- En
- Fr
- عربي
السياسة الخارجية الأمنية الايرانية
بعد أكثر من ربع قرن على إنشاء الجمهورية الإسلامية في إيران أكّدت الانتخابات الأخيرة لرئاسة الجمهورية وللمجلس على أن الأيديولوجية الإسلامية التي اعتمدها الإمام الخميني كمصدر أساسي للتوجيه السياسي والاجتماعي لا تزال حيّة، وبأن القوى الحارسة لها قادرة على حمايتها من كل الأخطار التي تتهدّدها في الداخل أو تتآمر عليها من الخارج.
بددت الانتخابات الأخيرة كل الفرضيات التي كانت تقول بأن الواقعية السياسية التي يمثلها تيّار هاشمي رفسنجاني بالإضافة إلى الفكر الإصلاحي الذي قاده الرئيس محمد خاتمي سيؤديان إلى حالة تدرجيّة من الانفتاح الداخلي، وإلى فتح قنوات حوار مجد مع الدول والشعوب الأخرى. لكن يبدو من الانتخابات الأخيرة والتي أوصلت المحافظين بقيادة محمود أحمدي نجاد للإمساك بكل مفاصل السلطتين التنفيذية والتشريعية، أن التيارين الواقعي الذي يمثله هاشمي رفسنجاني والتيّار الإصلاحي الذي قاده محمد خاتمي قد خسرا كل الرهانات السابقة وبأن الإسلام ما زال مع العصبية الفارسية يشّكّلان قوّتي الدفع نحو سياسات قادرة على أن تستعيد الإمساك بقوة بالوضع الداخلي، وأن تتشدّد في خياراتها الإقليمية والدولية، بشكل يشجّع على الاعتقاد بأن التوجّه السياسي الجديد يدفع باتّجاه مواجهة مع الدول الكبرى ومع العديد من الدول العربية والإسلامية.
تبرز مع استعادة المحافظين للسلطة نزعة جديدة لاعتماد سياسة متشددة تحل مكان السياسة الواقعية التي كان ينادي بها هاشمي رفسنجاني أو الأفكار الإصلاحية التي حاول تطبيقها محمد خاتمي. تعود إيران مع أحمدي نجاد والقوى المحافظة، الداعمة له والمسيطرة على كل مصادر القوة والنفوذ لتحاول استعادة الصورة التي تدغدغ مخيّلة حكاّمها بين الحين والآخر والتي تضع إيران في "نقطة المركز للكون"(1).
عبّر غراهام فولر من مؤسسة راند الأميركية في ملاحظاته حول "الصورة الذاتية" التي ترسمها إيران لنفسها بأنها تأتي نتيجة انعكاسات لصور التاريخ الإيراني حيث تختلط صور التوسّع والهيمنة العسكرية والثقافية للأمبراطورية الفارسية مع صور الاحتلال والهيمنة الغربية على إيران من قبل الإغريق والعرب والأتراك والأفغان والروس. ويولّد مثل هذا التشابك وفق تحليل فولر "مركّب نقص" يتحوّل إلى رؤية ومقاربة معقّدة لدور إيران السياسي تجاه جيرانها والعالم. تخدم هذه الرؤية والمقاربة المستندة على الذاكرة التاريخية، الإرث التاريخي للتشيّع الإيراني في كل ما يحمل من مشاعر الألم والظلم. ويذهب فولر في تفسيره هذا ليقول "أن الأحداث لا تفسّر أبدًا وفق مدلولاتها وظواهرها وبطريقة بسيطة، ولكنها تخفي وراءها عمل قوى سياسية خفيّة تتحرّك من أجل التأثير وتغيير الواقع"(2).
تمثّل عودة المحافظين إلى السلطة والنجاح الكبير الذي حقّقه أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية ضد هاشمي رفسنجاني إنعكاسًا لهذا (التشابك) بين مشاعر العظمة والظلم، وهو سيدفع مرة جديدة باتجاه أن تلعب إيران دورًا أساسيًا على المسرح الإقليمي والإسلامي والدولي.
مرحلة حكم الاصلاحيين
شكّلت مرحلة حكم الإصلاحيين لإيران بقيادة الرئيس محمد خاتمي محطّة هامّة توقّّف عندها المحلّلون، حيث توقّع معظمهم أن تكسر دائرة الحكم الإسلامي المتشدّد للفترة الخمينية، وأن تعيد تنظيم الحكم والمجتمع وتنتزعهما من حالة الديكتاتورية والفوضى التي شّكّلت أبرز سمات المرحلة التي سبقتها. فتحت هذه المرحلة بدءًا من العام 1997 نافذة أمل جديد لمعظم الإيرانيين بأن بلادهم ستتوصّل إلى بناء مستقبل زاهر وذلك إنطلاقًا من تاريخها المجيد وتطلّعات أجيالها الصاعدة. كان الشعور العام الذي رافق وصول الإصلاحيين أن إيران ستكسر طوق العزلة الذي فرضته على نفسها، وستواجه المجتمع الدولي باعتماد المفاهيم السياسية الشاملة التي تنطلق من مصالحها الوطنية. وكان ما قاله نائب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في آذار/مارس في العام 2000 يمثّل بامتياز إرادة الحكم في اعتماد مقاربة واقعية لعلاقات إيران مع الدول الأخرى "إن هدفنا في القرن الواحد والعشرين لم يعد إيجاد أعداء جدد، ولكن تغيير الأعداء إلى محايدين، وتغيير المحايدين إلى أصدقاء"(3).
كانت نظرة الإصلاحيين لإحداث مثل هذا التغيير واقعية، لأنها كانت تنطلق من مفاهيم مدى تقبّل الغرب للمقاربة الإيرانية الجديدة والتي تستند على فكرة حوار الحضارات من جهة وعلى مدى إدراك القوى الغربية للمصالح الإيرانية وفق نظرة الإيرانيين لمستقبلهم والدور الذي يخططون للعبه على المستويين الإقليمي والدولي. وكانت القيادة الإصلاحية تدرك المصاعب التي ستواجهها في إقناع الآخرين بتقبّل النهج السياسي الجديد، ولذلك رأيناها تفتح حوارًا واسعًا مع أعداء الأمس دون أن تتوقّع أن يغيّر هؤلاء بين ليلة وضحاها مواقعهم من أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم، معتبرة أن التحوّل المطلوب قد يتطلّب عقدًا أو أكثر من الحوار وبناء الثقة المتبادلة.
مرحلة حكم المحافظين
يبدو الآن أن الحكم المحافظ بقيادة أحمدي نجاد قد بدأ يمثّل مرحلة أخرى من الحكم "المتشدّد" الذي عرفته مرحلة الخميني، وخصوصًا في مجال السياسة الخارجية. إنه عود على بدء. ويبدو من تصريحات أحمدي نجاد منذ الأيام الأولى لإنتخابه بأنه يسعى إلى اعتماد سياسة خارجية متشدّدة خصوصًا في موضوعي برنامج إيران النووي والموقف من إسرائيل.
صرّح أحمدي نجاد بعد انتخابه أن إيران ستسأنف العمل ببرنامجها النووي وتتابع بنفس الوقت مباحثاتها مع اللجنة الأوروبية. ورأى المراقبون أن انتخاب أحمدي نجاد يقوّي من قبضة المحافظين على كل المؤسسات الحكومية مما يفسح في المجال لإعادة توجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نحو التشدّد. وسيكون الموقف الإيراني، في المفاوضات مع القوى الغربية بما فيها المفاوضات مع اللجنة الأوروبية الثلاثية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في الموضوع النووي أكثر تشدّدًًا من السابق.
أثناء معركة الانتخابات الرئاسية، إتهم أحمدي نجاد الحكومة الإيرانية بالضعف مع المفاوضات مع اللجنة الأوروبية الثلاثية بشأن الموضوع النووي. وعبّر أحمدي نجاد عن عمق قناعته بضرورة أن تمتلك إيران قدرة كاملة لصنع الوقود النووي، وبأن المفاوضات مع واشنطن لا تمثّل أولوية على روزنامته. ويمكن قراءة ذلك في إطار تراجع أهمية السياسة الخارجية ككل في برنامجه الرئاسي. وهذا ما يؤكّد أن السياسة الخارجية الإيرانية تبقى من المواضيع الأساسية التي ما زالت في عهدة المرجعية الدينية وتحديدًا السيد علي خامنئي، وهذا ما يفسّر فشل مبادرة الرئيس خاتمي في حوار الحضارات مع الغرب، ومحاولاته كسر الجليد في العلاقات مع واشنطن، كما يفسّر عدم استكمال أو نجاح المفاوضات السرّية التي أجراها فريق هاشمي رفسنجاني مع الأميركيين والتي قادها مساعده محسن رضائي شخصيًا، وقد جرى بعضها في أثينا برعاية من وزير خارجية اليونان الأسبق جورج بابندريو(4).
أما بشأن اعتماد سياسات إجتماعية أكثر تصلّبًا وخصوصًا تجاه النساء والشباب، فإن الغموض ما زال يكتنف مواقف أحمدي نجاد وذلك بالرغم من السخرية التي واجه بها التساؤلات حول مواقفه من هذا الموضوع أثناء الحملة الانتخابية. لكن يبدو أن قوات الباسيج التي تقوم بالدور الضابط للحركات الاجتماعية، تتهيّأ لإعادة ضبط الوضع الاجتماعي وخصوصًا حركة التحرّر التي تقودها النساء والشباب(5).
يرجّح أن تتبع سياسة أحمدي نجاد في موضوع الاقتصاد خطًّا شعبيًا، وذلك من خلال ملء المراكز الحكومية باتباعه وتشجيعهم على إعطاء الشأن الاجتماعي والاقتصادي الأهمية اللازمة. إن أي سياسة انغلاق إجتماعي وخصوصًا تجاه المرأة لن تنجح. وبما أن السياسة الخارجية لن تكون بين يديه فإن أكثر ما يمكن أن يقوم به التعبير الإعلامي عن مواقف متصلّبة تجاه المفاوضات حول السلاح النووي الإيراني، وأيضًا إطلاق التصريحات العلنية العدائية ضد إسرائيل. وهذا ما فعله عندما صرّح في الفترة الأخيرة بضرورة "محو إسرائيل عن الخريطة" أو تصريحه الأخير حول شعور الأوروبيين بمسؤوليتهم عن المحرقة النازيّة وبأن هذا الشعور يجب أن يدفع ألمانيا والنمسا لإقامة دولة اليهود على أراضيهما بدلاً من إقامتها على حساب الشعب الفلسطيني في فلسطين (6).
الإصلاحيون ينتقدون المتشديين
قبل انتهاء أحمدي نجاد من تشكيل حكومته بسبب التعثّر في تسمية وزير للنفط،، عاد السجال بين الإصلاحيين والمحافظين من خلال الانتقادات التي وجهها الرئيس السابق محمد خاتمي إلى خلفه الرئيس أحمدي نجاد، والتي استدعت تدخّل مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي للدفاع عن الرئيس الحالي، كمؤشّر على استمرار حمايته له بعد أن كان قد لعب الدور الرئيسي في إيصاله إلى سدة الرئاسة.
للمرة الثانية، وقبل مرور أربعة أشهر على انتخاب أحمدي نجاد، دافع علي خامنئي عن أحمدي نجاد، داعيًا إلى الكف عن توجيه الانتقادات المتزايدة إليه، مؤكّدًا على ضرورة منح الحكومة مهلة لإثبات نفسها والقيام بأعمالها والالتزام بشعاراتها(7).
طالب خامنئي أئمة طهران بدعم الحكومة، بعد أن كان قد سبق له وطلب في 28 تشرين الأول/أكتوبر الماضي من الرأي العام عدم التهجّم على الحكومة الجديدة. وفي إشارة غير مباشرة للمرشحين الذي لم يحالفهم الحظ في الانتخابات الرئاسية (رفسنجاني ومهدي كروبي ومحمد باقر قاليباف) طلب مرشد الجمهورية الإسلامية من كل القوى السياسية أن تعي حساسية المرحلة وتبتعد عن المشاحنات السياسية. ورأى أن العودة إلى روحية الثورة الإسلامية تستدعي خلق الأمل والعزم لدى الشعب، خصوصًا الشباب، وليس العودة إلى أجواء عدم الانضباط التي رافقت بدايات الثورة أو في توجيه إنتقادات للتيارات المحافظة التي تدفع في هذا الاتجاه.
يأتي الدفاع المتكرّرعن الحكومة في وقت مبكّر بعد أن تزايدت الانتقادات للأداء الحكومي وللأفكار "المتطرّفة" التي عبّر عنها أحمدي نجاد أو تلك التي صدرت عن نواب محافظين.
جاءت ردود النواب المحافظين، ودعوتهم إلى أحمدي نجاد لتغيير كل المستشارين والموظفين الكبار من تركة العهد الإصلاحي، لتثير من جديد نقمة الأقلية البرلمانية الإصلاحية فتدفعها للمطالبة بإعادة النظر في أهلية رئيس الجمهورية للحكم، أي ما يعني المطالبة بإقالته من منصب الرئاسة. واتهم بعض الاصلاحيين الرئيس باختيار مساعديه على قاعدة العلاقات الشخصية، على حساب الكفاءة، وهذا ما يفسّر أن معظم الذي انتقاهم كانوا من الحرس الثوري أو من موظفي بلدية طهران التي كان يرأسها، أو من بين أساتذة الجامعة التي كان يدرس فيها.
وجاءت أمس الانتقادات للمتشددين على لسان الرئيس السابق محمد خاتمي الذي ندّد بالمتطرفين الإيرانيين الذين يسعون إلى "تقليد أسامة بن لادن" مقدّمين بذلك "أفضل الذرائع ليتهجّم الأعداء على الإسلام وعلى إيران". وقال خاتمي أن بعض المتطرّفين الإيرانيين "يعتقدون أن الوفاء للديمقراطية والحرية والتقدّم ينال من سمعة إيران الثورية في العالم الإسلامي". ورأى أنهم ينافسون بذلك طالبان بالدعوة إلى العنف والتطرّف بشكل يتناقض مع تعاليم الدين". ونبّه خاتمي هذه المجموعات إلى "أنها لن تتمكّن أبدًا من تبوّء مكانة بن لادن وطالبان في العالم الإسلامي، وأن عليهم أن يسيروا في مؤخّرة القافلة التي يقودها بن لادن".
سبق كل ذلك أن وجّه خاتمي في آخر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2005 إنتقادًا إلى أحمدي نجاد دون أن يسمّيه، بعد أن أثار من خلال دعوته إلى "محو إسرائيل من الخريطة" إستنكارًا عالميًا. وقال خاتمي في انتقاده المبطّن لأحمدي نجاد "ليست لدينا نزعة عالمية، ولا نهدف إلى تغيير العالم بأسره والعمل على تشكيل حكومات تناسبنا، وعلينا أن لا نتفوّه بعبارات قد تخلق لنا مشاكل إقتصادية وسياسية مع العالم"(8).
ومن المتوقّع أن تتجدّد الحملة العالمية ضد التصريحات الأخيرة التي أطلقها أحمدي نجاد من القمة الإسلامية الاستثنائية التي انعقدت في مكّة المكرّمة والتي أنهت أعمالها في 9 كانون الأول/ديسمبر من العام 2005، حيث صرّح أمام مراسلي وسائل الإعلام بأن الدول الأوروبية قد ساندت إسرائيل في الشرق الأوسط في العام 1948 إنطلاقًًا من شعورها بالذنب عن المحرقة النازية حيث أحرق هتلر ملايين اليهود، وفق المقولة التي يردّدها اليهود "لنعط أوروبا أو ألمانيا والنمسا بعض الأراضي للصهيونيين لإقامة حكومتهم هناك. لقد واجهوا حالة من الظلم هناك فلماذا يجب أن تقع تبعات ذلك على الفلسطينيين؟ لتقدّم أوروبا قطعة الأرض ونحن سندعم هذا القرار، ولن نهاجم قيام هذه الدولة. هؤلاء الذين يحكمون القدس اليوم ما هي الأصول التي ينتمي إليها آباؤهم؟ لا جذور لمعظمهم في فلسطين، ولكنهم يمسكون بمصير فلسطين بين أيديهم كما يسمحون لأنفسهم بقتل الشعب الفلسطيني"(9).
واستثارت تصريحات أحمدي نجاد هذه ردودًا دولية منتقدة، كما استثارت ردودًا من داخل إيران نفسها. ولكن يبدو أن تصريحاته "المتطرّفة" هذه تلقى التأييد في الداخل، وهي لم تأت بالصدفة، وأكبر دليل على ذلك عدم تراجعه عنها من جهة، كما تشكّل المظاهرات المعادية لإسرائيل مؤشّرًا واضحًا على استغلاله لها لزيادة تعلّق الجماهير المحافظة بشخصه ودعمها لسياساته المتطرّفة.
من أجل تحديد وفهم الخيارات المفتوحة أمام السياسة الخارجية الإيرانية، ومبادرتها ومقاربتها في تحقيق المصالح العليا للأمة الإيرانية وفق منظور وتطلّعات الجمهورية الإسلامية السياسية، لا بدّ من درس وتحليل المصادر والمنطلقات التي يمكن أن تشكّل الركائز الأساسية لهذه السياسة الخارجية.
تمتلك الجمهورية الإسلامية الإيرانية مجموعة من المواصفات الخاصة التي تؤثّر بشكل مباشر على صياغة الجمهورية لأهدافها الرئيسية كما تتكيّف بها الاستراتيجيات المعتمدة لتحقيق هذه الأهداف.
بعد أكثر من عقدين ونصف من قيام الجمهورية الإسلامية، يبقى الإسلام إلى جانب الشعور القومي الفارسي المصدرين الأساسيين لكل توجّهات السياسة الخارجية الإيرانية. يشكّل هذان العنصران قوّة الدفع الأساسية، لكن تأثيرهما قد يقوى أو يضعف مع تغيّر شخصية الحكاّم وخياراتهم ما بين الواقعية السياسية والتشدّد الديني. عندما تحكم الواقعية السياسية أو الحركة الإصلاحية تتحرّر السياسة الخارجية من الأطر التقليدية الإسلامية، وإرث القومية الفارسية، فتتركز حول مصالح الدولة وفق مفاهيم الحداثة ومتطلّبات التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي، وما تفرضه التطّورات الراهنة على المستويين الإقليمي والعالمي. وفي المقابل تتمسّك إيران في ظل حكومة يسيطر عليها المحافظون بالقيم الدينية وبالإرث القومي من أجل صياغة مواقفها الدولية وتحديد الخطوط الرئيسية لسياستها الخارجية.
إعتمدت إيران في عهد حكومة الرئيس خاتمي الإصلاحية سياسة خارجية واقعية كان من أبرز مواصفاتها الانفتاح والتؤدة والحذر، فيما اعتمدت في ظل القيادات الدينية المحافظة على مجموعة من الشعارات التي شكّلت الثوابت السياسية، والتي انعكست على السياسة الخارجية بإضفاء صفة المغامرة السياسية عليها.
العناصر المؤثّرة في السياسة الخارجية
أولاَ: روح المغامرة
شكّل الإسلام والقومية الفارسية القيم التي ارتكزت عليها الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها في علاقاتها سواء مع جيرانها أو مع الدول الكبرى، أو مع الدول الإسلامية الأخرى. وشعر جيران إيران وخصوصًا الدول العربية في الخليج بأن إيران تعمل من أجل تصدير الثورة الإسلامية باتجاههم، كما أنها تحاول استعادة بعض الدور التاريخي الذي كانت تمارسه الإمبراطورية الفارسية من الهيمنة على المنطقة.
وانعكس الحماس الذي رافق السنوات الأولى لحكم الخميني بشعور من الخوف والحذر الشديد على جيران إيران والدول العظمى التي تملك مصالح استراتيجية في منطقة الخليج، فاتهمت إيران إنها تحضّر لمغامرة سياسية تهدف إلى قلب أنظمة الحكم تمهيدًا لفرض هيمنتها على المنطقة. فجّرت الثورة الإسلامية التي أعلنها الإمام الخميني مشاعر الحماس والدعم للجمهورية الإسلامية وقائدها لدى جميع المجتمعات الشيعية خارج إيران. وكان ردّ القيادات الدينية الإيرانية التواصل مع القيادات في هذه المجتمعات الشيعية، ومساعدتها على النهوض الاجتماعي والسياسي من أجل الحصول على حقوقها ومواجهة قوى الهيمنة الدولية المتمثلة بالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
وشجعت إيران الشيعة في الدول المجاورة على رفض الوضع القائم والتحرّك من أجل المطالبة بحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وشكّلت هذه السياسة دعوة واضحة وعلنية للتظاهر وممارسة شتى أنواع الضغوط التي ستؤدي إلى تهديد الاستقرار وإضعاف نظم الحكم في كل أرجاء الخليج. واعتمدت إيران سياسة دعم مكشوفة لحركات شيعية في كل من العراق والبحرين ولبنان والكويت والمملكة العربية السعودية. وذهبت إيران في مغامراتها السياسية إلى أبعد من ذلك حيث اتهمت كل الحكومات التي تقيم علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية بالفساد وبالعداء للإسلام، مشككة بشرعية هذه الحكومات، وفق المعايير الإسلامية.
لم تكن لدى إيران طموحات لاحتلال أراضي الدول المجاورة (باستثناء الخلاف مع دولة الإمارات حول جزر طنب وأبو موسى)، وكان واضحًا أنها تبحث عن وسائل تصدّر بها روح الثورة الإسلامية تمهيدًا لاكتساب المزيد من النفوذ الخارجي وتوظيفه في دعم مكانة الحكم الإسلامي داخليًا. لكن دفعت الروح المغامرة المستندة على الإسلام الثوري والقومية الفارسية الدول الإقليمية إلى اعتماد الحذر والذي وصل إلى حد المقاطعة خوفًًا من المّد الإيراني داخل مجتمعاتها، ويمكن ربط القرار العراقي بشن هجوم ضد إيران بأنه قد جاء كنتيجة مباشرة لمشاعر الخوف من سياسة "الهيمنة" التي اتبعتها إيران، وكنتيجة غير مباشرة للتحريض الذي اعتمدته الولايات المتحدة ضد الجمهورية الإسلامية.
