفت الولايات المتحدة عاجزة، فهي غير راغبة بالتغيير ولكنها غير قادرة على منعه معرّضة بذلك المصالح الأميركية للخطر. على الرغم من اختلاف التجربتين، ولكن أي تشريح معمّق لأسباب الأزمتين، يظهر أنّ السياسات الداخلية الخاطئة والنظام الاقتصادي المهترئ وتفشي البطالة وارتفاع معدّلات التضخم، كلّها كانت عوامل أسهمت في هذا الانهيار، بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية الأخرى. استعرضنا هاتين التجربتين للقول:إنّ الولايات المتحدة لا يمكنها الاعتماد اليوم على دول صديقة، موهونة القوى إلى حد الإفلاس معرّضة للسقوط، بحيث يُعتبر التحالف معها نقطة ضعف أميركية قاتلة.
بالتالي، اعتبر الأميركيون أنّ النفوذ التركي الجديد في الخليج سيشكّل عاملًا مهمًا من أجل محاصرة النفوذ الإيراني المتعاظم بعد سقوط العراق، وتصبح تركيا شرطيًا أميركيًا جديدًا لتضييق الحركة على إيران وحلفائها، ومن أجل محاولة ضبط السلوك الإسرائيلي الذي بدأ يعتبر نفسه محررًا من تقييدات السياسة الأميركية، وبخاصةٍ في ما يتعلق بعملية السلام. فواشنطن عبّرت مرارًا وتكرارًا عن ارتياحها للدور التركي الجديد، وخصوصًا إدارة الرئيس أوباما التي أكّدت أنّ تركيا تشكل عنصرًا حيويًا في تنفيذ استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصةٍ مع دورها الإيجابي في تسوية العديد من الأزمات الراهنة، التي أسهمت في الحد من النفوذ الإيراني المعادي للأمركة عبر إيجاد توازن قوى جديد.
تلقّت تركيا الرسائل الأميركية من خلال ممارستها للتيقّن الكامل أنّ الواقع الدولي والإقليمي، يفرض عليها هذا التحول لتأدية الدور الإقليمي المناسب لحجمها الاقتصادي والعسكري، ولا بدّ من تحويل هذا الشعور أو هذه الثقة التركية إلى استراتيجية عملية قابلة للتطبيق[14]. ولكن هذه العملية لن تكون سهلة، خصوصًا أنّ المنطقة العربية تعاني تُخمة من اللاعبين الإقليميين، الذين يفوقون تركيا خبرة ومهارة في إدارة خبايا السياسة العربية، فلا بدّ إذًا من البحث عن حصان طروادة تركي يمكّنها من الولوج إلى عمق المنطقة والتأثير على قراره.
2- صعود الإسلام السياسي في تركيا وتأثيره على السياسة التركية تجاه العالم العربي
لا يمكن لأحد إغفال دور مصطفى كمال أتاتورك في بناء تركيا الحديثة، ووضع أطر ومبادئ الدولة العلمانية على أنقاض الخلافة العثمانية. في الواقع يعود الفضل الأكبر ببقاء دولة الأتراك إلى مصطفى كمال بطل حرب الاستقلال، الذي تمكّن من إسقاط معاهدة سيفر ومنع تقسيم تركيا .ولكن رغم هذه الإنجازات التي سوف تظل محفورة في الوجدان التركي، فإنّ الإرث الذي تركه هذا الرجل تحوّل بعد مماته إلى موضوع خلافي، حيث تبنّت النخبة العسكرية مبادئه بوجهها المتطرّف، وبالغت في إسقاطها على مختلف نواحي الحياة التركية إلى حد الثمالة، حيث استمر نظام الحزب الواحد صامدًا وتمّ فرض الكثير من القيود على ممارسة الحريات. بدأت أواصر الكمالية السياسية بالتفكّك في عهد الرئيس التركي عصمت إينونو، الذي سمح بتعدّد الأحزاب، وأصدر العديد من القرارات التي أسهمت في زيادة الحريات العامة. توج إينونو عهده بقرار إجراء انتخابات مفتوحة كانت هي الأولى في التاريخ التركي، تمكّن بنتيجتها أنصار المعارضة من تحقيق فوز ساحق. فانتهت بذلك حقبة الحزب الواحد في تركيا والتي استمرت سبعة وعشرين عامًا.
نتيجة الأغلبية الجديدة ، تولّى الحكم عدنان مندريس الذي استمر في اتّباع النهج الإصلاحي في سياسة إلحاق تركيا برَكِب الدول الديموقراطية ."خفّف مندريس من بعض القيود على الممارسة الدينية، وتمتّع بمكافآت الفورة الاقتصادية العالمية، فارتفع عدد السكان إلى أكثر من الضعفين في عهده، وازداد نصيب الفرد من الدخل ثلاثة أضعاف، وأخذت الطبقة المتوسطة، وهي أساس الاستقرار في أي بلد، تبرز وتزدهر"[15]. لم تكن نهاية عهد مندريس جيدة كبدايته، فسياسته الراغبة بإعطاء المزيد من الديموقراطية وتقويض سلطة المؤسسة العسكرية لم تكن لتمرّ مرور الكرام. ففي 27 أيار قامت مجموعة من الضباط بانقلاب أطاح بمندريس وتمّ إعدامه. لم يُعِقْ هذا الانقلاب مسيرة الديموقراطية في تركيا، والتي خطت خطوات ملموسة حتى حقبة السبعينيات، رغم إذعان زعماء الأحزاب السياسية للسلطة العسكرية التي كانت لا تزال الأقوى في الداخل التركي. استمرت الحريات على نهج الكرّ والفرّ بسبب الانقلابات العسكرية الكثيرة التي شهدتها تركيا، ولم يحصل أي تقدم إلّا مع بداية ثمانينيات القرن الماضي حين اتّبعت تركيا خطوات عملاقة في هذا المجال. شهدت تركيا ثورتين اثنتين أعادتا صياغة وجهها كدولة ديموقراطية و كلتاهما سلميّة.
