- En
- Fr
- عربي
التكنولوجيا والعولمة: سلطة المعلومات
ما هي التكنولوجيا؟ وما هي العولمة؟
ثمّة محاولات عديدة ومتنوعة لتعريف العولمة, تحاول كلها, ومن وجهات نظر مختلفة, مقاربة التعريف الأدق والأشمل, لكن كلاً منها تنظر إلى كل موضوع على حدة.
من جهتنا سوف نعتمد تعريفاً محدداً لكل من التكنولوجيا والعولمة, يعتمد الشمولية ويكون مستنداً إلى جذور كلٍ منهما, وسنرى بموجب ذلك مدى التقارب بل والتكامل بين المفهومين.
ان التكنولوجيا هي: “العلوم التي ترتبط بأستنباط وإستعمال الوسائل التي تشبه أو التي هي إمتداد للحواس والقدرات والوظائف البشرية”.
من تلك الحواس: السمع والبصر, ومن تلك القدرات: الحركة والكتابة والحفظ. التكنولوجيا إذن هي العلوم التي توسع مدى محيط أي فرد في المجتمع. قبل التكنولوجيا كان الفرد في المجتمع يتعامل مع محيط محدود, لايمكنه الإنتقال أكثر من مئات الأمتار في اليوم, لايتكلم إلا مع من يلتقيهم, لايسمع إلا من مسافة محددة, لايسجل أو يحفظ إلا كمية محددة من المعلومات: على حائط أو على ورقة... مع التكنولوجيا أصبح الفرد يرى, وفي اللحظة نفسها, أحداثاً تقع على مئات وآلاف الأميال, ويرى أحداثاً وقعت منذ سنوات ضوئية على مسافة ملايين الأميال. أيضاً أصبح يسمع من مسافات بعيدة جداً, ويستشعر بأصوات وذبذبات لم يكن يعلم حتى بوجودها. مع التكنولوجيا أمكن للإنسان الإنتقال لمئات بل لآلاف الكيلومترات في الساعة الواحدة. وأصبحت فعاليته لدى أداء أي عمل أعلى, كان يمكنه رفع أوزان محددة, الآن يمكنه رفع ونقل مئات الأطنان. كان يلزمه حائط مكتبة البيت بكامله ليحفظ ملايين المعلومات, الآن أصبح يحفظ البلايين منها في حيز صغير جداً لايتعدى الملليمترات المربعة.
أما العولمة, وبكلمات بسيطة وموجزة, فهي:
“رفع وإختصار حدود المكان والزمان”.
مع العولمة غدا أي أمر يحدث في أي مكان في العالم كأنه يحدث على مرآى من كل منا, وخلق الإنطباع أنه في متناول أيدينا: نطلع عليه؛ نتأثر به؛ نؤثر فيه أي نتفاعل معه.
نعرف أن المرء يمكنه اجتياز قريته الصغيرة خلال دقائق, وأن أي حدث يطرأ فيها من مرض أوعرس أو وفاة مثلاً يتأثربه كل فرد من أفراد هذه القرية, بحيث يحكم هذا الحدثُ أسلوب الحياة فيها. الآن نرى أن سكان الكرة الأرضية بمجملهم تقريباً يتأثرون في اللحظة نفسها, بحدث يحصل في مكان بعيد جداً عن معظمهم, مثلا: مباراة كرة قدم أو كارثة جوية...
لذلك أصبحت الكرة الأرضية تسمى بـ “القرية الكونية”. هذا هو المصطلح الذي يستعمل عادة كرمز للعولمة Globalisation .
من يعتقد أن التكنولوجيا هي عبارة عن: الكمبيوتر والكابل والسيارة والطائرة والصاروخ, عليه ألاّ ينسى أن الشوكة والسكين والمسمار والمطرقة هي من منتجات التكنولوجيا أيضاً. ومن يعتقد أن العولمة ما هي إلا غزو غريب لحضارتنا وغزو من سلع جديدة لسوقنا المحلية, يمكنه أن يرى أن هذه العولمة تسمح لحضارتنا بالوصول والإنتشار لدى حضارات أخرى. وتسمح أو تلزم حضارة, كالحضارة الصينية مثلا, ألا تبقى محجوزة داخل سور الصين العظيم. نعلم أن كثيرين ومنهم توماس فريدمان في كتابه الصادر عام 1999, “سيارة الليكساس وشجرة الزيتون”, إعتبروا أن العولمة انطلقت في اللحظة التي تمّ فيها هدم جدار برلين.
إذن, التكنولوجيا هي كل ما يسمح بتوسيع الأفق لحواس وقدرات وطاقات الإنسان لمدى بعيد جداً عنه. والعولمة هي إستخدام وتوظيف ذلك على مستوى العالم أو الكرة الأرضية.
بعد الوقوف على ماهية كل من التكنولوجيا والعولمة, وانطلاقاً من العلاقة التكاملية بينهما, سنعمد إلى إستعراض شامل لمختلف أنواع التكنولوجيا سعيا لتحديد أفضل لهويتها ولتكوينها.
ما هي أنواع التكنولوجيا ؟
إن التكنولوجيا وكذلك العولمة تتفاعلان مع القطاعات والميادين كافة: الصناعية, التجارية, الزراعية, الإقتصادية, الإدارية, الطبية, العسكرية والسياسية وما له علاقة بالطاقة والنقل...
ولدينا أنواع مختلفة من التكنولوجيا, إذ مع كل حقبة يظهر نوع جديد يأخذ مكانه في هذا العالم, بالتالي فإن أي محاولة للإحاطة بأنواع التكنولوجيا, هي محاولة مرحلية. حاليا, يمكن تبويب التكنولوجيا ضمن إطار الأنواع التالية:
أ تكنولوجيـا المعلومات:
إنها التكنولوجيا التي ترتبط بالمعلومات وتحاكي نظام عمل الجهاز العصبي والدماغ البشري. تلك التكنولوجيا بدأت مع اللغات والرموز, ومع الكتابة, ولاحقا مع الطباعة. وبتلك الوسائل بدأت تتسع حدود المكان والزمان في المجتمعات. وقد سمح ذلك بحفظ المعلومات والعلوم في أماكن متعددة وفي أزمنة متعاقبة, كما سمح بنقلها وتناقلها وتفاعلها وإغنائها. ثُم كان التلغراف, والمذياع, والهاتف, والتلفاز, والكمبيوتر, والهاتف النقال, ومحطات البث الفضائية.
الإختراع الأكثر دلالة والأقرب إلتصاقاً وتكاملاً مع العولمة, إذ هو الذي أعطاها الحجم والأهمية التي تتمتع بهما اليوم, هو: شبكة الإنترنت. لذلك سنعمل على الخوض في تفاصيل هذا النوع من التكنولوجيا.
ب تكنولوجيـا وسائل النقل:
إنها التكنولوجيا التي تمثلت بإختراع وإستعمال الدولاب, والعربة, والمركب, والدراجة, والسيارة, والحافلة, والقطار, والشاحنة, والباخرة, والطائرة, والصاروخ, والمركبة الفضائية. مع تشعبات وأنواع كل واحدة من هذه الوسائل ومع ما يرتبط بها من نشاطات ووسائل مرافقة ومساعدة, مثل: الطرق, والخطوط الملاحية والجوية, وأنظمة السير والقيادة والملاحة, والبريد بكل أنواعه والشحن...