وكانت بنتيجة الحرب العراقية – الإيرانية، والسياسات المغامرة التي اعتمدتها إيران تجاه الدول الخليجية الأخرى، والعداء المستفحل بين إيران والولايات المتحدة أن فرضت على إيران عزلة دولية، ما زالت تشعر بآثارها السلبية حتى اليوم.
يبدو أن إيران قد استوعبت الكثير من الدروس من حربها مع العراق ومن العزلة التي وجدت نفسها فيها في نهاية الحرب، وقد ظهر ذلك جليًا من السياسة التي اتبعتها تجاه العراق بعد حرب تحرير الكويت. لم تسع إيران لاستغلال ضعف العراق العسكري والسياسي، بل بقيت تراقب تطّور الوضع بين العراق والولايات المتحدة. ولكن تغيّرت السياسة الإيرانية تجاه العراق بعد الغزو الأميركي في العام 2003، حيث وجدت طهران الفرصة سانحة للتدخّل بقوة في المناطق الجنوبية حيث تعيش الأكثرية الشيعية. ويبدو أن إيران تمتلك الآن النفوذ الأوسع من خلال سيطرة القيادات الشيعية القريبة منها على الحكم العراقي الجديد، مما دفع بالولايات المتحدة لتكليف سفيرها في بغداد زالماي خليل زاده... لفتح حوار مع طهران من أجل تسهيل قيام حكم ديمقراطي والمساعدة على إحلال الأمن والاستقرار.
إلى جانب رغبة الجمهورية الإسلامية في تصدير روح الثورة الإسلامية باتجاه المجتمعات الشيعية في الدول المجاورة، وفي إعطاء سياستها الخارجية سمة إسلامية من خلال التمسّك ببعض القيم الإسلامية كثوابت (كالموقف من إسرائيل ومن القدس تحديدًا) فإن القومية الفارسية تشكّل الدافع الأساسي للدور الذي تريد إيران أن تلعبه على المستويين الإقليمي والدولي. واللافت أن إيران لا تعطي أهمية للخلافات الجيوسياسية مع جيرانها سواء من العراق أو أفغانستان أو الدول الآسيوية، بل تتركّز كل جهودها حول النفوذ والدور الأمني الإقليمي الذي تريد أن تلعبه الآن أو ضمن أي نظام أمني مستقبلي.
لم تخف تأثيرات الشعور القومي الفارسي في زمن الجمهورية الإسلامية عن ما كانت عليه في زمن حكم الشاه، ولكن جرى التعامل معها بكثير من التؤدة وبشكل لا يجعلها في حالة تنافسية، ظاهريًا على الأقل، مع العامل الإسلامي.
مع تطوّر مطالب أجيال الشباب بالانفتاح ودخول بعض مظاهر الحياة الغربية إلى إيران، تعدّلت المقاربة السياسية باتجاه مزيد من الواقعية السياسية، وقليل من الأيديولوجية الثورية، وذلك على عكس ما كانت عليه في زمن حكم الخميني (10).
وكانت الحرب مع العراق قد تطلّبت استثارة الشعور القومي وخصوصًا عند الجماعات العلمانية، فيما بقي الشعور الديني القوّة الدافعة الأساسية للمؤمنين بالثورة الإسلامية. واللافت أيضًا ولأسباب داخلية أن النظام الحالي قد سمح في السنوات الأخيرة بالاحتفال ببعض الأعياد التي تشكّل تقليدًا قوميًا يرقى إلى فترة ما قبل الإسلام، كما سمح لبعض الفئات بالاحتفال بذكرى محمد مصدق بالرغم من مواقفه السياسية المناقضة للإسلام(11).
يمكن لتنامي الشعور القومي أن يعمل في عكس الاتجاه الذي تريده القيادات الدينية المحافظة. هناك توجّه الآن لدى الشباب لرفع شعار "إيران أولاً" ويستعمل هذا الشعار الآن لمطالبة الحكم بتركيز جهوده على معالجة الأوضاع الداخلية وبالتالي الكف عن صرف الأموال والجهد والوقت على جماعات وقضايا خارجية ذات قيمة متدنّية بالنسبة للشعب الإيراني. من جهة ثانية يمكن للشعور القومي أن يوظّف في اتجاه الانفتاح على الحداثة، وتوجيه المجتمع نحو المطالبة بتخفيف الضوابط الدينية وخصوصًا ما يطالب به الشباب لجهة الانفتاح الاجتماعي، وهي مطالب قد تؤدّي في نهاية المطاف للمطالبة بتطبيق المفاهيم العلمانية على كل الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ثانيًا سلوكية سياسية محافظة
في المراحل الأولى لقيام الجمهورية الإسلامية دفعت الروح الثورية القائمة على الإسلام والهوية القومية الفارسية إيران إلى انتهاج سياسات مبادرة وهجومية أثارت مشاعر الخوف والعداء لدى جيرانها. لكن انقضت هذه المرحلة بعد غياب الإمام الخميني لتحل مكانها سياسات خارجية أكثر واقعية خصوصًا لجهة التعامل مع الدول المحيطة بإيران. وكان هاشمي رفسنجاني أول من أسّس لهذا التبدّل في السياسة الخارجية الإيرانية وذلك من خلال تقويمه للتحسّن الذي طرأ على الموقع الجيو-ستراتيجي لإيران بعد انتهاء الحرب على العراق، وللأوضاع الاقتصادية التي زادت سوءًا بسبب الإنفاق العسكري الكبير على الحرب، وللهواجس والتراكمات الاجتماعية التي تهدد بنشوء نزاعات داخلية بين عدد من مكونات المجتمع الإيراني. تجد إيران اليوم نفسها مطوقة من جميع الجهات بقوى وعناصر قديمة أو جديدة، تحمل من التناقضات ومشاعر العداء ما يكفي لدفع إيران إلى اعتماد سياسة خارجية مركبة ومرنة مما يسمح لها بالتعامل مع كل هذه التهديدات والمتغيّرات الجيو-ستراتيجية بحكمة وحذر شديد.
بشّكّل العراق وأفغانستان عدوّين تقليديين بالنسبة لإيران، وعليها الآن أن تتعامل معهما وفق قواعد جديدة تتسم بالمرونة والواقعية خصوصًا بعدما تمركزت القوات الأميركية على مقربة من الحدود الإيرانية مع هذين البلدين، بالإضافة إلى ما تمثّله الجماعات المتطرّفة التي تحمل السلاح في هذين البلدين تحت شعا محاربة الأجنبي (الأميركي) ومن أجل قلب نظام الحكم، وقيام حكم إسلامي (سنّي) على أنقاضه.
وتراقب إيران أيضًا وعن كثب الأوضاع غير المستقرة في الدول المجاورة الأخرى كباكستان ودول القوقاز وآسيا الوسطى. كل ذلك يفسّر السلوكية السياسية المحافظة التي بدأ يسلكها الحكم الإيراني في السنوات العشرين الأخيرة (12).
ثالثًا: متغيّرات الجيوبوليتيك
كان التبدّل الدراماتيكي في بيئة الجيوبوليتيك المحيطة بإيران منذ قيام الجمهورية الإسلامية قد بدأ مع تفكك عقد الاتحاد السوفياتي. ولقد تبع ذلك تطّور آخر لا يقل عنه أهمية، عندما احتل العراق الكويت مما استدعى تدخّل القوات الأميركية والحليفة بشكل كثيف في منطقة الخليج من أجل تحرير الكويت، والذي أدى في نهاية الأمر إلى عزل العراق دوليًا وشن حرب جوية ضدّه استمرّت أثنتي عشرة سنة ننييبن Hk إن مما أدّى إلى إضعاف قدراته العسكرية والاقتصادية والتي مهّدت لعملية الغزو الأميركي في مرحلة لاحقة وذلك من ضمن ضرورات سياسة الهيمنة الأميركية على المنطقة ولكن تحت أعذار منع انتشار أسلحة الدمار الشامل وضرورات الحرب على الإرهاب.
في الفترة التي سبقت غزو العراق في العام 2003 وجدت إيران نفسها في وضع دفاعي غير مؤات ويتعدى قدراتها العسكرية، مع سبع دول محيطة بها، بالإضافة إلى التهديد الذي بات يمثّله الوجود الأميركي البحري والجوي الكثيف في منطقة الخليج. وهكذا بات الدفاع عن حدود إيران البحرية والبرّية مهمة مستعصية (13). هذا الوضع الذي واجهته إيران دفع بوزير الدفاع الإيراني علي شمخاني إلى الاعتراف بأن الدفاع عن إيران قد أصبح مهمة صعبة بحيث لم يعد من الممكن تأمينها إلا باعتماد استراتيجية الردع.
وبالرغم من الحقائق الجديدة التي أنتجتها الحرب في كل من أفغانستان والعراق والتي أوجدت حدودًا مشتركة بين إيران والولايات المتحدة فإنه يمكن لإيران أن تتعامل مع الواقع الجديد بطريقة أقل تعقيدًا وأقل خطورة من التهديدات المتواصلة التي كانت تواجهها مع كل من حكم طالبان في أفغانستان وحكم صدام حسين في العراق.
ويمكن إيجاز الوضع الأمني على الحدود الإيرانية بالآتي:
- يقف العراق على أبواب حرب أهلية، قد تؤدي إلى تقسيمه إلى ثلاث دويلات: دويلة كردية في الشمال، مع إمكانية استمرار التهديد لهذه الدويلة من الشمال من قبل تركيا ومن الجنوب من قبل الدولية السنية التي يمكن أن تنشأ في وسط العراق، وتلعب الأصولية السنية وبقايا البعث الدور الرئيس في تحقيق هذا السيناريو.
- لا يمكن توقّع استقرار الوضع في الجنوب، فالدويلة الشيعية التي يمكن أن تنشأ هناك لن تعرف الاستقرار بسبب الانقسامات الشيعية التي يغذّيها الشعور القومي العربي والنفوذ الإيراني من جهة، وبسبب الصراع الذي يمكن أن ينشأ بين مختلف القيادات الشيعية المنقسمة بين تيارين أحدهما علماني والآخر ديني. فهناك مقتدى الصدر وجيش المهدي والذي يريد أن يحكم العراق مع الاحتفاظ بهويته العربية، وهناك عبد العزيز الحكيم والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وقوات بدر التي تريد أن تقيم حكمًا إسلاميًا شيعيًا وفق النموذج الإيراني، وهناك حزب الدعوة الإسلامي بقيادة إبراهيم الجعفري والذي يسعى إلى عراق فدرالي يجمع ما بين الوسط والجنوب والشمال بالإضافة إلى التيار العلماني.
- من الصعب جدًا قراءة ردود الفعل التركية تجاه ما يجري في العراق بصورة مسبقة، ولكن من المستبعد أن تقبل تركيا بقيام دولة كردية مستقلّة في شمال العراق، وسيؤدّي مثل هذا الاحتمال إلى تدخّل عسكري تركي كثيف قد يؤدي إلى احتلال المناطق الكردية لعدة سنوات، مع كل ما يحمل ذلك من تداعيات على الجيوبوليتيك الشرق أوسطي.
- تمرّ أفغانستان في ظروف معقّدة تؤشّر إلى عدم استقرار الوضع هناك لسنوات عديدة، فهناك الأوضاع القبلية المعقّدة والتي لا يستطيع حكم حميد قرضاي السيطرة عليها، كما أن الحكم المذكور ما زال يشعر بالتهديد الذي تمثّله حركة طالبان والتي عادت كقّوة مهدّدة للحكم والاستقرار.
- هناك تهديدات عبر الحدود الأخرى، وهي تتمثّل بالغليان المستمر في منطقة القوقاز إلى جانب الاضطرابات الداخلية في بعض الدول المجاورة، كباكستان وطاجيكستان ودول بحر قزوين.
- بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي جهدت إيران لنسج علاقات جديدة من التعاون والصداقة مع روسيا الاتحادية، وإن خير دليل على ذلك التعاون العسكري والنووي القائم والذي يتطوّر بشكل دائم بين الدولتين. لكن التطّور الإيجابي الذي تحقّق بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي قد قابله تطوّر سلبي في الغرب والجنوب يتمثل بالتواجد العسكري الأميركي الكثيف وخصوصًا بعد غزو العراق حيث ينتشر ما يزيد على 160 ألف عسكري أميركي وأجنبي بالإضافة إلى القواعد الجوية الأميركية المنتشرة في دول مجلس التعاون الخليجي، والأساطيل الأميركية المبحرة في الخليج وبحر العرب.
في مواجهة الاختلال في موازين القوى المتمثل بهذا التواجد العسكري الأميركي الكثيف في العراق وفي دول مجلس التعاون الخليجي، فقد عملت إيران كل ما بوسعها من أجل تحسين علاقاتها مع حكومات هذه الدول، وخصوصًا مع المملكة العربية السعودية، كما أنها قد سعت لزيادة نفوذها داخل العراق، مما أجبر الولايات المتحدة على الاعتراف بهذا النفوذ والسعي إلى نسج علاقات حوارية مع إيران تساعدها على تطبيق برنامجها السياسي من أجل إقامة حكم مستقر في بغداد.
في الاستنتاج العام، يبدو أن إيران قد نجحت من خلال التعامل الإيجابي والواقعي مع الأميركيين في أفغانستان، ومن خلال النفوذ الذي اكتسبته داخل العراق، بالإضافة إلى الديبلوماسية الإيجابية التي اتبعتها في بناء علاقات جديدة مع دول مجلس التعاون الخليجي في فرض نفسها كلاعب إقليمي باعتراف الولايات المتحدة والتي كلّفت مؤخّرًا سفيرها في العراق زالماي خليل زادة... لفتح قنوات للحوار مع طهران، لكن لا يمكن لكل هذه التطّورات الإيجابية أن تزيل حل الشك والغموض التي تلف المنطقة، وخصوصًا في ظل استمرار الأوضاع المتفجّرة داخل العراق والتي تنذر (إذا لم تنجح الانتخابات العامة في إقامة حكم قادر على ضبط الوضع الأمني وتوحيد البلاد) بتغييرات دراماتيكية في خريطة المنطقة.
رابعًا: الأثنية والتعددية الإيرانية
صحيح أن الثورة الإسلامية وإحياء الشعور الديني الإسلامي يشكّلان مع الشعور القومي القوّة الجامعة في بلد متعدد الأثنيات والأديان. يشكل السكان من أصول فارسية نسبة 51 في المائة بينما يتوزّع 49 في المئة على 24 في المائة من العرق الأذربيجاني-التركي، وعلى 8 في المائة مازاندراني وعلى 7 في المائة من الأكراد و3 في المائة من العرب و2 في المائة من البلوش و4 في المائة من التركمان واللور واليهود. أما من الناحية الدينية فإن نسبة الشيعة الإيرانيين هي في حدود 85 في المائة. فيما يتوزّع الباقون بين السنة والمسيحيين والبهائيين واليهود.
ويمكن إدراج عدد من الملاحظات حول هذا النسيج الوطني المتعدد الأثنيات والأديان أبرزها:
- تتوّزع الأقليات الاثنية في المناطق الحدودية، ومن هنا تظهر أهمية ارتباطات المجموعات السكانية هذه بالدول التي تجاورها.
- تشكّلت داخل هذه المجموعات الأثنية أحزاب وحركات انفصالية وقد أدّى ذلك إلى نشوء كيانات مستقلّة في فترات سابقة كجمهورية مهاباد الكردية في العام 1945 والكيان التركي في أذربيجان في العام 1946(14).
- هذه الحركات السياسية (الانفصالية التوجّه) هي في غالبيتها من الأقلية السنية وتضم بصورة خاصة الكرد والبلوش والتركمان، والعرب، والتي تجد صعوبة في تقبّل الهيمنة الشيعية عليها.
- تتنافس كل من هذه الهويات الأثنية مع الهوية الفارسية وهي تشكّل خطوط الانقسام السياسي، والذي قد يتحوّل إلى مصدر لعدم الاستقرار الداخلي.
لكن تبقى الهوية الكردية مصدر القلق الأكبر، فقد جاهد الأكراد بشراسة من أجل الاستقلال، مما جعلهم يتعرّضون لحملات قمع متتالية. وشكّت عمليات قمع الأكراد درسًا للأقليات الأخرى. وتتحدّث بعض التقارير عن خسائر فادحة بالأرواح قد وقعت في الجانب الكردي بسبب هذه الحملات، بلغت وفق التقديرات 20000 قتيل منذ قيام الجمهورية الإسلامية (15).
يتراوح عدد الأكراد في إيران ما بين 4 و8 ملايين، يتوزّعون على 75 في المائة من السنة و25 في المائة من الشيعة، وإن الاستقرار الراهن لوضعهم لا يعني صفاء ولائهم لإيران، فهم من جهة يذكرون عمليات القمع التي تعرّضوا لها في ظل الجمهورية الإسلامية كما أنهم يشعرون بمركّب نقص من الطريقة التي تتعامل بها معهم الأكثرية الفارسية بالمقارنة مع الأقليات الأخرى. ويتوقّف ولاؤهم لإيران في المستقبل على الطريقة التي ستتعامل بها الدولة الإيرانة معهم، ولكن يبقى العنصر الأهم في التطّور المرتقب لجهة نجاح قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق.
تشهد مناطق البلوش في شرق إيران حالة من عدم الاستقرار والفلتان الأمني. وتسمح السلطات الباكستانية للثوار البلوش بعبور الحدود هربًا من الملاحقات الإيرانية (16).
تسببب مؤسسات الجمهورية الإسلامية التي تهيمن عليها الإيديولوجية الشيعية في تصديع الوحدة الوطنية والاجتماعية، وذلك على الرغم من تنبّه الحكم إلى هذا الخلل ومحاولات إصلاحه من خلال اعتماد سياسات براغماتية تجاه الأقليات. واعتمدت السلطة مقاربة واقعية تهدف إلى المحافظة على الأمن والاستقرار كبديل لسياسة القمع أو تذويب الأقليات وطمس شخصيتها الدينية أو الأثنية "أ، العنصر الأساسي الذي يكيّف سلوكية الحكم تجاه السنة لم يتركز حول هويتهم الأثنية أو المذهبية بل حول احتواء الخطر الذي يمثلونه بالنسبة للاستقرار العام ووحدة أراضي الجمهورية الإسلامية" (17).
ممثل الأقليات في إيران مع حركاتها الانفصالية وتوقها للتعبير عن ذاتها بشكل مستقل مصدرًا خطيرًا للهواجس الوطنية حول وحدة الشعب والأرض، كما أنها تشّكل مصدرًا للقلق من إمكان استعمالها من قبل القوى الخارجية التي تتربص شرًا بإيران، وخصوصًا خلال هذه المرحلة بعدما طوّقت الجيوش الأميركية إيران من الغرب والشرق، بالإضافة إلى قواعد جوّية وقواعد للنفوذ السياسي في دول آسيا الوسطى وبحر قزوين.
من هنا تبرز أهمية النظرية التي سبق وتحدّث عنها على شمخاني بأنه لا بد وأن تستند إيران في مواجهة التهديدات المختلفة على اعتماد استراتيجية الردع وهذا ما يبرّر اندفاعها القوي لإمتلاك السلاح النووي كسلاح رادع للقوات الأميركية المنتشرة حولها.
خامسًا: روح العداء لأميركا
صحيح أن الشعب الإيراني هو شعب فخور، وهو ستمد هذا الشعور من عمق وعظمة تاريخه وأيضًا من خلال اعتقاده بتفوّق ثقافته الفارسية على ثقافات الشعوب المحيطة به. لكن وبالتوازي مع الشعور بالفخر فقد تملّك الإيرانيين شعور قوي بدور الضحيّة. نجحت الثورة الإسلامية في دفع الشعب الإيراني للإمساك بقّوة بمصير البلاد والتحّكم في صنع القرارات المصيرية والسيطرة على الثورات الوطنية، ولكنها فشلت في تخليصه من الشعور بأنه ضحيّة مؤامرة مستمرّة يصوغها الغرب وخصوصًا الولايات المتحدة من أجل فرض الهيمنة الكاملة على إيران والتحكم بثرواتها الطبيعية وبمصيرها الوطني. يتصّور الإيرانيون أن الولايات المتحدة ما زالت القوّة الراغبة في التحّكم بمصير غيران، وبأنها ما زالت تحرّك، وبصورة خفّية، القوى الشبابية والعلمانية والنخب ذات النزعة الارستقراطية، وبأنها ما زالت تشكّل المصدر لكل مشاكل ومتاعب إيران كما أنها تملك مفاتيح كل الحلول لهذه المشاكل. هناك ميل قوي عند عامة الشعب الإيراني لتحميل وكالة المخابرات المركزية، وقبلها جهاز المخابرات البريطانية أيام الهيمنة البريطانية، مسؤولية أي سوء طالع أو كارثة تحل بإيران.
دق رجال الدين في قّمة هرم السلطة طبول الحرب ضد أميركا كل يوم جمعة من قلب جامعة طهران، وكان واضحًا أن هدفهم كان يتركّز على تعميق مشاعر العداء لأميركا ووصفها بأنها تشكل "الشيطان الأعظم"، وذلك من خلال اتهامها بالتآمر المتوصل ضد إيران وتخميلها مسؤولية الاقتصاد الإيراني المتعّثر، والتدهور النقدي الحاصل، وإشاعة روح الفساد بين الشباب، ودعم وتعهّد الصهيونية ودعم دولة إسرائيل وتحقيق تفوقها من أجل اعدادها للعب دور قوة إقليمية كبرى تهدد مصالح المسلمين.
