- En
- Fr
- عربي
الفلسفة السياسية للمحافظين الأميركين الجدد: أيديولوجية الفوضى الخلاّقة
تسعى هذه الدراسة إلى الإضاءة على التحوّلات التي شهدتها الإستراتيجية الأميركية العليا مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة مطلع القرن الجاري. ولسوف يتم التركيز على الحلقة الأكثر مدعاة للسجال في هذه الإستراتيجية، وهي تلك التي شاع الكلام عليها بما سُمِّي بــ "نظرية الفوضى الخلاَّقة".
المعروف عن هذه النظرية أنها وجدت دينامياتها الفعلية بعد زلزال الحادي عشر من أيلول/سبتمبر .2001 وهي تقوم على فلسفة سياسية تفترض وجود خطر داهم من عدو مجهول يتهدّد الأمن القومي الأميركي في كل لحظة. كما تقوم على افتراض ألاَّ يكون التهديد بالضرورة، حاصلاً بالفعل من دولة أو من منظمة إرهابية لكي تخاض ضده الحرب الوقائية، وإنما يكفي أن يتم تصوُّره من جانب مراكز التخطيط الإستراتيجي في البيت الأبيض والبنتاغون للمبادرة إلى تلك الحرب.
ولكي تأخذ هذه الإستراتيجية مسارها التطبيقي، عكف كثيرون من منظِّري ومفكِّري المحافظين الجدد على وضع فلسفة متكاملة لتبرير الحروب. ولعلَّ نظرية "الفوضى الخَّلاَّقة" التي شكَّلت إحدى أهم وأبرز منجزات هؤلاء، إنما تعني في حقيقتها السعي الإستباقي نحو تفكيك كل المواقع والجغرافيات المفترض أنها تشكِّل مصادر تهديد لأمن ومصالح أميركا في العالم.
ولئن كانت نظرية الفوضى الخلاَّقة تتأسس نظرياً على ثنائية التفكيك والتركيب، فذلك يعني أن الفكر الإستراتيجي الأميركي بصيغته الراهنة لم يعد لديه اليقين إلاَّ بعالم تكون الفوضى فيه سبيلاً لإعادة تشكيله وفق مهمة أميركا في بناء العالم الجديد.
فكيف ظهرت هذه النظرية في سياق التحقيق التاريخي لنظريات الهيمنة في الفلسفة السياسية والأمنية للولايات المتحدة الأميركية؟
*****
ما كان لأحد أن يتصوَّر مدى ما بلغته الإيديولوجيا السياسية الأميركية وهي تستعيد نظرية الإحتلال، بوصفها فضيلة لا غنى للعالم عنها في رحلة القرن الحادي والعشرين.
فقط أولئك الذين نظَّروا "للإمبراطورية الفاضلة" أمثال لويس لافام رئيس تحرير مجلة هاربرز (Harper's Magazine) وبالطبع الفريق المتحلِّق حول الرئيس جورج دبليو بوش، كانوا على يقين ممّا ذهبوا إليه. الأمر بالنسبة إلى هؤلاء يتعدَّى الجانب الأخلاقي كما أراده التنوير الغربي سحابة ثلاثة قرون متواصلة. إنَّهم ينطلقون من قَبْليّة اعتقادية تعود في جذورها إلى ثقافة الإستيطان الأنكلوساكسوني، ومؤدّاها أنَّ التاريخ لا تعمِّره البراءة، إذ البراءة عندهم ـ حسب وصف غراهام غرين، الكاتب المسرحي الإنكليزي ـ تشبه مجذوماً أبكم أضاع جَرَسَه، ثم راح يطوف العالم، ولا يقصد ضرراً لأحد...
وعلى عقيدة المحافظين الأميركيين الجدد، إنَّ ما ينبغي على أميركا أن تفعله لكي تحقِّق رسالتها إلى العالم، هو النأي بنفسها عن البراءة، وأن تمضي بعيداً في السجّية الماكيافيللية القائلة بفضيلة "أن تخيف الآخر بدل أن تكسب حّبه لك"...
عندما خسرت الولايات المتحدة مقعدها في لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيأة الأمم المتحدة في جنيف في مطلع أيار/مايو من العام 2001، أصيب كثيرون في نيويورك وواشنطن بالدهشة الحقيقية. جلُّ هؤلاء كانوا من النُّخب الأميركية والغربية التي صدَّقت ما تختزنه العمارة الإيديولوجية من براءات ذات صلة بالقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية. للوهلة الأولى لم يعرف أولئك المخدوعون ما إذا كان الذي سمعوه إشاعة خاطئة أو نكتة حمقاء، وتساءلوا: كيف يمكن لمثل هذه الأمور أن تحدث.. وأين ذهب التعقُّل ؟ وحسبُهم أنَّ أميركا هي التي أوجدت مفهوم حقوق الإنسان، وهي التي هرعت دائماً إلى إنقاذ الأطفال المفقودين، وانتشال الديمقراطيات الفاشلة. ولم يحدث قط أن استُبعدت الولايات المتحدة من غُرف لجنة الضمير خلال أربعة وخمسين عاماً من وجودها. كذلك لم يسبق أن حدث في الذاكرة الحيّة أن تتعرَّض القوة العظمى الوحيدة في العالم إلى مثل هذه السخرية غير المستحقَّة على أيدي أتباعها الجاحدين[1].
يومئذٍ كان بديهياً أن يصبّ الأميركيون جام غضبهم على الأوروبيين، وبالأخص على فرنسا. فعلى ما بيَّن منظِّرو اليمين الأميركي، فإنَّ الفرنسيين تحديداً خانوا الأمانة والتبعية وصوَّتوا لإخراج الولايات المتحدة من واحدة من أهم وأخطر أسلحة الدعاية والتدخل في شؤون العالم. ومع ذلك فإنَّ القضية لم تتوقف عند هذا النوع الطبيعي من ردّات الفعل.
كان ثمة ما هو أدنى إلى المفارقة إذ إنَّ "المطبخ الفلسفي ـ الإيديولوجي" للإدارة الأميركية سينبري إلى إسكات المحتجِّين والمدهوشين، ثم ليمضي في عزفٍ منفرد مؤثراً اللاّمبالاة وإدارة الظهر لهذه القضية، معتبراً أنَّ أميركا ليست في حاجة إلى مَنْ يمنحها شهادة سلوك حسن أو يصحِّح خطأ ترى إليه على أنَّه جزء عزيز في مسلكها العام.
إنَّ هذا ما سيعبِّر عنه الكاتب في مجلة "التايم" تشارلز كروثامر (Charles Krauthammer) على نحو لا شوب في صراحته: "ليست أميركا مجرد مواطن عالمي. إنَّها السلطة المهيمنة في العالم، وأكثر هيمنة من أي قوة أخرى منذ عهد روما. ووفقاً لذلك، فإنَّ أميركا في وضع يؤهِّلها لإعادة تشكيل المعايير وتغيير التوقعات وخلق حقائق جديدة. أمّا كيف يكون ذلك ؟ فيكون ـ برأيه ـ عن طريق إظهار إرادة غير اعتذارية لا سبيل إلى تغييرها".[2]
المسألة إذاً، هي وجوب أن تفعل أميركا أيّ شيء من دون أن تبرِّر أو أن تعتذر. وحتى لو جرى ذلك الفعل مجرى إيذاء أمم وشعوب بأكملها فلا ينبغي أن يُحجِمَ القادة عن إتمام المساحة المتبقِّية لبلوغ الهدف. فالاعتذار بحسب هذا الاعتقاد، يشكِّل منقصة لصاحبه، وإخلالاً في شبكة المعايير والمفاهيم ، التي عليها تتأسَّس استراتيجيات التحكُّم بالأوضاع.
فلسفة الإستهتار بالآخر
على هذه الفلسفة السياسية المتجددة سيغيب منطق الإقناع والتحاور في العلاقات الدولية. وبدا أنَّ منعطفاً كهذا، راح يؤتي أُكُلَه مع "الانتصارات المدوِّية" التي خاضتها الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول /سبتمبر .2001 والمثل العراقي سيعزِّز هذا المنطق حيث أفلحت الولايات المتحدة في جعله شبيهاً بالمثلين اليوغوسلافي والأفغاني. لكن ثمة جانب آخر من المشهد لا يبدو أنَّه سيكون مريحاً، أو مربحاً، للسلوك الأميركي المُشار إليه. فالولايات المتحدة ربحت الحروب التي خاضتها حين استعملت الحدّ الأقصى من جبروتها العسكري. لكنَّها راحت بعد ذلك، تجد صعوبات جمّة في ربح السلام. وهذا ما ذهب إليه الخبير الاستراتيجي الفرنسي باسكال بونيفاس الذي أكَّد أنَّ أميركا بدأت تفقد حبّ الناس لها، بل إنَّها صارت مكروهة على امتداد العالم أجمع.
"البارانويا" الأميركية التي بلغت ذروتها مع السنة الأولى للألفية الثالثة، رأت إلى النقد الأوروبي، والفرنسي على الخصوص بعين السخرية والإستهتار. ولقد سبق للكاتب الأميركي لويس لافام أن ساجل النزعة الإنتقادية لأميركا لدى الفرنسيين. سوف يلاحظ أنَّ الفرنسيين لم يستوعبوا ما يسمّيه بــ "مذهب البراءة الأميركية" بشكلٍ كامل. هذا المذهب الذي فهمه البيوريتانيون (حركة إصلاح بروتستانتية سعت إلى تطهير الكنيسة الإنكليزية من بقايا الباباوية الرومانية الكاثوليكية في القرنين 16 و17).. الأوائل في براري ماساتشوسيتس الموحشة، على أنَّه اختيارهم من قبل الرَّب (...) وفي معرض إعطاء المذهب الأميركي بعده الميتافيزيقي يزعم "لافام" أنَّ الله اختار أميركا لتكون موقع إنشاء الجنّة الأرضية. فقد كان الهدف الأميركي عادلاً دوماً، ولم يكن هنالك أي شيء أبداً يمكن أن يُقال فيه أنَّه غلطة أميركا. ويضيف: "إنَّ الأجيال المتلاحقة والسياسيين الأميركيين عبَّروا عن إيمانها هذا بكلماتٍ مختلفة من مثل: "أميركا الأمل الأخير للبشرية"، "أميركا سفينة الأمان" وناشرة الحضارة الخ.. إلاَّ أنَّه سيذهب إلى مسافة أبعد في خلع الأوصاف فيعلن أنَّ "الشر لم يكن أبداً جزءاً عضوياً من المشهد الأميركي أو الشخصية الأميركية. فالشر ـ على ادعائه ـ سلعة قاتلة ومستوردة من دون ترخيص من خارج، إنَّما هو مرضٌ أجنبي يتم تهريبه عن طريق الجمارك في شحنة "فلسفة ألمانية" أو رز آسيوي(...) ولأنَّ أميركا بريئة بالتعريف، فقد يخونها الآخرون دوماً، كما في "بيرل هاربر" وليتل بيغ هورن، وخليج الخنازير، وبما أنَّه تمَّت خيانتنا، نستطيع دوماً أن نبرِّر استخدامنا للوسائل الوحشية، أو المخالفة للروح المسيحية في سبيل الدفاع عن سفينة الأمان في وجه خيانة العالم[3].
لم يكن عرض هذا الكلام فقط للرد على ما يسمّيه لويس لافام عدم فهم الفرنسيين وجهلهم بحقيقة "الروح السياسية الأميركية"، بل هو يعني أكثر من رسالة دأبت المسيحية الصهيونية الحاكمة في الولايات المتحدة على توجيهها إلى العالم كله منذ وقت بعيد.
وأما المقصود من هذه الرسالة اليوم فإنَّه يتعدَّى الكلّيات الاعتقادية. فهي تتوجَّه إلى الذين يطالبون بوجوب قيام مرجعية أممية تعيد الاعتبار للقانون الدولي. ولأنَّ القوانين تدخل في صلب "البراءة" التي أسقطها الأميركيون من حسابهم، فلا حاجة إليها كما يقول "لافام". فالقوانين ـ عنده ـ "وضعت لغير المحظوظين الذين ولدوا دون جينات الفضيلة".
إنَّ هذا الحّد المُشْرَع على اللاّمتناهي في التفكير الأميركي الجديد، هو الذي يؤسِّس لأميركا القرن الحادي والعشرين. وسنجد من تظاهرات هذه الرؤية اللاّهوتية ما لا حصر من الأحداث اللاّحقة، حيث تصبح القوانين الدولية وشرعة الأخلاق التي تحكم التوازنات في النظام العالمي، مجرد نصوص لا فائدة منها.
لاهـوت القـوة
ظلَّ ريتشارد نيكسون الرئيس الأميركي الأسبق يردِّد في خُطَبِهِ العصماء الموجَّهة إلى الجيش والشعب هذه الكلمات: "الله مع أميركا، الله يريد أن تقود أميركا العالم". في ذلك الوقت كانت حرب فيتنام تتجه إلى جحيمها المحتوم. وكان عليه لكي يشحذ الهمم، ويدفع حجج منتقديه، أن يستعيد ثقافة المؤسِّسين الأوائل ليبيِّن أنّ لاهوت القوة ليس إلاَّ منحة إلهية لدفع الشر في عالم ممتلئ بالفوضى.
خلال السنوات الإنتقالية بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، أسقطت الولايات المتحدة في يدها صفوة أوراق اللعبة الكونية الرئيسية. لقد صار اتخاذ أي قرار، وتقرير أي حل نهائي، من دون رضاها، ضرباً من المستحيل. فما الذي نستطيع انتزاعه من المشهد العام؟؟..