ج تكنولوجيـا مصادر الطاقة:
إن أي عمل يقوم به الإنسان يحتاج إلى طاقة. وبما أن التكنولوجيا ترتبط بالوسائل التي تساعد الإنسان على القيام بما يريد لذلك تحتاج تلك الوسائل إلى طاقة. بالتالي أوجب ذلك أن تكون هناك تكنولوجيا تهتم وترتبط بالطاقة والموارد الطبيعية ومصادرها ووسائلها وإستعمالاتها. فكانت النار, والفحم, والآلة البخارية, والفحم الحجري, والبترول, والغاز, والهيدروجين السائل, والطاقة النووية.
وكانت هناك أيضا أنواع أخرى من مصادر الطاقة مثل: الطاقة الشمسية, والطاقة من الرياح, والطاقة من المياه (السدود على الأنهار والشواطىء, وإستخدام الأمواج) وغيرها. تلك الأخيرة من مصادر الطاقة النظيفة لأنها لاتترك ترسبات ولاتنبعث منها غازات مضرة, أي لا تلوث فيها. والبعض يطلق عليها إسم الطاقة المتجددة أو الدائمة, لأن مصدرها لاينضب في حين أن المصادر التي ذكرناها سابقا تنتج الطاقة عبر عملية تحويل, أي أن المادة الخام سوف تنضب في يوم من الأيام. يضاف إلى ذلك أن عملية التحويل ينتج عنها تلوث للبيئة.
من ناحية ثانية ساعدت التكنولوجيا على إستنباط وإستعمال وسائل لنقل وحفظ مصادر الطاقة تحت أشكال مختلفة. فكانت خزانات المياه, والسدود, والكهرباء, والبطاريات...
د تكنولوجيا الفضاء:
مع إختراع المرقاب وأجهزة الرصد الجوي والفضائي والكوني. ومع الطيران وإختراع الطائرة والصاروخ, ومع إختراع مواد خاصة, وآلات حاسبة فائقة السرعة. وبعد التقدم والتطوّر الهائل في مختلف المجالات, أمكن سبر غور الفضاء الخارجي والذهاب إلى الكواكب وإستكشافها والعودة إلى الأرض. كما أمكن بناء محطات في الفضاء. وقد جرى مؤخراً فتح باب السياحة في الفضاء, ولا عجب أن نسمع نحن أو أولادنا عن شركات لبيع أو لشراء عقارات أو لبناء مساكن في الفضاء.
هـ التكنولوجيـا الحياتية:
بما أن التكنولوجيا ترتبط بالوسائل التي تشبه أو التي هي إمتداد للحواس والقدرات والوظائف البشرية, لذلك فمن الطبيعي أن تتوجه التكنولوجيا نحو أجهزة الجسم البشري: الجهاز التنفسي أو الجهاز الهضمي أو الجهاز العصبي أو غيرها. لذا كانت العلوم الطبية والمخبرية والجراحية, وكانت الأدوية والعقاقير, وكانت العلوم الطبية المساعدة بكل الوسائل والتقنيات. تلك التكنولوجيا أنتجت طفل الأنبوب وعمليات الإستنساخ.
تكنولوجيا المعلومات والعولمة
بعد الإطلاع على مختلف أنواع التكنولوجيا, نقف قليلا لنلاحظ أنه من بين جميع أنواع التكنولوجيا, وحدها تكنولوجيا المعلومات هي التي أوصلت العولمة إلى ما هي عليه اليوم. إذ أن بقية أنواع التكنولوجيا كانت موجودة منذ قرون, البعض المتقدم منها موجود منذ عشرات السنين, ولم تصل معها العولمة إلى ما هي عليه الآن.
منذ مئات السنين وجدت وسائل النقل, ومنذ عشرات السنين أيضاً كانت هناك الطائرات النفاثة والصواريخ. لكن مع وسائل النقل جرى تقليص للزمان والمكان وثبت أنه لا يمكن إلغاء الزمان أو المكان. أيضا منذ عشرات ومئات السنين كانت هناك المصادر المختلفة للطاقة, بما فيها الطاقة النووية. ولم تصل العولمة إلى ما هي عليه اليوم. وبالنسبة لتكنولوجيا الفضاء يمكن القول أنها كانت متقدمة منذ عشرات السنين أكثر منها اليوم. والسبب على ما أعتقد أنه كانت في السابق تنافسية وكان هناك تسابق للتحكم في الفضاء, أو بالأحرى للتحكم من الفضاء, الآن أصبح الهدف محققاً, فلا داعي لمزيد من الإستثمار في هذا المجال.
إذن من بين كل أنواع التكنولوجيا نجد أن تكنولوجيا المعلومات هي الأكثر دلالة والأقرب إلتصاقاً وتكاملاً مع العولمة. وتحديداً من بين كل نماذج تكنولوجيا المعلومات فان شبكة الأنترنت هي التي أعطت للعولمة الأهمية التي تتمتع بها اليوم. مع الكمبيوتر المستقل كانت المعلومات محدودة بالمكان والزمان حيث يوجد هذا الكمبيوتر. مع البث التلفزيوني جرى إلغاء للمكان وللزمان, ولكن المعلومات كانت تسير بإتجاه واحد, فلا تبادل معلومات ولا تفاعل ( بث ). في حين أنه مع شبكة الأنترنت تصل المعلومات إلى كل الإتجاهات وبلمح البصر.
وبما أن العولمة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بتكنولوجيا المعلومات. لذلك سنعمد إلى إستعراض شامل لتلك التكنولوجيا, ثم نستعين بنموذج يجسد العلاقة التكاملية بينهما. وبذلك تتركز مساهمتنا على إستعراض العولمة من البنية التكوينية لها.
1 تكنولوجيـا المعلومات:
يمكننا تكرار مقولـة وليم ماركيـز: “إن ما حققته البشريــة في السنوات العشر الأخيرة يعادل ما أنجزته البشرية من آلاف السنين”.
إن المعطيات هي أرقام أو أشكال أو صور, ومع إعطاء مضمون لها تتحول هذه المعطيات إلى معلومات. ولدى وضع تلك الأخيرة في اطار معين وربطها بمعلومات أخرى وقواعد معيّنة تصبح معرفة.
إن التعامل مع المعلومات يتضمن عمليات تشبه تماماً العمليات التي يقوم بها الجهاز العصبي والدماغ البشري. تلك العمليات هي:
1- الإدخال: إن إدخال المعلومات يتم بواسطة عناصر الإدخال التي هي آلات الإلتقاط للذبذبات والصوت والشكل والصورة أي المجسـات.
2- المعالجة: المعالجات الإلكترونية للمعلومات تتم بواسطة برامج المعالجة المتنوعة لقواعد المعلومات والجداول والنصوص والرسوم والصور والأفلام, وبرامج التعرف على الصوت والشكل والصورة, ووحدات الحساب والمقارنة والترميز والتشفير. وكل البرامج المرافقة والمساعدة.