بلغ شعور العداء الإيراني للولايات المتحدة أوجّه عام 1995 واتهمت الولايات المتحدة بأنها تحاول لعب دور الشيطان الأعظم عندما صوّت الكونغرس على إعطاء وكالة المخابرات المركزية مبلغ عشرين مليون دولار مخصصة حصرًا للقيام بعمليات لإضعاف الحكم الإسلامي في طهران تمهيدًا لقلبه. لقد نشرت الصحافة الإميركية الخبر، مما شكل إرباكًا للكونغرس والإدارة، مما دفع الرئيس كلينتون إلى عدم حجز وصرف المبلغ المذكور، لكن بقيت القناعة لدى معظم الإيرانيين بأن الولايات المتحدة مستمرة في التحضير لقلب نظام الجمهورية الإسلامية، خصوصًا وأنه لم يصدر أي بيان أميركي توضيحي حول الموضوع وذلك بسبب عدم السماح بنشر أي شيء عن العمليات السرّية التي تقوم بها وكالة المخابرات المركزية(18).
إن الشكوك حول النوايا الأميركية تجاه إيران هي قديمة وتعود إلى الفترة التي سبقت الثورة الإسلامية، إي إلى أيام الشاه محمد رضا بهلوي، والذي يروى أنه قد أظهر الكثير من مشاعر الشك وانعدام الثقة تجاه نوايا الأميركيين نحوه وذلك عندما سال في أيار 1978 نائب الرئيس الأميركي نيلسون روكفلر أثناء زيارته لإيران عن صحة وجود قرار أميركي-روسي "بتقاسم العالم بينهما" (19). ويبدو أ، مشاعر الشاه حول المؤامرة قبل عدة أشهر من الانقلاب الذي قادته مجموعة شيوعية في أفغانستان. لقد ربط الشاه بين الحدثين، وقد ولّد هذا الربط قناعة لديه بأنه هناك توافقًا قد حصل بين موسكو وواشنطن. واستمر هذا الشعور لدى معظم الإيرانيين، ما يبرر السؤال الذي يطرحه الكثيرون على أي زائر أميركي "لماذا أوصلت الولايات المتحدة الإمام الخميني إلى الحكم" (20).
من المؤكد أ، دور إيران في العالم يتعدّى أطر علاقاتها مع الولايات المتحدة، ولكنه ما زال من الصعب فهم وتقبّل الدور الذي أعطاه الإيرانيون لأنفسهم. والسؤال الآن: ما هو البديل لشعار "الموت لأميركا"؟ يبدو أن البديل سيكون موضع نقاش صعب وذلك بسبب العمق الذي بلغه شعور العداء لأميركا في نفوس جماهير المتدينين وحرّاس الثورة وقوّات الباسيج. وتشكّل الكراهية التي تضمرها إيران (الإسلامية) لدولة إسرائيل سببًا معرقلًا لأية عملية تطبيع للعلاقات مع أميركا. إن فجوة عدم الثقة بين إيران والولايات المتحدة حول إسرائيل قد بدأت تتوسّع بسبب المواقف العدائية للدولة العبرية التي عبّر عنها الرئيس أحمدي نجاد في الفترة الأخيرة، حيث أكد رفض إيران في دعم حزب الله وتقديم الأموال والأسلحة اللازمة له لخوض حرب طويلة ضد إسرائيل، وتنعكس سياسة إيران في دعم حزب الله على علاقاتها مع الوليات المتحدة وذلك بسبب الإرث الثقيل لعلاقات الحزب بالدولة العظمى والذي يحمل تراكمات سلبية جدًا بدءًا من عملية نسف موقع المارينز في مطار بيروت عام 1983 والتسبب بمقتل 241 عسكريًا بالإضافة إلى الرصيد المتراكم من عمليات عديدة استهدفت أشخاصًا ومؤسسات أميركية عبر عقد الثمنانينات. يضاف إلى الرصيد السلبي للسياسة الإيرانية تجاه إسرائيل ودعم حزب الله، المساندة السياسية والدعم المالي الذي تقدّمه إيران للمنظمات الفلسطينية الإسلامية في فلسطين كحماس والجهاد الإسلامي للاستمرار في حربهما ضد إسرائيل بهدف تعطيل عملية السلام بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل.
وليس من باب المغالاة القول بأن العلاقات الأميركية-الأيرانية ما زالت تواجه كل التساقطات السامّة لأزمة الرهائن في السفارة الأميركية من عام 1979 إلى 1981، ومشاهد الشوارع الممتلئة بمئات آلاف الأيرانيين الذين هتفوا "الموت لأميركا" واستعراض أسرى السفارة أمام كاميرات التلفزة وهم معصوبي الأعين، وايضًا حطام الطائرات في الصحراء الأيرانية للغزوة الفاشلة لتخليص الرهائن. طبعت كل هذه الصور بعمق في مخّيلة وضمير الأميركيين، فحولّت الشعارات التي كان يمكن أن تكون "جوفاء" إلى عداء مستحكم وطويل. وتحوّلت إيران بعد أزمة الرهائن إلى عدو خطير يشجّع الإرهاب، وذلك بعد ان اتهمت الولايات المتحدة عملاء إيرانيين من الحرس الثوري بتفجير مبنى المارينز ومبنى السفارة الأميركية في بيروت عام 1983.
وتتعاظم مشاعر العداء والتناقض في المواقف السياسية بين أميركا وإيران بسبب سياسية إيران لبناء قوات عسكرية كبيرة وتسليحها بالأسلحة المتطورة والتي تجعل منها قوة أقليمية قادرة على تهديد جيرانها، وايضًا تهديد المسالح الأميركية الحيوية في الخليج وبحر العرب، ومن أبرز نقاط التناقض الاندفاعة الإيرانية لبناء مشروع نووي طموح يضع إيران في مطصاف الدول النووية خلال سنتين أو أقل. وتطوّر إيران بالتوازي مع السلاح النووي قوّة صاروخية يمكن أن تشكّل تهديدًا لكل الشرق الأوسط وقسم واسع من أوروبًا.
سادسًا: الاقتصاد الإيراني
قال الإمام الخميني في بدايات الثورة الإسلامية بأن الهدف من الثورة "ليس تحديد سعر البطيخ"، لكنه اكتشف بعد بضع سنوات أن الثورة لم تحمل معها الدواء الشافي أو الوصفة السحرية لمعاناة الشعب الإيراني سواء لما يعود للكساد الاقتصادي أو للتدهور الدراماتيكي في مستوى عيش المواطنين.
قادت الجمهورية الإسلامية إيران إلى حرب طويلة ومدمّرة مع العراق، وإلى عزلة دولية خانقة، وإلى تدهور دراماتيكي للاقتصاد. دفعت كل هذه التطوّرات شرائح واسعة من الشعب للتساؤل عم حكمة الحكم القائم، كما وسّعت الفجوة بين الحكم وجيل الشباب ويمكن الاستنتاج أن قاعدة قياس انجازات الثورة قد أعادت إلى الأذهان مقولة "اسألوا عن سعر البطيخ". تسببت الأوضاع الاقتصادية السيّئة، والفجوة بين الثورة وجيل الشباب بتبّدل في الموقف السياسي العام، وفي النزعة العامة للسياسة الخارجية الإيرانية، والتي بدأت تضع في أولوياتها المصالح الاقتصادية للأمة على حساب المبادئ الأساسية والأهداف التي نادت بها ثورة الخميني. لكنه ما زال من المبكر الحكم على التغيير الذي يمكن أن يرافق عودة المحافظين إلى الحكم بقيادة الرئيس محمود أحمدي نجاد.
إتهم الإمام الخميني حكم الشاه عندما كان لا يزال يعيش لاجئًا في فرنسا في مقابلة مع صحافية أميركية عملت كمراسلة لصحيفة نيويورك تايمز قبل سنتين من عودته إلى طهران "بتدمير الاقتصاد الإيراني" وذلك بالتنازل عن النفط للدول الصناعية، وبخفض مستوى المحاصيل الزراعية من أجل فتح الأسواق الإيرانية أمام المنتجات الأميركية، وبإخضاع القوات المسلحة لقيادات أجنبية وبقتل الآلاف من معارضيه، وبتدمير حرية التعبير" (21).
بعد عقدين من قيام الجمهورية الإسلامية يجد الشعب الإيراني نفسه مجددًا في مواجهة عدد من المصاعب الاقتصادية والاجتماعية التي لم يستطع الحكم الإسلامي مواجهتها: أولاَ هناك تراجع دراماتيكي في فرص العمل، حيث يدخل مئات الألوف سوق العمل كل عام، والذي لا يستطيع استيعاب أكثر من نصف هولاء. فالاقتصاد ما زال يرضخ لحالة "العزل الخارجي" كما يشكو من قّلة الاستثمارات، والتي تزداد شحًّا بسبب المقاطعة الخارجية أو خوفًا من التشريعات المفاجئة والتي تتسبب بهرب رؤوس الأموال، بالإضافة إلى استشراء الفساد وعدم فعالية إدارات الحكم والتركيز على عائدات النفط من أحل تمويل مصارفات الدولة ومشترواتها الخارجية.
من المؤكّد أن انجازات الجمهورية الإسلامية لم تحقق ما كان يحلم به الإمام الخميني في البدالية. وكان من الطبيعي أ، تبربط خيبة الأمل هذه بالنتائج والخسائر التي ترتّبت على الحرب مع العراق والتي دامت ثماني سنوات. وتقدّر الخسائر البشرية من الجانب الإيراني بثلاث مائة ألف قتيل وأكثر من ستمائة ألف جريح، وتهجير مليوني مواطن إيراني من بيوتهم ومصادر رزقهم.
كانت تكاليف الحرب باهظة جدًا، حيث صرفت إيران مليارات من الدولارات اليت كانت بأمس الحاجة إليها لتطوير اقتصادها. وكانت الخسائر التي نتجت عن الحرب كارثية، حيث جرت معظم المعارك على الأراضي الإيرانية، كما تعرضت 16 مقاطعة من أصل 22 مقاطعة، يعيش عليها ثلثا سكان إيران لقصف مدفعي أو صاروخي كثيف. تسبب الحرب بتدمير الاقتصاد الإيراني، وذلك جراء تدمير البنى التحتية الرئيس والصناعات النفطية والمراكز الصناعية والمدن، والأراضي الزراعية.
أدت نتائج الحرب والأوضاع السائدة في الدولة، إلى جانب الفجوة بين المفاهيم الاجتماعية التي يتمسك بها المحافظون وتلك التي ينادي بها جيل الشباب، إلى تبدّل في نظرة الرأي العام للحكم وبالتالي إلى نجاح الإصلاحيين بقيادة محمد خاتمي في الانتخابات. لكن لم يؤدّ تجربة الإصلاحيين النتائج المرجوة وذلك بسبب القوى المختلفة التي جّندها رجال الدين والمحافظون، وخصوصًا القضاء الذي استطاع إحباط كل المحاولات الإصلاحية كما تدّخل في الانتخابات بأساليب مختلفة. وأدّت الاحباطات المتوالية أثناء فترة حكم الإصلاحيين إلى عودة التيار المحافظ بقيادة أحمدي نجاد والذي يبدو أنه يتوجّه إلى إحياء الشعارات الأساسية التي كانت سائدة أيام فترة هيمنة الإمام الخميني على السلطة. ليس الهدف إجراء دراسة تحليلية للاقتصاد الإيراني، بل الاكتفاء بإدراج الحقائق الاقتصادية المؤثرة في صياغة سياسة إيران الخارجية، والاستراتيجيات التي ستعتمدها لمواجهة المتغيرات الكبيرة على حدودها وفي منطقة الشرق الأوسط. تقدّر ديون إيران الخارجية بسبعة عشر مليار دولار، ويبدو أ، مؤشر الفقر هو في ارتفاع مضطرد، وذلك استنادًا إلى تدنّي القدرة الشرائية لدى المواطنين بنسب تترواح ما بين 20 و 50 في المائة (22). أظهرت دراسات إجراها صندق النقد الدولي أن مستوى الدخل الفردي بالنسبة للدخل القومي لعام 1999 ما زال دون المستوى الذي كان عليه عام 1977 (23). إن أكثر من ثلثي السكان الإيرانيين الذين يزيد عددهم على 64 مليون نسمة هم دون عمر 25 سنة، في حين أن السوق يقتصر على أقل من 15 مليوناُ. وهناك ما يقارب مليونان ونصف من العاطلين عن العمل، علمًا أن نسبة خريجي الجامعات بين هؤلاء 40 في المائة. وبحسب تقديرات حكومة الرئيس خاتمي الأخيرة فإن على إيران أن تعمل لخلق ما يقارب 800 الف فرصة عمل جديدة سنويًا، ويتطلب ذلك استثمارات بعشرة مليارات دولار سنويًا ونسبة نمو تبلغ 6.7 في المائة سنويًا.
سيؤدي الارتفاع الكبير في أسعار النفط إلى تأمين مداخيل إضافية تعطي للحكم الراهن مساحة من الوقت، وقدرة على تمويل مشتريات إيران الخارجية بالإضافة إلى زيادة الاستثمار في بعض المشاريع من أجل الوقت، وقدرة على تمويل مشريات إيران الخاردية بالإضافة إلى زيادة الاستثمار في بعض المشاريع من أجل خلق فرص عمل جديدة، لكن وبسبب إمكانية تدني سعر برميل النفط فإنه لا يمكن لإيران الارتباط بمشاريع استثمارية طويلية الأمد.
كانت الأوضاع الاقتصادية السيّئة قد أثّرت بشكل مباشر على جهود إيران في تحديث قواتها المسلحة. وكان قد ذكر الباحث الإميركي الشهير أنطوني كوردسمان أن المصارفات العسكرية الإيرانية كانت بعد انتهاء الحرب مع العراق في حدود ثمانية مليارات ونصف من الدولارات ولكنها قد تدنت في الفترة الأخيرة إلى النصف. ويبدو أن التركيز في الانفاق العسكري قد انتقل إلى برنامج تطوير الصواريخ والبرنامج النووي الإيراني، والذي لا تحتسب الأموال المخصصة له ضمن موازنة وزارة الدفاع.
تعود أسباب ضعف بنية الاقتصاد الإيراني إلى السياسات المحافظة والتي لا تشجع نمو القطاع الخاص. ويساهم دور الحكومة والذهنية السائدة لدى رجال الدين والمحافظين في فرض الكثير من القيود على الاستثمارات الأجنبية، بالإضافة إلى القرارات العشوائية وعدم الاستقرار العام في منع الاقتصاد من تحقيق النمو اللازم.
إذا كانت إيران تريد أن تطّور اقتصادها فإن عليها اتخاذ مجموعة من الخطوات الإصلاحية الجذرية وفق الآتي (25):
- خفض دور الحكم في النطاق الاقتصادي، واعتماد سياسة تحديثية تسمح بخصخصة القطاعات الاقتصادية التي تعود ملكيتها للدولة، والمصارف وشركات التأمين.
- اعتماد خطة إصلاحية شفافة وإعلان الحرب على الفساد واحترام حقوق الملكية الخاصة.
- إلغاء سلطة ونفوذ المؤسسات الثورية ورجال الدين ومؤسسات القطاع العام الأخرى ومنعها من التدخل في الدورة الاقتصادية، وإلغاء كل الخدمات الحصرية المسيطر عليها الآن من القطاع العام ومن يدور في فلكه.
- تحرير السوق المالية من كل القيود المفروضة عليها، بحيث تحدد هذه السوق بآلياتها الخاصة أسعار الصرف للعملات ومستوى الفوائد.
- الغاء دعم الحكومة لكل المواد الأساسية والمحروقات والأدوية وغيرها.؟
- إعادة النظر في السياسات الضريبية وتقديم الضمانات اللازمة لحماية الاستثمارات.
- إيجاد التشجيع اللازم لدخول الاسثتمارات الأجنبية الكبيرة إلى الاقتصاد.
- الاستعانة بالخبرات والرساميل الأجنبية لتطوير قطاع النفط والغاز.
تفترض هذه الإصلاحات أولاَ، تغييرًا جذريًا في مفاهيم الحكم وعقلية الحكام وذلك تمهيدًا لبناء علاقات الثقة مع الشركاء المحتملين لإيران. ولا بدّ في هذا الإطار من أن يدرك النظام الإيراني ضرورة إجراء تغييرات عميقة في سلوكية إيران السياسية، وفي علاقاتها مع بعض الدول في المنطقة وأيضًا فك ارتباط إيران بعض الجماعات المتهمة بالإرهاب. لا يمكن لإيران أن تنسج العلاقات اللازمة لجذب الاستثمارات الأجنبية إذا لم تعدل في سلوكيتها السياسية أو إذا لم تعمل على تطوير كل المؤسسات والقوانين والإجراءات التي تعرقل النمو الاقتصادي.
إن أمام إيران فرصة ذهبية لتطوير اقتصادها وذلك من خلال استعمال الفوائض من المحصلة من ارتفاع أسعار النفط والغاز. لكن يبدو من المعلومات التي وفرتها بعض المصادر الإعلامية أن حكومة أحمدي نجاد المحافظة تسير عكس التوجهات المطلوبة اقتصاديًا. إن كل الترجيحات تقود للاستنتاج بأن الفائض من عائدات النفط لن يذهب باتجاه تطوير بنية الاقتصاد بل لغايات تخدم شعبية حكم المحافظين من خلال الاستمرار في دعم الضرورات المعيشية، من جهة، والعمل على ضخ مزيد من الأموال من أجل بناء عدد من محطات الطاقة النووية، وبرنامج تطوير الصواريخ. وتستغل في تغطية هذا الانفاق عدة عوامل العداء لإميركا، والشعور الوطني الإيراني الداعم للبرنامج النووي كمدخل لتأكيد دور إيران الدولي، ومعارضة المحافظين ورجال الدين للانفتاح الاقتصادي بحجة أن ذلك سيكون على حساب لقمة عيش الفقراء. تصر القيادة الإيرانية على أن كل المشاكل الاقتصادية التي تواجهها إيران هي من صنع الولايات المتحدة، وبأن تخريب الاقتصاد الإيراني كان هدفًا معنًا للسياسة الأميركية طيلة عهد الرئيس كلنتون، وهو مستمر مع الرئيس جورج دبليو بوش.
قررت الإدارة الأميركية عام 1995 فرض حظر أحادي الجانب على إيران، وحضّت حلفاءها على تخفيض أو قطع مبادلاتهم التجارية مع إيران، كما جمّدت القروض التي كان يمكن أن تحصل عليها طهران من مؤسسات ومصادر دولية كالبنك الدولي. وقع كلنتون عام 1996 قانونًا ضد الإرهاب ينص على فرض عقوبات على الشركات الأجنبية التي تستثمر أكثر من 40 مليون دولار (وعاد وخفضها في مرحلة لاحقة إلى 20 مليون دولار) في قطاع النفط والغاز الإيراني. وكان الانفراج جزئيًا عام 1999 عندما قررت الإدارة الأميركية السماح للمزراعين الأميركيين ببيع الجمهورية الإسلامية كميات من القمح والحبوب، والسماح أيضًا لإيران بشراء قطع البدل اللازمة لأسطولها الجوي التجاري المجهز بطائرات بوينغ.
وعادت الإدارة الأميركية في عام 2000 وعدلت بقواعد حصارها الاقتصادي الآحادي الجانب فسمحت باستيراد بعض السلع الإيرانية وأبرزها السجاد والمصنوعات الغذائية. بالرغم من تصنيف بوش لإيران كإحدى دول " محور الشر" فإن الإدارة الأميركية الراهنة، لم تبادر إلى فرض اية عقوبات جديدة أو تشديد أي من التدابير المعرقلة للتبادل التجاري مع إيران، ويعود ذلك إلى التعاون الذي أبدته إيران في الحرب على أفغانستان وملاحقة فلول القاعدة وطالبان.
لكن يتنامى الإدراك لدى الشعب الإيراني بأن كل المشاكل التي يواجهها الاقتصاد الإيراني ليست من صنع الولايات المتحدة، وإنما هي نتيجة مباشرة للسياسات الاقتصادية التي درجت على اعتمادها الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها، وخصوصًا لجهة عدم تحديثها لتماشي السياسات الدولية المتطورة والتي تقوم على مفاهيم الأسواق المفتوحة أمام التجارة الدولية.
لا تتوافر عناصر التشجيع للاستثمار الداخلي أو الخارجي. فالقرارات العشوائية في منح أو إلغاء رخص الاستيراد أو التصدير لرجال الأعمال الإيرانيين لا تشجع إطلاقًا الاستثمارات الكبيرة وحتى المتوسطة منها. أما بالنسبة للاستثمارات الخارجية، فإن الحاجز الأساسي يتمثل في عدم وجود ضمانات للاستثمارات، والكل يذكر بما حصل بعد الثورة الإسلامية حيث صادر الحكم كل المصالح الكبرى كالفنادق والبنوك والمعامل وغيرها.
ما هو مدى تأثير هذه العناصر؟
لا يمكن أن نعلم على مقياس محدد مدى تأثير كل من هذه العناصر في هذه العناصر في السياسة الخارجية التي تتبعها إيران، بصورة عامة يمكن أن نستنتج مثل هذا التأثير بتصنيفه ضمن ثلاث فئات ضعيفة أو متوسطة أو قوية. ومن أجل أن تكون المقاربة أكثر واقعية لا بدّ من أن تأخذ بعين الاعتبار علاقات إيران السياسية والاقتصادية مع الدول المحيطة بها أو مع الدول التي ترتبط معها بمصالح سياسية أو اقتصادية بما فيها الدول الكبرى كدول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والهند واليابان.
على سبيل المثال، فإن الايديولوجية الإسلامية أو الهوية الفارسية تؤثر في مجريات السياسة الخارجية الإيرانية مع دول مجلس التعاون الخليجي أكثر من العلاقات مع الصين أو اليابان.
ولنأخذ عنصر العداء لأميركا فإنه لا يؤثر فقط في العلاقات مع الولايات المتحدة بل نجد له انعكاسات على العلاقات مع الدول الحليفة أو الصديقة لأميركا. يجب أن يجري تقويم السياسة الخارجية الإيرانية من خلال اعتماد مزيج من هذه العناصر. عندها يمكن الخروج باستنتاجات عامة تؤشر إلى أسباب سياسة التقارب والتعاون أو سياسة التباعد والمقاطعة التي تعتمدها إيران مع هذه الدولة أو تلك.