"يفصل جيل بين الرؤيويين اللذين قادا أبرز تحولات تركيا بعيدًا عن العلمانية ولم يلتقيا قط، ولو التقيا لشكّلا ثنائيًا غريبًا. أحدهما رجل بشوش بدين من الريف، مهندس عمل في البنك الدولي. أمّا الآخر فرجل صارم ورياضي من شوارع اسطنبول الوسطى، انتقل سريعًا من السجن إلى الزعامة الوطنية."[16] صنع هذان الزعيمان تاريخ الإسلام السياسي في تركيا.
يُعتبر توركوت أوزال الذي انتُخب في العام 1983، أوّل من شرّع أبواب تركيا بوجه الإسلام السياسي. لم تكن مهمته سهلة، ففي بداية عهده كانت تركيا منغلقة ومنعزلة عن محيطها الشرق أوسطي، وبخاصةٍ بعد حكم عسكري دامٍ امتدّ ثلاث سنوات تعرّض خلاله الكثيرون للتعذيب، "وحُكِمَ على أربعين ألف تركي في المحاكم الأمنية الخاصة، وأُعْدِم خمسة وعشرون ألفًا منهم. وتمّ تطهير كليات الجامعة وهرب الكثيرون ممن هم الأفضل والألمع في البلاد، وأصدر 600 قانون بمراسيم هدف أكثرها إلى الحد من الحريات العامة"[17]. تمكّن أوزال من تحرير الاقتصاد من قواعد البيروقراطية، وبدأ بتنفيذ مشروع اقتصادي طموح يهدف إلى تحويل تركيا إلى دولة تتمتع بالدينامية والبحبوحة الاقتصادية، عبر سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي شكّلت أساس الازدهار الاقتصادي الذي تعيشه تركيا اليوم من خلال اعتماده على نظام اقتصادي جديد، أساسه حركة استيراد وتصدير نشطة وتناغم تام مع حركة الرساميل والتجارة العالمية.
أسهمت النجاحات الاقتصادية التي حقّقها أوزال في ازدياد شعبيّته، ما أعطاه مجالًا أوسع للمناورة ضد المؤسسة العسكرية التركية، فعمد إلى تحدّيها من خلال اتخاذه الكثير من القرارات التي هدفت إلى كسر احتكارها للسلطة داخل تركيا. فقد أمر بإعادة جثمان عدنان مندريس الذي أعدمه الجيش في العام 1961 إلى البلاد، وأطلق اسمه على أحد المطارات. كما لم يأخذ بتوصيات جنرالات الجيش عند اختيار الشخص المناسب لأي منصب عام. ولكن أخطر ما قام به هو محاولاته إعادة بعض الاعتبار للعامل الديني داخل المجتمع التركي، وإلغاؤه الكثير من القيود حول التعليم الديني وبناء المساجد وحرية ممارسة الشعائر الدينية ومنح الأقليات الدينية جزءًا من حقوقها. "فقد أعلى أوزال من شأن الإرث الإسلامي لتركيا، وأنهى عزلتها عن العالم العربي والإسلامي، وانفتح على الدول العربية المحافظة و خصوصًا دول الخليج العربي"[18].
ما ميّز عهد أوزال هو بداية تحوّل تركيا نحو منطقة الشرق الأوسط مستغلًا اندلاع حرب الخليج الثانية. لقد أدخل تركيا إلى منطقة الشرق الأوسط عبر أبوابها الواسعة المتمثلة بالغطاء الأميركي، حيث "طلبت الولايات المتحدة من تركيا إقفال خط الأنابيب الذي ينقل النفط العراقي إلى المتوسط، والسماح للقوات الأميركية باستعمال قاعدة انجرليك الجوية، ونشر قوات تركية على الحدود العراقية لإشغال قسم من الجيش العراقي. لبّى أوزال المطالب الأميركية واقترح إرسال قوات تركية للقتال إلى جانب الأميركيين."[19] جاءت موافقة أوزال على الانخراط في الحرب لقناعته بنشوء شرق أوسط جديد أميركيّ التوجّه بعد حرب الخليج، فكان على تركيا أن تحوذ فيه على دور فاعل وبنّاء يؤمّن لها وجودها في الجانب الرابح.
لم يُقدَّر لأوزال متابعة مشروعه الطموح، ففي السابع عشر من نيسان 1993، أصيب بنوبة قلبية قوية توفي على إثرها تاركًا إرثًا اقتصاديًا وسياسيًا ضخمًا. أعاد أوزال تنظيم دولة تركيا أن أسّسها أتاتورك، ولعلّ الطبقة المتوسطة الجديدة التي أسهم في تطويرها سعت إلى ربط قوتها الاقتصادية بنفوذ سياسي يضمن لها مكتسباتها، وجُلّ ما احتاجت إليه زعيم سياسي يُجسّد قيمها المُحْدثة كالديموقراطية والتحرر الاقتصادي، والأهم من ذلك الحرية الدينية وإعادة الاعتبار للقيم والتقاليد التي شكلت إرثًا تاريخيًا مدفونًا. ومن هذه الطبقة برز رجب طيب أردوغان الذي أوكلت إليه هذه المهمة.