3- التخــزين: إن تخزين المعلومات وحفظها يتم بواسطة الشرائط ووحدات التسجيل والاسطوانات الممغنطـة والضوئية والبطاقات “الذكية”, ووحدات الذاكرة الثابتـة والمتحركة.
4- الإصدار: إن إصدار ونشر المعلومات يتم بواسطة الشاشات والطابعات على اختلاف أنواعها, والمذياع والشرائط والاسطوانات الممغنطة والضوئية والبطاقات “الذكيـة”.
5- النقل: إن نقل المعلومات يتم بواسطة شبكـات وقنوات نقل المعلومات:
سواء بواسطة قنوات عادية او بواسطة ذبذبات عبر الأثير. ويتم نقل المعلومات وفق اساليب مختلفة:
- من نقطة إلى كلّ الاتجاهات: بث كالبث الإذاعي والتلفزيوني.
- من نقطة إلى نقطة أخرى مع تأمين الاتصال بينهما: هاتف او فاكس أو Teleconference
- من نقطة إلى نقطة بدون تأمين اتصال مسبق بينهما: بريد الكتروني, برقية.
نعلم أيضا أن لشبكات المعلومات أشكالا وأحجاما مختلفة: المحلية, الإقليمية والعالمية. وغالباً ما تتم الاستعانة بالأقمار الاصطناعية لدى إستعمال الشبكات العالمية. وداخل قنوات الاتصال يمكن استعمال خط واحد مع إتجاه واحد لنقل المعلومات, أو خطين: خط لكل اتجاه, أو خط واحد للإتجاهين.
كخلاصـة نرى ان تكنولوجيا المعلومات سمحت بعملية تزاوج بين الأشكال المختلفة لها: المرئية والمكتوبة والمسموعة والمرسومة.
2 أحدث التطورات في تكنولوجيا المعلومات:
قبل العقدين الأخيرين كنا نعتبر ان جميع أطر التعاطي مع المعلومات وصلت الى مستوى متقدم جداً, ولكن معالجة المعلومات التي تتم بسرعات وأحجـام خيالية وبشكل متناه في الدقة لا يمكنها الاستنباط. أي أنه لدى معالجة أية معلومات تكون الحصيلة هي إحدى النتائج التي كانت مرتقبة الحصول لدى حدوث نفس الظروف ومع نفس المعطيـات. إذن لا ذكاء في المعالجة أي لا مجال للخروج بنتيجة او إجراء ما كانت ظروفه ومعطياته غير متوقعة. لكن الآن مع تطور تكنولوجيــا المعلومـات, ومحـاكــاتها لأنظمة التفكير البشري ونظام شبكات الخلايـا في الدماغ وفقاً للهندســة الوراثيــة, أمكن إستخدام عناصر ذكيـة ضمن أجهـزة وشبكات المعلومات, تتمثل تلك العناصر بالبرامج المتخصصة:Expert Systems التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence.
يضاف إلى ذلك أنّ تلك البرامج الذكية وغيرهـا لم تعد بالضرورة متمركزة في نقطة معينة من شبكة المعلومات, بل يمكنها ان تتنتقل بين نقاط وعناصر الشبكة وتستقر وتعمل حيث تريد او حيث يطلب منها ذلك. ثم تقرر هي أن تنتقل لاحقا إلى نقطة ثانية ومنها إلى ثالثة, وهكذا دواليك. تلك هي الحال مع برامج العميــل المتحرك Agent Mobile.
مستقبلاً, ومع جيل جديد, يمكن الاعتقاد أنه سيصدر عن تكنولوجيا المعلومات عمليات فيها نوع من الخيال. الذكاء هو الخروج (لدى حصول ظرف غير متوقع) بالإجراء أو النتيجـة المنطقية الأقرب لظرف مشابه. بينما الخيال هو الخـروج بإجـراء أو نتيجـة بعيدة عما هو متوقع.
بالإضافة إلى ذلك أمكــن تطبيع الكومبيوتر ليتفاعل مع الانسان وليس العكس كما كان في السابق, حيث كان يتوجب على الانسان الذي يريد ان يستعمل الكومبيوتر وشبكات المعلومات أن يكون متطبعاً معها وأن يعرف أسلوب عملها ويتعامل معها على أساسه. الآن صار لتلك الأجهـزة وتلك الوسائل “واجهــة” تتفاعل مع الإنسان أياً كانت لغته وأيا كان إدراكه, وأصبحت تلك الأجهزة وبرامجها تتكلم لغة هي أقرب إلى لغـة وعقل وادراك الانسان العادي.
من ناحية ثانية العمل على تطوير شبكة الأنترنت يتركز على توسيع الطاقة الإستيعابية لخطوط وقنوات النقل المحلية والإقليمية والعالمية. محليا من البيت أو المكتب إلى الموزع يصار إلى إستعمال أنظمة الإتصال الرقمية (ISDN). إقليميا بين مراكز التوزيع وبين الدول المتجاورة يصار إلى إستعمال الألياف الضوئية. أما عالميا فيصار إلى إستعمال المحطات الفضائية للإتصالات مع ذبذبات قصيرة الطول بعيدة المدى. مؤخراً ومع البث التلفزيوني الرقمي سيكون هناك تكاملٌ بين شبكة الأنترنت وبين محطات البث التلفزيوني.
3 نموذج عن إستعمـالات تكنولوجيـا المعلومات
من بين نماذج عديدة تجسد إستعمالات تكنولوجيا المعلومات ضمن إطار العولمة, سوف نستعرض بالتفصيل نموذج الشركات متعددة الجنسيات والتجارة الألكترونية.
أما نموذج وسائل الإعلام التي تبث فضائيا, فهي تقع ضمن إطار التكامل بين تكنولوجيا المعلومات والعولمة. لأن الخبر الإعلامي, الموضوعي أو الموجه, يصل إلى أية نقطة على ظهر الكرة الأرضية بلمح البصر. بالتالي يساهم هذا النموذج في عملية الغاء حدود المكان والزمان, وبشكل فعال جدا, مثال على ذلك: حرب الخليج, الإنتخابات الأميركية, إنهيار أسواق العملات في الشرق الأقصى. لكن المعلومات في هذا النموذج ما زالت تسير بإتجاه واحد كما أوردنا سابقا. ويمكن أن يكون هذا الأسلوب هو المطلوب لمن يريد توظيف وإستعمال العولمة للغزو الحضاري أو التجاري أو السياسي...