منطلقات السياسة الخارجية الإيرانية
تواجه السياسة الخارجية الإيرانية مصاعب وعقبات ونتاقضات تجعلها أشبه بالسياسة الخارجية للدول الكبرى منها لسياسة الدول المتوسطة التي هي بحجم إيران الجغرافي والديمغرافي، لذلك نجد أنه من الصعب وصفها أو توقع الخيارات التي يمكن أن تعتمدها تجاه التطّورات الإقليمية والدولية المتسارعة. لا بدّ في مطلق الأحوال العودة إلى العناصر الأساسية التي استعرضناها سابقًا في أية عملية تحليلية لسياق السياسة الخارجية الإيرانية، أو في معرض البحث عن المواقف الإيرانية المحتملة أزاء تطورات الوضعين السياسي والأمني في المنطقة الجغرافية الحيوية المحيطة بها.
يمكن من خلال مراجعة تحليلية للسياسات الخارجية الإيرانية منذ قيام الجمهورية الإسلامية الخروج باستنتاج عام وسريع بأن هذه السياسات لم تتسم بالثبات أو التماسك، فقد مرّت فترات كان فيها العامل الثوري العنصر الأساسي الموجّه للسياسة الخارجية، بينما سيطر العامل الأمني والتماسك الوطني الداخلي ومنع التفتت الإتني بين مكونات المجتمع الإيراني كهاجس أساسي في علاقات إيران مع محيطها الجيو-ستراتيجي بما في ذلك علاقاتها مع الولايات المتحدة. وفي فترة ثالثة كان للعامل الاقتصادي دورًا رائدًا في صنع السياسة الخارجية. لكن لا تمنع كل هذه المتغيرات من التعرف على النزعة التي تعتمدها إيران في علاقاتها الدولية.
تشّكل هواجس إيران الأمنية عنصرًا متقدمًا في رسم التوجه الأساسي للسياسة الخارجية الإيرانية، ومن هنا تبرز أهمية دور المؤسسات الدفاعية والأمنية في رسم النزعة الدائمة للسياسة الخارجية، خصوصًا لجهة البحث عن الخيارات التي يمكن اعتمادها لمواجهة التهديدات المحتملة. لكن لا بد من التمييز بين الجهة المخوّلة تحديد الأهداف الوطنية وتحديد الأولويات فيما بينها، حيث لا تلعب المؤسسات الدفاعية والأمنية أي دور في صياغتها، بل يقتصر دورها على المشاركة في صنع وتنفيذ السياسات اللازمة لتحقيق الأهداف الوطنية التي وضعتها السلطة العليا المتمثلة بالإمام على خامنئي ومجلس تخطيط مصلحة النظام ومجلس الأمن القومي.
دور المؤسسات الأمنية
تلعب دوائر وزارة الدفاع والجيش النظامي دورًا بارزًا في تقويم كل ما يتعلق بالأمن القومي، وأيضًا في تقديم المشورة اللازمة في كل أمور الأمن القومي والسياسة الخارجية، وتؤدي هذا الدور كجزء أساسي من التنظيم الأساسي للدولة، ويدخل في صلب وظيفتها الدائمة. وتؤكد التصريحات ذات الطابع السياسي والاستراتيجي التي تصدر عن وزير الدفاع وبعض القيادات العسكرية الرئيسية على أهمية دور المؤسسة العسكرية في صنع سياسات الأمن القومي. ويلعب الحرس الثوري دورًا سياسيًا واستراتيجيًا ابرز من الدور الذي يلعبه الجيش وذلك بسبب قرب قيادته من مكتب القائد الأعلى. ويقول قائد الحرس الثوري يحيى رحيم صفوي بأنه ليس هناك من حدود جغرافية لمهام الحرس الثوري، وبأن حدود الثورة الإسلامية هي حدوده، وهو يملك بذلك شبكة واسعة من العلاقات في كل دول العالم الإسلامي، وتركيزًا في كل من لبنان والعراق ودول الخليج (26). وفي العالم العربي ككل. ويمكن تحديد بقعهة العلاقات والاهتمامات الاستراتيجية للحرس الثوري بالشرق الأوسط الأوسع بالإضافة إلى كل من باكستان وأفغانستان. لكن يبدو أن دور الحرس الثوري في الخارج وتأثيره على مسار السياسة الخارجية هو في تراجع ملحوظ، ويعود ذلك إلى التبدّل الحاصل في استراتيجية إيران في المدى الطويل، وتراجع أهمية دور الحرس الثوري في مهمة العلاقات الخارجية خارج الأطر الرسمية للدول. ويمكن ربط هذا التراجع بالإهمية التي أعطيت لوزارة الدفاع والجيش وخصوصًا في ظل الفترة التي شغل فيها على شمخاني منصب وزير الدفاع، ويمكن أيضًا القول بأن استراتيجية إيران الجديدة التي تعتمد على الصواريخ البعيدة المدى والسعي لتطوير السلاح النووي، والاعتماد على البحرية قد شكّلت سببًا اساسيًا في تراجع الأهمية التي كان يحظى بها الحرس الثوري.
ويمكن في هذ التقويم الاستنتاج بأن هناك عناصر عديدة مؤثرة في دور مختلف المؤسسات الأمنية في صناعة القرار الوطني والتأثير في مسار السياسة الخارجية: قد تتغير أهمية دور هذه المؤسسة أو تلك مع قرب أو بعد الدولة المعنية عن إيران جغرافيًا، كما قد تتأثر بطبيعة المسألة المطروحة، وبالأولويات التي تعتمدها السلطة في طهران. وهناك بالتأكيد عامل يتعّلق بقّوة الشخصية القيادية التي تترأس هذا الجهاز أو ذاك وقربه من مكتب القائد العام أو القيادات الدينية ومراكز القوى الأخرى.
علاقات إيران الإقليمية والدولية
راينا من النقاش الذي أدرجناه سابقًا مدى تأثر السياسة الخارجية الإيرانية بمختلف العناصر التي ينطلق منها صانعو القرار في طهران في صياغتهم لمواقف إيران في مواجهة التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية على المستويين الإقليمي والدولي. لكن، لا بدّ من التوقف الآن أمام التبدّل الدراماتيكي الذي حصل بعدما انتخب محمود أحمدي نجاد كرئيس للجمهورية، وخسارة التيارات الإصلاحية للأكثرية النيابية في المجلس.
عندما انتخب الرئيس محمد خاتمي عام 1997 كرئيس للجمهورية، وما تبع ذلك سواء في وجود أكثرية نيابية إصلاحية داخل المجلس وسيطرة الإصلاحيين على الحكومة ساد الاعتقاد بأن إيران ستسلك الطريق الديمقراطي وبأنها على وشك كسر حلقة دكتاتورية رجال الدين والفوضى السياسية والاقتصادية التي تعاني منها منذ قيام الجمهورية الإسلامية.
كان الأمل كبيرًا بأن يقود خاتمي إيران إلى الانفتاح السياسي والاقتصادي بحيث يمكّنها ذلك من استعادة موقعها كعضو فاعل في السياسة الإقليمية والدولية، بحيث لا تبقي سياستها الخارجية أسيرة مفهومي التاريخ والدين والعداء لأميركا والغرب، أو الطموحات في تصدير نموذج الثورة الإسلامية إلى دول مجاورة والدول الإسلامية، وتتعلّم بالتالي أن سياسات الدول يجب أن ترتكز على توازن المصالح مع الآخرين.
في ظل حكم الإصلاحيين تبدّلت الرؤية السياسية، خصوصًا بعدما سلك الرئيس نفسه سياسة الحوار بين الحضارات والتي فتحت إمكانية قيام حوار واسع وبناء يعيد إيران إلى المجتمع الدولي بشكل واقعي ووفق مفاهيم السياسة الدولية الشاملة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة. لقد عبّر نائب وزير الخارجية في تلك الفترة محمد جواد ظريف عن هذا التوجه الجديد "إن هدفنا في القرن الحادي والعشرين لم يعد البحث عن أعداء جدد، ولكن العمل على اغيير الأعداء إلى محايدين، وتغيير المحايدين إلى أصدقاء" (27). وكانت مقاربة الإصلاحيين واقعية في إعادة إصلاح علاقات إيران مع العالم الخارجي، من خلال العمل على مراحل تبدأ بمرحلة حوار الحضارات والتي تؤدي إلى بناء قواعد تفاهم مشتركة مع الغرب، كما تعيد بناء قواعد الثقة بصورة تدريجية تمهيدًا للانفتاح على علاقات تراعي مصالح الطرفين. لكن كانت المؤسسة الدينية بالمرصاد للبرنامج الإصلاحي الذي أراده خاتمي، فتدخلت المؤسسات الدينية بتشجيع من المرجعية المتمثلة بالسيد على خامنئي من أجل عرقلة كل التشريعات والقرارات الحكومية الإصلاحية. وكانت المؤسسات الدينية مدعومة من الجسم القضائي الذي تسيطر عليه ومن القوى العسكرية المتمثلة بالحرس الثورية وشبه العسكرية المتمثّلة بقوات الباسيج، فاستطاعت من خلال هذه القوى بالإضافة إلى فائض السلطة والنفوذ لدى خامنئي إحباط الحركة الإصلاحية وضبط حركة الانفتاح سواء في الداخل أو الخارج، بشكل أدىّ إلى خيبة أمل شعبية وخصوصًا لدى جيل الشباب والعلمانيين.
أدّت خيبة الأمل من حكم الإصلاحيين إلى عودة التيار الديني إلى الواجهة فخاض الانتخابات بدعم من علي خامنئي، والتي أسفرت عن نجاح باهر حققه المرشح المحافظ محمود أحمدي نجاد على تيار الواقعية السياسية بقيادة هاشمي رفسنجاني وعن أكثرية نيابية محافظة في المجلس.
السؤال المهم هل نحن اليوم أمام مرحلة جديدة يستعيد فيها الرئيس أحمدي نجاد وبدعم المؤسسة الدينية المنطلقات والقواعد السياسية التي كانت سائدة في المرحلة الأولى من قيام الجمهورية الإسلامية أي مرحلة الإمام الخميني؟ في الواقع من الصعب جدًا في هذا الوقت المبكر حيث لم يمض سوى بضعة أشهر على وجود أحمدي نجاد في الرئاسة الخروج بجواب ناجع عن السؤال المطروح، لأن المعلومات المتوفّرة من طهران والقراءات لبعض المحللين ما زالت متأرجحة بين حصول أحمدي نجاد على دعم المتشددين لتصريحاته حول إسرائيل وبين محاولات جارية لتطويقه وإعطاء صلاحيات لمجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يترأسه الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني المنافس له في انتخابات الرئاسة، للإشراف على عمل الحكومة.
بعد الحملة التي شنتها الدول الغربية على الرئيس أحمدي نجاد احتجاجًا على تشكيكه في صحّة رواية "المحرقة" النازية ضد اليهود وتصنيفها من قبله بأنها خرافة أطلق رجل دين متشدد واثنان من وزرائه حملة قوية لدعم موقفه. وحذّر وزير الدفاع الإيراني العميد مصطفى محمد نجار إسرائيل من أن غيران سترد بعنف على أية ضربة إسرائيلية "إذا تعرضت إيران لأي عدوان فإنها سترد بسرعة وحزم وصلابة، وسيكون الرد مدمرًا" (28). وأضاف "المصير المشؤوم لصدام في عدوانه على إيران يجب أن يشّكل عبرة للكيان الصهيوني". وجاء تصريح وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي عن تأييد بلاده لتصريحات رئيسها، "إن الدول التي تزعم وحتى تصرّ على أن عددًا كبيرًا من اليهود قد قتلوا في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية أو تصنف ذلك مذبحة يجب أن تعّوض هي على اليهود وتساندهم من جيوبها الخاصة" وأضاف "إن ما قيل... هو مقف منطقي تبنّته الجمهورية الإسلامية بأشكال أخرى".
ربط بعض المحللين تصريحات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد المعادية لإسرائيل باستراتيجية الرئيس الهادفة إلى تعزيز موقفه في الداخل، بالإضافة إلى تعزيز دور إيران الإقليمي. ورأى آخرون بأن هذه التصريحات تؤشر إلى الحماسة المفرطة وقلة الخبرة وعدم القدرة على التمييز بين المستمعين إليها في الداخل والخارج، وأن المنطق يقود إلى أن الدوافع الحقيقية هي مزيج من التقويمين الآنفي الذكر. لقد اكتشف أحمدي نجاد أن نفوذه مقّيد بسبب النظام السياسي المعقّد والتناحر بين مختلف القوى السياسية في إيران. ويبدو أن تصريحاته قد جاءت كرّد على إعطاء المرشد على خامنئي صلاحيات الإشراف على عمل الحكومة إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يترأسه منافسه في الانتخابات هاشمي رفسنجاني، بالإضافة إلى المعارضة القوية من التيار المحافظ في المجلس بشأن الاسماء التي اقترحها لتولّي حقيبة وزارة النفط.
يرجّح المحللون بأنه هدف من تصريحاته المعادية لإسرائيل رسم صورة لنفسه تروق للتيار المحافظ والمتشدد، وتحرج معارضيه وتمنعهم من التصويب عليه في انتقاداتهم من أجل تهميشه.
في الواقع لم تأت المواقف المعادية لإسرائيل كتصريحات عابرة، بل هي جزء من استراتيجية تعتمدها الأجهزة الأمنية الإيرانية والتي تعتبر أن "الهجوم يمّثل أفضل طرائق الدفاع". وهي تريد أن توجّه رسائل إلى الغرب بأنها تملك ما يكفي من النفوذ داخل العراق ومع الفصائل الفلسطينية وحزب الله لمواجهة كل الضغوط التي يمارسها عليها الغرب في الموضوع النووي. ويسود اعتقاد في صفوف الحرس الثوري (الذي خرج منه أحمدي نجاد) بأنه يمكن من خلال اعتماد سياسة هجومية حمل الأميركيين على التعامل مع إيران بجدية’ والاعتراف لها بدور أمني كبير في المنطقة. ويدعم قياديو الحرس الثوري منطقهم هذه بما حدث في لبنان في الثمانينات حيث أدّت مساهمة إيران في دفع الأميركيين للانسحاب من هناك بعد تفجير موقع المارينيز. كما تجتذب تصريحات أحمدي نجاد كل الذين يؤمنون بالدور القيادي الذي يجب أن تلعبه الجمهورية الإسلامية في العالم الإسلامي. ترسم كل هذه المناقشة للأسس والمنطلقات التي تستند إليها السياسة الخارجيه الإيرانية صورة معقّة ومتغّيرة لعلاقات إيران بالدول المحيطة بها، وأيضًا بالدول الكبرى التي ترتبط معها بمصالح حيوية. لا بدّ، من أجل تسهيل دراسة سياسة إيران الخارجية والأمنية، ودراسة دور مختلف مؤسسات صنع القرار داخل النظام الإيراني، من دراسة علاقات إيران بكل من هذه الدول.
العراق
إذا كان لا بدّ من العودة إلى دراسة التاريخ، فإنه ينبئنا بأ، كلًا من إيران وتركيا قد احتفظت بطموحات أمبراطورية تجاه العراق. ويروي التاريخ أن ملك الفرس سيروس قد تحيّن فرصة وفاة الملك نبوخذ نصر عام 562 ق.م مستغلًا الضعف الذي أصاب بابل ليحاصرها ويسقطها بجيشه العظيم عام 583 ق.م.
وصف مراسل مجلة الأيكونوميست البريطانية الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) بقوله: "هذا واحد من أقدم الخلافات في العالم، وهو يدور على طرفي هوة عرقية من حيث الأساس. يمكن تتبّع جذور مشاعر العداء الحالية إلى معركة القادسية التي دارت رحاها في جنوب العراق في عام 637 للميلاد حيث قضى فيها جيش من العرب المسلمين على جيش أكبر حجمًا من الفرس الزرادشتيين وعلى الأمبراطورية الساسانية الهرمة" (29).
ووصف جيفري غادسن من صحيفة كريستشان ساينس مونيتور الأميركية الحدود الفاصلة بين العراق وإيران بأنها من "أكبر الهوات الأمنية والثقافية على سطح الأرض" (30).
كانت علاقات إيران مع العراق سيئة قبل قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. وكان شاه إيران يساعد على نقل الأسلحة الإسرائيلية والأميركية إلى الأكراد في شمال العراق. لكن لم يسهم سقوط محمد رضا بهلوي لم يسهم مطلقًا في تحسين العلاقات بين البلدين. وبالرغم من أ، العراق قد قبل بتوقيع اتفاقية الجزائر مرغمًا في عهد الشاه، فإن الجمهورية الإسلامية قد دعمت حزب الدعوة الشيعي العراقي من أجل معارضة حكم السنّة في بغداد، كما دأبت إذاعة طهران على حث الشيعة في جنوبي العراق على مقاومة حكم صدام حسين واللجوء إلى العنف عند الحاجة. وتسلل عملاء إيرانيون إلى المدن الشيعية الجنوبية كالبصرة والكوفة والنجف وكربلاء لحث الناس على التظاهر والعصيان ورفع صور الإمام الخميني. كما جهد عملاء إيرانيون لتنفيذ عمليات اعتداء على بعض القياديين البعثيين ومن بينها قنبلة ألقيت من عميل إيراني جرحت طارق عزيز وطالبين في نيسان 1990.
وحث الإمام الخميني شخصيًا الجيش العراقي على رفض الأوامر، ودعا الشعب للثورة لإسقاط نظام صدام حسين، معربًا عن أمله في أن "يرمى النظام العراقي في مزبلهة التاريخ" (31).
هّيات أجواء العداء المتبادل بين إيران والعراق لحرب طاحنة وباهظة الأكلاف في الخسائر البشرية والتي كان قد بدأها العراق بمهاجمة الأراضي الإيرانية عام 1980، ودامت الحرب ثماني سنوات متواصلة. وأظهرت التقديرات التي اعتمدتها عواصم دول حلف شمالي الأطلسي أن عدد القتلى الإيرانيين جراء الحرب تراوح بين 420 و 580 مقارنة بـ 300 ألف قتيل عراقي. تضاف إلى الأثمان المرّوعة للخسائر بالأرواح، الكلفة المالية للحرب، والتي قدرت بألف بليون دولار أميركي.
لم يتحقق من هذه الحرب أي شيء سوى تمهيد الطريق ثانية عام 1991، وفرض نظام عقوبات (لقتل الأطفال العراقيين) طيلة 13 سنة متوصلة، ولشن حرب عدوانية كبيرة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها عام 2003، ودفع العراق من جرائها إلى حرب أهلية.
لم تنته الحرب بين إيران والعراق بمعاهدة سلام بين الدولتين، بل حصل ذلك عن طريق قبول الطرفين لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598، والذي أدّى إلى وقف لإطلاق النار في تموز عام 1988. إنتهت الحرب دون نتائج حاسمة بالنسبة لأي طرف من طرفيها: لقد فشلت إيران في قلب نظام صدام حسين، كما فشلت في التوصّل إلى اتفاقية جديدة (معاهدة) تحقّق أمن الحدود بين الدولتين، كما قبلت بإنهاء الحرب دون الحصول على أي حق بالمطالبة بتعويضات عن خسائر الحرب، رغم اتهام العراق بشنها ضدها من قبل الأمم المتحدة في مرحلة لاحقة.
في المقابل راح صدام حسين يروّج ادعاءات بالنصر الذي حقّقه، وهي ادعاءات تدعو إلى السخرية، لأن العراق قد خرج محّطمًا اقتصاديًا وداخليًا بالإضافة إلى زيادة مخزون الكراهية بين بغداد وطهران، وتهيئة أرضية جديدة لمزيد من الصراعات في الداخل، واحتمال نشوب نزاعات جديدة مع طهران ومع دول الخليج وخصوصًا الكويت.
إحتفظت كل من إيران والعراق داخل أراضيها بقوى معادية للنظام الاخر. إستمرت إيران في دعم وحماية المجلس الأعلى للثورة الإسلامية كإحدى الوسائل الأساسية للتأثير في القرار السياسي في بغداد. في المقابل استمر العراق في دعم منظمة مجاهدي خلق الإيرانية. وشكّل هذان الفريقان بالواقع من خلال عملياتهما عبر الحدود "باروميتر" لقياس تحّسن أو تدهّور العلاقات بين طهران وبغداد.
وجهدت إيران ايضًا إلى استغلال الأكراد من أجل من زيادة الضغط على العراق، فدعمت الفريقين الكرديين بقيادة مسعود البرزاني وجلال طالباني في صراعهما مع نظام صدام حسين، كما أنها ساعدى في المصالحة بين البارزاني وطالباني كخطوة ضرورية لتشديد المقاومة ضد بغداد. لكن هذه السياسة تجاه العراق لم تفلت من الضوابط الصارمة والتي تمنع امتداد وتدفّق المشاعر الإستقلالية وإقامة دويلة مستقلة لهم في شمال العراق.
بعد الحرب، كان من الواضح أن إيران قد خّففت من دعمها وتحريضها لقيام معارضة قوّية لنظام صدام حسين في صفوف الشيعة داخل العراق، على غرار ما كان يجري في زمن الإمام الخميني وقيادات دينية أخرى من دعوات للشيعة للثورة ضد نظام البعث. واكتفت إيران في إدانة الحملة العسكرية لنظام صدام حسين في مدن الجنوب للقضاء على الانتفاضة الشيعية عام 1991، كما جاءت ردود فعلها ضعيفة ومتأخرة على عملية اغتيال الإمام محمد صادق الصدر وولديه في النجف في شباط 1991 (32).