بدأت حياة أردوغان السياسية عمليًا حين ترشّح في العام 1994 إلى رئاسة بلدية اسطنبول تحت لواء الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان. تمكّن أردوغان من تحقيق فوز كاسح على منافسيه من الأحزاب العلمانية جميعها، وقضى السنتين التاليتين في تحسين وضع المدينة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، حيث حقّق عدّة مكاسب، عمل على زيادة انفتاح المجتمع التركي، وحدّ من الفساد المستشري واعتبره الكثيرون مثالًا يُحتذى به للنزاهة والمبادرة. لم تستمر فترة أربكان في الحكم كثيرًا إذ إنّ رغبته في تبنّي سياسة خارجية ذات وجه إسلامي والدعوة إلى مجتمع أكثر تديّنًا، استفزّت المؤسسة العسكرية التي ردت على سياسات أربكان الموجّهة ضد علمانية الدولة بتنفيذ ما يسمى "انقلاب ما بعد الحداثة"، إذ أعلنوا أنّهم لن يتحمّلوا أربكان أكثر من ذلك، فأجبروه على الاستقالة بعد أقل من سنة له في السلطة. قامت المؤسسة العسكرية بحظر حزب الرفاه واعتقال أبرز الناشطين فيه، ومن ضمنهم رئيس بلدية اسطنبول أردوغان الذي وُجِّهَت إليه تهمة الحضّ على الكراهية الدينية فأُقيل من منصبه. استمرت مضايقات الجيش لأردوغان، وحُكم عليه بالسجن مدة عشرة أشهر في العام 1998 مع منعه من تولي أي منصب سياسي في المستقبل. اكتسب أردوغان شعبية عارمة بفضل هذا الحكم وبعد انقضاء مدة محكوميته، بدأ يجوب البلاد منظّمًا القواعد الشعبية لحزبه الجديد – حزب العدالة والتنمية- تحضيرًا لانتخابات العام 2002. تمكّن أردوغان من تحقيق فوز كاسح في الانتخابات البرلمانية، أهّلته لرئاسة مجلس الوزراء بعد ما ألغت الجمعية الوطنية الحظر السياسي المفروض عليه . شَرَعَ أردوغان فور تسلّمه السلطة بالتصدي لسيطرة المؤسسة العسكرية، وبدأ التمهيد لبروز الإسلام السياسي كقوة مهيمنة في الداخل التركي. ألغى أردوغان القوانين القمعية، وعدّل الدستور، وألغى المحاكم الأمنية، وعقوبة الإعدام، واستمر بتحدي العسكر، عبر تحويله مجلس الأمن القومي الذي كان يُرهب الرؤساء طوال عشرين سنة، إلى مجلس استشاري يديره مدنيون قريبون من أردوغان. أضعفت كل هذه الإصلاحات المؤسسة العسكرية، التي لم تكن قادرة على التصدي له بفعل شعبيته الجارفة ونجاحاته الاقتصادية، حيث حوّل الاقتصاد التركي المتهالك إلى الاقتصاد الخامس في العالم. تحدّى أردوغان قوانين علمانية الدولة، عبر محاولاته إصدار قانون يسمح بوضع الحجاب داخل المؤسسات الرسمية، والسماح بحرية التعبير الديني في الحياة العامة. عمل على إعادة الاعتبار للمؤسسة الدينية، وإعادة العمل بالمناهج الدينية وتدريس التاريخ واللغة العثمانية. نجح أردوغان في إرغام المؤسسة العسكرية على هذه التنازلات، بسبب اتباعه سياسة ذكية قضت بالقضم التدريجي للضوابط السياسية والاجتماعية، التي تشكّل عائقًا أمام الإسلام السياسي داخل تركيا، حيث تذرّع أردوغان في كل مرة ينادي بها العلمانيون بضرورة الحد من اصلاحاته بلازمة بسيطةٍ، ولكن ذات دوي كبير: "علينا أن نغير من أجل أن نصبح أوروبيين". استمر أردوغان في سياسة المهادنة مع العسكر حتى العام 2007 والذي شكل انعطافًا كبيرًا في مسيرة حزبه لجهة التعبير علانيةً عن وضع دستور تركي جديد، يضمن الوجه الإسلامي للدولة ولجهة الصراع بينه وبين المؤسسة العسكرية الذي وصل إلى نقطة اللاعودة. ففي العام 2007 أعلن أردوغان ترشيح صديقه المقرّب عبد اللـه غول لرئاسة تركيا مستقبلًا، الأمر الذي لاقى امتعاض الحرس القديم للنظام، وبخاصةٍ أنّ مركز الرئيس شكّل منذ بداية الجمهورية التركية الحديثة أحد قلاع الكمالية السياسية. عمّت التظاهرات المدعومة من جنرالات الجيش المدن التركية الكبرى، وردّد المتظاهرون هتافات تؤكّد علمانية الدولة ورفض أي شكل من أشكال الإسلام السياسي في الحكم. ولكن الخطوة الأكثر استفزازية أتت من القادة العسكريين، الذين نشروا على مواقعهم على الإنترنت رسالة تؤكد تصميمهم على حماية الخصائص التي لا تتغير للجمهورية التركية، ما اعتبره البعض تحضيرًا لتنفيذ انقلاب جديد. لم يرضخ أردوغان للضغوط العسكرية ولم يتراجع، فبدلًا من سحب ترشيح غول واختيار آخر أكثر قبولًا من الجنرالات، دعا إلى انتخابات عامة مبكرة. حقّق أردوغان في الانتخابات المبكّرة انتصارًا فاق انتصاره الأوّل، وبالتالي أصبح غول رئيسًا لتركيا، ولم يعد أمام أردوغان الكثير من العقبات، من أجل تحويل بوصلة تركيا نحو الإسلام السياسي عبر مشروع جيوستراتيجي طموح، يجمع ما بين الحداثة الأوروبية والإرث العثماني. و قد عبر أردوغان عن هذا المشروع الطموح من خلال ما أطلق عليه "الوثيقة العظمى للحريات الماجنا كارتا"[20]، والتي تشكّل من وجهة نظر الحزب الإسلامي الحاكم توليفة من الهوية الإسلامية والقيم الديموقراطية المعاصرة.