الشركات متعددة الجنسيات والتجارة الألكترونية:
في السابق كان من يفتح متجراً يكون همه أن يلبي طلبات وحاجات أبناء الحي الذي هو فيه, ويطمح أحيانا إلى استقطاب بعض الزبائن من الأحياء المجاورة. الآن مع وسائل النقل ومع تكنولوجيا المعلومات أمكن إنشاء وإدارة شركات متعددة الجنسيات منتشرة في جهات الأرض الأربع. وذلك لأسباب كثيرة منها أن تكنولوجيا المعلومات ساهمت وبشكل أساسي في تنظيم وإدارة تلك الشركات. إذ أمكن الارتقاء إلى أرقام ضخمة في أعداد العمال والموظفين, وفي أعداد مراكز الانتاج والتوريد والتصدير والمستودعات. وإذ أمكن الإحاطة بكل ما يلزم من معلومات وربطها ببعضها البعض, وأخذ القرار الأجدى, وتنفيذه مباشرة ومراقبة العمل والاداء, وذلك بشكل مباشر. والتدخل فوراً لتعديل أي خلل يحصل ولو كان ذلك في اية بقعة جغرافية. بما ان كل مقومات الادارة ومستلزماتها توفرهـا تكنولوجيا المعلومات بدون اية إعاقة سببها المكان أو الزمان أو حجم المعلومات, إذن:
لا شيء يمنع من توسع أفق الاستثمار والتوظيف للموارد. و لا شيء يحد من الإنتشار, خصوصاً انه مع ضخامـة الكميات: كميات المواد الأولية والسلع, ومع تدنـى الكلفة, يصبح حجم الشركة في الأسواق مؤثراً: إن باتجاه المنافسة أو باتجاه الاحتكار. وبالتالي تتسع بشكل ملحوظ دائرة المنافسة. المنافسة كانت على مستوى الحي ثم البلدة ثم المقاطعة ثم المحافظـة ثم الدولة, الآن اصبحت على مستوى المنطقة والعالم.
أن مفهوم العمل الإداري قد تغير. النظرة القديمة للإدارة تقسمها عمودياً إلى أطـر استراتيجية عليا, وأطر تكتيكيـة إنتقالية وسطـى, وأطر تنفيذية دنيا. وتقسمها افقياً إلى مستويات, في كل مستوى نجد وظائف مختلفة تقوم بها أجزاء من المؤسسة, تلك الوظائف تتعلق بالإنتاج, والتسويق, والبيع, والتوزيع, والتمويل, والرقابـة, والمالية وغيرها.
الآن مع تكنولوجيا المعلومات تلاشت المفاهيم القديمة: إن بين الأطر العمودية أو بين الوظائف الأفقية, وازداد التداخل والتفاعل بينها. وينبغي التذكير أن تلك الحالة هي تجسيد عملي للعولمة. إذا صرنا نرى ان الإدارة هي عبارة عن مجموعة أنظمة, لكل منها هويته ووظيفته, وهو يتداخل ويتفاعل بشكل تكاملي مع بقية الأنظمة. إن وجود تلك الأنظمة على مستوى الكرة الارضية, وتفاعلها مع بعضها البعض سمح بنشوء وإستمرار الشركات متعددة الجنسيات والتجارة الألكترونية. من تلك الأنظمة نذكر:
أ نظام الأعمال المكتبية : Office Automation System
إنه النظام الذي يتركز العمل فيه على طباعة النصوص والتقارير والجداول والرسوم البيانية والمذكرات والتعاميم وتأمين توثيقها وإرسالها وتوزيعهـا. ويتضمن ايضاً البريد الإلكتروني ومتابعته وتنظيم الاجتماعات: جداول أعمالها, محاضرها, توقيتها, أماكنها والمشاركين فيها. رصد الدوام وتنظيم المواعيد. المراسلات: الصادر والوارد. ويمكن تقديم تلك الخدمات لأكثر من مرجع في آن معاً.
ب نظام الاتصالات: Teleconference and Telecommunication System
يسمح هذا النظام بالإجتمــاع عن بعد, وبذلك يتسنى لأعضاء لجنة أو مجلس أو لمجموعة خبراء, يتواجد كل منهم في بلد, أن يجتمعوا ويتحاوروا ويرى كل منهم من يريد من بين الآخرين, ويتبادلوا الوثائق والملفات خلال الإجتماع كلٌ في مكتبه. ويمكنهم المشاركة عن بعد في تجارب مخبرية وعمليات جراحية, وذلك بشكل مباشر. يسمح هذا النظام أيضا باستعمال البريد الصوتي الشبيه بالبريد الإلكترونيVoice mail إذ يمكن نقل وترك واستقبال أية رسالة صوتية من إلى أي جهاز هاتف أو أي جهاز كومبيوتر.
ج نظام الإدخال والترحيل: Transaction Process System
في السابق, كانت عمليات الإدخال تتمّ في وقت ما, ولاحقاً بعد انتهاء العمل مع الزبائن تتم عمليات الترحيل للمعطيات, وتصدر اللوائح والجداول لليوم التالي. الآن تتم عمليات الترحيل مباشرة عند إنجاز عمليات الإدخال والتدقيق, وذلك بشكل فوري. بالتالي يكون واضحاً لدى أي مطلع على معلومة معينة في شبكة محددة أن تلك المعلومة حتى لحظـة اطلاعه عليها, هي الأحدث فعلياً. وهذا أسهم في إطلاق التجارة الإلكترونية, والنقل الألكتروني للأموال, واتساع أعمال البورصة, والعمل عن بعد...
د نظام المعلومات للإدارة : Management Information System
إن نظام الترحيل للأعمال اليومية يسهل سير العمل اليومي بشكل ممتاز, لكنه يبقى بخيـلاً لجهة المعلومات التي يحتاجهـا المسؤول المباشر والمسؤول الأعلى, إن لجهـة التدقيق أوالرقابة أواتخاذ القرارات وإما للتعديل أو للتطوير. إن نظام المعلومات للإدارة يربط صعوداً عمليات التنفيذ بعمليات التخطيط واتخاذ القرار, ونزولاً يربط القرارات والتعاميم ويحولها إلى إجراءات تنفيذية. كما أنه يؤمّن المعلومات اللازمـة بالشكل المطلوب وفي الوقت والزمان المناسبين.
هـ نظام الدعم لإتخاذ القرار: Decision Support System
انه النظام المركزي الذي تتمحور حوله بقية الأنظمة إذ تصدر عنه القرارات التي تحكم مسار بقية الأنظمة. وفيه من وسائل الضبط والمراقبة ما يكفي لتحديد كافة المعطيات والمعلومات التي تعكس حسن سير ما تـم أخذه من قرارات. وهو يربط المؤسسة وأنظمتها ببعضها البعض داخلياً, ويجمع المؤشرات والمعلومات والمعايير اللازمـة من جميع الأنظمة الداخلية للمؤسسة, كما ويربط المؤسسة بالخارج: بالأسواق وبمصادر التمويل وبالمستهلكين وبكل ماله تأثير سلبي او إيجابي على انتاج وسياسة المؤسسة وتطورها, من: مؤسسات منافسة, مؤسسات تمويلية, مؤسسات تأمين, مؤسسات ضمان, دراسات تسويقية, أسواق مواد أولية أسس ضرائبية.