على الرغم من فشل طهران في اعتماد سياسة متماسكة تجاه العلاقات مع بغداد، فقد استمرت نخب الحكم في النظر إلى صدام حسين بأنه مصدر الشر والبلاء وبأنه السبب الرئيس للحرب التي ولّدت كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها إيران. إن ربط أسباب كل ما تواجهه إيران من مشاكل بالحرب مع العراق، ما هو إلا "ورقة التين" التي يراد منها إخفاء كل الفساد وسوء الاداء الذي يتخبّط فيه الحكم في إيران. ويحاول بعض التكنوقراط في الإدارة الإيرانية ربط المصاعب التي واجهها كل من حكم علي أكبر هاشمي رفسنجاني (198-1997) وحكم محمد خاتمي (1997-2005) بالإرث الثقيل من المشاكل التي خلّفتها الحرب مع العراق، وبأنها شّكلت الحاجز الوحيد الذي أفشل كل محاولات الإصلاح والتغيير على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
على الصعيد الأمني، بقيت الاستراتيجية الإيرانية، والمشتروات العسكرية الداعمة لها تؤشّر إلى اعتبار العراق المصدر الأساسي للتهديد والعدو المفترض، وبأنه لا بدّ من التحضير لإمكانية وقوع حرب جديدة معه. وكانت إيران قد حاولت في استراتيجيتها العسكرية معالجة الهواجس التي تنتابها من إمكانيات العراق في مجال أسلحة الدمار الشامل، وذلك من خلال التركيز على بناء قوة "عسكرية مضادة" لموازنة الرعب الناتج عن سعي العراق لإمتلاك أسلحة غير تقليدية. وظهر ذلك بوضوح من خلال التركيز على مشترواتها لصورايخ أرض-أرض وقاذفات بعيدة المدى من روسيا بالإضافة إلى شروعها في تطوير برنامجين لصنع الصورايخ الباليستية من طراز شهاب، ولتطوير الطاقة النووية. لكن واقع الجيوبوليتيك الذي يؤكد على استمرار وجود الفجوة الكبيرة بين إيران والعراق لم يمنع قيام علاقات من التعاون بينهما مما سهل إعادة بناء العلاقات التجارية، وفتح المجال لتبادل العلاقات بين الحكومتين على كل المستويات والذي انعكس إيجابًا في حل العديد من القضايا الحدودية وتلك العائدة لتبادل الأسرى. إن التعاون مع نظام صدام حسين بعد الحرب يؤشّر إلى مدى التطّور الذي يمكن أن تشهده العلاقات الإيرانية-العراقية في المرحلة القادمة وخصوصًا بعد الانسحاب الأميركي وقيام حكم معتدل ومستقر في بغداد.
من الطبيعي أن تتاثر سياسة إيران الخارجية والأمنية بالتطوّرات الحادثة الحاصلة حولها من افغانستان إلى فلسطين، ولكن يبقى الاهتمام الأساسي مركّزًا على ما يجري في العراق بعد الغزو الأميركي يضع الوجود الأميركي في العراق إيران أمام معضلة مزدوجة الأبعاد: البعد الأول، يتمثّل بالتهديد العسكري المباشر خصوصًا بعدما صنف الرئيس بوش إيران ضمن دول "محور الشر" مما أوحى بأن إيران ستكون الهدف التالي للمغامرة العسكرية الأميركية. ويزيد الآن من حجم هذا التهديد الموقف الأميركي "العدائي" لإيران بسبب الأزمة المتفاقمة حول برنامجها النووي، حيث يقول الرئيس بوش تكرارًا بأ، "كل الخيارات، بما فيها الخيار العسكري هي على الطاولة". أما البعد الثاني، فيتركّز على مواجهة الضغوط الأميركية على دول مجلس التعاون الخليجي لمنع قيام أي تعاون فعلي بينها وبين إيران بشأن العراق وأمن الخليج.
تدفع هذه الأسباب مجتمعة الحكم الإيراني للشعور بقدر من العزلة، وأيضًا للشعور بأن إيران لن تكون مدعوة للمشاركة في أي حوار لرسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة. يدفع هذا التقويم طهران لاعتماد سياسة حذرة مع الإبقاء على كل الخيارات مفتوحة، خصوصًا خيار "الادعاء" باعتماد موقف "حيادي" من كل ما يجري نتيجة الغزو الأميركي، فيما يستمر التسلل الإيراني إلى داخل العراق للإمساك بالدور الشيعي، الذي يملك الدور الأساسي في رسم صورة العراق الجديد.
لم تعد الهواجس الإيرانية متمحورة على التهديد الذي يشكّله العراق بل على نوايا واشنطن تجاه الجمهورية الإسلامية. وتشعر طهران أن عليها أن تتحضّر لمواجهة تفجّر أي صراع مستقبلي مع الولايات المتحدة مباشرة أو مع أي حكم عراقي موالٍ للأميركيين. ويبقى العراق في ظل هذا التقويم الإيراني "خط الدفاع الأول" في مواجهة التهديدات الأميركية. ويعكس هذا الموقف سياسة إيران الساعية لمنع الولايات المتحدة من فرض سيطرتها الأمنية على العراق، حيث تحاول إيران من خلال دعمها غير المحدود للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة عبد العزيز الحكيم وحزب الدعوة بقيادة إبراهيم الجعفري وتيار مقتدى الصدر لمنع واشنطن من فرض سيطرتها الأمنية وإقامة حكم عراقي جديد يدين لها بالولاء.
يبدو جليًا أن طهران قد نجحت من خلال هذه العلاقات مع الأطراف الشيعية الرئيس في دفع حلفائها إلى تشكيل الحكومة المؤقتة والهيمنة على المسار لجهة صياغة الدستور الجديد، كما نجحت في الانتخابات الأخيرة للبرلمان حيث أن النتائج ستدعم تأليف الحكومة الدائمة برئاسة أحد حلفائها.
لا تخلو هذه الاستراتيجية الإيرانية من بعض المخاطر، وخصوصًا لجهة تصعيد الولايات المتحدة من ضغوطها على إيران في الموضوع النووي أو لجهة توجيه اتهامات مباشرة لها بالتدخل في الشؤون الداخلية العراقية. بالإضافة إلى احتمال أن يتسبب النفوذ الإيراني الظاهر بنفور بعض القوى الشيعية العراقية ومعارضتها العلنية للنفوذ الإيراني، تمهيدًا لاستعادة النجف الشريف لموقعه الديني المتقدم على مدينة قم الإيرانية. وهو تطّور لن يرضي القيادات الدينية الإيرانية المهيمنة على الحكم الإيراني. ويمكن مع عودة أهمية دور النجف في التشيّع بروز خلاف بين القيادات الدينية الشيعية نفسها، حيث أن الحوزة الشيعية في النجف تفضّل عدم انخراط المؤسسة الدينية في الشؤون السياسية، بينما تتوافق القيادات الدينية الإيرانية في طهران وقم على دعم نظام ولاية الفقيه، ودور الزعيم الديني كمرجعية أساسية في رأس هرم الدولة الإسلامية. ستكون لعودة الأهمية لموقع النجف في المدرسة الدينية الشيعية مفاعيل مباشرة على أوضاع الشيعة من لبنان إلى اليمن، كما أنها ستقوّي حجة كل الفئات الإيرانية التي تعارض نظام ولاية الفقيه وهيمنة القيادات الدينية على شؤون الحكم والدولة (33).
تشّكل تطورات الوضع في العراق مصدر قلق لصنّاع القرار في طهران حيث يشعرون بضرورة اعتماد الحذر والحكمة في التعاطي مع الموضوع العراقي ككل ومع التقلبات التي يمكن أن تشهدها الساحة الشيعية العراقية. ويدرك هؤلاء أن هناك محاذير ومخاطر لأي استثمار لوضع الشيعة في العراق لخدمة أهداف داخلية ضّيقة. وسيبقى هاجس الحفاظ على موقع قم الديني في مواجهة استعادة النجف لدوره الريادي في التشيّع حاضرًا كنقطة مركزية في سياسة إيران الداخلية والخارجية. ستسعى السياسة الخارجية الإيرانية للاستفادة من سقوط صدام حسين لتعميق علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي (34). مع سقوط نظام صدام حسين سقطت كل حواجز الخوف التي كانت تمنع التقارب بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى اعتماد طهران سياسة خارجية وأمنية تتسم بالمرونة والإيجابية تجاه الدول الخليجية الأخرى والمنطقة.
دول مجلس التعاون الخليجي
ترتبط إيران اليوم مع دول مجلس التعاون الخليجي بعلاقات وثيقة في مختلف المجالات. وكانت هذه العلاقات قد استمرت في التطّور منذ منتصف التسعينيات. لكن شهدت هذه العلاقات مراحل من المد والجزر، وذلك يعود إلى التطّورات السياسية الداخلية التي شهدتها إيران، بالإضافة إلى التطورات الاقليمية وتأثيرات المتغّيرات الدولية.
إن التطّور الإيجابي الذي شهدته الآن علاقات إيران بدول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة مرّشح للتباطؤ مع استمرار الأوضاع في التدهور داخل العراق، وزيادة التوتر ومشاعر بين واشنطن وطهران على خلفية الملف النووي الإيراني، بالإضافة إلى إرث العلاقات الأميركية-الإيرانية الثقيل منذ قيام الثورة الإسلامية واحتجاز الرهائن الأميركيين عام 1979.
اتّسمت علاقات إيران مع السعودية والدول الخليجية الأخرى بعد الثورة الإسلامية بالتوّتر، والعداء حيث ظهرت بعض السياسات الإيرانية الهادفة إلى تصدير نموذج الثورة الإسلامية إلى دول الجوار. وذهبت طهران في حملتها على الأنظمة العربية في الخليج باتهامها بالفساد، كما دعمت بعض الحركات الشيعية المتطّرفة داخل هذه الدول للتحّرك وخلخلة الأوضاع الاجتماعية القائمة. سعت إيران في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات إلى منافسة المملكة العربية السعودية على الدور الريادي الذي تمارسه المملكة في العالم الإسلامي.
بدأت العلاقات الإيرانية-السعودية تشهد تطّورًا ملحوظًا بعد وصول الرئيس محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية، حيث تمّثل هذا التطّور بتبادل الزيارات بين الدولتين، والتي كان أبرزها ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبد العزيز إلى طهران في كانون أول 1997 لحضور القمة الإسلامية الثامنة، والتي أعقبتها الزيارة الهامة التي قام بها رئيس مصلحة تخطيط النظام ورئيس الجمهورية السابق على أكبر هاشمي رفسنجاني إلى الرياض في شباط عام 1998. وكان الملك فهد لدى اجتماعه في آذار من السنة نفسها مع وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي قد وجّه دعوة للرئيس محمد خاتمي لزيارة المملكة.
عزا العديد من المحللين سبب التحسن الكبير في العلاقات الإيرانية-السعودية إلى وصول الإصلاحيين إلى السلطة في طهران، ولكن من بدّ وأن يقود أي تحليل موضوعي إلى الاستنتاج بأن التحسن السريع في العلاقات قد جاء نتيجة سعي سعودي حثيث ومدروس للتقارب مع إيران. وهناك أيضًا مؤشرات على أن المساعي السعودية للتقارب قد سبقت بفترة وصول الرئيس خاتمي إلى السلطة. لقد هّيأ حياد إيران في حرب تحرير الكويت الأجواء المناسبة لحصول تحوّل في علاقات إيران بالدول العربية الخليجية وخصوصًا المملكة السعودية. ويربط البعض بداية السعي السعودي لتحسين العلاقات بالنفوذ الذي مارسه الأمير عبدالله كولي للعهد بعدما أصيب الملك فهد بالمرض عام 1996، ويقدّم هؤلاء كحجّة لمثل هذا الربط بالدعوة التي وجهها الأمير عبدالله إلى الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني أثناء القمة الإسلامية في باكستان. وكانت مؤشّرات التقارب التي قادها الأمير عبدالله قد أزعجت السلطات الأميركية، والتي شعرت بأنه يحاول أن يعيد النظر في التوازنات السياسية الإقليمية لمواجهة نتائج الانحياز الأميركي الكامل إلى جانب إسرائيل. شكّلت سياسة التقارب السعودية مع إيران ضربة قوّية لاستراتيجية الأحتواء المزدوج التي اعتمدها أميركا لمحاصرة وعزل كل من إيران والعراق(35).
ويربط بعض المحللين الاندفاع السعودي في سياسة التقارب مع إيران للظروف الاقتصادية السيئة التي واجهتها المملكة بسبب تدني أسعار النفط والذي وصل إلى عشرة دولارات للبرميل. ورأت السعودية بأنه لا يمكن إعادة التحكم بسياسة أسعار النفط دون التعاون مع إيران داخل منظمة "أوبيك". في المقابل رأت إيران أن التقارب مع السعودية هو خطوة ضرورية، على طريق تحسين العلاقات مع الدول العربية وخصوصًا دول الخليج، وبالتالي إفشال الاستراتيجية الأميركية الساعية إلى تطويق إيران وعزلها(36).
قابلت إيران المسعى السعودي للتقارب باعتماد سلوكية براغماتية، حيث أظهرت عن تراجع في مستوى الحماس لتصدير الثورة الإسلامية، كما تخّلت عن طموحاتها القيادية للعالم الإسلامي، وظهر ذلك جليًا من خلال الإقلاع عن تظاهرات الحجّاج الإيرانيين في مكّة أثناء الحج، ومن خلال تحاشي وقوع أي صدام حول السياسات المتناقضة التي تعتمدها كل من الرياض وطهران تجاه حكم طالبان في أفغانستان(37).
أفضت الجهود المتبادلة بين لارياض وطهران إلى نشوء تعاون جدّي في موضوع النفط. وجهدت إيران أيضًا إلى تخفيف التوتّر وسياسة العداء تجاه دولة الإمارات في موضوع جزيرة أبو موسى وجزيرتي طنب، كما تراجعت عن مواقفها المتشددة تجاه تواجد الجيوش الأجنبية في دول الخليج، مستبدلة هذا التشنّج بالدعوة لتعاون عسكري بينها وبين الدول الخليجية. يعطي التقارب الإيراني مع دول الخليج مؤشّرًا على مدى أهمية عامل الاقتصاد في سياسة إيران الخارجية وخصوصًا لجهة توظيفه في توجيه سياسة "أوبك" من أجل الحفاظ على أسعار النفط المرتفعة. وكان اللافت جدًا تخّلي إيران عن ندفاعتها الثورية باتجاه دول الخليج قد حدث دون مزايدات أو انشقاقات داخل السلطة، وبدعم مباشر من كل النخب السياسية والدينية. هناك تعارض بين مصالح إيران ومصالح دول مجلس التعاون الخليجي وخصوصًا مع الكويت والمملكة العربية السعودية، وأبرزها العلاقات الخاصة بين هاتين الدولتين والولايات إيران لجهة فرض نفسها كقّوة إقليمية لها حق الهيمنة على منطقة الخليج. ويبقى الخلاف مع دولة الإمارات حول أبو موسى وطنب أحد الحواجز الرئيس أمام إيجاد الظروف الملائمة لتعاون أوثق بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران.
لا يمكن تجاهل هواجس دول مجلس التعاون الخليجي الناتجة عن سياسة إيران وجهودها لزيادة نفوذها في العراق، من خلال مساعدة الأحزاب الدينية الشيعية والتي هي مرشّحة للسيطرة على السلطة في بغداد على ضوء النتائج التي حققتها في الانتخابات الأخيرة التي جرت في 15 كانون أول 2005. وتشعر دول مجلس التعاون الخليجي بالخطر من قيام إقليم شيعي في جنوب العراق، لما سيكون لذلك من تداعيات على أوضاعها الداخلية وخصوصًا لجهة تشجيع الأقليات الشيعية في هذه الدول للقيام بانتفاضة إجتماعية تهدد الاستقرار الداخلي.
في الواقع هناك تنافس بين المملكة العربية السعودية وإيران له جذوره الأيديولوجية والتاريخية، ولا تقتصر مفاعيل هذه المنافسة الايديولوجية على منطقة الخليج بل تتعداها إلى أواسط آسيا وباكستان وأفغانستان. لكن تحاول الرياض منذ سنوات تجاوز ذلك من خلال الانفتاح على طهران في شتى المجالات السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية. وترحب طهران بهذا الانفتاح والذي تجد أنه يهيّئ الأرضية والضمانة لرفض الدول الخليجية إمكانية استعمال أراضيها أو قواعدها لأي هجوم أميركي ضد إيران.
يّتسم موقف دول مجلس التعاون الخليجي من الموضوع النووي الإيراني بشيء من الغموض والتردد وذلك بالرغم من الاهتمام العالمي الذي يحظى به المشروع النووي الإيراني.
في آخر مواجهة خليجية انعقدت في أبو ظبي يومي 18 و19 كانون الأول 2005، تجنب رؤساء الدول الخليجية مواجهة إيران بصورة مباشرة في موضوع برنامجها النووي، وذلك بالرغم من الاتهامات الغربية التي تقول بأن طهران قد أصبحت قريبة جدًا من صنع أول سلاح نووي. في المقابل تضمّن البيان الختامي للقمة مواجهة مباشرة وعنيفة مع إسرائيل حول الموضوع النووي تحديدًا. وطالب البيان الختامي إسرائيل بالانضمام إلى معاهدة عدم انتشار السلاح النووي (NPT) ووضع جميع منشآتها النووية تحت المراقبة الدولية، كما طالبوا المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل وإجبارها على فعل ذلك. لم يتضمن البيان الختامي انتقادًا أو مطالبًا محددة من إيران في شأن برنامجها النووي، فيما اعتبر أن ترداد المطالبة بجعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي بأنه انتقاد ضمني للبرنامج النووي الإيراني، وللتصريحات الحادّة التي أطلقها الرئيس أحمدي نجاد في الفترة الأخيرة.
لكن الهواجس الفعلية لمجلس التعاون الخليجي تتلخص في كل عبّر عنه أمين عام المجلس عبد الرحمن بن حمد العطّية في مؤتمر صحافي عقده بعد أنتهاء القمة، باعترافه بأن المجلس قد ناقش موضوع السلاح النووي الإيراني، وبأ، الأمر متروك لوزير خارجية دول الإمارات العربية رشيد عبدالله النعيمي للتعليق عليه وعلى ما ورد في رسالة أمين عام جامعة الدول العربية من هواجس حول السلاح النووي الإسرائيلي مع إغفال كامل للبرنامج النووي الإيراني. ورأى الوزير الإماراتي أن أمين عام جامعة الدول العربية عندما يتكلم من الأمن الوطني العربي فإن عليه "أن يثير الهواجس حول البرنامج النووي الإيراني". واشار النعيمي إلى مدى قرب دول مجلس التعاون الخليجي من المفاعل النووي الإيراني الذي انتهى انشاؤه على شاطئ الخليج في بوشهر "إننا لا نملك اية حماية في حال حدوث أي تسرب إشعاعي ... نحن لدينا هواجس مشروعة". وأضاف النعيمي "عندما يتكلم أمين عام جامعة الدول العربية عن التهديدات التي تواجهها المنطقة، فإن عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أن نظام الأمن العربي يغطي أيضًا دول الخليج الست" (38).
ربط البعض رسالة موسى وتركيزه على الخطر النووي الإسرائيلي بأنه انعكاس للسياسة المصرية من جهة والتي تركّز على الخطر النووي الإسرائيلي، كما رجّح البعض الآخر بأن تكون ردًّا غير مباشر من قبل عمرو موسى على الملاحظات التي عبّر عنها مجلس التعاون الخليجي قبل شهر من القمة عندم وصف الطموحات النووي الإيرانية، وللمرة الأولى بأنها "يمكن أن تهدّد الأمن الشامل". يحمل هذا الموقف الخليجي الجديد تطّورًا ايجابيًا بالنسبة لواشنطن والتي طالما حذرت من مخاطر يمكن أن تتعّرض لها المنطقة بسبب وجود إيران على خط الزلازل. ويفسّر عدم تضمين البيان الختامي لقمة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة استمرار المجلس في اعتماد ديبلوماسية الصمت، والتي ذكّر بها السفير السعودي الجديد في واشنطن تركي الفيصل (39).
تشّكل عدم رغبة جيران إيران في مواجهة المشروع النووي الإيراني، بالإضافة إلى توقّف المباحثات الأوروبية-الإيرانية الساعية لاحتوائه مصدر قلق وإحراج للديبلوماسية الأميركية، حيث تبدو المواقف الإيرانية أكثر حدّة وتشنّجًا من أي وقت مضى لكن بعد إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس المن من المتوقّع أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا على الدول الخليجية لإتخاذ مواقف أكثر وضوحًا وحزمًا من القضية المطروحة حول تمسّك إيران بصنع الوقود النووي، والذي يمثّل دليلًا قاطعًا على نواياها لامتلاك السلاح النووي.
تركيا
سادت بين إيران وتركيا خلال سنوات طويلة من الحرب الباردة علاقات تعاون وتنسيق، وذلك من أجل مواجهة خطر الاتحاد السوفياتي، حيث كانت تشعر كل من طهران وأنقرة بضرورة التنسيق بينهما والارتباط بالغرب من أجل تفادي احتلال روسيا لأجزاء من أراضيهما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت كل من تركيا وإيران تتقاسما رؤية مشتركة من دول المحيط، ومن المسائل المطروحة على المسرح الدولي.
إتّسمت علاقات تركيا بإيران بعد قيام الجمهورية الإسلامية بالتشنّج وذلك بسبب دعم طهران للجماعات الإسلامية في تركيا. من جانبها تحاشت إيران في الثمانينات والتسعينات نسج علاقات وثيقة مع تركيا وذلك بسبب قرب هذه الأخيرة من الغرب وخصوصًا الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تمسّكها الشديد بالنزعة العلمانية في الحكم. لكن موقف الدولتين من الاتحاد السوفياتي بالإضافة إلى إرث العلاقات القديمة، قد دفع باتجاه إبقاء كل الخلافات مكتومة، ولم تخرج المنافسة بين الدولتين والنظامين إلى العلن. كان الموقف من العراق ونظام صدام حسين النقطة الوحيدة الجامعة بين طهران وأنقرة بعد غزو العراق عام 2003 بدأـ إيران وتركيا بالتشاور فيما بينها للبحث في السبل الممكنة لمنع العراق من التفكك وخصوصًا منع قيام دويلة كردية مستقلة في شمال العراق.
كانت إيران تشهر معارضتها لأي اختراق تركي للمناطق الكردية في شمال العراق، لكنها كانت معارضة ظرفية، لأن الدولتين متفقتان على وجوب منع الأكراد من إقامة دويلة مستقلة في شمال العراق، وعلى استئصال كل الحركات الكردية الساعية إلى الاستقلال والتي كانت تأخذ من شمال العراق مأوى لها، كحزب العمال الكردستاني الذي كان يرأسه أوجلان.