بوصول أردوغان، وبعد نقض الزعماء الأوروبيين وعودهم له بتسهيل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، خفتت قصة الحب التي لم تتّصف يومًا بالعاطفية بين تركيا وأوروبا، وبدأ الأتراك بعد امتلاكهم عوامل الثقة اللازمة من اقتصاد وجبهة داخلية متينة بملاحقة مصالحهم الأوسع في العالم العربي، فلم تجد أفضل من فكرة الإسلام السياسي كوسيلة للدخول إلى قلب العالم العربي. والسؤال المطروح هو، لماذا الإسلام السياسي؟
قام الدكتور غراهام بولك - أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة شيكاغو- على رأس فريق من أساتذة جامعتي برينستون وشيكاغو- بإعداد دراسة حول دور التيارات الدينية في منطقة الشرق الأوسط، وتأثيرها على هيكلية أنظمة الحكم. خلصت هذه الدراسة والتي أُعِدّت بناءً على طلب الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور إلى عدّة استنتاجات أهمّها، أنّ الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط هي ظاهرة حديثة وهشّة، فالمنطقة عاشت زمن ازدهارها حتى مطلع القرن العشرين تحت سلطة خلافات دينية إسلامية انتهت بالعثمانيين. كما خلُصت هذه الدراسة إلى دور العامل أو الوازع الديني في كيفية تسيير الإنسان المشرقيّ، لذلك، فعلى الرغم من صعود التيار القومي في هذه المنطقة، إلّا أنّ المحتوى الحضاري لهذه القومية يظل محتوى دينيًا بلا جدال. وخلصت هذه الدراسة إلى أنّ الحالة الإسلامية للمنطقة ستظل لفترة طويلة هي المحدّد الرئيس لهويتها ومستقبلها.
تبنّت إدارة أيزنهاور هذه الدراسة وأدخلت استنتاجاتها في صلب السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وبخاصةٍ أنّها تخدم مصالحها. حتى أنّ وزير خارجية أيزنهاور جون فوستر دالاس، اعتبر أنّ منطقة الشرق الأوسط هي منطقة تعوم على بحر من الدين و بحر من النفط[21]. ولذلك، فالدول ذات الكاريزما الدينية هي الأكثر قبولًا، وخصوصًا في المنطقة العربية التي تعتمد في وجدانها على العامل الديني، وهذا ما يشكّل عامل قوة للسياسة التركية الجديدة.
وتأكيدًا على هذا السياق، نستعين بالكاتب الأميركي جورج فريدمان الذي كتب "عندما ننظر إلى حطام العالم الإسلامي بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، ونفكّر بالدولة التي يجب أن تؤخذ على محمل الجد في المنطقة، نجد في وضوح أنّها تركيا "[22]. فتركيا، مستفيدة من غياب زعيم عربي إسلامي، يحظى بالقبول الواسع كجمال عبد الناصر أو الملك فيصل بن عبد العزيز، أضحت تحظى بقدر أكبر من الأهمية بكونها صوتًا معتدلًا يتمتع بالاحترام المتزايد والنجاح.
3- السياسة التركية الجديدة بين القبول والرفض العربي.
لقد كانت النظرة التاريخية الخارجية إلى تركيا إبّان الحرب الباردة نظرة سلبية، وبخاصةٍ مع بروز التيار القومي العربي الذي اعتبر العثمانيين نوعًا من الغزاة، الذين تسبّبوا في تخلّف البلاد العربية، وهذا يعود إلى الميراث التاريخي الذي خلّفه الحكم العثماني للمنطقة العربية، والذي سلك طريقًا سيكولوجيًا مضطربًا بين الخلفية التاريخية والواقع الجغرافي. فقد كان إرث الخلافة العثمانية، وما آلت إليه أوضاعها السياسية المتردّية مع هزيمة الحرب الأولى، في وعي القوميّين العرب المتأثّرين بحركات المدّ القومي في أوروبا، جزءًا من العالم القديم الذي ينبغي التخلّص منه.
ومع اندلاع الحرب الباردة، ازداد الوضع سوءًا وبخاصةٍ مع انحياز الأتراك إلى المعسكر الغربي، وتماهيهم مع المخططات الغربية ابتداءً من تأسيس حلف بغداد، ووصولًا إلى الموقف التركي المؤيّد لإسرائيل خلال حروبها مع العرب. أدّت الظروف دورًا في تغيير العرب تدريجيًا لنظرتهم تجاه تركيا، خصوصًا بعد سقوط نظام الشاه في إيران وتغييب الدور المصري بعد توقيع السادات اتفاقية كامب-دايفيد. ولكن هذه النظرة المبدئية الخليجية السلبية لم تتغيّر لعدد من العوامل المتوازية، منها متعلّق بتركيا ومنها الآخر متعلّق بالمنطقة العربية، وبخاصةٍ أنّ العرب المتديّنين استمروا في اعتبار تركيا مرتدّة بفعل إصلاحات أتاتورك التي جعلتها بعيدة جدًا عن الإسلام. ولكن مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا واتباع سياسة خارجية جديدة، بدأت تركيا بإسقاط مبادئ سياستها على كل المناطق التي كانت تسعى لكسب نفوذ جيوسياسي فيها، ومن أهمّها العالم العربي. حيث حقّقت خطوات عملية كبيرة، فـ"انخراط تركيا في شؤون الشرق الأوسط ازداد بفضل استخدامها الفاعل للقوة اللّينة، ومثال على ذلك الجدال العلني بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي بيريز في دافوس، وحادثة أسطول الحرية، ودعم تركيا للمتظاهرين في ميدان التحرير ضدّ الرئيس المصري السابق حسني مبارك"[23].