ويضع النظام كل تلك المعطيات ويجعلها تتفاعل ضمن نماذج, وضمن برامج محاكاة Model Simulation, بحيث يقـدم لأصحاب القرار سيناريوهـات عدة لفئات مختلفة من القرارات, تتضمن الإحتياجـات واللوازم والمقومات اللازمة للتنفيذ, ويتضمن أيضاً التوقعات المختلفة التي تنتج, والجدولة الزمنية اللازمة. يعمل هذا النظام بشكل تفاعلي ديناميكي مع الجهة التي تستعمله. وهو يساهـم في إصدار القرارات الأجدى للتسعير والانتاج والتوزيع, ويسمح بالتحكم بالكلفة, وتحديد الصيغ الفضلى للتصنيع والتوزيع والمواد الأولية.
و نظام نقل الأموال الألكتروني: Electronic Fund Transfer System
إن أي فرد يحمل بطاقة تقول أنه يملك مبلغا من المال يمكنه أن يطلب تحويل جزء من هذا المال إلى متجر في قارة أخرى, لأنه يريد شراء سلعة ما من هذا المتجر. كما يمكنه أن يطلب تحويل جزء آخر لتسديد بدل حجز غرفة في فندق, وجزء ثالث لحجز بطاقة سفر, وذلك يتم في لحظات.
في نهاية الشهر يستعمل رب العمل بطاقة مماثلة لتحويل الراتب الشهري إلى صاحب البطاقة الأولى, وهكذا يتسنى لهذا الفرد أن يقبض راتبه وأن يصرفه دون أن يلمس ليرة أو دولارا أو درهما.
تضاف إلى ذلك كل إمكانات التحويل المالي بين المصارف, وكل عمليات الإدخار وتوطين الفواتير. وعند الحاجة إلى مبلغ نقدي من المال, كي يتمّ دفع ثمن حاجيات من عند تاجر لم ينخرط بعد بهذا النظام المالي, نقصد آلة لسحب النقود (ATM) .
ز نظام التجارة الألكترونية: E-Commerce System
يمكن لأي فرد, دون أن يترك بيته, أن يستعرض أية سلعة يريد, وأن يتفحصها ويدرس مزاياها ويقارنها بغيرها, وأن يساوم بشأن شرائها, وعند الإعتماد يمكنه أن يطلبها ويحدد المواصفات الخاصة التي يريد وأن يدفع ثمنها, تصله تلك السلعة بواسطة نظام بريد عادي أو سريع. لاحقا يمكنه تأمين الصيانة عن بعد أيضا. ويمكن لهذا الفرد أن يقوم بدور الوسيط: يشتري بالجملة ويبيع بالمفرق.
ح نظام البحث الألكتروني: Searching System
في أي نقطة من العالم يمكن لأي فرد يبحث عن معلومة محددة أن يستعين بأنظمة بحث متخصصة تساعده في بحثه. ويمكن لبعض تلك الأنظمة والبرامج (كالأنظمة والبرامج المتحركة التي أتينا على ذكرها) أن تتنقل من محطة في شبكة المعلومات العالمية إلى محطة أخرى. في كل محطة تبحث تلك البرامج وتسأل عن الأماكن والمحطات حيث يمكنها أن تجد المطلوب, عند حصولها على عناوين محطات أخرى تنتقل إليها مباشرة وتتابع البحث. تبقى على هذا المنوال حتى تجد ما هو مطلوب, عندها تعود إلى المركز المحدد حاملة الحصيلة. وفي حال عدم الوصول إلى شيء تعود خالية الوفاض فور إنتهاء المهلة المعطاة لها.
التفاعل مع العولمة
بعد إستعراض العولمة من حيث البنية التكوينية لها, عبر الوقوف على مقومات تكنولوجيا المعلومات وأساليب استعمالاتها, يتبادر إلى أذهان الكثيرين أسئلة بشأن تلك العولمة, منها:
هل العولمة مفيدة للمجتمعات وللشعوب؟ أم أنها مضرة؟
إن كانت هناك مخاطر, ما هي تلك المخاطر؟ وكيف يمكن الحدّ منها؟
في جميع الحالات, كيف يمكننا التعامل معها؟
مساهمة منا في نقاشات تدور هذه الأيام حول العولمة, وتحديداً في تلك المواضيع وتلك الأسئلة, أود أن اطرح بعض المزايا والتأثيرات التي تترافق مع العولمة وطروحاتها, وصولا إلى طرح بعض الإشكالات.
الميزة الأولى: انعدام الزمان والمكان
في السابق كان العمال يذهبون الى البلدان والمناطق الصناعية, الآن أصبحت الشركات بمصانعهـا تذهب إلى حيث اليد العاملة, فتدفع كلفة أقل وتنأى بنفسها وبدولهـا عن تبعـات إقامة العمال وعائلاتهم عندها. وحتى البيت أصبح مكانا للعمل, إذ بإمكان الموظف عبر شبكة المعلومات أن يذهب الى مكتبه, يؤدي عمله ويسلمه في الوقت الذي يريد, كل ذلك من دون ان يترك بيته. بالنسبة للموظف: إرهاق أقل خصوصاً بسبب جو العمل وبسبب وسائل النقل والوقت الضائع فيها والإزعاج الناتج عنها, وفي هذا الأسلوب أيضا كلفة أقل للإنتقال والثياب والطعام. كما أنه يسمح للمرء بالقيام بأكثر من عمل في الوقت نفسه. أما بالنسبة لرب العمل فهناك تحرير من المساحات والأبنية للموظفين, وما يتبع ذلك من إيجارات وصيانة وخدمات مرافقة لوجودهـم في مكاتبهم, وتلافي التأخير بسبب وسائل النقل, وفيه أيضا الحدّ من الحركات النقابيــة....
في السابق كان إجراء أي جردة يتطلب أياماً أو أسابيع, الآن تكفي ساعات ليتم ذلك. السيارة الآن يتم تصنيعها في اماكن متعددة ويتم تجميعها في أماكن أخرى وإرسالها الى نقاط توزيع منتشرة في قارات عدة. إن إعداد أي تقرير يستلزم وقتاً طويلاً لجمع المعطيات وكتابة التقرير وتنقيحه واعادة طباعته وايصاله إلى المرجع. كل ذلك كان يتطلب ساعات واياماً, الآن يتم خلال دقائق. إن الجدول الزمني للعمل كان شهرياً أو أسبوعياً ثم أصبح يومياً. الآن تتمّ جدولة المواعيد بالساعة والدقيقة.
الحصيلة: إنعدم الزمان والمكان, وتلك هي السمة الأساسية التي إنطلقنا منها لتحديد العولمة. ولكن هل تستطيع الشعوب والمجتمعات العيش والإستمرار خارج الزمان وخارج المكان, أي خارج التاريخ وخارج الجغرافيا؟!
الميزة الثانية: توحيد المعايير
في السابق كان التمايز هو السمة الغالبة لدى أي فرد أو مجموعة, كان هناك بتهوفن واحد, كان هناك شكسبير واحد وموليير واحد, كان هناك برج إيفل واحد... الآن مئات المغنين لأي نوع من الموسيقى, ومئات المؤلفين لنفس النوع من الأدب أو الشعر, ومئات ناطحات السحاب.. السمة العامة أن الكل يتبع مواصفات ومعايير واحدة أو موحدة.