لن نعود في هذا العرض لتاريخ العلاقات بين آسيا الصغرى والأمبراطورية الفارسية أي إلى صراع بيزنطية والامبراطورية الفارسية للسيطرة على بلاد ما بين النهرين، أو إلى حقبة الامبراطورية الإسلامية أو الامبراطورية العثمانية. لكن لا بدّ من التذكير بالصراع الحاد والطويل بين العثمانيين السنّة والدولة الصفوية الشيعية في فارس من أجل السيطرة على العراق، والذي انتهى لصالح العثمانيين.
بعد الحرب العالمية الثانية اجتمعت إيران وتركيا في حلف عسكري مع باكستان عرق بحلف بغداد ومع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا كعضوين مراقبين، ولم يعش حلف بغداد طويلًا بعد الانقلاب في العراق عام 1685، والذي تحّول إلى حلف "السانتو" وشكّلت إيران وتركيا أيضًا قطبين في اتفاق التعاون الاقتصادي الإقليمي، وانسحبت إيران منهما بعد الثورة الإسلامية عام 1979.
تطّورت العلاقات الاقتصادية بشكل كبير بين إيران وتركيا، حيث أصبحت تركيا بلد الترانزيت الأساسي لكل عمليات الشحن البّري بين أوروبا وإيران. لكن سقوط الشاه محمد رضا بهلوي وقيام النظام الإسلامي قد تسببا بتعقيدات كبيرة، حيث واجهت تركيا العلمانية قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بتحفّظ كما أبدت هواجس كبيرة حول محاولات إيران لمد علاقاتها باتجاه المنظّمات الإسلامية داخل تركيا. أثناء الحرب العراقية-الإيرانية أصبح العراق ثاني أهم شريك تجاري بالنسبة لتركيا، ولكن التبادل التجاري بين تركيا وإيران لم يكن متخلفًا عنه مع العراق، ويعود ذلك إلى موقف الحياد الذي اتخذته تركيا من هذا الصراع (40).
لكن لم يطل الزمن حتى ظهرت أسباب لمنافسة شديدة بين إيران وتركيا، وهذه المرة في دول وسط آسيا دعمت الولايات المتحدة وروسيا التغلغل التركي في المنطقة على حساب إيران وذلك خوفًا من محاولات إيران لتصدير الثورة الإسلامية. والآ تراجع الخوف من المد الإسلامي الإيراني، ليتركّز المد الأصولي السلفي. أثناء غزو العراق عام 2003 رحبت إيران بالموقف الذي اتخذت تركيا بعدم السماح باستعمال أراضيها من قبل القوات الأميركية لفتح جبهة ثانية ضد العراق. ولكن ابدت طهران معارضتها لاحقًا لإدخال قوات تركية إلى العراق.
وكان وزير خارجية تركيا عبدالله غل قد زار طهران قبيل غزو العراق وتباحث مع الرئيس خاتمي واتفقا على توجيه دعوة للدول الإسلامية لحل الأزمة العراقية بالطرق السلمية، وعاد وزير خارجية إيران السابق كمال خرازي وزرا أنقرة أثناء الحرب واتفق مع رئيس الوزراء التركي على أن للبلدين مصالح مشتركة في شمامل العراق، وأبدى هواجسه من قيام كيان كردي ومستقل في الشمال والاستيلاء على الثروة النفطية في منطقة كركوك (41).
شهدت العلاقات بين تركيا وإيران تطورًا بارزًا بعد زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان إلى طهران في آخر تموز عام 2004. أثناء هذه الزيارة وضع الطرفان كل إرث الخلافات التاريخية والحديثة جانبًا وتركّزت المباحثات على أربع قضايا رئيسية (42).
أولًا: الإرهاب: بدت أهمية قضية الإرهاب بالنسبة لتركيا من خلال مؤتمر صحافي عقده أردوغان حيث قال "إن إيران وتركيا قد دفعتا أثمانًا باهظة جراء الإرهاب، وإننا لا نرغب بدفع المزيد". في المقابل رأى الرئيس محمد خاتمي أن هناك مصالح وأهدافًا مشتركة لكل من إيران وتركيا تفترض وضع خطط مشتركة لمحاربة الإرهاب الذي يواجهانه. وأوكل إلى أجهزة المخابرات وحكّام المقاطعات الحدودية في البلدين للتعاون في تنفيذ الاتفاقات التي عقدت بين الدولتين، حيث تعهّدت إيران بإنهاء وضع حزب العمّال الكردستاني في أراضيها مقابل أن تقوم تركيا بإنها وجود الفريق الإيراني المعارض الموجود على أراضيها والمعروف باسم "مجاهدي خلق" على أن تصنف الدولتان هذين الفريقين ضمن خانة المنظمات الإرهابية.
ثانيًا: الوضع في العراق: إتفق خاتمي وأردوغان على أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه إيران وتركيا في تحصين الأمن والسلام الإقليمي والدولي. وقالا بضرورة التعاون من أجل حماية مصالحهما ومصالح العالم الإسلامي. وشددا على ضرورة مواصلة المشاروات والتنسيق "والقيام بكل الخطوات اللازمة لتقوية علاقاتهما لمواجهة الأوضاع الحرجة التي تشهدها المنطقة". وشدد خاتمي على ما تفرضه الأوضاع السياسية الحرجة من تقوية لعلاقات تركيا بإيران، من أجل مواجهة الوضع العراقي المتفّجر وغير المستقر. وأكد أردوغان أن "تركيا وإيران تشددان على أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية. لا يجب أن يسمح، وفقًا لرؤيتنا المشتركة، لأي فريق إتني (في العراق) أن يصبح القوة المهيمنة على الفرقاء الآخرين".
ثالثًا: الموقف من إسرائيل: كان لا بد أن تثير إيران خطر التمدد الإسرائيلي في المنطقة وأن تستطلع إمكانية التعاون مع تركيا في ضبط هذا التمدد، وذلك من خلال التركيز على المصالح المشتركة بين إيران وتركيا في العراق. وعبّرت تركيا عن معارضتها لسياسة القمع التي يتبعها آرييل شارون ضد الفلسطينيين، ولسياسات إسرائيل تجاه الأكراد، حيث تقوم بعمليات مشبوهة في شمال العراق، والتي تبدو أنها تتركو على المساعدة على إقامة حكم كردي مستقل. ولا يقتصر هاجس الدولة الكردية المستقلة على إيران وتركيا بل يتعداهما ليشمل كل الدول العربية.
ونتيجة التفاهم الإيراني-التركي يبدو أن هناك برودة وتراجعًا في علاقات تركيا بإسرائيل.
رابعًا: العلاقات الاقتصادية: وكانت العلاقات الاقتصادية قد شهدت تطّورًا كبيرا بين البلدين في الثمانينات والتسعينات. ووقعت إيران وتركيا عقدًا لاستيراد الغاز بعشرين مليار دولار لفترة عشرين سنة عام 1996. وأمل أردوغان قبل مغادرته أنقرة إلى طهران بإمكانية زيادة التعاون الاقتصادس ومضاعفة حجم التبادل البالغ مليارين ونصف مليار دولار في المدى المتوسط. وجرى التركيز على تطوير التفاهمات والتعاون الاقتصادي في شتى الحقول بما فيها التجارة والاتصالات والطاقة.
ما زال الموقف التركي حول الموضوع النووي الإيراني يتسم بالكثير من الغموض. ويبدو أ، أردوغان قد طلب توضيحًا للموقف الإيراني من السلاح النووي من نائب الرئيس الإيراني رضا عارف، والذي أكّد له أن إيران تسعى للاستخدام السلمي للطاقة النووية ليس في نّيتها صنع أي سلاح نووي. وأضاف عارف أن بلاده قد وقعت بروتوكولًا مع الوكالة الدولية للطاقة الذّرية، وبأنه سيعرض لموافقة البرلمان الإيراني. وحذر أردوغان إيران من التلاغب مع ما تفرضه الاتفاقية الدولية أو ما تطلبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مجال التعاون والتفتيش " لا بد من وقف التضارب في المصالح" (43).
بالرغم من الحذر والغموض الذي كان يسود العلاقات بين إيران وتركيا، فإن هناك إدراكًا لضرورة التعاون والتكامل بين الدولتين في كل المجالات، وأن يمتد هذا التعاون ليشمل علاقاتهما بهذا العالم الواسع التركي-الفارسي الممتد نحو القوقاز وآسيا الوسطى. لكن يبدو أن هذا التعاون يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة إيران على الانفتاح والتسامح، واستكمال السياسة التي كان يخطط لها الرئيس محمد خاتمي والتي اصطدمت بجدار معارضة المحافظين ورجال الدين (44).
في الواقع يعطي انتخاب الرئيس الإيراني المتشدد محمود أحمدي نجاد والتصريحات المتشددة التي يطلقها مؤشّرًا سلبيًا لمستقبل علاقات إيران بتركيا وبكل الدول المحيطة بها. ويمكن أن تستغل الولايات المتحدة الواقع السياسي الإيرني الجديد لدفع تركيا لإتخاذ مواقف متشددة تجاه القيادة الإيرانية الجديدة.
يؤّكد وصول التيار المتشدد بقيادة أحمدي نجاد على أن التطور السياسي في إيران وتركيا يسير باتجاهين متعارضين، إذا ما قارنّا بين النزاعة التي تتبعها السياسة الخارجية الإيرانية والنزعة التي تتبعها حكومة أردوغان ذات التوجّه الإسلامي، حيث تغلب على الأولى سمة المغامرة والتحدّي والتطّرف مع كل ما يعود للعلاقات بين إيران وإسرائيل والدول الأوروبية وخصوصًا مع الولايات المتحدة، فيما تنسج تركيا علاقات تعاون وثيق معها جميعًا، بما في ذلك بذل أقصى الجهود لدخلو الاتحاد الأوروبي. كما تختلف إيران مع تركيا في ما يعود للعلاقات مع دول القوقاز وآسيا الوسطى، وتترّكز هذه الخلافات على منطلقات تاريخية وعرقية ومذهبية، بالإضافة إلى الخلافات المستجدة والناشئة عن استثمار الثروات النفطية في منطقة بحر قزوين سواء لجهة الاستثمارات أو لجهة عبور شبكات أنابيب نقل النفط والغاز عبر أراضي الدولتين. وتحظى تركيا في المجالين بدعم الدول والشركات الغربية. لا بدّ من كلمة أخيرة بشأن ضرورة التعاون بين طهران وأنقرة حول المسألة الكردية حيث يقيم في إيران أكثر من خمسة ملايين كردي، ويقيم في تركيا ضعف هذا العدد. في ظل ما يتعرض له العراق من تطّورات لا بدّ وأن تجهد القيادات الإيرانية والتركية لاحتواء أوضاع الأكراد داخل حدودهما. بما في ذلك إحياء اتفاق سعد أباد الموقّع بينهما عام 1930، لجهة تخطيط الحدود والحفاظ على الأمن على طول الحدود وأيضًا على الحدود مع العراق. ما يشغل بال تركيا المعلومات التي تحدثت عنها المخابرات والصحافة عن وجود بعض معسكرات لجماعة حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي الإيرانية (45). وتنظر أنقرة لهذا الموضوع بجدية وبحذر وذلك انطلاقًا من الدعم اللوجستي والمعنوي والاستقبال الحار الذي كان يلقاه الزغيم السابق عبدالله أوجلان من طهران قبل اعتقاله.
سوريا ولبنان
تقيم إيران مع سوريا علاقات تحالفية واستراتيجية منذ عقدين ونصف من العقد، وتوثّقت هذه العلاقات بشكل متصاعد بسبب الدعم اللوجستي بالأسلحة والذخائر الذي قدمته سوريا لإيران ابّان الحرب مع العراق ما بين عامي 1980 و 1988. يلتقي البلدان في سياستيهما الخارجية على عدة مسائل إقليمية، وخصوصًا لما يعود لمسألة السلام مع إسرائيل، ومعارضة نظام صدام حسين سابقًا، والتدخل الأميركي في الخليج. ويتخذ النظامان السوري والإيراني الآن مواقف عدائية ومتشددة من الاحتلال الأميركي للعراق. تتعاون إيران وسوريا أيضًا في لبنان. وبلغ هذا التعاون ذروته خلال السنوات الماضية حيث استغلت إيران موقف نفوذها مع الشيعة في لبنان من أجل رفع التحدي بوجه الولايات المتحدة والقوى الغربية الضاغطة عليها سواء في العملية التي هدفت إلى طرد القّوات الأميركية من بيروت بتفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت، ومقر السفارة الأميركية وأيضًا خطف الرهائن الأجانب في بيروت أو ضرب المصالح الأميركية في لبنان. وكانت إيران قد نشرت في لبنان عام 1982 قوّة من الحرس الثوري الإيراني تقدر بـ 1500 شخصًا وذلك من أجل تحقيق هذه الأهداف بالإضافة إلى تنظيم وتدريب مقاتلي حزب الله اللبناني. ولا يخفى على أحد مدى التعاون السوري مع إيران لإنجاح المخطط الإيراني في لبنان، خصوصًا وأن الجيش السوري كان منتشرًا في معظم الأراضي اللبنانية، ولم ينسحب إلا بعد اغتيال الرئيس الحريري أي في أواخر نيسان 2005. وتستمر إيران في دعمها لحزب الله ماليًا وبالسلاح حتى يومنا الحاضر، وقد أظهر الرئيس أحمدي نجاد حرصًا خاصًا خلال زيارته لدمشق في مطلع شباط 2006 على تحصين الحلف الاستراتيجي مع سوريا، كما عبّر أيضًا عن حرصه على سلاح حزب الله، وإقامة علاقات استراتيجية مع حماس ومنظّمات الرفض الفلسطينية.
على الرغم يبدو أنه بالرغم من علاقات إيران الخاصة بحزب الله وبالطائفة الشيعية في لبنان، فإن الموقف الاستراتيجي الذي تعتمده يرتبط بشكل وثيق بوضع العلاقات السورية-الإسرائيلية. لكن مسألة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان لم تحمل أية متغيرات كبيرة، إلاّ أن حكومة الرئيس محمد خاتمي كانت قد أظهرت رغبة في التعامل بإيجابية مع السلطة اللبنانية، دون أن يؤثر ذلك على موازين العلاقات السورية-اللبنانية، وكان الموقف الإيراني داعمًا لموقف حزب الله في احترام الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة بعد الانسحاب الإسرائيلي، باستثناء مزارع شبعا، التي لقيت عمليات حزب الله فيها تشجيعًا إيرانيًا، وذلك ضمن الحفاظ على التناغم مع الموقف السوري.
يبدو الان أن السياسة الخارجية تجاه لبنان قد تغّيرت مع الرئيس أحمدي نجاد وبأن التنسيق الإيراني-السوري يشمل المسرح اللبناني والفلسطيني والعراقي، وهناك توّجهات قوّية لدعم الديناميات المناهضة للنفوذ الأميركي وخصوصًا كل من حماس وحزب الله والجبهة الشعبية القيادة العامة في فلسطين وفي لبنان.
ويؤمن التحالف الاستراتيجي الجديد المصالح المشتركة لكل من طهران ودمشق سواء في ما يعود لمسألة السلام مع إسرائيل، وأيضًا في مواجهة النفوذ الأميركي والغربي. كما تجد إيران في حزب الله قوّة ردع يمكنها الركون إليها لإقناع الولايات المتحدة وإسرائيل بعدم ركوب المغامرة لضرب منشآتها النووية.
إسرائيل
لا يمكن فصل الموقف الإيراني من إسرائيل عن الموقف من الولايات المتحدة، ومن هنا فإن إسرائيل حاضرة دائمًا في جميع مناقشات السياستين الخارجية والأمنية في طهران. إن الدعوة التي أطلقها الرئيس أحمدي نجاد بضرورة "محو إسرائيل عن الخريطة" ليست جديدة، فقد سبقتها دعوات متكررة من الرئيس الأعلى على خامنئي "لإزالة إسرائيل من الوجود" (46). إلى جانب البعد الأيديولوجي الذي تنطلق منه مواقف الجمهورية الإسلامية تجاه إسرائيل، فإن إسرائيل تشّكل بالنسبة لإيران خصمًا إقليميًا، يحاول مواجهة الطموحات الإيرانية السياسية والاستراتيجية. وتجد طهران خطرًا داهمًا في التغلغل الإسرائيلي في منطقة الخليج وفي دول آسيا الوسطى، وهي تضعها ضمن إطار سياسة إسرائيلية متعمدة هدفها تطويق إيران ومنعها من ممارسة دورها الإقليمي. منذ قيام الثورة الإيرانية درجت إيران على دعم قضية الشعب الفلسطيني لإسترجاع حقوقه كاملة في فلسطين بما في ذلك تحرير القدس وذلك ضمن سياسة هادفة لتحقيق قيادتها للعالم الإسلامي. وترى إيران أن القبول بالتسويات السلمية المطروحة تتعارض مع حقوق الشعب الفلسطيني، وأن هذا الموقف معطوفًا على اتهامها للولايات المتحدة "بالشيطان الأكبر" لدعمها اللاستراتيجية الإسرائيلية يعطيها قوة تمثيلية إسلامية تتعدى إطار القاعدة الشيعية لتشمل المسلمين من المذاهب الأخرى. وتعتبر إيران أن موقفها ينطلق من تمسّكها الأخلاقي والأيديولوجي بحقوق الفلسطينيين والمسلمين في الأراضي المقدسة. وتمكّنت إيران من خلال صلابة موقفها هذا من الحفاظ على موقعها كزعيمة لقوى الرفض لكل التسويات السلمية. وتعبتر الولايات المتحدة والدول العربية السائرة على طريق قبول التسوية، بما فيها الأردن ومصر اللتان وقعتا اتفاقيات سلام مع إسرائيل بأن إيران تلعب دور المخرّب لعملية السلام، حيث أنها تتهيّأ في كل مرة يقترب فيها السلام للتخريب عليه.
وكان الرئيس خاتمي قد عبّر عن مرونة معيّنة تجاه طروحات السلام لكل من عرفات والولايات المتحدة ولكن التيار الديني بقي على معارضته لعملية السلام، وقد اكّد تكرارًا دعمه المعنوي والمادي للمنظمات المعارضة للحل السلمي، لدرجة أن القيادات الفلسطينية في منظمة التحرير قد جهرت باتهاماتها لإيران بدعم العديد من العمليات داخل إسرائيل من أجل منع حصول أي تقدم على مسار السلام وحتى لتخريب وقف إطلاق النار في أكثر من مناسبة. لكن هذه المرونة تجاه عملية السلام لم تغيّر إطلاقًا من موقف إيران تجاه الدولة الصهيونية، والتي تحاول، وفق الرؤية الإيرانية، الأيقاع بالجمهورية الإسلامية من خلال توجيه اتهامات لها بارتكاتب أعمال إرهابية بالإضافة إلى شنها حربًا إعلامية متواصلة عليها. وترى الجمهورية الإسلامية بأنه بمعزل عن القضايا المبدئية والأيديولوجيه، فإنها تجد أ، سياسة إسرائيل الخارجية تجاهها تتسم بالعداء. وهذا يقتضي من قبلها اعتماد سياسة خارجية مناسبة لحماية آمنها ومصالحها (47).
كانت إسرائيل قد لجأت بالتوازي مع السياسة الأميركية المعادية لإيران بشن حملة دولية، تسوّق من خلالها اتهامات حول دعم إيران المباشر لمنظمتي حماس والجهاد الإسلامي وذلك من خلال مدّهما بالسلاح والمال.
وكان على الرئيس خاتمي أثناء محاولاته للانفتاح على الغرب أن يرد على هذه الاتهامات، من خلال التركيز على النقاط الآتية:
- ليست إيران وحدها من يقدّم دعمًا الفلسطينية، بما فيها حماس والجهاد فهناك مساعدات تأتي من دول الخليج ومن جمعيات عربية عديدة، دون أن يوجّه لهذه الدول أو الجمعيات أي لوم أو انتقاد.
- كان لا بدّ من إعادة التذكير بالاختلاف القائم حول تعريف الإرهاب، وبأ، نظرة إيران تختلف كليًا مع مفاهيم الغرب وخصوصًا مع المفهوم الإسرائيلي الذي يتّهم جميع الفلسطينيين وحزب الله بالإرهاب.
- إن الدولة الإيرانية تقوم على مؤسسات عديدة وبأنه لا يمكن ضبطها جميعًا من قبل الرئيس بسبب اللامركزية الواسعة في النظام الإيراني. وهناك دائمًا إمكانية أن تتلقى بعض المنظمات الدعم من الحرس الثوري دون علم الرئيس وحكومته.
في الواقع هناك معلومات "شبه مؤكدة" تتداولها الدوائر الديبلوماسية والأمنية الغربية بأن المساعدات المالية المخصصة لدعم حماس والجهاد لم تكن لتصرف مباشرة من قبل إيران، ولكنها كانت تأتي ضمن المساعدات المخصصة لحزب الله اللبناني، والذي كان يوزّعها دوريًا. ولا بدّ في هذا الإطار من التذكير بأن بعض دوائر ومنظمات الحكم في إيران كانت تعمد إلى الاقتصاص من الولايات المتحدة من خلال اعتماد سياسات مؤرقة لها بسبب استهدافها لإسرائيل. واختلط هذا التفاعل السلبي تجاه إسرائيل مع المواقف الإيرانية الرافضة لعملية السلام، بالإضافة إلى خلافات المنظمات الفلسطينية الأخرى مع إيران، ليشّكل وسيلة ضغط تمارسها طهران على واشنطن لدفعها إلى تغيير مواقفها العدائية منها.