ولكن السياسة التركية الجديدة لم تكن مستساغة لدى جميع الأطراف. فقد اعتبرها البعض تمهيدًا لفكرة جعل تركيا بمثابة البديل الاستراتيجي الإقليمي لبعض القوى العربية التقليدية. فعلى الرغم من أنّ الزعماء الأتراك يهوَوْن القول، إنّ سياستهم الجديدة لا تتعارض مع أحد، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على منطقة عربية تعاني من تخمة في اللاعبين الإقليميّين الطموحين، ما جعل النفوذ التركي يُعدّ غير مقبول من المعسكر العربي التقليدي، وعلى رأس هذه المنطقة المملكة العربية السعودية ومصر، فالأخيرتان لم تكونا في لحظاتٍ تاريخيةٍ عاديةٍ، وليستا أمام نمطٍ من الصراعات التقليدية على النفوذ، بل هما لحظة تشكّلٍ جديدٍ في النظام الدوليّ، حيث أنّ قدرتهما على الحفاظ على مكتسباتهما ومكانتهما في الإقليم وفي النظام الدولي الذي لا يزال في طور التشكيل، أصبحت مهددة بفعل ظهور قوّة جيوسياسية جدية ولجت العالم العربي من أوسع أبوابه. فالولايات المتحدة لم تُعْطِ أهمية لأي شيء في النصف الثاني من القرن العشرين، أكثر من الأهمية التي أولتها لخوض الحرب الباردة، حيث انضمت بلدان كثيرة إلى هذا الصراع وتعاونت مع الولايات المتحدة مباشرة، عن طريق إدانتها للقوة السوفياتية وانضمامها إلى حلف شمالي الأطلسي، وتقديمها التسهيلات العسكرية للقوات الأميركية على أراضيها. ولكن عندما يتعلّق الأمر بمعارك الحرب الباردة التي خيضت بطريقة غير مشروعة ومن دون قواعد تضبطها، تقلّص عدد البلدان التي وافقت على مواكبة الولايات المتحدة في هذا المسار. لم تكن هاتان الدولتان قط في عداد المتخلّفين. بل إنّ مواقفهما ودعمهما المادي والمعنوي لهذه المعارك التي جرت في الخفاء بين القوتين العظميين، كان يوازي في حجمه المجهود الأميركي أو حتى يتفوّق عليه في بعض الأحيان. كل هذه الوقائع جعلت من هذه الدول أفضل شريك لواشنطن، بل الشريك الذي لا غنى عنه في حربها التي دارت في تلك الحقبة مع الاتحاد السوفياتي. وقد عبّر هنري كيسنجر لاحقًا عن هذه الحقيقة في مذكراته حين قال: "كثيرًا ما وجدت عبر قنوات أخرى، بصمة سعودية مساعدة موضوعة في شكل خفي، حتى أنّ هبّة ريح واحدة يمكن أن تخفي كل آثارها"[24].
والآن بعد أن حان قطاف ثمار هذه السياسة، من المؤكد أنّ الدول الخليجية لن تقبل بلعبة "الكراسي الموسيقية" مع تركيا، ولن تقبل باضمحلال دورها لمصلحة أي طرف كان. لذلك، فعلى كلّ من يرغب في الدخول إلى منطقة الخليج وخوض غمار السياسة، التقيّد بقواعد اللعبة التي تضعها الدول العربية نفسها، وهذا ما يمكن أن يعتبره الأتراك أمرًا غير مقبول. لذلك، فخطر الصدام بين تركيا التي تريد التغيير وبين القوى العربية التقليدية التي تعتبر الطرف المسيطر بات وشيكًا، وسيتحوّل العالم العربي في حال عدم وجود أفق للحوار إلى نقطة التصادم بين سياسة القوى العربية التقليدية كمصر والسعودية الراغبة في الحفاظ على "الوضع الراهن" في المنطقة، وبين سياسة تركية طموحة ترى في العالم العربي المجال الحيوي اقتصاديًا وسياسيًا وعقائديًا، لتأمين حضور إقليمي وازن يستجيب لمصالحها الاستراتيجية.
وبالتالي، لم يكن من المستغرب أن يتحوّل النفوذ التركي المستجدّ في الخليج، من مرحلة التوافق بداية إلى مرحلة التصادم الاستراتيجي المحتوم، لأنّ تشعّب المصالح والمشكلات، وبخاصةٍ بعد دعم الأتراك لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وللعائلة الحاكمة في قطر. هذا التوجّه التركي للبروز بمظهر الشريك الاستراتيجي للدول العربية، لم يعد ممكنًا بعد الانغماس التركي في المشاكل العربية-العربية واستثمارها في الأزمات الداخلية لبعض الدول الأخرى.
رجّح بعض المحلّلين أن الدور التركي الجديد، هو فقط محاولة لاكتساب أوراق اعتماد إضافية تضاف إلى الرصيد التركي داخل الأرصدة الغربية، كمحاولة منها لتحسين شروط تفاوضها مع أوروبا، وتحسين علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وبالتالي، هذا الدور التركي هو دور تفتيتي للنظام الإقليمي العربي، عبر تضخيم حالة التفكّك التي يعيشها هذا النظام بإذكاء الخلاف بين أطرافه، بحيث يصبح عاجزًا عن مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، التي يواجهها العالم العربي بعد انسحاب أميركا من العراق.
ويضيف البعض أنّ النموذج التركي لا يمكن إسقاطه على واقع الدول العربية لعدّة أسباب، فالسياق التاريخي والثقافي لعملية التحديث التي شهدتها تركيا تختلف عن تلك الموجودة في العالم العربي. والإسلام السياسي في تركيا هو حركة نشأت من رحم مؤسسات متجذّرة ولها تاريخ وباع طويلي الأمد ليس لهما مثيل في العالم العربي، حيث تذوب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في خليط من الشخصانية والتفرّد. أمّا الاختلاف الأساس فيكمن في الفرق بين كيفية صعود فكرة الإسلام السياسي في تركيا وفي بعض البلدان العربية. فالأحزاب الإسلامية في تركيا تقدّمت في ظل حيّز كبير من الديموقراطية بعيدًا عن العنف ما جعلها أكثر واقعية وملاءمة للمجتمع. من هنا أدرك حزب العدالة والتنمية اقتصار مهمته على تطوير المؤسسة العلمانية للدولة التركية، من خلال تجديد الهوية الروحية للإسلام في حياة الأتراك العلمانية وليس هدمها، وجعل رهانه الرئيس متّصلًا بالالتزام بالقواعد العلمانية للحكم في تركيا، مع السماح للحريات الدينية، فالخلاف في تركيا كان ولا يزال على الرؤية لهوية تركيا في العالم، وليس على العلاقة بين الدين والدولة، فهذه القضية محسومة لصالح علمانية الدولة. بينما معظم الأحزاب الإسلامية في الدول العربية، نشأت نتيجة الفراغ الذي لفّ المجتمعات العربية بعد تراجع فكرة القومية لصالح السياسات القطرية الضيقة. وبغياب أي مفهوم حقيقي وحديث للقيم الديموقراطية، تعرّضت هذه الأحزاب إلى الكثير من المحاولات لتحجيمها أو إقصائها. فكانت أمام خيارين أحلاهما مر: إمّا التحجيم والزوال وإمّا استخدام العنف للبقاء والاستمرار، وهذا ما انعكس عليها سلبًا و جعلها غير مستساغة على الكثير من الأصعدة.
