- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
يرى الباحث هنري سيغمان أن السبيل الوحيد لعملية سلام حقيقية وناجحة في الشرق الأوسط، إنما يكمن في تصدي الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من ورائها، للمقولة الإسرائيلية المراوغة بأنه «طالما ليس هناك اتفاق مرضٍ ومقبول بالنسبة الى إسرائيل، فإن بإمكانها الاستمرار باحتلالها الأراضي الفلسطينية، وفرض أمر واقع على الأرض». لكن الذي حصل هو أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ورئيس حكومة العدو وزعيم حزب كاديما السابق إيهود أولمرت تحدثا مطوّلاً عن التزامهما الحل القائم على أساس «دولتين لشعبين»، أما عملياً فكان المقصود إرضاء بعض الفلسطينيين والعرب بالكلام المعسول، في حين كانت حركة العمل تتجه نحو القضاء على حركة حماس، حركة المقاومة الفلسطينية الأساسية المتبقية من النضال الفلسطيني التاريخي لمدة أكثر من قرن، وذلك انطلاقاً من تكتيك التمييز ما بين معتدلين ومتطرفين. فالمعتدلون هم أرباب السلطة في رام الله والمتطرّفون هم رجال مقاومة فرض الدولة اليهودية الكبرى على الأراضي الفلسطينية المحتلة بين 1948 و1967. والإعتدال في نظر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة يعني قبول الفلسطينيين بأن تقوم إسرائيل بتقطيع أوصال أراضيهم وحقوقهم ومنعهم من الحصول على دولة ذات سيادة تؤدي الى وضع حد للسيطرة الإسرائيلية الفعالة عسكرياً واقتصادياً وأمنياً على الضفة الغربية، وبالتالي فإن جلّ ما ستسمح به إسرائيل في المحصلة النهائية هو قيام عدد من الجزر والجيوب المعزولة التي يمكن للفلسطينيين أن يطلقوا عليها ما يشاؤون من أسماء، وهذا كله من أجل تفادي قيام دولة ثنائية القومية تتحوّل غالبيتها السكانية مع مرور الوقت الى غالبية فلسطينية. وبالتالي يمكن القول إن ما يسمى بعملية السلام في الشرق الأوسط إنما تمثل أكبر خديعة في تاريخ الدبلوماسية العالمية، وذلك من خلال قهر الشعب الفلسطيني وإذلاله وارتكاب المجازر المتوحشة بحقه وصولاً الى ما سماه رئيس أركان جيش العدو الأسبق الجنرال كوشيه يعلون بـ«كي الوعي الفلسطيني»، أي الى «ترسيخ القناعة في عمق الوعي الفلسطيني بأنهم شعب مهزوم وعاجز».
بتعبير آخر إن التزام إسرائيل المخادع ما يسمى حل الدولتين، إنما يرمي الى أن يمكنها من إدارة الإحتلال لمدة طويلة من الزمن عبر الإدعاء بعدم وجود شريك فلسطيني لإيجاد حل. وقديماً قال وزير حرب العدو الراحل موشيه ديان: «ليس السؤال ما هو الحل بل السؤال كيف نعيش من دون حل؟». والعيش من دون حل بالنسبة الى الإسرائيليين يعني زيادة منافع الإحتلال الى الحد الأقصى والحد من أعباء ومخاطر أي انسحاب إضطراري كما حصل في قطاع غزة وشمالي الضفة، ووضع مشروع الدولة الفلسطينية في وضعية التحنيط، أي موت فعلي وحياة ظاهرية. والمبدأ الذي تسوّق له إسرائيل في هذا المجال يقوم على مقولة أنه: بما أنه لم يكن هناك دولة فلسطينية قبل العام 1967، فلا توجد بالتالي حدود معترف بها ينبغي لإسرائيل الإنسحاب اليها، لأن الحدود المرسومة العام 1967 كانت مجرد خطوط هدنة. وبما أن القرار الدولي الرقم 242 الصادر العام 1968 يدعو الى سلام عادل ودائم، فهذا يسمح لكل دولة في المنطقة بأن تعيش بأمان، وفي ظل هذه الذريعة، يجب السماح لإسرائيل بتغيير خطوط الهدنة، بالتوافق، أو من خلال خطوات أحادية الجانب كما حصل في ما سمي عملية فك الارتباط عن قطاع غزة. وهذه المقولة كاذبة ومخادعة لأسباب عديدة أهمها أن القرار 181 الصادر العام 1947 الذي أعطى الدولة اليهودية شرعيتها الدولية، قد اعترف ايضاً بحق الفلسطينيين بالأراضي الواقعة خارج حدود هذه الدولة على أساس حق تقرير المصير. لكن الإسرائيليين، وخلافاً للقانون الدولي وسّعوا دولتهم عبر العديد من الحروب الدامية، مما أنتج الإنتفاضات المتعاقبة وسائر أشكال المقاومة المشروعة للإحتلال.