مع نهاية الحرب الباردة أخذ منظِّرو الإستفراد الأميركي يصوغون المقدِّمات العملية لفلسفة السيادة المطلقة. كان كل شيء في المقدمات النظرية جاهزاً. العامل الإيديولوجي شكَّل أساساً ثقافياً ودعائياً لهذه الفلسفة. ولنا أن نعرف أنَّ الولايات المتحدة مرَّت ضمن سيرورة تاريخية ساهمت الإيديولوجيا شيئاً فشيئاً في تكوينها. فقد قامت ـ هذه الفلسفة ـ انطلاقاً من نواة إيديولوجية ذات محورين: الأول، الإعتقاد بأنَّ أميركا مكلَّفة برسالة. والثاني، اليقين بأنَّ أداء هذه الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل بلا تحريم. وممّا يميِّز السياسة الأميركية منذ مولدها: الثبات في العمل على قَدْرِ الديمومة في متابعة الهدف، وكذلك مواصلة الجوهر الإيديولوجي المولِّد للعمل. ولا شك في أنَّ هذه السياسة بلغت ذروة تحقّقها في فجر القرن الثامن عشر، وزادت أيضاً في مطلع القرن التاسع عشر. لكن ميشال بوغنون موردان في كتابه "أميركا التوتاليتارية" (L'Amérique Totalitaire) الصادر في باريس في العام 1997([4]) يذهب إلى "أنَّ الإيديولوجيا الأميركية لم تتورَّع عن خلع صفة الأزلية على أميركا، حيث إنَّ ادعاء الرسالة الإلهية لم يغب يوماً عن ناظرها. ثم يورد كلاماً لمعاون الرئيس السابق بيل كلينتون لشؤون الأمن القومي أنطوني لاك، فيه "إنَّ مصالحنا ومُثُلنا لا تلزمنا بالتدخُّل وحسب، بل تلزمنا أيضاً بالقيادة(...) يضيف: "من واجبنا تطوير الديمقراطية واقتصاد السوق في العالم لأنَّ هذا يحمي مصالحنا وأمننا، ولأنَّ الأمر كذلك يتعلَّق بانعكاس القيم، حيث هي في آن قيم أميركية وعالمية"(...). وهكذا فإنَّ انتصار الأميركيين الأبرز ([5]) ـ يعلَّق "بوغنون": هو، بكل تأكيد، الحضور الكلِّي لإيديولوجيتهم . فالليبرالية، وهي أكثر عقيدة اقتصادية خالصة، تمثِّل أيضاً رؤية قويمة للعالم، استقبلها الكثير من المالكين ومجموعات المصالح بوصفها نعمة وخلاصاً. لقد صارت الليبرالية ـ حسب بوغنون ـ رؤية وعقيدة تخدمان مصالح الأميركيين وتنقذان المظاهر، الأخلاقية، على الأقل، ما دامت الليبرالية، كمفهوم، تنطوي على ركيزة دينية. وهو ما كان لاحظه توكفيل لجهة وجوب اعتبار الدين بالنسبة للأميركيين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى. ثم إنَّ جمهور الناس، أولئك الذين لا يفهمون شيئاً كثيراً من الألعاب السياسية والاقتصادية، اقتنعوا بفعل الحملات الإعلامية، بعدم وجود أيَّة عقيدة أفضل من هذه العقيدة (...) ولقد رأينا منذ الأصل، وقبل أن تصبح أميركا هي الولايات المتحدة، أنَّها كانت تزعم شمولية نمطها التنظيمي الخاص. ولم يَسْعَ مفكِّروها ـ من أساتذة وكتَّاب وكهنة ورجال دولة ـ لحظة واحدة إلى إخفاء هدفهم الأخير وهو: فرض نمط حياتهم على بقية العالم، وذلك عبر آليات أخلاقية تكتظ بالتعالي على الآخر، أيّ آخر، منها في المقام الأول، بما يسميه بوغنون بــ "القدوة". أي من خلال تأدية عروض مثيرة تُظهر "الصورة الساطعة لأمَّة جديدة اختارها الله لغاية وحيدة هي تزويد كل الشعوب بالرسالة الوحيدة ذات المستقبل المُصاغ بصورة زاهية. ثم في المقام الثاني بوضع الآخر جبراً في منطقة القبول بالقدر الأميركي. فثمة يقين لدى "فقهاء الأمركة" بأنَّ إذعان الآخرين عنوة ـ كائناً ما كان شكل الإكراه ـ أمرٌ محتوم في مواجهة هذه الممانعة أو تلك. فأميركا تعتقد نفسها وتريدها كلّية لا تُضاهى. وبهذه الصفة، لا تتصور ذاتها إلاَّ متفوِّقة على مجمل المناطق التي يتحرَّك في داخلها أفراد وأمم، وترى إنَّ من واجبها احتواءها. إنَّها ـ على ما يزعم فقهاؤها ـ هي العالم، ما دامت العناية الإلهية أمرت بذلك، وما دامت تجسِّد نصاب العالم المقبل وفقاً للخطط الإلهية. ومن المقدَّر ـ تبعاً لهذا الزعم ـ أن تقع على كاهلها مسؤولية إملاء قانونها، القانون الذي شرَّعته السماء، وفرضته على الأمم والشعوب".[6]
تاريخية الإستعلاء
حين سئل الرئيس تيودور روزفلت عمّا إذا كانت الإستراتيجية الأميركية العليا، عازمة على تشييد فضائها الإمبراطوري ـ وكان ذلك في مستهلّ القرن العشرين ـ أنكر ما يرمي إليه سائله وقال: "إنَّ البلد الذي قام على فضيلة الحرية، يصعب عليه أن يقع في خطيئة الإمبراطورية!"...
هل يبيِّن مثل هذا "الإنكار" أنَّ ثمة منطقة نائمة في العقل السياسي الأميركي تستيقظ في المحطات الكبرى للتاريخ.. أم أن هذه المنطقة التي يصدر منها كلام كهذا، هي مجرد دائرة صغيرة، يجري استخدامها متى دعت الحاجة إليها ؟
ربما كان روزفلت على شيء من يقين، من أن قوله هذا لا يتعدى حدود الأخلاق النظرية. وحين حرص على نفي الطموح الإمبراطوري، مساوياً، بينه وبين الخطيئة، كان يعي كم للخطاب الأخلاقي من أثر حاسم في لعبة القوى وتكوين حقائق التاريخ. فالضرورة الإيديولوجية للخطاب السياسي، إذاً، هي التي ستحمل الرئيس الأميركي إلى ما يمكن وصفه بالجمع بين متناقضين يشغلان الفكر السياسي الأميركي في ذلك الوقت: قيم الحرية، والطموح الإمبراطوري / الاستعماري.
هل أميركا إمبراطورية؟ هل هي إمبريالية جديدة ؟ أم أنها دولة / أمّة من ذلك النوع السياسي الذي يمكث في "منطقة استثنائية" بعد حادثين تاريخيين متقاربين وعظيمي الشأن: نهاية الحرب الباردة (1990) وزلزال الحادي عشر من أيلول /سبتمبر (2001).
كانت الولايات المتحدة الأميركية في أثناء الحرب الباردة إمبريالية من طراز خاص. لم تقم بعمليات الإخضاع والهيمنة على طريقة الإمبرياليتين البريطانية والإنكليزية عبر الإستعمار المباشر للدول المستعمرة. كان عليها أن تتبع حكاية "القرصان الأكبر" الذي يقطع الطريق على القراصنة الصغار ويلتهم حصادهم. لقد عمدت الولايات المتحدة إلى إخضاع القوى الإمبريالية القديمة لنظامها الخاص. لذا لم تؤدِ الحرب الباردة التي شنتها الولايات المتحدة إلى هزيمة العدو الاشتراكي، وربما لم يكن ذلك، قطّ، هدفها الأول في حقيقة الأمر. لقد انهار الإتحاد السوفياتي تحت وطأة تناقضاته الداخلية الخاصة. ولم تفعل الحرب الباردة، في الحدود القصوى، أكثر من إفراز بعض شروط العزلة التي ما برحت، عبر تردد أصدائها في الكتلة السوفياتية نفسها، أن ضاعفت تلك التناقضات القابلة للانفجار. لعل أهم آثار الحرب الباردة هو التعرُّف على خطوط الهيمنة داخل العالم الإمبريالي. تلك الخطوط التي دأبت على تسريع عملية تدهور القوى القديمة، ورفع مستوى مبادرة الولايات المتحدة على صعيد تأسيس نظام إمبراطوري. وبحسب عدد من المفكرين الإستراتيجيين فإنه لو لم يكن قد تمَّ الإعداد مسبقاً لنمط جديد من المبادرة الهيمنية، لما خرجت الولايات المتحدة منتصرة في نهاية الحرب الباردة. المسألة إذاً، تتعلق ببعد تاريخي للتكوين الأميركي السيادي، فالمشروع الإمبراطوري هو مشروع سلطة متشابكة يشكّل المرحلة أو الصيغة الرابعة من التاريخ الدستوري الأميركي. وعلى ما يبيِّن مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما إمبراطورية العولمة الجديدة([7]) فإنَّ تحقيق فكرة السيادة والهيمنة الأميركية اتخذ مسيرة طويلة تطوّرت عبر مراحل مختلفة من تاريخ الولايات المتحدة الدستوري. فالمعروف أن الدستور الأميركي، كوثيقة مكتوبة بقي دونما تغيير ذي شأن، (باستثناء بعض التعديلات) غير أن الدستور يجب فهمه، أيضاً، بوصفه منظومة مادية من التفاسير والممارسات الحقوقية التي يعتمدها، لا المحلفون والقضاة فحسب، بل والأفراد في المجتمع. وبالفعل فإنَّ هذا التأسيس المادي الاجتماعي قد تغيَّر جذرياً منذ تأسيس الجمهورية. ويذهب بعض علماء القانون والتاريخ السياسي إلى تقسيم أميركا دستورياً إلى أربع مراحل أو أربعة نظـم متمايزة:[8]
ـ مرحلة أولى تمتد من إعلان الاستقلال إلى الحرب الأهلية وعملية إعادة البناء.
ـ مرحلة ثانية وهي مثقلة بالتناقضات، وتتزايد مع الحقبة التقدمية، مغطيَّة انعطافة القرن، من مبدأ تيودور روزفلت الإمبريالي، إلى إصلاحية وودرو ولسون الأممية.
ـ مرحلة ثالثة، وتمتد ممّا يسمى الصفقة الجديدة (New Deal) والحرب العالمية الثانية إلى فترات اشتداد الحرب الباردة.
ـ مرحلة رابعة، وهي التي سبق أن أشرنا إلى بعض وجوهها، وهي بدأت خلال عقد الستينات عبر نشاط الحركات الاجتماعية واستمرت إلى حين تفكيك الإتحاد السوفياتي وكتلة أوروبا الشرقية. فالمراد من حصيلة هذه المراحل الدستورية القول إن كلاً منها شكّل خطوة إلى الأمام في التشكُّل التاريخي للسيادة الإمبراطورية للولايات المتحدة.[9]
عندما وصلت الأزمة المالية الكبرى سنة 1929 جاء الإنقاذ بانتخاب "فرانكلين روزفلت" (ابن عم الرئيس الذي سبقه، تيودور روزفلت). ومع الرئاسة الأولى لروزفلت الثاني 1932، وبعد سياسة العدل الاجتماعي الجديد التي أعلنها وطبَّقها وعادت بها الولايات المتحدة إلى حياتها الطبيعية ـ أخذ الحلم الإمبراطوري يشغل نخبها السياسية والبيت الأبيض في المقدمة. ومن واشنطن كان فرانكلين روزفلت يتابع ما يجري في أوروبا وشغله "صراع الإمبراطوريات"، الذي عاد (كما لو كان متوقّعاً) يتجدد مرة أخرى دافعاً إلى القارة نذر عواصف تتجمع من جديد . لقد بدأت إيطاليا تشهد صعوداً للحركة الفاشية بقيادة "بنيتو موسوليني" الذي وصل إلى السلطة ، وشعاره مرة أخرى هو الشعار الروماني القديم في وصف البحر الأبيض المتوسط بــ "إنه بحرنا".
وفي ألمانيا التي نهضت من وسط ركام الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ونفضت عن نفسها رداء الهوان الذي فرضته عليها معاهدة فرساي، سيجري انتخاب أدولف هتلر، وستصعد النازية إلى السلطة في قلب أوروبا الغربية، ثم ليعلن هتلر أنه جاء ليحيي "الرايخ الثالث" الذي ينبغي أن يعيش ألف عام كما كان يقول.[10]
في اليابان كانت الصورة مشابهة حيث كان الحزب العسكري المطالب بالتوسع الياباني باتجاه العالم انطلاقاً من آسيا الشرقية / الجنوبية يمسك بسلطة القرار في طوكيو فارضاً نفسه على الإمبراطور هيروهيتو.
أما في روسيا فقد ازدادت سطوة الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الذي خلف لينين في قيادة الحزب والدولة. لقد أمسك ستالين البلاد الشاسعة القوية بقبضة فولاذية، مستغلاً موارد بلد هو الآخر بحجم قارة ومحاولاً أن يبني من التخلّف القيصري دولة صناعية قادرة على المنافسة والتفوّق(...)
كان تقدير روزفلت أنَّ هناك حرباً عالمية في الأفق، وتوقّعه أنها سوف تدور بالدرجة الأولى بين ألمانيا وإيطاليا من ناحية وبريطانيا وفرنسا من الناحية الأخرى. وبدت تلك الصورة المحتملة أمام عينيه شديدة الوضوح. وفي ذلك الوقت المبكر لم يكن لدى "روزفلت" تصوّر واضح لمسلك الإتحاد السوفياتي ولا لمسلك اليابان، ولعله ظنَّ أن كلا البلدين سوف ينتظر حتى يرى اتجاه العواصف ثم يقرر كيف يستفيد من هبوبها ويستغل التطوّرات والنتائج.[11]
لكنّ المراقبة الأميركية لصورة العالم آنئذٍ راحت تتخذ مسلكاً مخصوصاً، بحيث ترصد بدقة اتجاهات القوة بين الإمبرياليات المتحاربة من دون أن تستغرق في حروب مباشرة غير محسوبة النتائج بالكامل لصالحها، بينما كان الطموح الإمبراطوري وتحقيق السيادة العالمية هو الناظم المركزي للإستراتيجية الأميركية العليا.
آخر الصابرين وأول الوارثين
لقد كانت مجمل تقديرات الرئيس روزفلت الثاني تركِّز على العلامات الفارقة التالية:
أولاً: الحرب التي تلوح نُذُرَها الآن هي ـ الفرصة السانحة للولايات المتحدة لكي تقفل صفحة الإمبراطوريات القديمة، وتفتح صفحة الإمبراطورية الأميركية، لأنها وحدها الأجدر بـ "فرض سلام" تقدر عليه مواردها وطاقاتها ـ وهي ليست قادرة على ذلك فقط، وإنما هي تستحقه لأنها قلعة الغنى في العالم وذروة تقدمه.
ثانياً: في ما يتعلّق بالصراع الأوروبي، وهو دائرة الحرب الأساسية، كانت خطة الولايات المتحدة، أن تكون أكثر عنفواناً، وبالتالي فإنَّ "هتلر" لا يجب أن ينتصر، وكذلك "موسوليني".