في النهاية، إنّ القبول أو عدم القبول لا يمكن أن يلغي الحقائق الدامغة، وأهم هذه الحقائق هي أنّ تركيا أصبحت اليوم لاعبًا أخطر من أن يتم تجاهله، ولكن أيضًا أخطر من يرتمي العرب في أحضانه. لذلك فالضرورة الملحة تقتضي من النخب السياسية العربية إجراء دراسة تشريحية لهذا الدور، لتبيان ما له وما عليه من أجل وضع القواعد الإقليمية التي تُرضي الطرفين. تتطلّب هذه الضرورة تغيير بعض المفاهيم الموروثة ومحاولة فهم وتوظيف هذا الدور بالشكل المطلوب، وذلك عبر الخطوات الآتية:
أ- مَأْسَسَة العلاقات العربية-التركية من خلال زيادة التعاون والتنسيق بين الأطر المؤسسية التركية ومثيلاتها في العالم العربي، ومن أهمّها، المنتدى العربي- التركي المؤسس في العام 2007، وتفعيل دوره وتحوّله إلى إطار مؤسسي شامل يهدف إلى تقريب وجهات النظر حول الغايات المشتركة. كما أنّ مأسسة العلاقات التركية-العربية ستسهم في نشأة وتطوير بيئة ثقافية سليمة بين الطرفين، تهدف إلى تحقيق تقارب ثقافي، بإمكانه أن يمحو ترسّبات الماضي ومخاوف المستقبل.
كما أنّ هذه المأسسة سوف تساعد على تطوير المؤسسات العربية بالمقارنة مع مثيلاتها التركية التي تفوقها تجربة وخبرة.
ب- تعزيز التكامل الاقتصادي مع تركيا، وبخاصةٍ أنّ الاقتصاد التركي بحاجة إلى موارد الطاقة الموجودة في العالم العربي وأسواقه الاستهلاكية. أمّا الدول العربية وبخاصة النفطية، فبسبب نظامها الاقتصادي الريعي الاتّكالي، فهي بحاجةٍ إلى شريك تجاري استراتيجي يحقّق أمنها الاقتصادي، بعيدًا عن الاتكال على الولايات المتحدة لوحدها. والمعادلة الاقتصادية التي يجب العمل على تحقيقها تتمّ بالجمع بين الخبرة التركية والرأسمال العربي واليد العاملة المشتركة، ما يمكن أن يؤدي إلى نشوء تكامل اقتصادي يحقّق مكاسب سياسية للطرفين. هنا، لا بد من الإشارة إلى أهمية الاستثمار العربي في المشاريع الاقتصادية المشتركة الكبرى، كمشاريع ترشيد استخدام المياه وإنتاجها، كمشروع أنابيب السلام الذي يهدف إلى نقل مياه الشفة من تركيا إلى دول الخليج عبر أنبوبين كبيرين، حيث تصبح تكلفة وحدة مياه الشرب ثلث تكلفة تحليته مياه البحر.
ج- الابتعاد عن استخدام لغة الأيدولوجيا في التعامل مع تركيا، واستعمال اللغة السائدة في التعامل بين الدول، أي لغة المصالح الاستراتيجية. السياسة في المجال الدولي ليست إلّا الصراع من أجل المصالح. هذا المبدأ الذي أصبح حقيقة خالدة على اختلاف الزمان والمكان، انعكس على العلاقات الدولية التي تحوّلت إلى مجرد علاقات قوّة ومصالح بين الدول، حيث تسعى كل دولة متسلّحة بتفوقها في أكثر من مجال، إلى فرض إرادتها على ما عداها من الدول، سواء من خلال اللجوء إلى قوة الإقناع (الدبلوماسية) أو من خلال قوة الإكراه (الحرب أو التدخّل العسكري)، مستهدفة بذلك تحقيق مصالحها القومية والاستراتيجية وزيادة قوتها ونفوذها على حساب الأضعف. لذلك، لا بدّ عند البحث في أساسيات أي خلاف بين تركيا وبعض الدول العربية من استنباط مقاربات معرفية أكثر عمقًا وشمولًا، لأنّ الكثير من البحوث والكتابات العلمية التي تتناول العلاقات بين الطرفين ضل سبيله وافتقد العمق المعرفي، لأنّه رَكَنَ فقط إلى الاعتبارات الأيدولوجية والظواهر البادية فحسب، من دون أن يصل إلى الترسبات الضاربة في عمق التاريخ والمتعددة الطبقات والتي لم تكن إلّا تجسيدًا للخلاف حول المصالح بين الطرفين. ومن هذا المنطلق، فإنّ تحليلنا لهذه العلاقات يجب أن ينبع من افتراضنا أنّ الهدف النهائي للسياسة الخارجية التركية، يتركّز حول تحقيق المصلحة الوطنية أوّلاً من دون أي اعتبار للأيدولوجيا. والمثال على ذلك واضح وظاهر للعيان، ويتمثّل في العلاقات التركية -الأذربيجانية حيث تعتبر تركيا الحليف الأبرز، على الرغم من أنّ معظم سكان أذربيجان هم من الطائفة الشيعية وعلى المذهب الإثني عشري.
