- En
- Fr
- عربي
رحلة في الانسان
من الشائع الإعتقاد أن الإنسان يأكل ما يحتاجه من غذاء للنمو والإحتفاظ بالصحة والعافية. إلا أن الواقع على الأرض لا يؤكد هذا الاعتقاد، خصوصاً وأن الذوق البشري في ما يختص باختيار النكهات والأطباق، يختلف بحسب الأعمار والبيئة الإجتماعية. كما أن كمية الطعام التي يتناولها الفرد، تكون أحياناً دون المعدّل المطلوب، أو تتعداه بنسب كبيرة. فكيف يفسّر العلم ظاهرة الذوق والشهية بالنسبة لأنواع الطعام، وما هي مسببات اضطراب الشهية اللإرادي، أو العجز عن ضبط النفس تجاه الأطعمة المسببة للبدانة والمضرّة بالصحة؟
تعارض بين الذوق والنظام
من المستغرب بحسب رأي إختصاصيي النفس والتغذية، أن الذوق البـشري في انـتقاء الطعام يتعارض عموماً مـع النظام الغذائي الطبيعي. وهـو انحراف يتجذر لسوء الحـظ مــنذ تكـوّن الجنـين في الرحـم، أو مـنذ بدايــة تذوّقـه لنـكهات الأطعـمة التـي تـتناولها الأم واعتـياده عليـها. وبعد الولادة، ورغم إضـطراره الى التغذي بالحليـب ومن ثم بالطعام الصحي المختار لنموه، فإن ذوقه لا يلبث أن يتعقد ويتشعب ليجاري اتجاهات البيئة العائلية وعادات الأتراب. وهو غالباً ما يبتعد تدريجاً عن الطعام الصحي، وخصوصاً في غياب التوجيه، ويسعى الى الوجبات السريعة والأطعمة التي ترضي ذوقه الطفولي. هنا يشير الإختصاصيون الى ضرورة تعويد الصغار على تناول الطعام الصحي، وذلك عن طريق الظهور أمامهم كمثال يقتدى به. كما يعير الإختصاصيون أهمية بالغة لتجنيب الصغار مشاعر الخوف والقلق، أو معالجتها فور ظهور أعراضها، لأنها تتسبب باضطرابات المزاج والشهية، إضافة الى إدمان الطعام غير الصحي.
كيف يحصل الإدمان على بعض المأكولات؟
الطفل كما المراهق والإنسان البالغ، قد يعوض عن شعوره بالقلق والحزن عن طريق التهام مأكولات تثير شهيته، كالحلوى الدسمة والمعجنات، إضافة الى الأصناف المعدة لـ"اللقمشة"، ويدمن على تناولها الى أن يصاب بالسمنة الزائدة. والسبب في ذلك أن المذاق المحبب والمثير للشهية يرفع مستوى هرمون "الدوبامين" في الدماغ. وهو أحد الباثات العصبية المرتبطة بمشاعر السعادة واللذة والإطمئنان. وهي مشاعر تؤدي الى الإدمان على مأكولات معينة من أجل الإحتفاظ بمستوى هرمون الدوبامين المرتفع.
كيف تنمو الأذواق وتتجذر في الشخصية؟
قبل التطرق الى مسببات اختلاف الأذواق بالنسبة الى الطعام، لا بد من الإشارة الى أن الإنسان يفضل بالفطرة المأكولات الحلوة المذاق لأسباب تتعلق باكتساب الطاقة والقوة. إلا أنه يكتسب عبر مراحل حياته حب نكهات مختلفة يميزها من خلال حاسة الذوق الموجودة في لسانه. وهذا بالطبع يحصل تدريجاً، بدءاً بأعوام الطفولة، مروراً بالمراهقة، ووصولاً الى سن البلوغ. وإذا كان الطفل يتأقلم مع الطعام العائلي، فإنه يرفض الطعم المر. وهذا يعود بحسب اعتقاد الإختصاصيين الى دوافع فطرية معقدة، الهدف منها الحماية ضد السموم، خصوصاً وأن معظم السموم تتصف بمرورة المذاق. واللافت أيضاً أن الأطفال يسعون ما بين سن الخامسة والعاشرة، الى التهام أصناف الطعام الحامضة المذاق. وهذا يعود بحسب رأي الإختصاصيين الى أسباب فطرية طبيعية لم يتم تحديدها.
الذوق في اختيار النكهات لا يستقر قبل البلوغ
يمكن القول أن الذوق الفردي بالنسبة لاختيار النكهات، لا يستقر قبل سن البلوغ. بعدها يستطيع الإنسان أن يحدد ما يحب ويكره. وقد يرفض ما كان يستسيغه في السابق، أو يقبل على ما كان يفرضه. والدليل إقبال البالغين على تناول مأكولات لا تندرج على لائحة طعام الطغار، وفي مقدمها المأكولات الحارة المذاق، وتلك التي تشوبها المرورة، ومنها الخضر المعروفة بالصليبية، كالملفوف والقنبيط، بالإضافة الى البصل والثوم. وهي خضر تحتوي كما ثبت بالإختبار العلمي، على كيميائيات سامة مهمتها قتل الطفيليات التي تهاجم الجسم. وتمّ التأكد لاحقاً من أن هذه الكيميائيات التي تعطي الخضر طعمها الحاد المميز، تسهم الى حد بعيد في محاربة الخلايا السرطانية. لذا فربما يكون الإقبال على تناولها قد تطوّر بفعل الدوافع الفطرية. هنا يلفت الإختصاصيون الى أهمية دور العادات والتقاليد المتبعة في تناول الأطعمة، في تأقلم الأفراد مع أنواع معينة من الأطعمة. وهذا التأقلم يبدأ، كما سبق وأشرنا، في الرحم ويترسّخ في الذاكرة ليصبح جزءاً من السلوك الفردي اللاإرادي. لذا فإن حب بعض المأكولات قد ينتقل الى الأفراد بالوراثة، أو بواسطة العادات الإجتماعية المتبعة في اختيار الطعام وتحضير الأطباق.
عولمة الأذواق.. هل هو إنحراف عن الخط الطبيعي؟
هذه النظرية بدأت تتلاشى الى حد ما مع بذوغ فجر العولمة الذي ألغى الحدود والفوارق بين الدول، وقرّب بالتالي بين عادات سكانها وأذواقهم في اختيار الثياب والطعام وطرق العيش. فهل يعتبر هذا الإلغاء للهوية الحضارية بداية انحراف عن الخط الطبيعي؟ وهل يؤدي مع الوقت الى زيادة مستوى القلق النفسي واضطراب الشهية نتيجة الرفض اللاواعي لكل ما هو دخيل؟ الطب النفسي لا يملك أجوبة عن هذه الأسئلة. إلا أن إختصاصييه يحاولون عبر الدراسات معرفة المزيد عن الأسباب النفسية والبيولوجية الكامنة وراء الطعام غير الصحي. وخصوصاً الأصناف العالمية الرائجة في الأسواق. فهل تقتصر الأسباب والدوافع على الأشكال الشهية والنكهات المميزة التي ترفع مستوى هرمون اللذة في الدماغ؛ أم أن هنالك معايير ودوافع إجتماعية ونفسية أكثر تعقيداً؟ السؤال المطروح يبقى علامة استفهام قائمة في مجال البحث عن تطوّر السلوك البشري، وخصوصاً أثناء الإنتقال من عزلة التقاليد المحلية الى ضوء الإنفتاح على العالم. والجواب عنه قد لا يتوضح قبل عقود.