ثالثاً: هذا معناه أنَّ بريطانيا وفرنسا لا بد أن تخرجا من حمّام الدم الأوروبي سالمتين، وفي نفس الوقت غير قادرتين هذه المرة على الاحتفاظ بإمبراطوريتيهما الشاسعتين (في آسيا وأفريقيا). وهذا معناه أيضاً، أن انتصار الحلفاء والأوروبيين يصح أن يتم داخل حدود لا يمكن تجاوزها، وإلاَّ فإنَّ ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى سوف يتكرر بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تتمكَّن الولايات المتحدة من فرض رأيها ورؤيتها لمصائر العالم فوق سطوة إمبراطورياته القديمة المتهالكة...
رابعاً: من الأنسب للولايات المتحدة هذه المرة أيضاً، أن تظل بعيدة عن ميادين القتال حتى آخر لحظة. على أنها خلافاً لموقف "ويلسون" والحرب العالمية الأولى، لن تعلن حيادها "فكراً" و"فعلاً"، وإنَّما عليها أن تكشف وتظهر انحيازها الفكري ضد النازية، لأنَّ تلك مسألة أخلاقية. وأما عملياً فإنَّها سوف تترك بريطانيا وفرنسا وحدهما وسط "عاصفة الحرب" وتراقب هي من بعيد حتى ينزف كلا الطرفين دمه، ويترنَّح تحت مطارق الحديد.
خامساً: إذا كانت سياسة الإتحاد السوفياتي واليابان هي الانتظار والمتابعة حتى تظهر حركة الموازين، فإنَّ الولايات المتحدة سوف يتعيَّن عليها التذرُّع بالصبر الطويل، وهي قادرة على ذلك بحكم أمان المحيطات. ففي حين أنَّ روسيا ملاصقة من الشرق لغرب أوروبا بحيث يصل إليها صدى المدافع، فإنَّ الولايات المتحدة بعيدة. كما أنّ حال اليابان هو الشيء نفسه، لأنها على تماس مباشر مع أطراف الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في آسيا (الهند والهند الصينية). وعليه أخذت تنشأ تلك المقولة الذهبية التي ترى أنَّ الولايات المتحدة تقدر وتملك أن تكون آخر الصابرين لكي تكون أول الوارثين[12]
سوف تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها لتسفر عن استناف واقعي لرحلة أميركا في ما وراء الحدود. وفي هذا المسار سيُفتح الباب للولايات المتحدة الأميركية لتحفر مجراها الجيو ـ ستراتيجي بوصفها دولة عالمية. لقد أفلحت الولايات المتحدة في أن ترِث الإمبرياليات التقليدية وتؤسِّس على هذا الإرث آليات جديدة للسيطرة الأمنية والاقتصادية والإعلامية، (اصطلح على هذه الحقبة في أوساط اليسار العالمي بـ "حقبة الاستعمار الجديد"). وبقطع النظر عن مدى صحة أو مطابقة هذا الإصطلاح للواقع التاريخي الدولي بسبب من دخالة الإيديولوجيا المكثفة وأثرها في نشوئه، فإنَّه سيأخذ سياقه الفعلي في نظام الصراع اللاَّحق الذي حكم العالم بما عُرف بــ "الحرب الباردة".
لقد كشفت الحرب الباردة حقائق مدويّة ما كان لها أن تظهر لولا أن أصبحت الولايات المتحدة وجهاً لوجه مع العالم. لم تعد أيديولوجيا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية الاقتصادية مجرد حجاب يخفي وراءه نزعة الهيمنة. صارت هذه الأخيرة بآلياتها ووقائعها وأنساقها وأنظمتها هي الحاكمة والمحدِّدة لعلاقة أميركا بالعالم، إذ على نزعة الهيمنة ستنشأ المقدمات الفعلية للعالمية الأميركية. فخلال الحرب الباردة، بل وعبر مسيرة القرن العشرين، بات واضحاً بصورة متزايدة باطّراد ، أنَّ الولايات المتحدة شقَّت طريقها باتجاه العالم تحت شعار إمبراطورية الحرية.
على أنَّ هذا الإغراء بالحرية سيؤدي ـ ضمن معادلة الحامي للحرية والمتسلط على مقادير الثروة العالمية ـ إلى ظاهرة استعمارية أكثر عمقاً واتساعاً. بعبارة أخرى، ما لبثت حماية البلدان في سائر أرجاء العالم، من الشيوعية، أن أصبحت متعذّرة التمييز. فكان لا مناص من تحقيق السيطرة بأساليب وتقنيات إمبريالية. لذا عمدت إلى استرجاع الآليات التقليدية للإستعمار البائد. ولعلَّ التجربة الفيتنامية في هذا الإطار هي التجربة الأكثر دلالة وسطوعاً على هذا النوع من السيطرة. فلقد كانت الحرب في فيتنام متناغمة مع الإستراتيجية السياسية العالمية القائمة على حماية "العالم الحر" من الشيوعية. غير أنَّ هذه الحرب لم يكن بوسعها أن تكون، عملياً، إلاَّ عملية استئناف في العمق لأشكال السيطرة الأوروبية التقليدية. وليس من شك في أنَّ الهزيمة التي لحقت بأميركا في فيتنام ستكون واعظاً لها لتغادر السياق الكلاسيكي للسيطرة وتتجه إلى صياغات استراتيجية جديدة تقوم على حكم إمبراطوري من طراز جديد.
إنَّ الجدل العميق الذي اشتعل داخل حقول الفكر الإستراتيجي الأميركي بعد حرب فيتنام أدَّى بحسب زبينغيو بريجنسكي إلى اعتراف متزايد بضرورة إعادة تحديد دور أميركا العالمي. ذلك أنَّ اندفاع أميركا في العالم بنموّها الخاص وبفعل حربين عالميتين، جعلها تحرّك بنشاط في البداية، ثم تضمن، استعادة الغرب لاقتصاده ولأمنه العسكري. وهذا الوضع ـ النابع من الضرورة المتميزة بالهموم العسكرية الثقيلة ـ أخذ يتحول بشكل متزايد نحو مزيد من التورط في المشاكل الأكثر أساسية وذات الطابع السياسي الأقل، والتي تواجه الإنسانية في الثلث الأخير من القرن العشرين. وعلى رأي بريجنسكي ـ فإنَّ جون كينيدي هو الذي سيمسك بروح الوضع الأميركي الجديد في العالم عندما قال عن نفسه أنه أول رئيس أميركي يعتبر العالم كله من شؤون السياسة المحلية بمعنى أو بآخر. ومن المؤكَّد أنَّ كينيدي كان أول رئيس "عالمي" للولايات المتحدة. فروزفلت برغم كل اتجاهاته الدولية كان يؤمن في الأساس باتفاق عالمي يشبه اتفاق 1815، حيث "الأربعة الكبار" كان لهم دوائر نفوذ خاصة. أما ترومان فلقد تجاوب قبل كل شيء لتحدٍّ شيوعي معّين وأظهرت سياساته أنها تعطي أولوية واضحة للمشاكل الإقليمية. واستمر أيزنهاور على نفس الطريق مطبِّقاً بين الحين والآخر سوابق أوروبية على مناطق أخرى. وهذه التحوّلات كانت معبِّرة عن تغيُّر دور الولايات المتحدة. إلاَّ أنَّه مع كينيدي كان الشعور بأنَّ كل قارة قادرة، وكل شعب له الحق في أن يتوقع القيادة والطموح من أميركا، وإنَّ أميركا ملزمة بنفس القدر من الانغماس والتورط في كل قارة وكل شعب. إنَّ أسلوب كينيدي المثير ـ كما يلاحظ بريجنسكي ـ أنه ركَّز على الطابع الإنساني العالمي للمهمة الأميركية بينما كان افتتانه الرومانسي بفتح الفضاء يعكس قناعته بأنَّ زعامة أميركا العالمية ضرورية لفعالية دورها العالمي.[13]
إسـتعادة المفارقـة
خلال الحقب الرئيسية الأميركية التي تلت حقبة كينيدي، لم تغادر جدلية الهيمنة على العالم وحمايته الرسالية المدَّعاة، العقل الإستراتيجي الحاكم في الولايات المتحدة. كان ثمة استيقاظ دائم لنزعتي الهيمنة والمهمة الرسالية، وإن كانت هذه الأخيرة باقية على الدوام كذريعة أيديولوجية تسوّغ لمنطق القوة وتمهِّد له سبيل الفلاح.
في كتابهما([14]) الذي نشراه في باريس عام 2003 تحت عنوان: (أميركا المقبلة: قياصرة البنتاغون الجدد) يبيِّن الباحثان الإستراتيجيان الفرنسيان جيرار شاليان (Gerard Chaliand) وأرنو بلين (Arnaud Blin) الخلفية التاريخية والثقافية التي تحمل الفكر السياسي الأميركي على الجمع الدائم بين هاتين النزعتين المفارقتين (الهيمنة والرسالية)، ثم يتساءلان عن السبب الذي يجعل إدارة جورج بوش الثاني تحرص وتقاتل بحزم للحيلولة دون ظهور قوة منافسة لها على وجه الأرض، وعن موضوعية البحث عن الدوافع المحرِّكة لهذه الإدارة في ما ترفعه من شعارات. وللإجابة يؤكدان أنَّ الجذور التاريخية هي وحدها التي يمكن أن تمدنا بالمشهد وخلفيته معاً. فتاريخ أميركا منذ توماس جيفرسون وحتى جورج دبليو بوش عرف ظهور توجّهين اثنين، توزعت بينهما الإدارات، أحدهما مثالي حالم، والآخر واقعي ماكيافيللي شرس. ولكي نعبِّر عن الأمر بلغة فلسفية، نستطيع القول إنَّ إحديهما تعود إلى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز القائل: "إنَّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، في حين تعود الأخرى إلى كانط الفيلسوف المثالي "الترانساندانتالي، المتسامي، العالمي، وأيضاً إلى جان جاك روسو اللذين تحدَّثا عن إمكانية "السلام الدائم" و"التعايش السلمي" العالمي، وكانا يريان إلى الإنسان كائناً محكوماً بالأخلاق والنوايا الطيبة والطبيعة الخيّرة على عكس هوبز ومكيافيللي. ومن هذا المنطلق فإنَّ أميركا الواعظ الإنجيلي جيمي كارتر تختلف ـ سياسياً وموضوعياً ـ عن أميركا المحافظ اليميني المتطرّف رونالد ريغن، تماماً كما أنَّ إدارة الداعية الديمقراطي الساعي إلى تحقيق رسالة أميركا بإشاعة الحرية في العالم ـ بيل كلينتون ـ تختلف عن إدارة اليميني المحافظ وذي التوجه الإمبريالي جورج دبليو بوش المرتمي في أحضان جماعة المحافظين الجدد، بكل مشروعها وأطروحاتها المتطرّفة والكوسموبوليتية. ويرى المؤلفان أنَّ تاريخ الولايات المتحدة كمشروع سياسي عرف مرحلتين رئيسيتين، إحداهما أطلقها الآباء المؤسسون، وقدمت هذه الدولة الهائلة كمشروع طوباوي من قبيل "مدينة الشمس" لكامبانيلا، أو "مدينة الله" لتوماس مور، ومشروعها الإنكفاء على نفسها واستغلال مواردها الهائلة لتحقيق دولة الرفاه التي تجسّد الفضيلة أخلاقياً، والعدالة سياسياً، والتي تتعاطى دائماً مع السياسة الخارجية من المفهوم المثالي الأخلاقوي وأحياناً النقوي الطهوري.
أما المرحلة الثانية فتبدأ منذ الحرب العالمية الثانية حين أصبحت أميركا قوة عظمى، وبالتالي وجدت نفسها تخرج من حدودها السوسيوـ تاريخية التي اعتادت عليها لتمارس الهيمنة على العالم، وأيضاً ـ ويا للمفارقة ـ لتتبادل الأدوار مع أوروبا التي كانت خلال المرحلة سالفة الذكر، ]خصوصاً في القرن التاسع عشر[ تلعب دوراً إمبريالياً، وتتعاطى مع السياسة بالمفهوم الهوبزي الماكيافيللي، والتي جنحت منذ انتهاء الحرب، وبضغط من موروثها الفاشي ـ النازي "إلى التعايش السلمي، وإلى تغليب المفهوم المثالي للتعاطي مع السياسة عامة والخارجية منها خاصة.
وإذا كانت إيديولوجيا فتوحات أوروبا الإستعمارية في القرن التاسع عشر تحرص على تعميم "رسالة الرجل الأبيض"، فإنَّ العنوان الذي سيرفعه قياصرة "البنتاغون" الآن للخروج بالدور الأميركي إلى الحد الأقصى من حلمه إلى واقعيته هو "نشر النموذج الأميركي" عبر العالم، وذلك تعبيراً عن إيمان راسخ لدى الأميركيين عامة بما يعتبرونه رسالة قدرهم ترويجها وإشاعتها عبر العالم هي "القدر البيّن للشعب الأميركي"، الذي يعني أنَّ أميركا قبل أن تكون دولة أو قوة عظمى هي فكرة ورسالة عظيمة وحلم جميل حافل بالوعود[15].
عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها التي ظلت على مدى نحو نصف قرن تقيِّد الطموحات الجيو ـ استراتيجية للولايات المتحدة، صار سهلاً إحداث تغيير راديكالي في آليات صنع تلك الطموحات. فإذا كان رونالد ريغن قد أوصل النزاع مع الشيوعية السوفياتية إلى نهايته المدوّية ممثلة بسقوطها، فإنَّ جورج بوش الأول سيكمل ما تبقّى من آثارها في الشرق الأوسط عبر حرب الخليج الثانية في العام .1991 لكنّ الرئيس بيل كلينتون الذي سيخلف الرئيس بوش سيتّخذ لنفسه منحنى آخر، من دون أن يقطع مع المنطق الإجمالي لمن سبقوه إلى الإدارة. فعلى رأي الذين قرأوه فإنَّ كلينتون كان أول رئيس أميركي منذ أيام فرانكلين روزفلت يصوغ أفكاره حول القضايا العالمية من دون أن يضطر لمواجهة الإتحاد السوفياتي. وفي خطابه عن "حال الأمّة" في شهر كانون الثاني /يناير 1999، استعاد كلينتون صدى الكلمات التاريخية التي أطلقها الملياردير والقطب الإعلامي الشهير هنري لوس في شباط/فبراير 1941، أي قبل عشر سنوات من دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية. يومها قال لوس: إنَّ الأميركيين فشلوا طوال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين في التنبُّه إلى مدى سيطرة بلدهم على مصير العالم، وهذا ما جعل المسار التاريخي للبشريةيأخذ منعطفاً بائساً.. ثم ليضيف: "إنَّ أميركا كمركز فعّال للحلقات دائمة التوسع في حقل الأعمال.. أميركا كمركز تدريب لخدّام الجنس البشري المَهَرَة.. أميركا الكريمة التي تؤمن مجدداً أن العطاء مبارك أكثر من الأخذ، وأميركا كمحطة لتوليد المثل العليا في الحرية والعدالة ـ من المؤكد أنه من جميع هذه العناصر يمكن أن نكوِّن رؤى عن القرن العشرين نستطيع أن نكرس أنفسنا لها بكل محبة ونشاط وحماس".. وبعد ثمانية وخمسين عاماً نظر كلينتون إلى قصدّية لوس نظرة المقتدي والمقلِّد، لا سيما لناحية وجوب أن يبسط الأميركيون أيديهم للقرن الأميركي. فقد ظهرت أطروحة لوس، كما لو أنها أطروحة مأثورة ينبغي الأخذ بها عن ظهر قلب. غير أنَّ هذه الاستعادة التي أخضعت للتأويل الإيجابي من جانب كلينتون، أي بوصفها صيغة للتعاون بين الأمم.. سرعان ما تهافتت وعادت إلى غائيتها الأولى كمادة أيديولوجية وسياسية وثقافية لـ أمركة العالم.