هناك هواجس متبادلة بين إيران وإسرائيل حول البرامج الخاصة لكل منهما في مجالي الطاقة النووية وصناعة الصواريخ. ترى إسرائيل أن البرنامج النووي والصاروخي الإيراني يشّكل أكبر تهديد لأمنها، خصوصًا بعدما بدأت إيران بتخصيب اليورانيوم وبعدما بدأت بتصنيع عشرات الصواريخ المتوسطة المدى. في الجهة المقابلة يشعر الإيرانيون أن إسرائيل تشّكل عدّوًا ومنافسًا طبيعيًا على المستوى الاستراتيجي وبأن القدرات العسكرية الإسرائيلية تشّكل تهديدًا دائمًا لمصالح وأمن إيران الذاتي.
شّكل وصول أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية مع كل ما عرف عنه من تشدد رغبة في العودة إلى "جذور الثورة الإسلامية" كما يمّثل مرحلة جديدة في السياسة الخارجية الإيرانية، حيث اعتبر أن كل ما رافق السياسة الخارجية في عهد الرئيس خاتمي من محاولات للحوار والانفتاح قد شّكل مضيعة للوقت وبأنه كان له مردود سلبي على إيران. وهكذا اعتمد أحمدي نجاد سياسة تصعيدية، تحضّر الأرضية لمواجهة مع أوروبا والولايات المتحدة. وشّكلت مواقفه من إسرائيل المادة الأساسية للمواجهة المحتملة. لقد وصف الإعلام الغربي علاقات إيران مع شركائها الأوروبيين بأنها أشبه بكرة الثلج التي تتدحرج خارج إطار اية سيطرة ممكنة (48).
وقد أعربت فيه الدول العربية عن استعدادها لإنهاء الصراع والاعتراف بدولة إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة عام 1967، وفي وقت يجري فيه الضغط على حماس بعد فوزها في الانتخابات لقبول تسوية الدولتين كمقدمة للاعتراف بحق إسرائيل في الوجود لا يمكن توقّع أن تقبل الدول الغربية دعوات الرئيس أحمدي نجاد إلى "محو إسرائيل عن الخريطة" أو الدعوة لإعطائها أرضًا في ألمانيا لإقامة دولة يهودية عليها، كما أنه لا يمكنها القبول بمقولته بأن "الحرقة النازية" هي أسطورة مختلفة.
على صعيد آخر اعتمدت إيران منذ وصول أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة سياسة نووية متشددة حيث أعلنت عن قرارها باستئناف عمليات تخصيب اليورانيوم في منشأة نانتز، وبالفعل بدأت عمليات التخصيب غير آبهة بكل التهديدات الدولية وبالقرار المبدئي الذي اتخذه مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإحالة الملف الإيراني على مجلس الأمن.
يبدو أن المخرج الذي اقترحته موسكو لن يؤّمن الحل المطلوب، إذ أن إيران تعلن من جهة قبولها به والتفاوض على تفاصيله ولكنها تتمسّك بحقها في تخصيب اليورانيوم ضمن منشآتها، ومن هنا فإنه من المرّجح أن الأمر سيصل في نهاية المطاف إلى الحائط المسدود، وهذا نا حدث بالفعل حيث أحيل الملف إلى مجلس الأمن.
يبدو أن الرئيس أحمدي نجاد مصرّ على العودة بالسياسة الخارجية الإيرانية إلى ما كانت عليه ايام الخميني إلى "جذور الثورة الإسلامية"، ويبدو ذلك واضحًا من خلال تعاطيه بالملف النووي حيث يمكن تشبيهه بأزمة الرهائن عام 1979 والتي استعملتها الإمام الخميني من أجل تحريك الرأي العام والشعور الديني للدفاع عن إيران ومعاداة الولايات المتحدة.
في المقابل تبدو التصاريح المتلاحقة المعادية لإسرائيل كوسيلة لإستعادة دور إيران القيادي في العالم الإسلامي، وإحياء روح الثورة الإسلامية في الداخل. وتؤكّد مثل هذه القراءة إصرار الرئيس الإيراني على تصريحاته وتكرارها وذلك بالرغم من الاستنكار الدولي الذي جوبه به، بحيث لم يقتصر ذلك على الدول الغربية، وانضمت إليه روسيا المعروفة بتقديم الدعم الديبلوماسي الذي تحتاجه في مواجهة الضغوط الغربية في الملف النووي الإيراني (49).
باكستان
إتّسمت علاقات إيران بباكستان عبر العقود الماضية بالتعاون وحسن الجوار، ولكن يبدو أنها منذ الحرب على أفغانستان قد أخذت بالتراجع المتواصل. كان التنسيق والتعاون قائمًا أثناء الحرب الباردة، حيث تعاون البلدان على دعم الفصائل الأفغانية المقاومة للاحتلال السوفياتي، وتوسّع التعاون بينهما ليشمل القّوات المسلحة. لكن مع زوال أفغانستان كنقطة جامعة للتعاون، فقد سادت العلاقات بينهما أجواء من الفتور والحذر خصوصًا في فترة حكم طالبان والدعم الكبير الذي كانت تقّمه باكستان لطالبان. بعد سقوط حكم طالبان دخل الرئيس الباكستاني برويز مشرّف كشريك أساسي في الحرب على الإرهاب إلى جانب الرئيس بوش، كان من الطبيعي أ، يثير التحالف الجديد مع أميركا حفيظة وهواجس إيران. ولا يمكن أن تخفي طهران القلق الذي تشعر به من امتلاك باكستان للسلاح النووي، حيث تشعر إيران بالضعف حيال باكستان منذ امتلاك هذه الأخيرة للسلاح النووي. يستمر الشعرو بالقلق لدى إيران منذ عام 1998 بعد مقتل ديبلوماسي إيراني معتمد في باكستان بأن هناك خطرًا مستمرًا يتهدد الشيعة الباكستانيين، وبأن الحكومة الباكستانية لا تواجهه بالفعالية اللازمة، وبأن هذه التحديات والمخاطر قد ازدادت بعد إدخال حكم الشريعة إلى الدولة، وتشعر طهران أن هناك تواصلًا ما بين بعض التيارات داخل السلطة الباكستانية والتيارات السلفية المعادية للشيعة في داخل المملكة العربية السعودية. ولا تخفي إيران هواجسها من أن يؤّدي الاضطهاد المذهبي إلى نزوح أعداد كبيرة من الشيعة الباكستانيين باتجاه الأراضي الإيرانية.
لم تمنع كل الاعتداءات هذه قيام تعاون مستمر بين الجيش الإيراني والجيش الباكستاني بما في ذلك في حقل البحث والتطوير لبعض المشاريع الدفاعية الإيرانية، وقد أفادت المعلومات المتوفرة بعد انكشاف المشروع النووي الإيراني بأن باكستان وبواسطة عبد القدير خان وشبكته للاتجار بالتكنولوجيا النووية قد ساعدت الإيرانيين في أبحاث تطوير الطاقة النووية وفي مجال تطوير الصواريخ أيضًا. لكن مواقف الحرس الثوري الإيراني مع الجيش الباكستاني لا تتسم بنفس الثقة وروح التعاون القائمة بين الجيشين الإيراني والباكستاني. وتنظر قوات الحرس الثوري بعين الريبة إلى التحالف الاستراتيجي بين باكستان والولايات المتحدة في موضوع الحرب على الإرهاب، وتشعر إيران أن هذا التحالف يشكل استكمالًا للطوق الأميركي المضروب حولها بهدف عزلها. تضاف إلى أجواء الريبة والشك لدى إيران المخاوف من توسع الهجمات ضد الشكان الشيعة خصوصًا بعد الهجمات العنيفة التي تعرضت لها بعض المساجد الشيعية في العام 2005، حيث طالبت بعض القيادات الإيرانية المتشددة السلطات الباكستانية القيام بعمل رادع، كما طالبت بعض التيارات في الجانب المتشدد للحكم وفي الحرس الثوري بالثأر من المهاجمين.
روسيا الإتحادية
تطورت علاقات إيران مع روسيا بشكّل سريع خلال العقدين الأخيرين متجاوزة كل الإرث الثقيل المترتب على تاريخ روسيا كقوة استعمارية، حاولت روسيا في أكثر من محطة الاستيلاء على أراض إيرانية وضمها إلى روسيا. وتخطت العلاقات بين طهران وموسكو كل المصاعب التي نتجت عن احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان وأيضًا كل التداعيات المترتبة على الحرب ضد المسلمين في الشيشان. انطلق هذا التطور الإيجابي في العلاقات بين الدولتين، من ضرورات الحرب مع العراق، حيث وجدت إيران أن روسيا تشكل البديل الوحيد الممكن ليحل مكان الولايات المتحدة كمورد للسلاح الذي تحتاجه في الحرب. وتحولت روسيا إلى المورد الأساسي للسلاح والتكنولوجيا النووية بالنسبة لإيران بسبب المقاطعة الصارمة التي فرضها الغرب عليها. لم تتعدّ العلاقات بين البلدين طبيعة العلاقات التجارية، والتي كانت ترتبط إلى حد بعيد بالمعادلة التجارية القائمة على حاجة روسيا للمال لدعم اقتصادية المتهاوي وشركاتها التي تواجه خطر الأفلاس والأقفال وعلى قدرة إيران على دفع ما تشتريه من المصانع الروسية نقدًا. لقد فتحت روسيا أبواب مصانعها لتزويد إيران بالتكنولوجيا التي تحتاجها لتعويض ما خسرته من المقاطعة الأميركية، بما في ذلك ثلاث غواصات من الطراز التقليدي (Three Kilo – Class Submarines).
وتلتقي إيران في نظرتها إلى مخاطر قيام عالم بقطب واحد مع كل من روسيا والصين والهند. لكن بقيت العلاقات مع هذه الدول محض تجارية بسبب طبيعة النظام الإيراني، وبسبب علاقات هذه الدول الوثيقة مع عدد من الدول العربية وخصوصًا مع العراق والدول الخليجية. وتحكمت في علاقات إيران مع روسيا الشكوك التي تبديها هذه الأخيرة تجاه النوايا الإيرانية باتجاه دول الجوار كاذربيجان ودول آسيا الوسطى بالإضافة إلى دعم إيران للحركات الإسلامية "المتطرفة" بما فيها الحركة المسلحة في الشيشان. لم تنفع بعض الجهود الإيرانية لإشاعة أجواء الاستقرار بين المجتمعات الإسلامية التي كانت تشكل جزءًا من الاتحاد السوفياتي بهدف تأخير تفتت الاتحاد، في إرساء قواعد متينة وثابتة مع روسيا. وتحاول طهران في سياستها المعلنة أن تبدد الهواجس الروسية تجاه دعمها للحرب في الشيشان، بما في ذل سكوتها عن الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان في الشيشان ولسياسة القمع الجماعي ضد المسلمين هناك. يعرف الطرفان الإيراني والروسي أن حدود تعاونهما لا يمكن أن تتعدى العلاقات التجارية وخصوصًا في مجال مد إيران بما تحتاجه من سلاح وتكنولوجيا في مجال الطاقة النووية. وترى إيران أن عودة روسيا إلى مصاف الدول القوية والقادرة على مد نفوذها باتجاه جيرانها من جديد لن يخدم المصالح الإيرانية في الجيوبوليتيك الإقليمي سواء باتجاه آسيا أو باتجاه الشرق الأوسط. لكن تجد إيران من الناحية الاستراتيجية أن لديها مصلحة في التعاون مع روسيا من أجل احتواء النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى وأفغانستان وشبه القارة الهندية ومنطقة الخليج.
لا يقتصر تعارض المصالح بين إيران وروسيا على النفوذ السياسي في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى بل يتجاوز ذلك إلى المشاريع الاقتصادية الكبرى المتعلقة بنقل الطاقة، حيث ترغب إيران أن تكون الممر الأساسي لخطوط الطاقة باتجاه الخليج، وبالعكس، وتشكل روسيا منافسًا رئيسيًا للمصالح الإيرانية في مجال الطاقة. ولم ينشأ، بالرغم من كل العلاقات القائمة بين البلدين، أي بحث في أية شراكة ممكنة في موضوع الطاقة. نشأت خلال هذه الفترة من التعاون في مجال التسلح علاقات وثيقة بي الجيش الإيراني وروسيا، خصوصًا على ضوء تقديم روسيا المعدات والتكنولوجيا التي تحتاجها القوات الإيرانية في مجال الطيران وتكنولوجيا الاتصالات والأقمار الصناعية. وهناك سعي حثيث لإقامة نوع من الشراكة الثلاثية مع كل من روسيا والهند في مجال تبادل الخبرات في حقل البحث والتطوير في مشاريع ذات طابع عسكري صرف. وتحاول روسيا الآن أن تعلب، بتشجيع من الولايات المتحدة وأوروبا وبترحيب إيراني، دورًا أساسيًا في مجال التوسط لإيجاد مخرج للازمة التي تواجهها إيران مع الغرب والوكالة الدولية للطاقة الذرية مع إمكانية إحالة الملف الإيراني إلى مجلس الأمن. وعرضت روسيا في هذا المجال على إيران إقامة مشروع مشترك لتخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية مقابل وقف إيران لعمليات تخصيب التي عاودتها في الفترة الأخيرة. وبالرغم من الترحيب الإيراني بالوساطة الروسية فإنه لا يمكن التكهن بمدى نجاح المسعى الروسي في إنهاء الأزمة الراهنة بعدما احيل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي.
الصين
نمت العلاقات بين إيران والصين خلال العقدين الماضيين وتركز هذا النمو على مجال التعاون العسكري، حيث باعت الصين لإيران معظم نظم الأسلحة الرئيسية التي تحتاجها بما في ذلك أكثر من مئة طائرة مقاتلة وآلاف الدبابات والعربات المدرعة والمدافع وعدد من المراكب البحرية. لم تقتصر الصفقات التجارية على الأسلحة التقليدية بل تعدتها لتشمل صواريخ متوسطة المدى وأيضًا تكنولوجيا متطورة تحتاجها إيران لتطوير برنامجها الطموح والخاص لبناء صواريخ جديدة متوسطة وبعيدة المدى. وهناك معلومات كشفت عنها المصادر الغربية حول تزويد الصين لإيران بتكنولوجيا تحتاجها في برنامجها النووي. ومارست الولايات المتحدة أقسى أنواع الضغوط على الصين من أجل وقف نقلها للتكنولوجيا النووية إلى إيران (50). وكان وزير الدفاع الأميركي الأسبق ويليام كوهين قد سعى اعتبارًا من عام 1998 للحصول على ضمانات صينية (مع الرئيس جيانغ كزامن) بوقف الصين لمبيعاتها من الصواريخ الجوالة والصواريخ المضادة للسفن وللتكنولوجيا النووية لإيران.
باعت الصين لإيران الأسلحة من كل الأصناف، وجنت من ذلك أرباحًا طائلة تقدر بمليارات الدولارات وخصوصًا خلال سنوات الحرب على العراق. صحيح أن حاجة الصين للتدفقات المالية الخارجية قد شكلت دافعًا أساسيًا لهذه التجارة إلا أنه وبالرغم من عدم وجود دوافع صينية استراتيجية للعلاقات التي نسجتها مع إيران، إلا أنها ترى في رفض إيران لإقامة علاقات استراتيجية مع روسيا والولايات المتحدة يشكل مكسبًا لبكين. (51) تجد الصين مصلحة في نسج علاقات استراتيجية مع إيران من أجل تأمين الطاقة النفطية بحيث لا تبقى مرتهنة للشركات الإميركية التي تسيطر على المصادر النفطية الخليجية الأخرى. استعملت الصين العلاقات مع إيران، في أكثر من محطة، كورقة رابحة من أجل التفاوض مع الولايات المتحدة حول بعض المسائل الشائكة. عندما قررت واشنطن بيع تايوان طائرات (أف-16)، أعادت الصين عرضها لبيع إيران صواريخ أم-11، وهي صفقة كان سبق لها وألغتها بناء لألحاح الولايات المتحدة (52).
ساهم نمو حاجات الصين النفطية مساهمة كبيرة في تطوير العلاقات الإيرانية-الصينية، وكن حاولت واشنطن التأثير على نمو هذه العلاقات من خلال محاولة أقناع الصين بأن تدفق الأسلحة باتجاه إيران سيؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير موازين القوى في منطقة الخليج وبالتالي إلى حالة من عدم الاستقرار والتي تعني تهديد منابع وطرق النفط باتجاه الصين. لكن لم تنفع هذه التحليلات في ثني الصين عن تطوير علاقاتها مع إيران، لا بل ردّ المحللون الصينيون في ذلك بأن الصين هي بحاجة لزيادة الترابط الاستراتيجي مع إيران.
عملت الصين مؤخرًا على تسريع إنهاء صفقة مع إيران بمئة مليار دولار تتضمن قيام الشركة الصينية للطاقة (وهي شركة حكومية) بتطوير حقل جبار للنفط في إيران، وذلك بالرغم من جهود الرئيس بوش لإقناع الصين بتشديد عزلة إيران. وترى الصين أن هذا العقد الجديد سيعطي الصين القدرة على تحقيق مخزون نفطي يؤمن لها الضمانة التي هي بأمسّ الحاجة إليها بعدما تضاعفت حاجاتها النفطية مؤخرًا. هناك حاجة إيرانية-صينية لتسريع إنهاء هذا العقد الضخم والتوقيع عليه قبل نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن وإمكانية فرض عقوبات ضد إيران، وذكر تقرير في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية أن العقوبات ستؤثر سلبًا على الاستثمارات الصينية في إيران (53).
سيؤدي توقيع هذا العقد إلى تحصين التفاهم الذي وقع بين طهران وبكين في تشرين أول عام 2004 والذي تعهدت بموجبه شركة الطاقة الصينية (سينوباك) على تطوير حقل نفط يادافاران مقابل ضمانة إيرانية ببيعها عشرة ملايين طن من الغاز السائل الإيراني خلال 25 سنة مقبلة.
يبدو من الموقف الصيني العام تجاه مجريات الأزمة المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني أن الصين لا تريد مجاراة الولايات المتحدة في الضغط على طهران، وهناك احتمال في حال اتخاذ الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارها النهائي بإحالة الملف الإيراني إلى مجلس الأمن، أن تهدد الصين باستعمال حق النقض لوقف اي قرار دولي بفرض عقوبات قاسية ضد إيران.
تحاول كل من إيران والصين التعاون عن قرب من أجل تحقيق مصالحهما المشتركة، وأن أكبر مؤشر على التعاون المشترك يكمن في التوقيت الذي اختارته طهران للبحث في توقيع العقد في بكين بحيث أنه يتزامن مع قرارها بمعاودة عمليات تخصيب اليورانيوم في منشآة ناتنز. إن الصفقة الخاصة بتطوير حقل يادافاران تشكل جزءًا أساسيًا من سعي بكين لمواجهة كل الهواجس التي تساورها حول تأمين مصادر الطاقة التي يمكن أن تتجاوب مع استهلاكها المتسارع للطاقة والذي يمكن أن ينمو من ثلث حاجاتها السنوية الراهنة ليبلغ 60 في المئة عام 2020.
تقدر الطاقة الإنتاجية للحقل المذكور 300 ألف برميل يوميًا، وتمتلك الصين حق الاستفادة من 51 في المائة والهند 29 في المائة والباقي من قبل إيران أو مستثمرين آخرين. في مقابل كل ذلك تجد إيران أن الصين حليفًا استراتيجيًا على المستوى التجاري وفي حقل تأمين حاجاتها الدفاعية. وتحتاج طهران إلى دعم بكين لها لمواجهة الضغوط الغربية سواء داخل مجلس الأمن أو في نقل ما يمكن أن تحتاجه من تكنولوجيا متطورة حتى بعد صدور قرار دولي يدين إيران بعدم تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية(54).
أوروبا
حاولت الدول الأوروبية منذ قيام الجمهورية الإسلامية الحفاظ على علاقات جيدة ومختلفة عن العلاقات المتدهورة التي نشأت بين إيران والولايات المتحدة والتي بدأت مع أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في طهران عام 1979، وما زالت مستمرة في التدهور حتى اليوم. حافظت معظم دول أوروبا على علاقات ديبلوماسية طبيعية مع أيران حتى في أصعب مراحل التصعيد الثوري الإسلامي. وكانت قد ظهرت أزمة طارئة بين إيران وبريطانيا لفترة محددة بسبب الفتوى محددة بسبب الفتوى التي أصدرها الإمام الخميني ضد الكاتب البريطاني سلمان رشدي بعد صدور كتابه "آيات شيطانية" حيث رأت إيران بأن فيه إهانة وطعنًا للإسلام والمسلمين. تركزت العلاقات بين إيران والدول الأوروبية على الاقتصاد والتجارة، حيث استطاعت إيران من خلالها التعويض عن غياب الولايات المتحدة عن الأسواق الإيرانية بسبب المقاطعة التي فرضتها الولايات المتحدة بعد أزمة الرهائن. وكانت أوروبا قد جهدت منذ عام 1992 لإطلاق حوار "نقدي" للمواقف الإيرانية بهدف التأثير على سلوكية إيران السياسية وتغيير مواقفها المتصلبة ولكن لم تفض هذه المناقشات إلى نتائج ملموسة.
بدأ الدفء في العلاقات الإيرانية-الأوروبية بعد وصول الإصلاحيين إلى الحكم بقيادة الرئيس محمد خاتمي عام 1997. وأن التطور الأبرز قد حصل من خلال مبادرة أطلقها الرئيس محمد خاتمي عام 1999، في مبادرة عرفت "بحوار الحضارات" حيث أعلنت معظم الدول الأوروبية أن إيران قد تخلت من دعم الإرهاب وبأنها تتعاون في شأن برامجها الخاصة بأسلحة الدمار الشامل.(55) وكان من أبرز التطورات التي تبعت ذلك استئناف العلاقات الديبلوماسية على مستوى السفراء مع بريطانيا، بعد وعد من الحكومة الإيرانية بعدم مساندة تنفيذ الفتوى بهدر دم سلمان رشدي. استندت علاقات إيران مع الدول الأوروبية خلال هذه الفترة على العامل الاقتصادي وعلى حاجات إيران الملحة للاستثمارات والتكنولوجيا الأوروبية من أحل مساندة الاقتصاد الإيراني المتعثر ومن أجل الحد من الأضرار التي أصيب بها بسبب المقاطعة الأميركية. وكانت السياسة الخارجية الإيرانية قد ركزت جهودها على استغلال التنافس التجاري بين أوروبا والولايات المتحدة. واتخذت الجهود الإيرانية لتوسيع العلاقات التجارية مع أوروبا واليابان طابع الرد المباشر على الحصار الذي حاولت الولايات المتحدة فرضه على إيران خلال فترة الحرب على العراق، وفي مرحلة لاحقة طبقت الولايات المتحدة سياسة الاحتواء المزدوج ضد كل من إيران والعراق(56).