لائحة المراجع باللغة العربية :
1- بريجنسكي زبغينيو، رقعة الشطرنج الكبرى: الأوّلية الأميركية ومتطلباتها الاستراتيجية، ترجمة أمل الشرقي، دار الأهلية، الأردن، 2012.
2- الحجار باسل، الخليج العربي بين الاستراتيجيّتين الإيرانية والأميركية 1971-1991، أطروحة دكتوراه غير منشورة، بيروت، 2017.
3- الغزالي حرب أسامة، "الاستراتيجية الأميركية تجاه الخليج العربي"، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ع 38، نيسان 1982.
4- كنزر ستيفن، العودة إلى الصفر إيران و تركيا ومستقبل أميركا، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة أنطوان باسيل، الطبعة الأولى، بيروت، 2012.
5- كيسينجر هنري، النظام العالمي: تأمّلات حول طلائع الأمم و مسار التاريخ، ترجمة فاضل جكتر، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2015.
6- لابفيير ريشار، التحوّل الكبير، دار الفارابي، بيروت ،2008.
7- مجموعة من الباحثين، علاقات تركيا مع عالم عربي متغيّر، دراسة متوفرة على الموقع الإلكتروني لمركز كارنيغي للشرق الأوسط .
8- محمد حسنين هيكل، الأمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق، دار الشروق، القاهرة، 2008.
9- كارتر جيمي، جيمي كارتر مذكرات البيت الأبيض، ترجمة سناء شوقي حرب، شركة المطبوعات للتوزيع و النشر، بيروت، 2012.
10- ميراك فيسباخ موريال وواكيم جمال، السياسة الخارجية التركية تجاه القوى العظمى والبلاد العربية منذ العام 2002، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت،2014.
11- هاميلتون نايجل، القياصرة الأميركيون سير الرؤساء من فرانكلين روزفلت إلى جورج دبليو بوش، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت ، 2013.
12- هيكل محمد حسنين، الزمن الأميركي من نيويورك إلى كابل كلام في السياسة، الأهرام، القاهرة، 1999.
لائحة المراجع باللغة الأجنبية :
1- AKSIN Sina Turkey from empire to revolutionary republic: The emergence of the Turkish nation from 1789 to present, New York university press, New York, 2007.
2- Davutoglu Ahmet, Turkey’s Zero problems foreign policy, article in Foreign Policy magazine، new York، 20 may 2012.
3- FEROZ Ahmad, The making of modern Turkey، Routledge, London،1993.
-4 FRIDMAN George, The next 100 years :A forecast for the 21st century, Doubleday, New York, 2009.
5- Hale William, Turkey the Middle East and the Gulf crisis, international affairs vol 68, new york, 1992.
[1]- هنري كيسينجر، النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ، ترجمة فاضل جكتر، دار الكتاب العربي، بيروت، 2015 ص 351.
[2]- تقع قاعدة أنجرليك والتي تعتبر أكبر قاعدة لحلف شمال الأطلسي على الأراضي التركية.
[3]- تجلّى هذا التعاون بأفضل صوره في دور الموساد الإسرائيلي في عملية القبض على عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني.
[4]- في حال انضمت تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيتغير الوضع القانوني للحجم الكبير للعمالة التركية الناشطة في الاقتصاديات الأوروبية واعتبارهم مواطنين أوروبيين سوف يشكّل أعباء اقتصادية على الدول الأوروبية التي تعاني أصلًا من مشاكل اقتصادية بنيوية.
[5]- ستيفن كنزر، العودة إلى الصفر إيران وتركيا ومستقبل أميركا، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة أنطوان باسيل، الطبعة الأولى، بيروت، 2012، ص 177.
[6]- Ahmet Davutoglu ، Turkey’s Zero problems foreign policy ، article in Foreign Policy magazine ، new York ، 20 may 2012
[7]- عالم جيوبوليتيك بريطاني(1861-1947)، درس في أوكسفورد ثم عُيّن مديرًا لمعهد العلوم الاقتصادية في لندن وانتخب عضوًا في مجلس العموم البريطاني لمدة 12 سنة ، صاحب نظرية قلب الأرض التي تقول بأنّ "من يسيطر على قلب الأرض (أوراسيا) يسيطر على العالم القديم (آسيا - أوروبا - أفريقيا) وأنّ من يسيطر على العالم القديم يسيطر على العالم كلّه".
[8]- زبغينيو بريجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى: الأولية الأميركية ومتطلباتها الاستراتيجية، ترجمة أمل الشرقي، دار الأهلية، الأردن، 2012، ص 12.
[9]- تبيّن لماكايندر أنّ قارات العالم القديم الثلاث متصلة فيما بينها وتؤلف قارة واحدة أسماها "أوراسيا" أو بالجزيرة العالمية نظرًا لكونها محاطة بالمياه من الجهات كافةً. واعتبر مكايندر أنّ منطقة القلب التي تتألف من الجزء الشرقي من أوروبا والجزء الغربي من آسيا تمثلان قلب هذه الجزيرة العالمية التي تؤمن السيطرة عليها السيطرة على القارة الأوراسية كافة.
[10]- عالم جبوبوليتيك وأكاديمي أميركي، هولندي الأصل، شغل منصب مدير معهد العلاقات الدولية في جامعة ييل المشهورة وأستاذ العلاقات الدولية فيها. طرح نظرية حوافي القارات التي تقول بأنّ "من يسيطر على حوافي القارات يسيطر على العالم".
[11]- باسل الحجار، الخليج العربي بين الاستراتيجيتين الإيرانية والأميركية 1971-1991، أطروحة دكتوراه غير منشورة، بيروت، 2017، ص 282
[12]- موريال ميراك فيسباخ وجمال واكيم، السياسة الخارجية التركية تجاه القوى العظمى والبلاد العربية منذ العام 2002، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت،2014، ص 48.
[13]- أسامة الغزالي حرب، "الاستراتيجية الأميركية تجاه الخليج العربي"، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ع38، نيسان 1982، ص 42.