أميركا هي العالم ؟!
سوف تظهر أطروحة العالمية الأميركية بقوة أشدّ بعد الحادي عشر من أيلول /سبتمبر .2001 فلم يكن للعقيدة السياسية الأميركية بعد هذا التاريخ سوى إماطة اللثام عن واحدة من أبرز أطروحاتها المعاصرة، عنينا بها أطروحة: "أميركا هي العالم والعالم هو أميركا".
إنَّ تجديد هذه الأطروحة بعد هذا التاريخ، ينطوي بلا ريب على فعليّة كثيفة. ذلك لأنَّ عالمية أميركا هذه المرة لم تعد مجرد شعار ينبغي إخراجه من القوة إلى الفعل. فالعالمية الأميركية بعد انصرام الحرب الباردة ثم بعد زلزال الحادي عشر من أيلول، غدت واقعاًموضوعياً وذاتياً بالنسبة لدولة كأميركا راحت تتصرف حيال أي وضع في العالم بصفته وضعاً متصلاً بقوة بالأمن القومي الأميركي..
إذا كان الخطاب السياسي ميّالاً كالعادة إلى ضربٍ من الديماغوجيا لإظهار محاسن الطموح الإمبراطوري للولايات المتحدة، فالخطاب الإعلامي الموجَّه يبدو أقل تكلُّفاً في ارتداء الأقنعة. هذا ما سيجدُّ في بيانه الباحثان البريطانيان ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس في مقالتهما المشتركة التي وَضَعَاها تحت عنوان "أميركا هي العالم والعالم هو أميركا"([16]). يستهل الباحثان مقالتهما تلك بالإشارة إلى المسلسل التلفزيوني الشهير (ألياس) Alias التي تعرضه محطة آي. بي. سي (A.B.C) الأميركية. فقد قرَّرا أنَّ صراحة هذا المسلسل الذي يروي قصة طالبة تعمل في الخفاء كعميلة سرية من مستوى عالٍ، توسّع إلى حد كبير أفق المعرفة بالنسبة إلينا جميعاً. فقد صُنِّف "ألياس" بأنه برنامج ترفيهي مسلٍّ لا يستدعي أيّ اهتمامات. لكن هذا المسلسل العادي والسطحي، والذي يحبس الأنفاس عبر حبكة غريبة، يكشف للمُشاهد أشياء كثيرة عن أميركا والطريقة التي تنظر بها إلى العالم. ويضيف صاحبا المقالة:
إنَّ السينما والتلفزيون يعكسان "الواقع" ويوجدانه في الوقت نفسه. وكما أشار إلى ذلك الروائي والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو، فإنهما لا يكتفيان بنقل أيديولوجيا: إنهما الأيديولوجيا الأميركية في حدِّها الأقصى(...) بهذه الدلالة تتمظهر أميركا بوصفها هي العالم، بحسب مسلسل "ألياس". إذ يمكن أن ينتقل سير أحداث حلقة نموذجية بسرعة الضوء من لوس أنجلوس إلى القاهرة أو إلى موسكو، وإلى روما أو إلى أوكسفورد، وإلى توسكانا أو إلى جنيف، ومن مستشفى للأمراض العقلية في بوخارست إلى صحراء أرجنتينية قبل أن يعود إلى لوس أنجلوس. إذاً، ليست بقية العالم سوى شرفة أميركا حيث يُقدم الأشرار ـ أعداء الــ "سي.آي.إي" و "SD-6" ـ باعتبارهم "الآخرين"، ويؤدون دورهم ويظلّون على ما هم عليه. وحيثما تقود المهمات العملية السرية، فإنَّ العالم بأسره، وباستثناء بعض التفاصيل الثانوية وبعض السكان الأصليين المثيرين للإعجاب ، يشبه تماماً لوس أنجلوس، حيث يتم تصوير المسلسل. وحيثما توجه سيدني نظرها، فإنها تكتشف الأفق نفسه. لذا ليس مفاجئاً أنها تنتقل في العالم غير الأميركي كما تنتقل في حديقتها الخلفية، وأنها تعود من كل مهمة وكأنها لم تقم إلاَّ بجولة صغيرة في مركز تجاري مجاور. أما في ما يتعلق بأعدائها، فإنهم موجودون في كل مكان ومن كل الأجناس ـ عرب وصينيون وروس وكوبيون ـ ويعملون جميعاً كشبكات مستقلة وسرية.
إنَّ ما يعرضه "ألياس" بثقة كبيرة ـ كما يبيِّن الباحثان ـ ليس القول أنَّ أميركا تريد أن تحكم العالم، وإنما التوكيد بأنها تحكمه بكل بساطة. فالدول الأمم والحدود الجغرافية والهيكليات السياسية تتحول إلى مجرد سخافة. فالمهم هو وجود شبكات متنافسة تسعى كل منها إلى ضمان مصالحها على المسرح العالمي ـ مسرح يغفل التنافس بين القوى العظمى بما أنه ليس هناك سوى قوة عظمى وحيدة ومصدر وحيد للنظام العام. وعليه، فإنَّ الحديث عن "إمبراطورية أميركية" أو عن "إمبريالية أميركية"، في ظل نظام طبيعي من هذا النوع، يصبح بلا معنى، هذه الخطب والتحليلات باطلة إلى حد خطير، إذ إنَّ فكرة الإمبراطورية تعني وجود مستعمرات يتم فيها قمع سكان يرفضون الخضوع. كما إنَّ الإمبريالية هي تعريفاً حاضرة مزدهرة تسعى جاهدة للسيطرة على الأسواق وفرض قوانينها على بلد بعيد. أما حالياً، فإنَّ العالم يمثِّل إمتداداً للمجتمع الأميركي، إذ ـ تحديداً ـ يلتحق الأفراد والجماعات بحماس بثقافتها وقيمها. وهكذا تصبح المسافة، كما يظهر مسلسل "ألياس" ذلك بمهارة كبرى، بلا أي معنى. فباستثناء "دول مارقة" شاذة، لم يعد هناك "بلدان بعيدة" ثمة حاجة إلى "إخضاعها للنفوذ" من جانب الإمبريالية الواضحة للعيان. إذاً، لا تقدم أميركا نفسها كقوة إمبريالية بالية تبحث عن "دوائر نفوذ" وتتنافس مع إمبراطوريات أخرى؛ إنها قوة عظمى لا مثيل لها. وعليه، كيف يفاجئنا بأن ينظر مسلسل "ألياس" إلى العالم بصفة كونه أميركا ؟[17]
يجيب صاحبا المقالة عن سؤالهما، بضرب من الاستفهام المنطقي، فلئن كان العالم هو أميركا، فهذا يعني أنّ مصالح أميركا هي بالضرورة مصالح العالم، وأنّ أولئك الذين يعملون ضد مصالح أو ثقافة أو رؤية أميركا للعالم، يلحقون الضرر في الحقيقة برفاه العالم وأمنه(...) هذا هو المنطق الذي حكم كل التدخلات العسكرية الأميركية منذ أكثر من قرن. كانت المعادلة بسيطة جداً: تدخّلت أميركا عسكرياً في الخارج بسهولة وباستمرار تماماً مثلما تنطلق العميلة المزدوجة الخارقة "سيدني" في مهمة. وهكذا أرسلت الولايات المتحدة قواتها إلى الصين وكوريا وفيتنام وأندونيسيا وكذلك إلى بلدان أكثر قرباً مثل كوستاريكا وغواتيمالا وغرانادا في خلال عقود الحرب الباردة. وفي أثر تفجيرات الحادي عشر من أيلول /سبتمبر مباشرة نشر المناضل الأميركي من أجل السلام والمتعاون المنتظم مع المجلة المتطرفة "كونتر بانتش" زولتان غروسمان قائمة تحت عنوان: "قرن من التدخلات العسكرية الأميركية: من ونديد كني إلى أفغانستان"، وقد جرى إعدادها استناداً إلى أرشيف الكونغرس ولحساب البحوث في مكتبة الكونغرس. وتحصي القائمة 134 تدخلاً محدوداً أو واسع النطاق، عالمياً أو داخلياً، ممتدة زمنياً على فترة 111 عاماً بين عامي 1890 و.2001 وتظهر هذه الوثيقة أنَّ الولايات المتحدة قامت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية بـ 15,1 تدخلاً سنوياً كمعدل وسطي. ثم وصل هذا الرقم إلى 29,1 تدخلاً خلال الحرب الباردة. أما بعد سقوط جدار برلين، فقد ارتفع الرقم ليبلغ تدخلين سنوياً. وعليه، كلّما توسَّعت الإمبريالية العظمى الأميركية، تتزايد التدخلات من أجل حماية "مصالحها". إلى ذلك، وكما يبيِّن جوهان غالتنغ، مدير "ترانسند" (شبكة إنترنت من أجل السلام والتنمية) في "البحث عن السلام" (2002)، فإنَّ التوزيع الجغرافي للتدخلات تبّدل أيضاً في فترة ما بعد الحرب. ففي مرحلة أولى، ركَّزت الولايات المتحدة تدخلاتها بعنف شديد في شرق آسيا (كوبا، فييتنام، أندونيسيا، وكذلك إيران). ثم جاء دور أوروبا الشرقية (بما في ذلك الإتحاد السوفياتي.
لكنّ العمليات العسكرية كانت هذه المرة أقل عنفاً ظاهراً بسبب وجود قوى عظمى منافسة. وفي المرحلة الثالثة، تركّزت التدخلات في أميركا اللاتينية، بدءاً من كوبا قبل أن تشمل القسم الأكبر من القارة. وقد مورس العنف هذه المرة على مستويات متدنّية ومرتفعة، لكنها لم تصل إلى المستوى الذي بلغته في شرق آسيا. أما في المرحلة الرابعة، والتي نشهدها حالياً، فإنها تمتد من الشرق الأدنى إلى آسيا الوسطى: بعد فلسطين وإيران، ثم ليبيا والمنطقة اللبنانية ـ السورية، انتقلت العمليات إلى العراق في التسعينات، ثم إلى أفغانستان والعراق مطلع القرن الواحد والعشرين. بكلام آخر، تحوّلت أهداف هذه التدخلات من المجتمعات الكونفوشوسية والبوذية إلى الثقافات المسيحية والكاثوليكية، ثم إلى الحضارة الإسلامية. إن بقية شعوب العالم يكوِّنون إلى حد كبير جداً الفكرةالتي لديهم عن أميركا، وكذلك نظرة أميركا إليهم، من خلال المسلسلات التلفزيونية، على غرار "ألياس" وأفلام هوليوود مثل فيلم "القرار الأخير" أو "منع التجول". لكن هذا الإدراك يستند أيضاً إلى تجربة معيوشة ـ على سبيل المثال سلوك الولايات المتحدة في منابر دولية، على غرار الأمم المتحدة ـ على أن هذا السلوك ليس مختلفاً بتاتاً عن سلوك " SD-6 " في مسلسل "ألياس": بما أننا نهيمن على العالم، يمكننا أن نتصرف إلى حد كبير كما يحلو لنا. وكما كتب الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي في كتابه "الأمم المتحدة المهزومة: مأثرة الولايات المتحدة ـ الأمم المتحدة"، فإنَّ الأمم المتحدة هي حالياً ملكية حصرية لقوة عظمى وحيدة ـ الولايات المتحدة ـ التي تستغلّ، من خلال استخدام الترهيب والتهديدات وحق النقض (الفيتو)، المؤسسة الدولية لخدمة مصالحها فقط، إذ أن الولايات المتحدة تستخدم المنظمة وفق ما يناسبها لتشريع تحرّكاتها وتشكيل الإئتلافات وفرض عقوبات على "الدول المارقة". أما عندما يتصدّى لها الرأي العام العالمي، فإنها تعامل المنظمة باحتقار كبير.[18]
فلسـفة تبريـر الحـرب
هنالك إذاً، ممارسة مركّبة للهيمنة على العالم. هي ممارسة تجمع بين السلوك الإمبريالي التقليدي (الدخول العسكري المباشر وممارسة الاحتلال وتسويغ الحروب بذريعة الأمن الدولي)، وبين السلوك الإمبراطوري الذي لا يرى أيّ شأن في العالم مهما كانت مؤثرّاته الأمنية والاقتصادية والثقافية إلاَّ شأناً أميركياً داخلياً. ذلك كان شأن الإمبراطوريات القديمة. فهي إمبراطوريات جامعة. لم تكن ترى العالم في ما وراء حدودها إلاَّ انطلاقاً من رؤية مركزية مبنية على المنطق الذي تحدده المصالح العليا لدولة ما وراء الحدود. وهنا يبدو المثال الأميركي صارخاً.
ينقل الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس ([19]) عن المؤرخ أريك هوبز باوم قوله عن القرن العشرين بأنه قرن أميركي بامتياز. ثم يعلِّق على هذا في شيء من السخرية المرَّة، إنه يحق للمحافظين الجدد الذين حكموا أميركا في مستهلّ القرن الحادي والعشرين، أن ينظروا إلى أنفسهم بوصفهم "منتصرين" وأن يتخذوا مثالاً لنظام عالمي جرت إقامته على الانتصارات المحقَّقة التي أحرزتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ـ في أوروبا وفي جنوب شرق آسيا إثر هزيمتي ألمانيا واليابان، وفي أوروبا الشرقية إثر انهيار الإتحاد السوفياتي. وقد جرى تأويل مرحلة ما بعد التاريخ هذه ـ بحسب اصطلاح فرانسيس فوكوياما، على ضوء النزعة الليبرالية، فمن شأن ذلك أن يجنِّبنا الخوض في مماحكة حول الأهداف المعيارية: فماذا يمكن بالفعل أن يحظى به الناس أفضل من تعاظم السوق الحرة على المستوى العالمي وتعاظم عدد الدول الليبرالية ؟..