على هذه الخلفية تشير كل الدلائل الى أن إسرائيل لا تريد أي «شريك فلسطيني» في المرحلة المقبلة، وأنها تعمل وفقاً «لأجندتها» الخاصة، وهي تنفيذ السياسة الأحادية الجانب وذلك لأن إستمرار الإحتلال على حاله ينطوي على مخاطر جمة، كما وأن إنهاء الإحتلال، عبر تسوية شاملة ودائمة غير ممكن وغير مرغوب فيه ايضاً من وجهة النظر الإسرائيلية، ونظراً الى تعذّر تحقيق تسوية مرحلية، فلا يبقى من خيار سوى إيجاد وضع إنتقالي لا ينهي الإحتلال بل يقلّصه على نحو يخفّف على الإسرائيليين تحمل العبء الديموغرافي والسياسي الناجم عن الإحتلال وتعقيداته. ومن هنا جاءت فكرة الفصل التي جسّدها الجدار العنصري في الضفة الغربية والقدس بالرغم من اعتراضات المحكمة الدولية في لاهاي وبعض أركان المجتمع الدولي ايضاً. ويبدو أن هذه التسوية المرحلية المفروضة بالقوة والتواطؤ ستجري على مرحلتين: المرحلة الإنتقالية، أي مرحلة فك الارتباط المدني في الضفة، وليس العسكري كما حصل في قطاع غزة، ومرحلة تقسيم الضفة الى كانتونات معزولة واستكمال بناء الجدار مع الاحتفاظ بغور الأردن كخط دفاعي أمني واستراتيجي. وهذا كله في ظل مخطط ايديولوجي خطير يرمي الى إحياء ما يسمى الحضارة اليهودية وإعادة بعث الروح الدينية في المجتمع الإسرائيلي، وتقوية التقاليد اليهودية بين الشباب وإثراء فكرة الصهيونية كمبدأ أساسي عنصري، وإعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى باعتباره الهدف الأسمى ليهود العالم، والقادر على توحيدهم وجمعهم حول إسرائيل.
وفي ضوء هذا المخطط تعود لتظهر الأسئلة الجوهرية: أين هي نهاية حدود إسرائيل، وما هو موقفها من مواطنيها الفلسطينيين ومن توطين المشردين، وما هي علاقتها بجيرانها وبالأمن الإقليمي، ومن هو اليهودي، وما هو مصير مكانة القدس التاريخية والدينية والجغرافية بالنسبة الى المسيحيين والمسلمين، وما هي علاقتها بالقانون الدولي وعلاقتها بيهود الخارج، وماذا بالنسبة الى دستور الدولة غير الموجود وعسكرة المجتمع الإسرائيلي والهوس الوجودي وما الى ذلك، لا سيما أنه عندما عرض العرب والفلسطينيون الإعتراف بإسرائيل حتى خارج قرار التقسيم عبر المبادرة العربية المنطلقة من بيروت العام 2002، كان رد القيادة الإسرائيلية بالحرب والمجازر والإستمرار بتطبيق نظرية الأمر الواقع التي تقوم على أساس ضم أكبر قدر من الأرض الفلسطينية المحتلة، مع أقل قدر ممكن من السكان الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل إمكان إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة، كما يقال، أمراً مستحيلاً. في حين يتم العمل على تحقيق الحلم الإستراتيجي الصهيوني بكل قوة وهو بناء الدولة اليهودية النقية عرقياً على كامل أرض فلسطين التاريخية في ظل رفع شعارات «عملية السلام» الفارغة من أي مضمون حقيقي أو عملي، والمطالبة باعتراف فلسطيني وعربي لها عبر التطبيع الكامل معها. هذا في مقابل حشر الفلسطينيين في معازل خانقة بكل معنى الكلمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مما يرغمهم مع الوقت على الهجرة الطوعية الى دول الجوار. وحسبما قال الباحث ميرون بنفنستي في صحيفة «هآرتس» عن الدولة الفلسطينية المفترضة بأنها: «ستكون دولة مقطوعة الرأس والرجلين ومن دون أرض، وخريطة الطريق وخطط الفصل ليس من شأنها سوى تكريس الوضع القائم». وبحسب رأي آخي شلايم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد، فإن هذه الدولة لن تكون أكثر من «كيان فلسطيني عاجز ومنزوع السلاح، يقام على أقل من نصف الضفة الغربية مع سيطرة إسرائيلية على الحدود والمجال الجوي والموارد المائية الفلسطينية، وهذه وصفة ناجحة لإقامة «غيتو» فلسطيني وليس لإقامة دولة حرة».