في السابق كان التمايز أيضا هو السمة الغالبة لاستقطاب أي مستهلك. وذلك باظهار مواصفات ومقاييس خاصة ومميزة للسلعة التي تقدمها له شركة معينة. ايضاً كل إدارة كانت تنظم عملها وملفاتها وفق أسلوب مميز خاص بها. الآن ومع تكامل السلع وتطورها, ومع تقسيم العمل وتجزئة السلعة إلى أجزاء يتم تصنيعـها كل على حدة. ومع ضرورة تبادل المعلومات والسلع والخدمات أصبحت الحاجة ملحة, إن لم نقل حياتية, لتحديد الأسس والمعايير المشتركة التي تسمح بهذا التبادل والتكامل.
كذلك نسمع مؤخرا بمواصفات الجودة الشاملة العالمية. وأصبح البقال في الحي يسعى للحصول عليها, وهي التي تشترط مواصفات لاعلاقة لها بزبائنه ولا بالبلد الذي يعيش فيه, ولكنه يسعى إلى تسويق منتجاته عبر الأنترنت وعبر البريد إلى بـلاد جديدة.
إن توحيد المعايير في مجتمع ما ينظمه, ويجعله منفتحا, ويعطيه الفرصة للتفاهم مع الآخرين, ومعرفة حاجاتهم ونواياهم, وبالتالي تحقيق التعاون معهم أو إقتحامهم أو تجنبهم والتحصن من الأذى الذي يمكن أن يصدر عنهم.
الميزة الثالثة: غنى المعلومات والثقافات
مع العولمة ومع تكنولوجيا المعلومات أمكن لحضارات كثيرة ولثقافات مختلفة أن تتفاعل مع بعضها البعض. وفي ذلك غنى للجميع وتنويع في أساليب الحياة اليومية. من ناحية ثانية, نعلم أن فتح تكنولوجيا المعلومات أمام الجميع, أدى إلى إنخراط الكثيرين في كرة الثلج تلك, مما جعلهم يقومون بإنتاج كميات هائلة من المعلومات, حتى أصبحت المشكلة في هذه الأيام تكمن في حسن تبويب المعلومات وتنظيمها, بهدف سرعة الوصول إلى المعلومة المطلوبة وتمييزها عن المئات شبيهاتها, في حين أن كانت المشكلة سابقا تكمن في عدم توفر المعلومة التي نريد.
الميزة الرابعة: تعزيز المستهلك على حساب الإنسان
مع العولمة أصبح الإنسان رقما, يتم التعرف عليه عبر رقم الضمان أو رقم حسابه المصرفي أورقم ملفه الطبي. وعند أخذ أي قرار بحقه يكون القرار كأنه عائد للرقم لا للإنسان. كذلك الأمر لدى أخذ قرارات دولية بشأن مجتمعات أو بشأن مجموعات, كأن القرار يؤخذ على أرقام لا على مجموعات بشرية, ويتم نسيان كل بنود حقوق الإنسان العائدة له.
ولكن عندما يصبح هذا الإنسان مستهلكا تنقلب الموازيين كليا ويصبح هو الأساس وهو مركز الإهتمام. في السابق كانت العملية الانتاجية تستند على السلعـة, خاصة عندما كان إنتاج السلع يتم بدون منافسة. وكان على المستهلك الذي يشتريهـا أن يتأقلم معها, وصولا إلى إزدياد حاجته لها. الآن تحـولت نقطة الإرتكاز نحو المستهلك. إذ صار يجد نفسه أمام خيارات عدة, لذلك غدا يختار ويساوم. وأصبح يتطلب ويقترح في السلعـة مواصفات خاصة به. وأصبحنا نلاحظ ازدياداً في التنافس بين الشركات تلبية لرغباته.
أيضاً أصبح المستهلك, لدى تسجيل طلبيته, يقوم بإدخال ما يريد من مواصفات كي يتـمّ إنتاج السلعـة تماما كما يريد. وللمستهلك كل الحق بأعتبار أن السلعـة التي يشتريها قد تم إنتاجها خصيصاً له, حتى لو كان هناك آلاف الطلبات المماثلة, فكلها تتم تلبيتها بانتاج إجمالي منظم.
كما يقوم المستهلك لاحقاً باصدار الفاتورة ويدفع السعر ويستلم الايصال. ونلاحظ أن المستهلك أصبح جزءاً من عملية الانتاج, له هويته, له رأيه, له مساهمته في القرار. ولم يعد هدفاً, عندما يشتري السلعـة ينتهي دوره وتنتهي العلاقة معه, بل أصبح نظام المعلومات في المؤسسة يتابع التواصل معه دوريا, بحيث تتم إحاطته بكل جديد, إن فيما خص السلعة التي اشتراهـا, او أي جديد يرتبط بحاجاته أو رغباته. كل ما سبق يتم لأنه يولد لدى المستهلك شعـوراً بالقرب من المؤسسة ومن نتاجهـا ويولد رابطاً بينه وبينها, ولو كانت المسافـة بينهما آلاف الأميـال.
العولمة إذن تعزّز الفرد وتكرمه وتحافظ عليه طالما هو مستهلك, وذلك بمعزل عن هويته وانتماءاته ومواقفه. من ناحية ثانية تسحق العولمة الفرد وتجعله يذوب ضمن مجموعته أو ضمن مجتمعه وتتناسى إنسانيته إن لم يكن من المستهلكين.
الميزة الخامسة: العنصرية
من ناحية أخرى, نعلم أن المعلومات نفسها أصبحت من ضمن السلع التي يتم التسويق لها والإتجار بها. حتى أن تكنولوجيا المعلومات أصبحت سلعة, وأصبحت أحد موارد الطاقة ومصادرها. إن المعلومات بحد ذاتها يمكن إعتبارها إحدى المواد الأولية التي تستخدم في عمليات تتميز بالقيمة المضافة, مثل: تجارة الأموال والأسهم والخدمات والدراسات. إن المعلومات تمثل أحد رؤوس الأموال, خاصة عندما تحمل في طياتها ملكية فكرية أو حقوق إختراع.
أصبحنا نرى تمايزاً في درجة اقتناء التكنولوجيا والانصياع لها ولمستلزماتها, مما خلق نوعاً من العنصرية. في السابق كانت العنصرية تركز على اللون أو العرق أو الدين, العنصرية مع العولمة أصبحت بين من ينتج السلع للمستهلك وبين من يمكن أن يكون مستهلكا. المنتج هو الأعلى وهو صاحب القرار وهو السيد. ونرى أن كل شيء يسير ضمن انظمة معلومات إقتصادية وتجارية وتمويلية تحمل في طياتها إجراءات عنصرية تمارس بشكل يقال عنه أنه: “حضاري”.
الميزة السادسة: التبعيــة
1 عالم القطب الواحد
مـع الحرب الباردة ومع وجود قطبين في العالم, تم وضع القيود كي لا يصار إلى إنتشار تكنولوجيا المعلومات وإ قحامها في كل المجتمعات, إذ أن العولمة هي سلاح ذو حدّين, يمكن ان يستعمله من يروّج لها كما يمكن ان يستعمله القطب الآخـر.
لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي, تم إطلاق ونشر كل مستلزمات العولمة: من تكنولوجيا المعلومات, الى وضع وتكريس نظم قيادة الاقتصاد العالمي عبر منظمة التجارة العالمية, وصندوق النقد الدولي, والبنك الدولي وغيرها. وأنتجت تكنولوجيـا المعلومات ووسائل النقل المتطورة, كما ذكرنا سابقاً, الشركات متعددة الجنسيات المسماة بالعملاقـة, التي من جهتها أعادت إستعمال تلك التكنولوجيا لبسط مزيد من النفوذ. وهكذا دواليك...
وبذلك أصبحت الكرة الأرضية يتحكم بها قطب واحد, وذلك قدر إستطاعته. وساهمت العولمة, التي هي من إنتاجه, في تعزيز وبسط نفوذه.
2 صراع الدول الصغرى والشركات العملاقة
في السابق كانت القوة الاقتصادية تتمثل في الصناعات الثقيلة, أي في الصناعات التي تُنتج في المصانع, الآن أصبحت القوة والسلطة في صناعة نظم المعلومات. من يسبق يفرض شروطه ومواصفاته, بالتالي يفرض المعايير والمقاييس التي على أساسها تتم صناعة أجهزة المعلومات والاتصالات, خصوصاً إذا كان الاعتماد كليا على تكنولوجيا المعلومات في عمليات اتخاذ القرار, عندها يصبح مالكها هو صاحب القرار, وتصبح العمليات الانتاجية والتسويقية والتوزيعية والتموينية كلها أسيرةً لتلك التكنولوجيا ولمن يمتلكها أويسيطر عليها. لذلك نـرى تبعية واضحة لمن يمتلكها أو يتحكم بها.
ومع تكنولوجيا المعلومات ومع العولمة تنامى حجم ونفوذ الشركات متعددة الجنسيات, حتى أصبحت شركات عملاقة. وإزداد نفوذ تلك الشركات مع تملكها وتحكمها بالمعلومات كسلع, وبسيطرتها على الصناعة والتجارة المرتبطة بالقيمة المضافة, حتى أصبحت تلك الشركات تتحكم بالدول وبسياساتها وبقراراتها, وذلك بوضع شروط إقتراضية قاسية جداً للإستثمار وفرض تشريعات ضريبية, بحيث تتم المحافظة على بلد ما كي يكون مستهلكا للقرض ولفوائده, وللسلع التي يفرض عليه استيرادهــا. انه نوع من الاستعمار لاستغلال الموارد الطبيعية والبشريـة ولكن بشكل ذكي, إذ أن المستعمـر لا يتوجب عليه الذهاب الى موقع صاحب الموارد, بل هو يدير العملية عن بعد.
لـذلك يمكننا أن نفهم الأسباب الكامنة وراء إسكات كل الأصوات, داخل وخارج المؤتمرات, عن التلوث والفقر والتوزيع العادل للثروات. الهدف المعلن هو دعـم الاستثمار في هذا البلد. ولكن ما يحصل بالفعل هو: إستثمار البلد, استثمار اليد العاملة فيه, استثمار موارده وصولا ألى فتحه كســوق استهـلاكية. القول أن الرأسمال هو مشترك فيه جزء وطني وجزء خارجي, هو قول فيه الكثير من الوهم. أذ أن الجزء الوطني من رأس المال تستهلكه صناديق التمويل العالمية وأسواق البورصة, واسعار العملات.
3 صراع الدول الكبرى والشركات العملاقة:
هناك صراع آخر قائم بين تلك الشركات وبين الدول الكبرى. وغالبا ماتكون للأولى الغلبة, لأنها تتحكم بأصحاب القرار في تلك الدول, إذ أنها وراء حملاتهم الإنتخابية أو مشاريعهم الخاصة. ومن يستعصي عليها ماعليه سوى إنتظار العاصفة.
كل ذلك كان موجوداً قبل العولمة, ولكنه كان يتم على نطاق ضيق ومحدود. الآن مع العولمة أصبحت التدخلات ضخمة وفعالة ومميتة, إذ تملك تلك الشركات تكنولوجيا المعلومات اللازمة لتقتحم معها أسوار وخصوصيات الأفراد والمؤسسات والدول, وغدت المعارك ضارية.
ودليل على ضراوة تلك الصراعات, أنه تم تبادل الأدوار بين الدول وبين هذه الشركات, بدليل أن الشركات العملاقة أصبحت تقيم وتوقع الإتفاقات فيما بينها, وهو أمر تقوم به الدول, في حين أن معظم الدول أصبحت تتوجه نحو التخصصية, أي تتوجه نحو أسلوب تلك الشركات.
مــا الحــل ؟
هل يكمن الحل في رفض التكنولوجيا عموماً وفي رفض تكنولوجيا المعلومات بالتحديد؟ كلا, انها تجتاحنــا وتقتحم حياتنا اليومية. الحريّ بنا هو استيعابها, والعمل على السيطرة عليها وتوظيفها وصولاً لمزيد من التكاتف والتضامـن, ووصولاً إلى بلورة قوة إقليمة تسعـى الى تعزيز مقوماتها بما يضمن لها نوعاً من الإستقلالية والحرية. ويساعدنا ذلك في المواجهـة والتصدي لسياسات التبعية التي يتم السعي الى فرضهـا.
ما هي المخاطر التقنية ؟
بما أنه يتوجب علينا خوض غمار العولمة وذلك بواسطة تكنولوجيا المعلومات التي يؤمن لنا إستعمالها التسلح والتحصن في مواجهة تلك العولمة, لذلك يتوجب علينا معرفة المخاطر التقنية لتلك التكنولوجيا.
مـاذا يكون الحال لو حصل خلل أو طرأ عطل ما في شبكة المعلومات لمصرف عالمي, فيه مركز رئيسي ومئات بل آلاف الفروع, أو في شبكة المعلومات العائدة لناطحـة سحاب, أو نظام إشارات المرور في مدينة كبيرة...
أنـواع المخاطر يمكن تبويبها وفق ما يلي:
- خلــل في الموقع يتعلق بالأجهـزة.
- خلــل في الموقع يتعلق بالبرامـج.
- خلــل في شبكة الاتصالات.
- خلــل في عمليات الإدخال والتشغيل.
تلك الأنواع من الخلل يمكن ان تكون مصادرها وأسبابها بشرية: إما مقصودة أو لا إرادية. ويمكن ان تكون الأسباب حوادث طبيعية مثل: زلزال, أو فيضان, أو عاصفـة.
المخاطـر الناتجـة عن أعمال إرادية مقصودة هي إما للتخريب أو للتعطيل والشلل المؤقت. الهدف غالبا هو الإبتزاز. أما سرقة المعلومات فإنها تتم بواسطة التنصت أو بواسطة التسلل. ويسمح التسلل بتغيير المعلومات كما يسـمح بسرقة أشياء كالأموال والسلع. أما سرقة المعلومات فانها تستعمل اما للتقليد او للمنافســة أو للإبتزاز أو لدواع أمنية. ويسمح التسلل إلى شركة منافسة بقلب المعطيات والمعلومات عندها, مما يجعلها تأخذ قرارات في غير صالحها. ويمكن التسلل واقتحام الموقع وإغراقه بمعلومات وإتخامه وصولاً إلى شلله. التسلل يكون إما بانتحال شخصية أو تزوير بطاقة أو كلمة السرّ أو بكسر نظام الحماية....