ثمة لدى الإيديولوجيا الأميركية ما يسوِّغ المقولة الأمنية بتظاهراتها المختلفة، سواء لناحية الحرب الإستباقية التي تفترض عدواً قد يهاجم في أية لحظة، أو لناحية إسقاط ما يسميه أصحاب النزعة الذرائعية من المحافظين الجدد، أنظمة الشر، أو الحكومات الراعية للإرهاب. هؤلاء يعترفون أنَّ الحرب غير الشرعية تبقى عملاً متعارضاً مع القانون الدولي، غير أن من شأن النتائج الضارة أن تنزع أيّ طابع شرعي عن النيات الحسنة، أي تلك القائلة بوجوب عدم الحرب بسبب من لا شرعيتها. والسؤال الذي يطلقه فلاسفة المحافظين في وجه مؤيدي القانون الدولي هو التالي: لماذا لا يَسَعُ النتائج الحسنة أن تمتلك، على نحو استدلالي، القدرة على إخفاء الطابع الشرعي ، ذلك أن المقابر الجماعية، والزنزانات تحت الأرض وشهادات الذين تعرّضوا للتعذيب، لا تترك في نهاية المطاف، مجالاً لأي شك حول الطبيعة الإجرامية لنظام الحكم.(العراق ـ يوغوسلافيا الصربية ـ مثالاً)...
هكذا تتشكَّل ذرائعية العقل الأمني الأميركي ليمضي في صياغة أنظمة الأمن الإقليمية والدولية على وفق زمن أميركا للقرن الحادي والعشرين. إنه يريد أن يواجه العالم بمعيارية جديدة حول شرعية الحرب الإستباقية أو البدء بالحرب ضد أي حالة سيادية لمجرد الظن أن هذه الحالة قد تشكل خطراً على السلام الدولي.
في مجالنا السياسي العمومي ـ يقول هابرماس ـ أدَّى هذا الأمر إلى نمطين من ردود الفعل. هناك رد فعل الذرائعيين الذين يؤمنون بالقوة المعيارية لما هو حدثي، ويثقون بأحكامهم العملية، ويرسمون الحدود السياسية للأخلاق مثمّنين، على المدى المنظور، ثمار الإنتصار. ذلك أنهم يرون أنَّ إعمال التفكير في صوابية الحرب هو أمر عقيم لأنَّ الحرب، في الأثناء، غدت واقعاً تاريخياً. ثم هناك رد فعل الذين استسلموا، بدافع الانتهازية أو الاقتناع، أمام الحَدَثي، إذ يرى هؤلاء أن الإصرار على التمسّك بالقانون الدولي بات أمراً ينمُّ عن جمود عقائدي. ويبرّرون موقفهم قائلين إنَّ التنديد بمخاطر وتكاليف العنف العسكري إنما هو تغاض عن القيمة الحقَّة الوحيدة: أي الحرية السياسية.
هذان منحيان لردّ الفعل يمكن وصفهما بقصر النظر، إذ أنهما يتناولان بانتقاد سطحي "النزعة الأخلاقية الباهتة"، غير أنهما يغضّان الطَّرْفَ عن تفسير ما يود المحافظون الجدد في واشنطن أن يجعلوه بديلاً لتدجين العنف الدولتي بواسطة القانون الدولي. فالحقيقة أن ما يجبه به المحافظون الجدد هؤلاء أخلاق القانون الدولي، ليس هو النزعة الواقعية، ولا نزعة الفهم الرومنسي للحرية، فإنَّ فرض النجاح السياسي الأعظم ـ أي النزعة الليبرالية ـ عبر الهيمنة، لجعله نظاماً عالمياً هو، أيضاً، أمرٌ يمكن تبريره أخلاقياً، وإن اقتضى تحقيقه اللجوء إلى وسائل تتعارض مع القانون الدولي.
وبالطبع فإنَّه ضمن هذه المعيارية تحتفظ القوة الأميركية الأعظم بحقِّها في التفرُّد في العمل، حتى باستخدام السلاح، لتدعيم موقعها المهيمن في مواجهة أي غريم محتمل. غير أنَّ ممارسة سلطة عالمية ما ليست، في نظر هؤلاء المنظِّرين الجدد، غاية في حد ذاتها. فما يميِّز المحافظين الجدد عن المدرسة "الواقعية"، هي رؤية سياسية عالمية لأميركا منعتقة من السبُل الإصلاحية لسياسة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان. سياسة لا تخلّ بالأهداف الليبرالية (لسياسة الأمم المتحدة على هذا الصعيد) لكنها تحطم القيود الحضارية التي يفرضها ميثاق الأمم المتحدة.[20]
إذا تحرّكت أميركا تغيَّر العالم
سوف يمضي الحاكمون الجدد للبيت الأبيض، وتحديداً أولئك الذين انقشع حكمهم عن فلسفة جديدة بعد زلزال 11 أيلول 2001 ، إلى جعل هذه القاعدة أساساً لعقيدتهم: "إذا تحرّكت أميركا تغيَّر العالم". فما الذي يمنع، حين تشعر أميركا القرن الحادي والعشرين، أن تهديداً ما لعالميتها، ينبغي القضاء عليه من دون سابق إنذار؟
إنها نظرية الاستباق في الحرب أو "الحرب الإستباقيّة" (Premptive). فعلى الرغم من أنَّ هذه النظرية أخذت متّسعاً من النقاش بين الخبراء الإستراتيجيين بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ، تبقى نظرية مستعادة بامتياز. فهي ليست جديدة في تاريخ الإستراتيجيات الأميركية. هناك محطات في التاريخ الحديث من القرن التاسع عشر، والقرن العشرين ولغاية اليوم، شهدنا فيها إطلاق شعارات مفادها العام: عندما تتحرك أميركا يتغيَّر العالم". ويبيِّن الخبراء في هذا الصدد، أن هذه الشعارات أو هذه الأطروحة وجدت حقولها التطبيقية بالفعل. ففي الحرب العالمية الأولى رأينا مبادئ وترتيبات جديدة، وفي الحرب العالمية الثانية أدخلت الولايات المتحدة الأميركية عنصراً جديداً إلى العالم، وهو العنصر النووي والحرب الشاملة "Global War" و "Total War". وقد تغيَّر العالم بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت أميركا المؤسسات من الأمم المتحدة في سان فرنسيسكو وصولاً إلى المؤسسات، المالية للسيطرة على أمور معينة، مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي World Bank)) التالي كل الأنظمة والمعاهدات لمزيد من السيطرة على العالم. وكانت مقاربة أميركا للعالم، تكتسب شكلاً معيناً ، بصرف النظر عن المقاربة الأوروبية.(20)
ثمة إذاً، تواصلية في العقل الإستراتيجي الأميركي على اختلاف أحقابه وتمرحله، وهي تواصلية تعدّ مبدأ التفوق والغلبة، سواء في حيِّز الأمن أساساً، أو في المجالات الاقتصادية والسياسية اساساً لها. والواقع أنه لا يمكن النظر إلى ما آلت إليه استراتيجية السيطرة المفتوحة على المجال العالمي بأسره، إلاَّ في إطار الفهم التاريخي لتطوّر العقل الإستراتيجي الأميركي بأحيازه المختلفة. ولئن كانت استراتيجية بناء النظام العالمي الجديد والسيادة عليه بمواصفات وشروط أميركية خاصة، هي السائدة بعد الحرب الباردة، فإنَّ منعطف الحادي عشر من أيلول/سبتمبر سيؤسِّس لهذه الإستراتيجية ويطلقها كغرابٍ ضار في فضاء العالم. وعلى ما يبيِّن ج.جون إكنبري الخبير الإستراتيجي الأميركي وأستاذ الجيوبوليتيك في جامعة جورجتان، فإنَّ ثمة استراتيجية كبرى جديدة ، أخذت تبدو ملامحها لأول مرة منذ فجر الحرب الباردة، وهي تقوم على كونها استجابة مباشرة للإرهاب، ولكنها تشمل أيضاً رؤية أوسع لكيفية استخدام الولايات المتحدة للقوة ولتنظيم النظام العالمي. وبحسب هذا النموذج (الباراديغم) الجديد، فإنَّ على أميركا أن تكون أقل التزاماً بشركائها وبالقواعد الدولية والمؤسسات، فيما هي تتقدَّم للقيام بدور أكثر إفرادية واستباقية في مهاجمة التهديدات الإرهابية ومواجهة الدول المارقة التي تسعى للحصول على أسلحة الدمار الشامل. فالولايات المتحدة ستستخدم قوتها العسكرية التي لا مثيل لها في إدارة النظام الكوني. ولهذه الإستراتيجية الكبرى الجديدة سبعة عناصر، فهي تبدأ بالتزام أساسي بالحفاظ على عالم أحادي القطب ليس للولايات المتحدة أي ندّ منافس فيه. ولا يمكن السماح لأي ائتلاف قوى لا يشمل الولايات المتحدة أن يهيمن فيه. ولقد جعل بوش في حزيران /يونيو 2002 من هذه النقطة اساساً للسياسة الأميركية الأمنية إذ قال في حفل التخريج في كلية وست بوينت العسكرية : إن أميركا تملك قوة عسكرية لا يمكن تحدّيها وهي تنوي أن تحافظ على ذلك ـ بحيث تجعل من سباقات التسلح المزعزعة للإستقرار في الحقب الماضية بلا معنى، وبما يحصر الخلافات بشؤون التبادل التجاري وقضايا السلم الأخرى. وبالتالي فإنَّ الولايات المتحدة لن تسعى لتحقيق الأمن من خلال الإستراتيجية الواقعية الأكثر تواضعاً والتي تقوم على العمل من داخل نظام كوني متوازن القوى، وهي لن تسعى لتحقيق استراتيجية ليبرالية تقوم معها المؤسسات والديمقراطية والأسواق المتكاملة بالتخفيف من أهمية سياسات القوة في شكل عام، بل إنَّ أميركا ستكون أقوى كثيراً من الدول الرئيسية الأخرى إلى حدّ ستختفي معه التنافسات الإستراتيجية والتنافس بين القوى العظمى، الأمر الذي سيكون لمصلحة الجميع وليس لمصلحة الولايات المتحدة فحسب.[21]
ولقد سبق لهذا الهدف أن ظهر في شكل مقلق في نهاية إدارة بوش "الوالد" حينما سرَّبت وزارة الدفاع، البنتاغون، مذكّرة كتبها آنذاك بول ولفوويتز وقال فيها إنه مع انهيار الاتحاد السوفياتي ، يتعيَّن على الولايات المتحدة أن تعمل على الحؤول دون ظهور منافسين في أوروبا وآسيا، إلاَّ أنَّ التطورات التي حصلت في التسعينات جعلت من هذا الهدف الإستراتيجي غير ذي صلة. فلقد نمت الولايات المتحدة بسرعة تفوق كثيراً القوى الرئيسة الأخرى وأبطأت من تخفيض إنفاقها العسكري وزادت من الإنفاق على التطوير التكنولوجي لقواتها. ولقد بات الهدف اليوم جعل هذه المزايا دائمة ـ كناية عن أمر واقع سيدفع الدول الأخرى إلى التخلي عن محاولة اللحاق بها. ولقد وصف بعض المفكرين هذه الإستراتيجية بــ "الإختراق" الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بالتحرّك بسرعة كبيرة لتحقيق أفضليات تكنولوجية (في الأتمتة واللايزر والأقمار الصناعية، والذخائر فائقة الدقة في الإصابة... الخ) بحيث لا يعود من الممكن لأي دولة أو إئتلاف من الدول، تحدّيها، سواء في زعامتها الكونية أو في دورها الحمائي أو المنقذ. إلى ذلك فهناك عنصر آخر يتمثَّل في تحليل جديد ودرامي للتهديدات الكونية وكيفية مهاجمتها. فالحقيقة الجديدة المروّعة تتمثل في أنه بات في وسع مجموعات صغيرة من الإرهابيين ـ وربما بمساعدة دول خارجة على القانون ـ أن تحصل قريباً على أسلحة دمار شامل نووية أو كيميائية أو بيولوجية. ولا يمكن، بحسب الإدارة الأميركية استرضاء هذه المجموعات أو ردعها، فلا بد من استئصالها. أما العنصر الثالث من عناصر هذه الاستراتيجية الجديدة فيقوم على أن مفهوم الردع العائد إلى حقبة الحرب الباردة قد عفا عليه الزمن. وبما أن الردع يعمل جنباً إلى جنب مع السيادة وتوازن القوى، فمع نهاية الردع تأخذ العناصر الأخرى للبناء الواقعي بالتداعي. إذ لم يعد التهديد اليوم قادماً من قوى عظمى أخرى يتم التعاطي معها من خلال القدرة على رد الضربة النووية، فليس لهذه المجموعات الإرهابية عنوان محدد ولا يمكن ردعهم لأنهم إما راغبون في الموت بسبب ما يؤمنون به أو قادرون على الهرب من الضربة الإنتقامية، وبالتالي فإنَّ الاستراتيجية الواقعية القديمة القائمة على بناء الصواريخ وغيرها من الأسلحة القادرة على تحمّل الضربة الأولى والقيام بضربة انتقامية تعاقب المهاجم لم تعد تتضمّن الأمن، والخيار الوحيد الباقي هو الهجوم. ويتعيَّن أن يكون استخدام القوة ، كما يحاجج أصحاب هذا الرأي، وقائياً بل وربما استباقياً ـ الهجوم على التهديدات المحتملة قبل أن تتحول إلى مشكلة كبيرة... وبنتيجة ذلك، فإنَّ العنصر الرابع من هذه الاستراتيجية الكبرى يتضمّن إعادة تحديد مفهوم السيادة. فبما أنه لا يمكن ردع هذه المجموعات الإرهابية، يتعيَّن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للتدخل في أيّ مكان وفي أيّ زمان لتدمير التهديد. فإذا كان الإرهابيون لا يحترمون الحدود، على الولايات المتحدة ألاَّ تحترمها بدورها. بل إنَّ البلاد التي تأوي الإرهابيين، سواء أكان ذلك لأنها توافقهم أو لأنها غير قادرة على تطبيق قوانينها، تتخلّى عن حقها في السيادة. لقد ألمح هاس إلى ذلك في مقال له نُشر مؤخراً في النيويوركر: "الذي ترونه في هذه الإدارة هو ظهور لمبدأ جديد أو جسم من الأفكار... حول ما يمكن أن تدعونه حدود السيادة. السيادة تستتبع التزامات معينة، ومنها عدم ذبح أبناء شعبك، ولكنها تشمل أيضاً عدم دعم الإرهاب بأيّ طريقة.[22]
فإذا فشلت دولة ما في الالتزام بذلك، فإنها تتخلىّ عن بعض المزايا الطبيعية التي تمنحها السيادة بما في ذلك الحق بأن تترك وشأنك في أرضك. وتكتسب الدول الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة حق التدخّل، وفي حالة الإرهاب فإنَّ ذلك قد يقود أيضاً إلى الدفاع الوقائي عن النفس ، وبالتالي فإنك تملك الحق في التدخل إذا كان لديك ما يجعلك تعتقد أن المسألة تكمن في متى تُهاجم وليس إذا كنت ستهاجم أم لا".[23]
والعنصر الخامس في هذه الاستراتيجية الكبرى الجديدة يتمثل في هذا التقليل العام من قيمة القواعد الدولية والمعاهدات والشراكات الأمنية. وهذه النقطة مرتبطة بطبيعة التهديدات الجديدة: فإن كانت المخاطر تزداد وهامش الخطأ في الحرب على الإرهاب ينخفض، فإنَّ المعاهدات والقواعد التي تحد وتضبط استخدام القوة ليست أكثر من إلهاءات مزعجة. فالمهمة الرئيسة تتمثل في القضاء على التهديد. لكنّ الاستراتيجية الجديدة تنهل أيضاً من نظرة عميقة تشكّك بقيمة المعاهدات الدولية أساساً. ويعود ذلك جزئياً إلى إيمان أميركي عميق بأنَّ على الولايات المتحدة ألاَّ تنغمس في عالم المؤسسات والقواعد المتعددة الطرف الفاسد والمقيَّد. وإذا كان الاعتقاد بأن سيادة الولايات المتحدة أمر مقدس سياسياً قد قاد البعض إلى تفضيل العزلة، إلاَّ أنَّ الرأي الأكثر نفوذاً ـ وخصوصاً بعد 11 أيلول /سبتمبر لا يدعو إلى انسحاب الولايات المتحدة من العالم، بل إلى العمل في هذا العالم وفق هواها. إنَّ معارضة إدارة بوش لعدد مذهل من المعاهدات والمؤسسات من بروتوكول كيوتو إلى المحكمة الجنائية الدولية ومؤتمر البيولوجية تظهر هذا التوجه الجديد. كذلك فإنَّ الولايات المتحدة لم توقّع معاهدة رسمية مع روسيا حول خفض الرؤوس النووية إلاَّ بعد إلحاح موسكو، إذ كان الرئيس بوش يفضِّل اتفاقاً (جنتلمان) حبيّاً.