وكان من أبرز ما حققه الحوار الذي بدأه خاتمي مع الدول الأوروبية بعدما كانت قد شهدت العلاقات معها عمليات مد وجزر بسبب المواقف الإيرانية العدائية من بعض الشخصيات والمجموعات الإيرانية المعارضة والتي تقيم في أوروبا وتصفية بعض رموزها (57)، إن غيرت إيران سلوكيتها من هؤلاء المعارضين بحيث تكتفي بجمع المعلومات عن نشاطاتهم بدل محاولات تصفيتهم أو خطفهم. حاول الجيش الإيراني الاستفادة مع العلاقات مع فرنسا، والتي كانت تتبع سياسات أكثر استقلالية عن الدول الأوروبية الأخرى في ما يعود للتنسيق مع الولايات المتحدة أو سياسات حلف شمالي الأطلسي تجاه إيران. لمن نستعرض في مجال الحديث عن علاقات إيران بأوروبا ما قامت به اللجنة الأوروبية الثلاثية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) من جهود في مجال المفاوضات الخاصة بالسلاح النووي الإيراني، حيث سيشكل ذلك موضوعًا أساسيًا في الفصول اللاحقة. لكن لا بدّ من الإشارة إلى الانتقادات المتبادلة بين الرئيس الأسبق خاتمي والرئيس الحالي أحمدي نجاد حول التوجهات السياسية الخارجية، فقد انتقد خاتمي المواقف العلنية والمتطرفة التي أعلنها أحمدي نجاد من إسرائيل ومن المحرقة النازية وتجاه الدول الأوروبية. في المقابل ردّ أحمدي نجاد على خاتمي منتقدًا سياسة الانفتاح والحوار التي اتبعها معتبرًا أنها كانت مضيعة للوقت، وبأ،ها قد أضرّت بمصالح إيران الحيوية.
تواجه أوروبا، وخصوصًا كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا التشدد الذي يبديه أحمدي نجاد في تصريحاته الخاصة وكذلك مواقف المسؤولين عن الملف النووي بكثير من الشكوك وصلت حد الإدانة، وذلك انطلاقًا من قناعتهم بأن إيران تسير في الاتجاه الخاطئ منذ انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا لها. وهناك شعور بأن السياسة التي تعتمدها إيران مع أوروبا والعالم في الوقت الراهن لا تعبّر عن مصالح إيران وشعبها (57). وكان الأبرز مجال المواقف الأوروبية ا لانتقادات القوية التي وجهها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو للسياسة الخارجية الإيرانية وللرئيس أحمدي نجاد شخصيًا حيث وصف تصريحاته "بالاستفزازية" سواء تجاه إسرائيل أو أوروبا أو في موضوع الملف النووي. وأدان سترو هذه المواقف في خطاب أمام المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ملخصًا فيه السياسة الخارجية البريطانية، والتي تتلاقى في تفصيلاتها مع سياسات الدول الأوروبية الأخرى تجاه إيران وخصوصًا كل من فرنسا وألمانيا "تسير إيران للآسف في وجهة خاطئة ومنذ انتخابه (أحمدي نجاد) رئيسًا، حيث يعتمد مع فريق صغير يحيط به سياسات داخلية وخارجية يخشى معها ان تسيء إلى سمعة إيران وعلاقتها مع باقي العالم" (58).
تشتبه أوروبا الآن، وأكثر من أي وقت مضى في أن إيران، تريد تطوير قنبلة نووية، ولهذا فقد طلبت اللجنة الثلاثية الأوروبية إحالة ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن، والذي يدرس حاليًا إمكانية فرض عقوبات ضد إيران التي استأنفت تخصيب اليورانيوم. ويتميّز الموقف الأوروبي تجاه إيران عن الموقف الأميركي لا تستبعد أميركان الخيار العسكري، فيما تشدد أوروبا على ضرورة إيجاد حل للازمة النووية الإيرانية عن طريق مماسرة الضغوط ولكن بوسائل سلمية وديمقراطية، وعلى أساس أنه لم يفت الأوان لكي يشعر الإيرانيون بضرورة العودة إلى طاولة الحوار واستئناف المفاوضات حول كل الحلول المطروحة بما فيها الاقتراح الروسي اذي يعرض على طهران شراكة روسية-إيرانية لتخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية. وكان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قد عبّر مؤخرًا عن شعور بلاده بخيبة أمل لسلوك إيران في المحادثات التي تهدف إلى نزع فتيل الأزمة المتعلقة بتخصيب اليورانيوم "لدينا مؤشرات متناقضة من طهران تارة يقبلون وتارة يرفضون". في الخلاصة تتبع طهران مع أحمدي نجاد سياسة خارجية متقلبة ومغامرة.
الولايات المتحدة
يمكن وصف العلاقات الإيرانية-الأميركية بالعلاقات المحمّلة بإرث الماضي الثقيل والبعيد. ولا ترتكز العلاقات بين إيران والولايات المتحدة على المصالح الحيوية للبلدين كما هي الحال بين إيران والدول الغربية الأخرى، ولكنها ترتكز على خلفية إيديولوجية ووطنية، ومقاربة عشوائية تستمد جذورها من الماضي. لا تتعامل الولايات المتحدة مع الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها كحكومة شرعية، تحترم القانون الدولي، ويعود ذلك إلى مشاعر العداء لأميركا والتي انطلقت مع عودة الخميني إلى طهران، ومن ثم جاءت عملية السفارة الأميركية في طهران واحتجاز الرهائن الأميركيين لترسي أجواء من العداء المستشري بين طهران وواشنطن. إن تصنيف إدارة بوش إيران بالدولة "الشريرة" التي تدعم الإرهاب بالإضافة إلى استمرار العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، والاتهامات الأميركية لطهران بتأجيج المقاومة في العراق ضد القوات الأميركية وتدخلها المباشر وغير المباشر في الشأن السياسي العراقي، تدفع جميعها نحو مزيد من التشنج في العلاقات الإيرانية-الأميركية. ويأتي الآن الملف النووي الإيراني ليدفع بهذه العلاقات نحو مواجهة حقيقية وقاسية، يمكن أن تصل إلى مواجهة عسكرية، في حال عدم انصياع إيران للإرادة الدولية بعد إحالة ملفها النووي إلى مجلس الأمن الدولي. في المقابل تعود جذور العداء الإيراني للولايات المتحدة إلى الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لإنجاح الإنقلاب ضد حكومة مصّدق في بداية الخمسينات، وإلى السياسات الأميركية الداعمة لحكم الشاه محمد رضا بهلوي ودولة إسرائيل(59).
وكان الدعم الأميركي للعراق خلال الحرب العراقية-الإيرانية ما بين عامي 1980 و1988 قد ولّد شعورًا لدى القيادة والشعب الإيرانيين بأن الولايات المتحدة تناصبهما العداء، وتتربص شرًا بإيران، ونتج عن ذلك ازدياد مشاعر العداء وتعميمها لتشمل معظم الإيرانيين.
يمكن أن تلخص مشاعر معظم الإيرانيين تجاه الولايات المتحدة من خلال القراءة الآتية (60)
- تميل الولايات المتحدة إلى استعمال سياسة الغطرسة تجاه الدول الأضعف منها، ويصيب إيران قدر كبير من سياسة الغطرسة الأميركية.
- تشكل الولايات المتحدة تهديدًا ثقافيًا وأيديولوجيًا للإسلام وللجمهورية الإسلامية الإيرانية.
- هناك عداء أميركي متواصل ضد الدول والشعوب التي تريد السيادة والاستقلال بمنأى عن الخضوع والتبعية للغطرسة الأميركية.
- تشكل سياسة العقوبات التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه إيران وخصوصًا محاولات منعها من دخول عصر التكنولوجيا الحديثة سياسة عدائية لا يمكن تقبلها طهران، والتي ترفض سياسة المعايير المزدوجة التي تتبعها واشنطن في الموضوع النووي.
- تعتبر سياسة الانتشار العسكري الأميركي الكثيف في منطقة الخليج وخصوصًا منذ غزو العراق عام 2003 مصدر قلق كبير لإيران كما تشكل تهديدًا مباشرًا لأمن النظام الإيراني وللمصالح الإيرانية في منطقة الخليج. وترى طهران المدخل لأي حوار مستقبلي لاي يكون إلا من خلال قرار أميركي بخفض مستوى التواجد العسكري الأميركي حول إيران.
يعتبر السيد محمد حسين عادلي نائب وزير الخارجية الإيرانية أن سياسة إيران الخارجية قد مرّت في ثلاث مراحل منذ قيام الجمهورية: (1) بناء المؤسسات ووضع سياسة دفاعية (2) إعادة البناء بعد حرب الثماني سنوات مع العراق (3) الانفتاح والتدويل. ورافقت هذه المرحلة الأخيرة جهود لتطوير الاقتصاد وذلك بالتركيز على الصادرات الإيرانية غير النفطية والبحث عن استثمارات خارجية. وتركز الخطة الاقتصادية الرابعة والتي وضعت عام 2004 ولأول مرة على الانفتاح على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك درس إمكانية دخول إيران "منظمة التجارة العالمية" والعمل على استيراد إيران للتكنولوجيا المتطورة (61).
تؤشر السياسة الخارجية الإيرانية الآن إلى اعتبار علاقات إيران الاقتصادية في مقدمة الاعتبارات في علاقاتها الدولية. ولهذا السبب فإن إيران تجد في سياسة العقوبات والحصار التي تتبعها الولايات المتحدة ضدها تهديدًا مباشرًا لأمنها واستقرارها الاجتماعي.
بدّد انتخاب محمود أحمدي نجاد والمواقف الاستفزازية التي عبّر عنها، بالإضافة إلى المشروع النووي الإيراني جميع الإيجابيات والاحتمالات حول إمكانية فتح صفحة جديدة من العلاقات بين إيران والولايات المتحدة. ليس هناك من أمل في ظل الظروف الراهنة باستئناف الحوار الذي كان قد بدأ في عهد خاتمي أو ذلك الذي تلاه مع فريق الراغماتيين الإيرانيين برئاسة هاشمس رفسنجاني. إن الحوار الذي كلف بفتحه مع إيران السفير الأميركي في بغداد زالماي خليل زاد لا يتعدى البحث في مسائل التدخل الإيراني في العراق، وقد أكدت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ذلك. من المتوقع أن تشهد العلاقات الإيرانية-الأميركية المزيد من التوتر والتحديات بعد إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن. وكانت إيران قد وجهت مؤخرًا تهديدات للولايات المتحدة في حال لجأت هذه الأخيرة إلى فرض عقوبات ضدها بقرار يصدر عن مجلس الأمن "يمكن للولايات المتحدة أن تحلق الأذى والألم بإيران، ولكن الولايات المتحدة معرضة للأذى والألم مثل إيران" هذا ما صرّح به جواد وحيدي رئيس وفد إيران إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية (62).
في الواقع يمكن الاستنتاج ان العلاقات بين إيران والولايات المتحدة تتجه نحو مزيد من التعقيد ولا يمكن بالتالي توقع أي تحسن في المستقبل القريب. لكن هناك يفرض واقع الجيوبوليتيك المحيط بإيران الآن بعد الانتشار الأميركي الكثيف في العراق وأفغانستان ودول آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز، على طهران التعامل مع الولايات المتحدة بقدر كبير من الواقعية، يمكن لإيران أن تعتمد سياسة التعامل الإيجابي مع الولايات المتحدة في أكثر من مسرح وفي أكثر من قضية وذلك قياسًا على التعاون الذي أبدته مع أميركا في الحرب على نظام طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان.
الهوامش
(1) The Iranians have for centuries thought of themselves as the ones whose accomplishments provide a lesson for the world and their country is at “the center of the universe.” This is how Graham Fuller of the Rand Corporation described Iran’s view of itself in a 1991 book of the same name.
(2) Elaine Sciolino, Persian Mirrors – The Elusive Face of Iran Free Press, A division of Simon Schuster, New York, 338.
(3) Ibid., 339
(4) These negotiations were organized by the Greek Ministry of Foreign Affairs in 2002-2003, Mohsin Rizzai suddenly appeared one day as a lecturer in a conference sponsored by UCLA and financed by the US Departments of State and Defense. Greece also during the same period was sponsoring the negotiations between Libya and the USA to finalize a solution on Pan Am flight which crashed over Lockerbie, Scotland.
(5) “Ahmadi-Nijad Win Cements Conservative Control in Iran,” Forbes.com magazine article Oxford Analytica 06.28.05, http://www.forbes.com/2005/06/28/Iran-President
(6) Salah Nasrawi, “Iranian President: Move Israel to Europe,” SF Gate Associated Press 8 December 2005. http://www.sfgate.com/cgi-bin/article.egi?file.
(7) “Iran Khatami Criticizes the Conservatives, the Imitators of Laden, Al-Hayat Newspaper, 11 November 2005: 8.
Ibid. (8)
(9) “Iranian President: Move Israel to Europe,” SFA Gate cited in reference 6.
Mark Gasiorowoki, “The Power Struggle in Iran,” Middle East Policy, vol VII No. 4, (10) October 2000.
(11) Wilfried Buehta, Who Rule Iran? The Structure of Power in the Islamic Republic, (Washington Institute for Near East Policy and the Konrad Adenhauer Stifung, Washington, Dec. 2001) 182.
(12) Daniel Byman, Sharam Chubin Anoushiravan Ehteshami, and Jarold D. Green, Iran’s Policy in the Post Revolutionary Era (Santa Monica, CA: Rand Corporation, 2001), 7-20.
(13) This was a realistic perception of the Iranian leadership in Ayatollah Khamenei’s comments in a speech in an officer’s military academy, October 31, 1999, BBC summary, 2 November 1999.
(14) Byman, Ehteshami, Green, Iran’s Policy in the Post-Revolutionary Era, 7-20.
(15) Ibid.
(16) Buchta, Who Rule Iran? The Structure of Power in the Islamic Republic, 106-109.
(17) Byman, Ehteshami, Green, Iran’s Policy in the Post-Revolutionary Era, 11-20.
(18) Sciolino, Persian Mirrors: The Elusive Face of Iran, 342.
(19) Ibid.
Ibid. (20)
(21) Ibid.
(22) Jahangir Amuzegar, “Khatami and Iranian Economic Policy,” The Middle East Journal, vol. 53, no.4, Autumn 1999, 534-552.
(23) International Monetary Fund, International Financial Statistic Year Book (Washington, DC: International Monetary Fund 2000).
(24) Amuzegar, “Khatami and Iranian Economic Policy,” 548-550.
(25) Ibid.
(26) Byman Ehteshami, Green, Iran’s Policy in the Post-Revolutionary Era, 54.
(27) Sciolino, Persian Mirrors: The Elusive Face of Iran, 339.
(28) “Iran: The Hardliners Back Ahmadi-Nejad Declarations and Threaten to Respond Aggressively to any Israeli Attack,” Al-Hayat Newspaper, 17 December 2005. The prominent cleric Ali Meskini, who supervises the Council of the Guardians backed the president’s declarations in his Friday sermon in the city of Quom describing them as “logical.”
(29) Geoff Simons, Future Iraq (London: Saqi Books, 2003), 203-205,
(30) Ibid.
(31) Ibid.
(32) See IRNA, February 23, 1999, BBC, ME/3648 MED/8, February 25, 1999
(33) Anoushiravan Ehteshami, “Iran-Iraq Relations after Saddam,” The Washington Quarterly, August 2003, 123-125.
(34) Ibid.
(35) Khalil Osman, “Thaw in Saudi-Iran Relations Heralds New Beginning for the Middle East,” May 1, 1998. http://www.muslimedia.com/archives/world 98/Saudiran.htm
(36) Ibid.
(37) Sharain Chubin and Charles Tripp, “Iran-Saudi Relations and Regional Order,” Adelphi paper, no. 304, (London: IISS, 1996)
(38) Simon Henderson, “The Elephant in the Gulf: Arab States and Iran Nuclear Programs,” The Washington Institute for Near East Policy, December 21, 2005 http://www.washingtoninstitute.org/print.php
(39) Ibid.
(40) K. Gajendra Singh, “Turkey Iran Coming Closer,” Al-Jazeerah, 1 August 2004. http://www.aljazeerah.info /opinion%20editorials/2004 %20opionions
(41) Ibid.
(42) Ibid.
(43) Semith Vaner, “Iran et Turquie se Tiennent Toujours a Distance,” Revue de l’Institut International de Geopolitique, No. 88, October-December 2004.
(44) Ibid.
(45) Semith Vaner, “Iran et Turquie se Tiennent Toujours a Distance.” Revue de l’Institut International de Geopolitique, No. 88, October-December 2004, 40.
(46) Afshin Valine Jad, “Iran Leader Calls for Israel Annihilation,” Boston Globe, 1 January 2000: 4.
(47) Abbas Maleki, “The Islamic Republic of Iran’s Foreign Policy: The View from Iran,” 4 http://www.salamiran.org/iraninfo /state/government/foreign
(48) Bridget Kendall, “Diplomatic Furor at Iran Remarks,” BBC News, 19 November 2005. http://newsvote.bbc.co.uk /mpapps/pagetools/print /news.bbc.co.uk
(49) Bridget Kendall, “Diplomatic Furor at Iran Remarks,” 3.
(50) Daniel Byman and Roger Cliff, China’s Arms Sales: Motivation and Implications, (Santa Monica, CA: Rand, 1999).
(51) Bates Gill, “Silkworms and Summitry: Chinese Arms Exports to Iran,” The Asia and Pacific Rim Institute of the American Jewish Committee, 1997, 7.
(52) Ibid.
(53) Peter S. Goodman, “China Rushes Toward Oil Pact with Iran,” Washington Post, February 18, 2006-03-27.
(54) Ibid.
(55) de Belaigne, The Struggle for Iran, 57.
(56) Roula Khalaf, “World Bank May Resume Iran Loans,” Financial Times, 30-31 January 2006: 3.
(57) “London: Iran in the Wrong Direction Since Ahmadinajad’s Election,” Asharq-al-Awsat, 14 March 2006: 3.
(58) Ibid.
(59) Jerold D. Green, “Iran Limits to Rapprochement,” statement before the House Committee on Foreign Relations, Subcommittee on Near Eastern and South Asian Affairs, May 1999.
(60) Rand Monograph Reports ,“Iran’s Security Policy in the Post-Revolutionary Era,” http://www.rand.org/pubs/ monograph_reports/MR1320
(61) World Economic Forum, Annual Meeting 2004, “Iran’s Foreign Policy Future,” 23 January 2004, http://www.weforum.org/site/ knowledgenavigator.nsf/content
(62) Molly Moore and Colum Lynch, “Iran Threatens U.S. with Harm and Pain,” The Washington Post, 9 March 2006. http://www.washingtonpost.com/wp_ dyn/content/article/2006/03/08
The Foreign Policy Of Iran
The Retired Staff Brigadier General Nizar Abdul Kader
After more than a quarter of a century on the establishment of the Islamic Republic of Iran, the last elections for the presidency of the Republic and the chamber of deputies confirmed that the Islamic ideology adapted by Imam Al- Khoumeini, as a main source for political and social orientation, is still alive, and that the forces safeguarding it are capable of protecting it against all the dangers that threaten it internally, or conspire against it externally, with the restoration of power by the conservatives appears a new trend to adopt an adamant policy in place of the realistic one of Hashemi Refsanjani and the reform ideas that Mohamed Khatemi tried to apply.
It seems now that the conservative regime of Ahmadi Najad is beginning to represent another phase of adamant rule, experienced by the Khomeini’s term, especially in the domain of foreign policy. And the statements of Ahmadi Najad, in the recent days after his election, denote that he will adopt an intransigent foreign policy, especially in the field of “Iran Nuclear program”, and the position vis-à-vis Israel
So, to determine and understand the open options of the Iranian foreign policy, and its initiative and its approach to achieve the prime interests of the Iranian nation, according to the political perspective and the ambitions of the Islamic Republic, it is necessary to study and analyze the sources and darting point which any form the basis of this foreign policy
La Politique Etrangère Iranienne
Le Général De Brigade A La Retraite Nizar Abdel Kader
25 ans après l’établissement de la République Islamique en Iran, les dernières élections présidentielles et celles du conseil viennent pour confirmer que l’idéologie islamique adoptée par l’Imam El Khomeiny, comme étant la source principale de l’orientation politique et sociale, est toujours viable et que les forces qui la soutiennent sont capables de la protéger contre les dangers qui la menacent à l’intérieur, comme à l’extérieur.
Après la récupération du pouvoir par les conservateurs, une nouvelle tendance surgissa pour adopter une politique ferme qui vient remplacer la politique réaliste proclamée par Hachimi Rafsanjani ou les idées de réforme que Mohamad Khatami a essayé d’appliquer.
Il paraît actuellement que le pouvoir conservateur dirigé par Ahmadi Nijad, commence à présenter une nouvelle phase du pouvoir « rigoriste » connu quand El Khomeiny était au pouvoir, surtout au niveau de la politique étrangère. Par ses déclarations évoquées suite à son élection, Ahmadi Nigad, apparaît qu’il oeuvrait à adopter une politique étrangère rigoriste surtout en ce qui concerne le programme nucléaire de l’Iran et sa position vis à vis Israël.
Afin d’identifier et de comprendre les options valables de la politique étrangère iranienne, ses initiatives et son approche vis à vis l’intérêt suprême de la nation iranienne selon les ambitions politiques de la république islamique, il est indispensable d’étudier et d’analyser les ressources qui pourront constituer la base fondamentale de cette politique extérieure.