هنـاك أعمال أخرى إرادية مقصودة من داخل النظام المعلوماتي. تلك الأعمال هي جرائم يعاقب عليها القانون. الفرق أن المرتكب هنا هو شخص من داخل النظام, الآخر هو دخيل. من الجرائم الداخلية: نرى تلاعباً في المخزون حيث يتم التعتيم على بضاعة يتـم سحبها لاحقاً, أو يتم شحن بضاعة الى مكان وهمي يتسلمها متواطيء مع المرتكب, أو نرى تلاعباً في جداول الرواتب بلحظ موظفيـن وهمييــن, أو تلاعباً في الصندوق أو في الدوام أو في فواتير الشراء أو حجم المبيعات...
الحلــول للمخاطر التي يمكن ان تطرأ, نبوبها وفق ما يلي:
1- متابعة ومراقبة إنشاء وتطوير وتعديل أنظمة المعلومات, وتجربتها في كل الظروف. ثم لاحقاً المراقبة الدورية لها.
2- الحرص على تأمين الحماية والتحصين اللازمين لمواقع المعلومات ولشبكة الاتصالات, حماية البرامج و تحصين التجهيزات, مع لحظ أنظمة إنذار.
3- تدريب الموظفين على إستعمال وسائل الأمان والحماية كافة, ومراقبة من يهمل وردعه.
4- ضبط عمليات الدخول الى المعلومات والأجهزة والشبكة بواسطة تحديد هوية الشخص, وما يريد, ثم يصار الى التأكد من الحقوق المعطاة له ومطابقتها مع ما يطلب.
5- رصد كل من يطلب الدخول إن بشكل طبيعي أو عنوة, ومتابعة سلوكه وأسلوب عمله, وحفظ ذلك كي يصار لاحقاً إلى المراقبة وكشف الدخـلاء.
6- تنويع الأذونات بالدخول و كلمات السر, وربطهـا بما يعرفه الشخص أو بما يحمله أو بمكانه أو ببصمات أصابعه أو بصوته...
7- تشفير المعلومات, فتبقى مبهمة وغير مفهومة للمتسلل وللمتنصت.
8- تبويب المعلومات وفرزهـا ووضع ما هو حساس ومهم منها في أماكن أكثر حماية, حيثُ يتم التحصين بواسطة جدران نار, وبواسطة أنظمة إنذار, مع أخذ الإحتياطات اللازمة.
9- المراقبة الدائمة والدورية لكل عناصر الشبكة والتدقيق في اية ظاهرة غريبة أو غير متوقعة.
لضبط عمليات معالجـة المعلومات يمكن:
- تقسيم العمل وتبويبــه وفرزه إلى عناصر مختلفة يمكن ان توضع في أماكن عدة, وذلك بهدف المراقبة والتدقيق والتكامل والحد من الإبتزاز.
- التدقيق في صلاحية وواقعية المعلومات التي يتم إدخالها أو معالجتها او إصدارها.
- تصحيح الخـطأ.
- التوثيق الدوري وحفظ نسخ كاملة عن المعطيات, وعن البرامج: يومياً وأسبوعياً وشهرياً وسنوياً.
- تحفيـز العاملين للإنخراط والتفاعل والتأقلم مع النظام المعلوماتي المطبق.
- التدقيق في النظام المعتمد: التدقيق ضمن البرامج والأجهزة, والتدقيق خارجهـا.
كما يتم التحضير للجهوزية أي التحكم بالوقت اللازم لاستعادة جميع الأمور مجراهـا الطبيعي في حال حدوث أي خلل أو عطل أو كارثـة. التأكد الدوري من تلك الجهوزية, والسعي إلى تقليص الوقت اللازم لها, ضروري جداً.
من ناحية ثانية, وأسوة بشبكة الانترنت التي كان تم تصميمها بهدف الإبقاء على حد أدنـى من حسن الإداء في حال تعطل أجزاء لا بأس بها من الشبكة العالمية, يمكن ان نعمـد ايضاً, داخل أنظمة الشركات, إلى تصميم شبكات مشابهة اسمها انترانيت Intranet, تؤمن الخدمات نفسها, وتؤمن حداً أدنـى من الاستمرارية في حال تعطل أجزاء من الشبكة. ويتم ذلك بواسطة لحظ مواقع للطوارىء وربطها بالشبكة, كما يتم إعتماد إجراءات للطوارىء. هذا ما يسمـى بادارة الكوارث والمخاطر.
الخاتمــة
يُقـالْ أنّ الإعلام هو السلطة الرابعة, وأن المعلومات تمثل السلطة الخامسة. ما هو حاصل يؤكد لنا أن المعلومات هي فوق كل السلطات, هي المصدر للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية, حتى “السلطة الإعلامية” هي مصدرها. إنها السلطة الأعلى. والغريب مع تكنولوجيا المعلومات أن مواجهتها لا تتمّ إلاّ بها.
لذلك علينا، قدر الإمكان، التمكن من تلك التكنولوجيا وتسخيرها، بدلاً من أن نكون أسرى لها، ولا طريق آخر غير هذا لتأمين الحد الأدنى من الحصانة والسيادة والاستقلالية في مواجهة رياح العولمة العاتية.
مراجع
- فريدمان, توماس؛ “السيارة ليكساس وشجرة الزيتون: محاولة لفهم العولمة”؛ الدار الدولية للنشر والتوزيع؛ 2000.
- د. هيجوت, ريتشارد؛ “العولمة والأقلمة: إتجاهان في السياسة العالمية”؛ مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية, 1998.
- الجميل, سيار؛ “العولمة والمستقبل: استراتيجية تفكير”؛ الدار الأهلية للنشر والتوزيع؛ 2000.
- د. طه, افلح؛ “شبكة الأنترنيت”؛ مجلّة الدفاع الوطني اللبناني؛ العددين 19 و21: العام 1997.
- Carnoy, Martin; Castells, Manual and Cohen, Steven. The new Global Economy in the Informational Age: Reflections on Our Changing World, Philadelphia, PA: Penn State University Press, 1993.
- Fukuyama, Francis. The End of History and the Last Man, New York: Free Press, 1991.
- Magnet, Myron. Whos Winning The Information Revolution Fortune, November 30, 1992.
- Ohmae, Kenichi.
The borderless world”, New York: Fontana 1990.
The End of the Nation State: The Rise of Regional Economies”, New York: The Free Press, 1995.
- Dunleavy, Patrick.The Globalization of Public Service Production: Can Government be the Best in the world Public Policy and Administration no. 9, Summer 1994.
- Sprout, Alison L. Moving Into the Virtual Office, Fortune, May 2.