سادساً، ترى الإستراتيجية الكبرى الجديدة أنه يتعيَّن على الولايات المتحدة أن تضطلع بدور مباشر وغير مقيد في الرد على التهديدات (...).
سابعاً وأخيراً فإنَّ الاستراتيجية الكبرى الجديدة تقيم وزناً أقل للإستقرار الدولي، إذ يسود في أوساط اصحاب وجهة النظر الإنفرادية رأي يمكن وصفه بالعاطفي يقوم على ضرورة كسر تقاليد الماضي. فسواء أكان الأمر متعلقاً بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية أم الممانعة في توقيع معاهدات رسمية لنزع السلاح، فإنَّ صنّاع القرار في الولايات المتحدة مقتنعون بأنه على الولايات المتحدة أن تتخطى التفكير السائد للحرب الباردة. ولقد لاحظ مسؤولو الإدارة بشيء من الرضا أن انسحاب أميركا من معاهدة الصواريخ لم يؤدِّ إلى سباق تسلّح كوني، ولكنه مهَّد الطريق أمام اتفاق تاريخي لتخفيض التسلّح بين الولايات المتحدة وروسيا. ويرون إلى هذه الخطوة كبرهان على أن تخطّي الباراديغم القديم للعلاقات بين القوى العظمى لن يؤّدي إلى هدم البيت الدولي. ففي وسع العالم أن يتحمّل مقاربات أمنية جديدة في راديكاليّتها. كما إنَّ في إمكانه أن يتأقلم مع الانفرادية الأميركية. بيد أنَّ الإستقرار ليس هدفاً في حدِّ ذاته. فقد تؤدي السياسة الصقورية الجديدة، نحو كوريا الشمالية على سبيل المثال، إلى زعزعة استقرار المنطقة، ولكن ربما كان ذلك هو الثمن الضروري لاقتلاع نظام شرير وخطر كنظام بيونغ بانغ.
وبحسب المفكرين النيو إمبرياليين ، فإنَّ الإستراتيجيات الكبرى الأقدم "من ليبرالية وواقعية" لم تعد نافعة. ذلك أنَّ الأمن الأميركي لن يضمنه، كما يظن أصحاب الاستراتيجية الواقعية، الحفاظ على الردع والعلاقات المستقرة بين الدول العظمى، ففي عالم من التهديدات غير المتناظرة، ليس ميزان القوة العالمي هو الذي يميل كفة الحرب أو السلام. كذلك فإنه ربما كان للإستراتيجيات الليبرالية المتعلّقة ببناء النظام على التجارة المفتوحة والمؤسسات الديمقراطية بعض التأثير البعيد المدى على الإرهاب. ولكنه لا يعالج التهديدات الفورية. فالعنف الكارثي المجنون بات على عتبة بيتنا ـ كما يقول الإمبرياليون الجدد ـ الأمر الذي يجعل من الجهود الرامية إلى تقوية قواعد المجتمع الدولي ومؤسساته غير ذات قيمة عملياً. فإذا تصورنا اسوأ ما يمكن تصوره والذي يقوم على "أننا لا نعرف ما لا نعرفه"، فإنَّ كل شيء آخر يصبح ثانوياً، سواء القواعد الدولية أو تقاليد الشراكة أو معايير الديمقراطية. إنها الحرب. وهي كما لاحظ كلاوزفيتز في عبارته الشهيرة: "الحرب هي شيء خطير جداً بحيث أن الأخطاء الناجمة عن المحبة والإنسانية هي أسوأ أنواع الأخطار".[24]
هذه هي أبرز معالم الدولة الأمنية العالمية، تلك التي توَّجها المحافظون الجدد بما عُرف بــ "عقيدة بوش". حيث سيكون العالم بأجمعه معها، رهينة قوة ضاربة تتحفز لتنقضّ على فرائسها المفترضة في كل لحظة.
القرصان عالي الذكـاء
مع دخول أميركا حقبة جورج دبليو بوش أخذت تتبلور الصورة الإمبراطورية ذات "الطابع الرسالي التوتاليتاري". لم يعد الأمر بالنسبة للفريق الحاكم مقصوراً على التبشير بدولة عالمية بات كل شأن من شؤون العالم شأناً يخصُّها، ويتصل اتصالاً عضوياً بأمنها ومصالحها الجيو ـ استراتيجية.
في نهاية الحرب الباردة، انبرى عدد من الإستراتيجيين إلى الجزم بأنه يوجد اليوم نظام عالمي، وتقوم الولايات المتحدة في هذا النظام بدور لا ينحصر في الممثل الأكبر، بل يمتد إلى دور المدبِّر. فبعد محو الخصم السوفياتي لم تعد وحدة أوروبا تعود عليهم بأيَّة منفعة، بل العكس، فإذا طاب لهم أن ينظروها بعين الرحمة ويستحسنوا تماسكها، وتالياً قوَّتها الاقتصادية، فإنَّهم لا يستطيعون التسامح بأن تصبح قوة عظمى جديدة يتقاسمون معها السلطة العالمية.[25]
بل أكثر من هذا، فقد تجاوزت الثقافة التوتاليتارية الأميركية الجديدة (بمعناها الإمبراطوري الممتدّ فوق السيادات القومية والوطنية) الأخلاق السياسية التقليدية. وهي تصرَّفت، تنظيراً وتطبيقاً، على النحو الذي يرى إلى تبرير سياسات التمدد والنفوذ بوصفه أمراً لا طائل منه. هذا ما صرَّح به هنري كيسينجر حين قال "ما دام جيل ما بعد الحرب الباردة من القادة الوطنيين يشعر بالحرج عند التصريح بمبدأ غير اعتذاري عن مصالح قومية مستنيرة، فإنَّه سيحقِّق شللاً تراكمياً وليس ارتقاءً أخلاقياً" ومرّة أخرى سيقول فرانسيس فوكوياما (منظِّر نهاية التاريخ في بداية التسعينات) كلاماً دالاًّ على هذه النقطة: " إنَّ البلد الذي يجعل من حقوق الإنسان عنصراً أساسياً في سياسته الخارجية يميل إلى الوعظ الأخلاقي عديم الجدوى في أحسن الأحوال، وإلى استخدام العنف المفرط بحثاً عن أهداف أخلاقية في أسوأ الأحوال.[26]
سوف يؤدي هذا التصدير النظري إلى استيلاد أنساق من أساليب السيطرة لا يكون فيها للقوانين والقيم العالمية المشتركة فعالية تذكر. بل على العكس فإنَّ مثل هذه القيم ستتحول إلى أساليب مجدية للسيطرة، مثلما حدث في جملة من عمليات غزو السيادات الوطنية بذريعة إحلال السلام وحقوق الإنسان وتعميم الديمقراطية.
لقد أعجبت الإيديولوجيا الأميركية منذ البداية بقصة القرصان الشهير مورغان، الذي سيمنحها فلسفة استثنائية للسيطرة على العالم. تقول هذه الفلسفة: إنَّ القرصان العادي هو الذي يُغِيرُ على السفن المسافرة، ويقتل ركابها الأبرياء وينهب حمولاتها من الأشياء والنقود. أمّا القرصان الذكي فإنَّه لا يُغِيرُ إلاَّ على سفن القراصنة الآخرين، ينتظرهم قرب مكامنهم عائدين محمَّلين بالغنائم مجهَدين من القتل والقتال، ثم ينقضُّ عليهم محقِّقاً جملة أهداف:
ـ أولاً يحصل على كنوز عدَّة سفن أغار عليها القرصان العادي. لكن القرصان الذكي يحصل عليها جاهزة بضربة واحدة.
ـ لا يرتكب بالقرصنة جريمة، لأنَّه نَهَبَ الذين سبقوا إلى النهب. وعليه فإنَّ ما قام به لم يكن جريمة وإنَّما عقاب عادل.
إنَّ القرصان الذكي بهذا الأسلوب يصنع لنفسه مكانة رهيبة ومهابة استثنائية.
معنى ذلك أنَّ الولايات المتحدة لا تشغل نفسها بالسيطرة على بلدان مفردة وإنَّما تأخذ الأقاليم بالحزمة وتبلع الموائد الإمبراطورية بكلِّ ما عليها.
هذه الثقافة السياسية الأميركية ستجد وقائعها منذ أكثر من مئة سنة، وهي تداوم على هذه السجية إلى الآن. هناك مثل على هذا: ففي العام 1898 ورد في خطاب عضو الكونغرس عن ولاية فرجينيا ألبرت بيفردج قوله: عليكم أن تتذكَّروا اليوم ما فعله آباؤنا. علينا أن ننصب خيمة الحرية أبعد في الغرب، وأبعد في الجنوب(...) علينا أن نقول لأعداء التوسُّع الأميركي إنَّ الحرية تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم نفسها، وأما الشعوب التي لا تستطيع، فإنَّ واجبنا المقدَّس أمام الله يدعونا لقيادتها إلى النموذج الأميركي في الحياة؛ لأنَّه نموذج الحق مع الشرف. فنحن لا نستطيع أن نتهرَّب من مسؤولية وضعتها علينا العناية الإلهية لإنقاذ الحرية والحضارة. ولذلك فإنَّ العَلَمَ الأميركي يجب أن يكون رمزاً لكلِّ الجنس البشري.
هذه الداروينية السياسية لم تغب يوماً عن المعتقد الإستراتيجي الأميركي. فقد وجدت لها محلاً في الزوايا السرية لكلِّ إدارة منذ البدايات الأولى للتأسيس عبر عمليات الإستيطان الدموي وحروب الإبادة الجماعية للسكان الأصليين.
كانت بداية الحلم الإمبراطوري الأميركي الذي خرج ليقوم بدور "آكل الإمبراطوريات" أواخر القرن التاسع عشر ـ تشتغل على البدء بالأقرب، أي: إمبراطوريات إسبانيا والبرتغال ـ فتلك قوى أصابها الوهن بعدما أفسدها الذهب المنهوب من كنوز قبائل وشعوب أميركا اللاتينية، ومع ذلك فهي لا تزال مصمِّمة على ادّعاء العظمة في جنوب ووسط نصف الكرة الغربي وتحسب نفسها سيدة ممتلكات تعتبرها لها، ولها وحدها حق الاكتشاف والفتح.
كانت الإغارة على ممتلكات أسبانيا والبرتغال مهمة سهلة إلى حد كبير، ولعلَّها فتحت شهية الإمبراطورية الجديدة وأكَّدت لها ـ مرة أخرى ـ صحة نظريتها في الإغارة على الإمبراطوريات السابقة للحصول على كل شيء ـ ومرة واحدة ـ وليس على مراحل أو على آجال، تتغيَّر خلالها الموازين.
ومع بداية القرن العشرين كانت الولايات المتحدة منهمكة تدرس أحوال إمبراطوريات أوروبا، سواء منها المتهالكة بطول السنين أو تلك المتماسكة وتصلّب عودُها وتعطي نفسها عمراً متجدِّداً بكلِّ الوسائل!
كان ذلك شاغل الولايات المتحدة الأميركية ـ وهي عارفة أنَّها تخالف به وصية الجنرال "جورج واشنطن"، كما أنها مدركة وهي تتابع مجرى الحوادث في أوروبا (بعد توحيد ألمانيا، وحرب السبعين، وسقوط دولة نابليون الثالث، ومشهد كوميونة باريس المؤذن بعصر من الثورات الاجتماعية)، أنَّ القارة القديمة مقبلة على حرب عالمية لإعادة توزيع المستعمرات وشعورها أنَّ القرصنة سانحة لها لكي تخرج إلى أعالي البحار.