[14]- للمزيد من المعلومات حول العلاقات التركية-الأميركية بعد الحرب الباردة أنظر: نايجل هاميلتون، القياصرة الأميركيون سير الرؤساء من فرانكلين روزفلت إلى جورج دبليو بوش، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 2013، ص 547-561.
[15]- Sina AKSIN. Turkey from empire to revolutionary republic: The emergence of the Turkish nation from 1789 to present، New York university press، New York،2007، page 253
[16]- ستيفن كنزر، العودة إلى الصفر إيران وتركيا ومستقبل أميركا، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة أنطوان باسيل، الطبعة الأولى، بيروت، 2012، ص 167.
[17]- Ahmad FEROZ ، The making of modern Turkey، Routledge ، London، 1993 ، page 181
[18]- William Hale، Turkey the Middle East and the Gulf crisis، international affairs vol 68، new york،1992،page 679
[19]- محمد حسنين هيكل، الأمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق، دار الشروق، القاهرة، 2008، ص 47.
[20]- للمزيد من المعلومات حول الوثيقة العظمى للحريات انظر: ريشار لابفيير، التحوّل الكبير، دار الفارابي، بيروت، 2008.
[21]- لمزيد من المعلومات حول هذه الدراسة أُنظر: محمد حسنين هيكل، الزمن الأميركي من نيويورك إلى كابل كلام في السياسة، الأهرام، القاهرة، 1999، ص 17
[22]- George FRIDMAN،The next 100 years :A orecast for the 21st century،Doubleday،New York، 2009 page 81
[23]- مجموعة من الباحثين، علاقات تركيا مع عالم عربي متغير، دراسة متوفرة على الموقع الإلكتروني لمركز كارنيغي للشرق الأوسط، تاريخ الدخول إلى شبكة الإنترنت :3\7\2017 .
[24]- ستيفن كينزر، العودة إلى الصفر إيران وتركيا ومستقبل أميركا، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة أنطوان باسيل، الطبعة الأولى، بيروت، 2012 ، ص 215 .
Turkish Strategic transformation
The end of the war between the United States of America and the Soviet Union was a crucial factor for countries to rewrite their strategies and foreign policies to be in harmony with the new world system that rose from the ashes of Cold War. Turkey was one of the leading countries who rewrote their foreign strategies towards their Arab surroundings after around half a century of voluntary isolation, and that was because of:
1- The rising geostrategic and geopolitics importance in the Arab world for it is a historical connecting link between the world`s biggest civilizations, a center of several interconnected geopolitical circles, and a vital pillar in the relationship between the East and the West.
2- The unreal ancient Turkish politics and their failure to achieve their goals among which the most important goal was to join the European Union. Political facts have proven that the Union was not ready to accept Turkey for many economic, political and social reasons. Therefore, Turkey had to produce new politics aiming to end the hostility with the Arab world.
3- The change in the concept of geopolitics after the fall of the Soviet Union due to the increasing importance of raw materials and consumer markets in building State economics and the appearance of the petrol geopolitics which gave priority to earning raw materials and consumer markets over earning lands when making agreements and drawing foreign policies of the State. Therefore, it was natural for Turkey to turn their interest towards the Arab region full of energy resources.
4- The economic factor, especially that the Arab region can play a vital role as a strategic and economic center for Turkey due to the numerous economic opportunities available in the Arab world.
5- The American acceptance of the new Turkish role since USA found that Turkey can be a good ally in the Arab region and a stability that serves its long term policies especially after Iran`s emergence as an adverse power.
To turn the new Turkish politics into a fact, the Turkish leaders had to find a way or a destination from which they can enter the depth of the Arab region, and there was not a better way than the political Islam to achieve this intent.
Transformation stratégique Turque
La fin de la guerre entre les Etats Unies et l`Union Soviétique forme un facteur essentiel poussant les nations a réécrire leur stratégies et politiques étrangères pour être en harmonie avec le nouvel système mondial généré par la guerre froide. La Turquie a été une des première nations qui ont réécrit leurs stratégies étrangères envers leur environnement arabe après un demi-siècle d`isolation volontaire, et c`était a cause de :
1- L`importance géostratégique et géopolitique croissante dans le monde arabe puisqu`il était un lien de connexion historique entre les civilisations les plus grandes, le centre de plusieurs cercles géopolitiques interconnectés, et a joué un rôle essentiel dans les relations entre l`Est et l`Ouest.
2- Les politiques turques anciennes et irréelles et leurs incapacité d`achever leurs buts dont le but le plus important était de rejoindre l`Union Européenne. Des faits politiques ont prouvé que l`Union Européenne n`était pas prête à accepter Turquie pour des raisons économiques, politiques et sociales.
C`est pour cela que la Turquie a été obligée à produire de nouvelle stratégies pour mettre fins aux hostilités avec le monde arabe.
3- Le changement dans le concept des géopolitiques après la chute de l`Union Soviétique grâce à l`importance croissante des matières premières et des marchés de consommation dans la construction des économies des nations, et l`apparence des géopolitiques de pétrole qui ont donné la priorité à gagner les matières premières et marchés de consommation au lieu de gagner des terrains au temps d`organisation des accords et des politiques étrangères de la Nation. Alors, il est naturel pour la Turquie de s`intéresser à la région arabe pleine des ressources d`énergie.
4- Le facteur économique, surtout que la région arabe peut jouer un rôle important comme un centre stratégique et économique pour la Turquie grâce aux différentes opportunités économiques disponible dans le monde arabe.
5- L`acceptation américaine du nouveau rôle de la Turquie puisque les Etats Unis ont trouvés que la Turquie peut être un allié de poids dans la région arabe et une stabilité qui peut servir ses politiques à long terme surtout après l`émergence iranienne comme un pouvoir adversaire.
Pour faire entrer les nouvelles politiques turques en vigueur, les leaders turques doivent trouver un moyen ou une destination pour entrer le profondeur de la région arabe, alors l`islam politique était le moyen le plus convenable pour réaliser ce but.