وكان التحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة هو كيف يمكن إزاحة تلك الإمبراطوريات القديمة والاستيلاء على ممتلكاتها بتطبيق أسلوب الكابتن "مورغان" حتى وإن كانت تجربة الحظوظ في بحار بعيدة ضد إمبراطوريات ما زالت متعافية، ـ يعني أنَّ المهمة هذه المرة أصعب؛ فقد كانت إمبراطورية كل من أسبانيا والبرتغال موجودة في حوض المياه الأميركي، كما أنَّ كلتيّ الإمبراطوريتين نزل عليها الغروب فعلاً ـ وأمّا في حالة الإمبراطوريات الأوروبية فإنَّ عملية الاستيلاء سوف تتم على الشواطئ البعيدة، والشمس هناك بعد الظهر![27]
من ضمن مقالة له بعنوان "الإمبراطورية على الطريقة الأميركية" يُفرد محمد حسنين هيكل قسماً منها يعرض فيه للصيرورة الإجمالية للشكل الأميركي، وهو سيختار لهذا الغرض كتاب ستانلي كارنوف "أميركا تتجِّه إلى العولمة" (America Goes Global) . في هذا الكتاب يقوم كارنوف بتحليل آليات الفكر الأميركي في تلك اللحظة الإمبراطورية من أواخر القرن التاسع عشر ، ويعرض مجموعة ملاحظات تبيِّن السِّمات الإجمالية لحركة الدولة الصاعدة باتجاه السيطرة الإمبراطورية. وهذه الملاحظات كما وردت في مقالة هيكل هي التالية:
* إنَّ الولايات المتحدة نشأت ونمت ـ بطبائع الجغرافيا والتاريخ ـ دولة متحرِّكة لا تطيق الوقوف مكانها، وتعتقد أنَّ الوقوف لا يكون إلاَّ استسلاماً لحصار أو تمهيداً لتراجع، أي أنَّ غرائزها ودوافعها تحفزِّها دائماً لأن تتقدَّم وتتقدَّم ـ تنتشر وتنتشر.
* وحتى تلك اللحظة من الزمن ـ أواخر القرن التاسع عشر ـ كان التقدُّم والتوسُّع يجري على أساس ملء المساحة من خط الماء (الأطلسي) ـ إلى خط الماء (الباسيفيكي) ، وقد قبلت الولايات المتحدة ضريبة الحرب الأهلية لهذا السبب وحده ـ وهو ملء المساحة من الماء إلى الماء بدولة واحدة قوية.
* عملية الوصول من الماء إلى الماء تمَّت بسلاح النار في معظم الأحيان، وبسلاح الذهب في بعضها، لأنَّ عدداً من الولايات مثل لويزيانا وآلاسكا جرى شراؤها بالذهب (وكان استعمال الذهب في شراء الولايات أكثر عدلاً من استعمال قطع الزجاج الملوَّن ـ ملء قدح من الخرز ـ وهو بالضبط ما دفعه مهاجرون هولنديون في صفقة شراء جزيرة "مانهاتن" ـ قلب نيويوك).
* فور انتهاء الحرب الأهلية فإنَّ الولايات المتحدة مضت تتطلَّع عبر الماء على الناحيتين إلى آسيا وأوروبا، وتشعر بهدير محرِّكاتها الداخلية توجهها إلى الشواطئ البعيدة، بادّعاء "مهمة مقدَّسة" و"قدر محتوم" يكلِّفها بملء كل فراغ على الأرض، وتغطية أي غياب للبشر ـ والأميركيين بخاصة ـ عن موارد الثروة والغنى.
ثم يورد هيكل حادثة أوردها كارنوف في سياق قراءته تلك الحقبة من القرن التاسع عشر، وهي تكشف مدى استغراق الفكر السياسي الأميركي بأحلام التوسُّع، وشغفه بالقوة، وبالقدرة الحتمية على تحقيقها. وبدا واضحاً من تضمينات هيكل في تعليقه على حكايات صاحب الكتاب المشار إليه أن الميتافيزيقا السياسية التي سنشهد عليها في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين هي التي تحكم الجذر الفكري والإيديولوجي للسلوك الإستراتيجي الأميركي في تحقيق الإمبراطورية مترامية الأطراف. تقول الحكاية:
كان الرئيس "ويليام ماكينلي" الذي بدأت أثناء رئاسته أولى محاولات التوسُّع والانتشار الإمبراطوري الأميركي ـ شخصية غريبة، (ومن المدهش أنَّها تحمل وجوه شبه مع الرئيس الأميركي الحالي "جورج بوش" ـ فقد كان رجل أعمال وسياسياً لا يملك التجربة الناضجة ولا الخلفية الثقافية التي يعتمد عليها في سياسته وقراره، ولهذا كان جلّ اعتماده على مساعديه وعلى جماعات الضغط من أصحاب المصالح، وقد رُويت عنه ـ فيما يحكيه "ستانلي كارنوف" ـ في كتابه عن الإمبراطورية الأميركية (في آسيا) ـ نكتة شاعت تقول:
"سؤال ـ كيف يتشابه عقل الرئيس "ماكينلي" مع سريره"؟
وردّ السؤال:
"كلاهما لا بد أن يرتِّبه له أحد قبل أن يستعمله !".
ثم يُورد "ستانلي كارنوف" في كتابه (صفحة 128) مشاهد تبدو ـ كما يعلِّق هيكل ـ وكأنَّها تجري اليوم (سنة 2003) في البيت الأبيض ـ وكلاماً يصحّ أن يقوله الساكن الحالي لهذا البيت الأبيض (الذي تتولّى مستشارته للأمن القومي السيدة "كونداليزا رايس" مهمة ترتيب عقله كل يوم قبل أن يستعمله، تاركة ترتيب سريره لغيرها!).
ويكتب "كارنوف":
"كانت المناقشات في أميركا محتدمة حول ما ينبغي عمله مع البلدان التي احتلتها الأساطيل الأميركية في الباسيفيك، وكانت فكرة "الإمبراطورية" تجربة مستجدة على الولايات المتحدة، وكان على الرئيس "ماكينلي" أن يفصل في الأمر بقرار".
وفي أيلول/ سبتمبر 1898 استقبل الرئيس وفداً من قساوسة جمعية الكنائس التبشيرية، الذين فوجئوا به بعد أن انتهت جلسته معهم يقول لهم:
"عودوا إلى مقاعدكم أيها السادة لأنِّي أريد أن اقصّ عليكم نبأ وحي سماوي ألهمني (Inspiration of divine guidance).
أريد أن أقول لكم إنني منذ أيام لم أنم الليل بسبب التفكير في ما عسى أن نصنعه بتلك الجزر البعيدة (يقصد الفليبين بالذات) ـ ولم تكن لديَّ أدنى فكرة عمّا يصح عمله، ورُحت أذرع غرفة نومي ذهاباً وجيئة أدعو الله أن يلهمني الصواب، ثم وجدت اليقين يحلُّ في قلبي والضوء يسطع على طريقي.
إنَّ هذه الجزر جاءتنا من السماء، فنحن لم نطلبها ولكنَّها وصلت إلى أيدينا منَّة من خالقنا ولا يصحّ أن نردّها، وحتى إذا حاولنا ردَّها فلن نعرف لمن ؟ ـ ولا كيف ؟[28]
"المتكافئ التوراتي" لأميركا
هذا النحو القَدَري من الإعتقاد السياسي للأميركيين الأوائل، لم يكن حالة عارضة في الثقافة المؤسِّسة للولايات المتحدة. كانت القَدَرية في أساس النشأة، حيث اعتقد المهاجرون إلى الأرض المكتشفة في ما وراء البحار أنَّهم آتون إلى أرض الوعد الإلهي ليقيموا عليها دولتهم الفاضلة. أمّا السؤال عن الحجَّة التي حملت الرئيس ماكينلي على القول إنَّ جزر الفليبين البعيدة هبطت عليه من السماء، فإنَّما يجد جوابه في عقيدة الاستيطان نفسها، وهي عقيدة توراتية خالصة تفصح عنها مكنونات العهد القديم والتأويلات التي أسقطها عليه فقهاء المستعمرين الجدد.
يبيِّن لي فريدمان في كتابه "حجّاج في العالم الجديد" أنَّه من اليوم الأول لوصول المستعمرين الإنكليز إلى العالم الجديد، وهم "يريدون أن ينشئوا في أميركا دولة ثيوقراطية تعيد سيرة اليهود التاريخيين. فالخطباء والوعّاظ استمدّوا نصوص خطبهم من العهد القديم، أما الآباء فقد استعاروا منه أسماء أولادهم. لم تكن العبرية لغة ثانوية بل كانت عمود ثقافة المثقفين والمتعلِّمين المتدينين وغير المتدينين. وكان تاريخ اليهود في العهد القديم قراءتهم اليومية، بل لربَّما كانوا يعرفونه أكثر ممّا يعرفون تاريخ أي شعب". ينتسب هذا التوصيف إلى المحاولات المعرفية التي دأب عليها عدد من المؤرِّخين والمفكِّرين الأميركيين على امتداد العقود المنصرمة.
ليس من شك في أنَّ بعض هذه المحاولات آل إلى الإضاءة على ما يمكن وصفه بالبعد الميتافيزيقي للثقافة المؤسِّسة لأميركا. وضمن هذا السياق تلقي دراسة الباحث في الشؤون الأميركية د.منير العكش الضوء على المعنى الإسرائيلي للنشوء الأميركي.
إنَّه يبيِّن أنَّ أميركا ليست إلاَّ الفهم البريطاني التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية، وأنَّ كل تفصيل من تفاصيل تاريخ الاستعمار البريطاني لشمال أميركا حاول أن يجد جذوره في أدبيات تلك "الإسرائيل"، ويتقمَّص وقائعها وأبطالها وابعادها الدينية والاجتماعية والسياسية، ويتبنَّى عقائدها في "الاختيار الإلهي" وعبادة الذات وحتى تملُّك أرض الآخرين وحياتهم. لقد ظنوا أنفسهم، بل سمّوا أنفسهم "إسرائيليين" و"عبرانيين" و"يهوداً"، وأطلقوا على العالم الجديد اسم "أرض كنعان"، "إسرائيل الجديدة"، واستعاروا كل المبرِّرات الأخلاقية لإبادة الهنود (الكنعانيين) واجتياح بلادهم من مخيّلات العبرانيين التاريخية.
ليست "العلاقة بالمعنى" بين إسرائيل وأميركا مجرَّد تركيب ذهني أخذ المشتغلون بظواهره وألوانه، وأعراض التشابه في النشأتين، وإنَّما هي علاقة تأسَّست على اعتقادات المهاجرين بأنَّهم بلغوا أرض الميعاد والخلاص. تماماً كالاعتقاد اليهودي بفلسطين. هكذا تذهب الدراسة، إلى أنَّ فكرة أميركا هي "استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة" عبر الاجتياح المسلَّح وبمبررات "غير طبيعية"، وهذا محور فكرة إسرائيل التاريخية. ذلك أنَّ عملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة من شخصيات أبطالها (الإسرائيليون ، الشعب المختار، العرق المتفوِّق) وضحاياها (الكنعانيون، الملعونون، المتوحشون، البرابرة) ومسرحها (أرض كنعان ، إسرائيل) ومبرراتها (الحق السماوي أو الحضاري) وأهدافها (الإستيلاء على أرض الآخرين واقتلاعهم جسدياً وثقافياً) ـ من فكرة إسرائيل التاريخية.
هذا الإعتقاد بأنَّ هناك قدراً خاصاً بأميركا، وأنَّ الأميركيين هم الإسرائيليون الجدد و"الشعب المختار" الجديد، يضرب جذوراً عميقة في الذاكرة الأميركية، وما يزال صداه يتردَّد في اللغة العلمانية الحديثة أو ما صار يعرف بالدين المدني؛ إنَّه اعتقاد يتجلَّى لعينيك في معظم المناسبات الوطنية والدينية وفي كلِّ خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأميركيون، ومفاده أنَّ "إرادة الله، والقدر، وحتمية التاريخ...الخ" اختارت الأمَّة الأميركية (الأنكلوساكسونية المتفوِّقة) وأعطتها دور المخلِّص (الذي يعني حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان المجاهل)[29]
خرافـة "الإختيار"!
تذهب الدراسة إلى بيان الجذر الفلسفي الديني للنشأة الأميركية ، لترى أنَّ هناك اعتقاداً راسخاً بخرافة الاختيار الإلهي للحضور الأميركي في العالم.
والأمر الأشدّ إثارة للمفارقة هو أنَّ فكرة "الاختيار الإلهي" طالما كانت محرِّكاً لولبياً في التاريخ الأميركي، بل هي الأساس الميتافيزيقي لمعظم الممارسات العنصرية في التاريخ القديم والحديث. ولشد ما أشعلت النيران في الحماسات والمشاعر والبواريد، وفي القرى والمدن، والجثث في أكثر من أربعين دولة اجتاحتها أو قصفتها الولايات المتحدة، وعزَّزت القناعة بأنَّ لأميركا قدراً أعلى من كل أمم الأرض، وأنَّه مهما حلَّ بإسرائيل فوق أرض فلسطين فإنَّ إسرائيل الأميركية تبقى القلعة المحصّنة لإعادة بنائها ولقيمها ومبادئها وأخلاقها. إنَّ يهود الروح الذين يمثّلهم الأنكلوسكسون هم الذين يحملون رسالة "إسرائيل" التي تخلَّى عنها اليوم يهود اللحم والدّم، وهم الذين أعطاهم الله العهد والوعد، وهم الذين ورثوا كل ما أعطاه الله تاريخياً ليهود اللحم والدّم (ومعظمهم من ألدّ أعداء الساميّة). لقد اختار الله يهود اللحم والدّم مؤقَّتاً، وبشروط أخلفوها، ولكنَّه اختار الأمة الأميركية (الأنكلوسكسون) مؤبَّداً، لأنَّها تستأهل الاختيار، ولأنَّه وهبها كل ما يلزمها من قوة وثروة لأن تكون "شعب الله" و"فوق كل الشعوب"، إلى الأبد.
وتلاحظ الدراسة أنَّه منذ الفترة الإستعمارية الأولى كان أطفال القديسين يتعلمون أنَّ مسيرة التاريخ التي ترعاها يد الله البريطاني ونعمته أعطتهم دوراً خلاصياً. وكانت هذه الافتراضات تقترن بإيمان قيامي مزدوج الهدف: تجميع يهود العالم في فلسطين للتعجيل بمجيء المسيح، وتدمير قوى الشيطان التي كانت تتمثَّل يومئذٍ بالعثمانيين والكاثوليك والهنود والكنعانيين، وبالطبع فقد وجد بعض السياسيين الإنكليز في استعمار العالم الجديد فرصة لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في وطنهم. وبذلك تأكَّد لهم أنَّ خروجهم من جزيرتهم يضاهي الخروج الأسطوري للعبرانيين من أرض مصر ، ولم يساورهم الشك في أخلاقية استعمارهم وحقهم في إبادة الهنود ومقارنة ذلك كلّه باجتياح العبرانيين لأرض كنعان وتأييد السماء لإبادة أهلها.
بالإضافة إلى ذلك فإنَّ أدب المستعمرين الأوائل كلّه يؤكِّد هذه القدرية التاريخية التي نالت ذروة إبداعها في سيرة وموعظة جون ونثروب، أول حاكم لمستعمرة ماساشوستس. أمّا السيرة فوضع لها مؤلِّفها كوتون ماذر عنوان: "نحميا الأميركي" تأسِّياً بنحميا الأسطوري الذي قاد الإسرائيليين في "عودتهم" من سبي بابل إلى أرضهم الموعودة، ونظَّم الكثير من موجات الهجرة من بابل إلى يهودا، وأشرف على انتشال أورشليم من أنقاضها وأعاد بناءها مدينةً على جبل. وكانت الأجيال اللاّحقة قد صنَّفت هذا الحاكم مع يعقوب وموسى وداود، غير أنَّ اختيار نحميا ، بطل إحياء إسرائيل، هو الذي طغى في النهاية. والواقع أنَّ كل سيرة نحميا الأميركي هي مثال على إصرار المستعمرين الإنكليز ـ إنسان عين الله كما يصفهم ماذرـ على التماهي بين تجربتهم في العالم الجديد وما يرويه العهد القديم عن تجربة العبرانيين في العالم القديم، أو بتعبير صموئيل فيشر في "شهادة الحقيقة": "لتكن إسرائيل... المرآة التي نرى وجوهنا فيها". وأمّا الموعظة فهي التي ألقاها ونثروب في الحجاج على متن السفينة الأسطورية أربيلا، وأكَّد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوَه ، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل أرض كنعان الجديدة: "إنَّنا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكَّن العشرة منّا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأُبّهته، وعندما يتوجَّب علينا أن نجعل "نيو إنغلاند" مدينة على جبل ]وهذا التعبير رمز لأورشليم (ولصهيون أيضاً)، ولا يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا[. وقد درج آخر أربعة رؤساء على استخدام هذا الرمز في مناسبات مختلفة وهم ريغان وبوش الأب وكلينتون وبوش الإبن".[30]
ولم يكن الآباء المؤسِّسون للدولة الأميركية مثل جفرسون ، وآدامس، وفرانكلين، وباين ـ أصحاب الإتجاه العقلاني والمذهب الطبيعي ـ بأقل حماسة للمعنى الإسرائيلي للأمّة الأميركية من الحجّاج والقدِّيسين وصموئيل لانغدون. ومعروف أنَّ فرانكلين وجفرسون كليهما أصرَّ على صورة "الخروج الإسرائيلي" من مصر إلى كنعان كمثل أعلى للنضال الأميركي من أجل الحرية.
هذه الأخلاق التي ضربت جذورها في عقدة الاختيار وكراهية الكنعانيين، ورافقت بناء أميركا لحظة لحظة وجبهة بعد جبهة، هي التي جعلت "الأميركيين يعتقدون اليوم، كما كان أجدادهم المستعمرون الأوائل يعتقدون قبلهم، بأنَّ لهم الحق المطلق في أن يقتحموا أي غربس في أي مكان من الأرض. إنَّ ميتافيزياء "اقتحام الغرب" التي نسفت نظام البوصلة وأعدَّت العصر الذهبي لنظرية البريطاني مالتوس، جعلت الغرب الأميركي في كلِّ الجهات وفي كلِّ الأرحام. إنَّه "الغرب" اللاّنهائي، اللاّمكان، وإنَّه كل مكان. لكن الأهم من هذا إنَّ هؤلاء "الآباء" لم يكتفوا بحمل العقيدة التوراتية على محمل التبشير وحسب، وذلك على أهمية هذا الجانب في توفير المناخ السايكوسوسيولوجي والروحي للمهاجرين. فلقد انبرت النخب المؤسِّسة إلى بثّ الروح التوراتية في الدستور الأميركي. واللاّفت للإهتمام هنا أنَّ وضع الدستور قد شجَّع على توثيق وتثبيت المعنى الإسرائيلي لأميركا كما كتب رئيس جامعة هارفر صموئيل لانغدون Samuel Langdon في رائعته "جمهورية الإسرائيليين: نبراس للولايات المتحدة". هذه "الرائعة" التي هي في الأصل خطبة ألقاها في المحكمة العليا ـ سوف لن يجد قارئها لحظة شك في أنَّه يقرأ مقاطع من سفر الخروج أو التثنية. بل إنَّ لانغدون فعلاً يفتتح كلامه عن ولادة الدستور بهذا المقطع من سفر التثنية: "لقد علّمتكم فرائض واحكاماً كما أمرني الرَّب إلهي لكي تعملوا بها في الأرض التي أنتم داخلون إليها لتتملّكوها. فاحفظوا واعملوا، فتلك هي حكمتكم وفطنتكم في عيون الشعوب الذين سيسمعون عن هذه الفرائض ويقولون: ما أعظم هذا الشعب وما أحكمه وأفطنه!...".
الواقع ـ كما يلاحظ صاحب كتاب "أميركا والإبادات الجماعية" إنَّ كل هذه الرائعة إنَّما هي شرح وتعليق وقياسات تمثيلية بين شريعة موسى والدستور الأميركي، وبين الإسرائيليين والأمة الإسرائيلية. فالدستور مناسبة للتأكيد على وجه الشبه بين ما نزل على موسى من ""ألواح" وبين ما نزل على قلب واضعي الدستور. وهي مناسبة للتذكير بأنَّ إسرائيل القديمة والجديدة أمَّة مختارة، باركها الله قديماً بشريعة ليس لها مثيل، وجعلها "فوق كل الشعوب" نبراساً للعالم عبر كل العصور، ثم أكرمها حديثاً بدستور ليس له مثيل وجعلها "فوق كل الشعوب" مثالاً يُحتذى عبر كل العصور. فإذا تعلَّم الناس منهم (طريقتهم في الحضارة) رفعوا من شأنهم، وإذا استكبروا وأبوا جرّوا على أنفسهم الدمار والخراب (والأضرار الهامشية) (...)
سوف يمضي لانغدون في المقايسة إلى الحدّ الذي يرى فيه أنَّ تأسيس مجلس الشيوخ ليس إلاَّ استمراراً لما فعله موسى عندما اشتكى إلى يهوه أنَّه لا يطيق الحكم وحيداً، فأمره باختيار سبعين رجلاً من الحكماء والرتباء. ثم لم يجد لانغدون حرجاً من القول بأنَّ حكومة موسى كانت "جمهورية" وقائمة على المبادئ الجمهورية، وإنَّ قبائل إسرائيل كانت تحكمها حكومات محلية لامركزية لا تختلف عن الحكومة المحلية للولايات المتحدة.[31]
الفيزياء الأميركية المقدَّسة
وفقاً للإيديولوجيا المؤسِّسة للسلوك الأميركي، سوف لن يكون أمراً مفارقاً، أن يُرى إلى إسرائيل اليوم، كفيزياء أميركية مقدَّسة. ولئن كان المعنى الإسرائيلي لأميركا داخلاً في التاريخ السياسي الممتد منذ المهاجرين الأوائل قبل أكثر من ثلاثة قرون، فهو يرقى إلى مراتبه القصوى لدى المحافظين الجدد في مستهل القرن الحادي والعشرين.
سوف يعلن أميركيون كثر، ومن بينهم المحرر السابق في صحيفة "وول ستريت جورنال"، "ماكس بوت" أنَّ العلاقة الحميمة مع إسرائيل تبقى العقيدة الأساسية للمحافظين الجدد، معتبراً أنَّ استراتيجية الأمن القومي لدى الرئيس جورج دبليو بوش تبدو وكأنها جاءت مباشرة من صفحات الـ Commentary توراة المحافظين الجدد.
لكن ستانلي هوفمان الأستاذ في جامعة هارفرد والكاتب في "نيوريبابليك" يمضي إلى الكلام عن أربعة مراكز قوة كلها تدعو إلى الحرب واستعمال القوة ضد من لا يوافق العقيدة السياسية والأمنية للولايات المتحدة. ويشير إلى أنَّ هؤلاء وخصوصاً أولئك الذين يتحلقون حول الرئيس وأبرزهم ريتشارد بيرل وبول وولفووتيز وكونداليزا رايس ورونالد رامسفيلد وديك تشيني وسواهم، ينظرون إلى السياسة الخارجية عبر عدسة مهيمنة واحدة : هل الأمر مناسب لإسرائيل أم لا؟ ومنذ نشأة إسرائيل في العام 1948 لم يكن لأصحاب هذا التفكير أن يشكِّلوا غالبية طاغية في الخارجية، ولكنهم اليوم في أفضل الأوضاع في البنتاغون عبر اشخاص مثل وولفووتيز وبيرل ودوغلاس فايث.[32]
من هم هؤلاء "المحافظون الجدد" الذين بلغوا السلطة العليا في الولايات المتحدة ليبدأوا بإنجاز تلك المطابقة النادرة والاستثنائية بين أميركا وإسرائيل بوصفها معنى واحداً وجوهراً واحداً ؟
يبيِّن الكاتب الأميركي باتريك بوكانان أنَّ الجيل الأول منهم ضمَّ الليبراليين السابقين، بالإضافة إلى الاشتراكيين والتروتسكيين، وكذلك المجموعات الآتية من ثورة ماكغوفرن عبر نهاية مرحلة المحافظين، وانتقلت بعد مسار طويل إلى السلطة مع مجيء رونالد ريغان إلى البيت الأبيض في العام .1980
وفي هذا الموضوع سبق لكيفن فيلبس أن عُرِّف بــ "المحافظ الجديد" آنذاك وبأنَّه "محرر في مجلة أكثر مما هو عامل بناء". أما اليوم فيمكن التعريف به بأنه من الأعضاء المقيمين في مؤسسات السياسة العامة مثل "مؤسسة المشاريع الأميركية" (AE) أو إحدى توابعها مثل "مركز سياسة الأمن"، أو "المؤسسة اليهودية لشؤون الأمن القومي" (JINSA). إنَّه باختصار من الأشخاص الذين يعملون عن كثب مع مجموعات وضع الأفكار والخطط.
لم يأتِ أحد، تقريباً، من هؤلاء من عالم الأعمال أو القوات المسلحة، وبعضهم القليل من أعضاء حملة "غولدوتر". وهم يستشهدون عادة بأبطال من أمثال ودرو ولسون وهاري ترومن ومارتن لوثر كينغ، فضلاً عن الشيوخ الديمقراطيين مثل هنري سكوب جاكسون وبات موينيهان وغيرهما. وهم جميعاً من أنصار سياسة التدخّل في شؤون الدول الأخرى، وينظرون إلى عامل دعم إسرائيل على أنه عنصر بالغ الأهمية. ومن نجومهم في هذا المجال جان كيكباتريك، بيل بينيت، ما يكل نوفاك وجايمس.ك. ولسون.
أما منشورات المحافظين الجدد فتشمل الــ "ويكلي ستاندرد"، والآنف ذكرها "كومنتاري"، والــ "نيويورك ريبابليك"، و"ناشونال ريفيو"، وكذلك صفحة المحرر في "وول ستريت جورنال". وهي على قلّة عددها تبقى واسعة النفوذ عبر سيطرتها على مؤسسات المحافظين ومجلاتهم. فضلاً عن قوة الارتباط بالنقابات الصحافية ومراكز القوى.
المهم في الأمر لدى هؤلاء هو أنهم يجاهرون بفلسفتهم التوراتية وبضرورة صون "المقدس الإسرائيلي" أياً تكن تبعات التمرين على هذه الفلسفة. ولسوف يمضي عدد من رموز التيار الجديد والمحافظين إلى وضع إسرائيل في مقام يتجاوز كونها "فيزياء سياسية أمنية ينبغي صون حياضها المقدس". بل إنَّ بعض رؤى هذه الرموز يبلغ درجة لافتة في شغفه بالكينونة الإسرائيلية إلى حد جعل الحروب مفتوحة وممتدة على العالمين العربي والإسلامي، وخصوصاً على البلاد المحيطة بها. ولو شئنا أن نعطي توصيفاً لهذا الشغف لقلنا أنَّ أصحاب هذه الرؤية المؤثرة والحاسمة في السياسات الأميركية العليا، أرادوا لإسرائيل أن تؤلِّف نقطة جيو ـ استراتيجية شديدة الحساسية في الدائرة الكبرى للأمن القومي الأميركي. وثمة من الأمثلة الدالَّة على هذه الرؤية الكثير. ومن الشواهد المتأخرة أنه في العاشر من تموز /يوليو 2002 بادر ريتشارد بيرل الذي استقال من منصبه المهم في وزارة الدفاع خلال الحرب على العراق، إلى دعوة أحد دعاة المعنى الإسرائيلي لأميركا المدعو لوران مورافيك لإلقاء محاضرة أمام "مجلس سياسة الدفاع" أثارت يومها روع هنري كيسينجر (تصوَّروا!).. حين عمد المحاضر إلى نعت السعودية بأنها جوهر الشر والمحرك الأول له، وأكثر الأعداء خطراً..
واعتبر مورافيك أنَّ على واشنطن توجيه إنذار للسعودية بموجب "محاكمة الضالعين في الإرهاب أو عزلهم، بمن فيهم رجال المخابرات السعوديين"، مع إنهاء كل الحملات ضد إسرائيل، وإلاَّ فإننا سنغزو بلادكم ونصادر حقول نفطكم ونحتلّ مكّة.
وفي ختام محاضرته قدَّم مورافيك تصوّره لــ "الإستراتيجية الكبرى في الشرق الأوسط". وجاءت حصيلة مطالعته العصماء بهذه المعادلة: العراق محور تكتيكي، والسعودية محور استراتيجي، ومصر هي الجائزة. ولكن التسريبات عن هذا التقرير لم تشر إلى أنَّ أيّاً من الحاضرين طرح السؤال عن ردَّة فعل المسلمين إذا دخلت الجيوش الأميركية إلى الأراضي المقدَّسة.
ما يريده هؤلاء المحافظون الجدد ـ على ما يلاحظ باتريك بوكانان في كثير من المرارة ـ هو تجنيد الدم الأميركي لجعل العالم أكثر أماناً بالنسبة لإسرائيل. إنَّهم يريدون فرض سلام السيف على المسلمين ، وأن يموت الجنود الأميركيون أثناء ذلك إذا لزم الأمر.
محرِّر الـ "واشنطن تايمز" أرنولد بوركغريف وصف ذلك بأنَّه "قانون بوش ـ شارون .. حيث ليكوديّو واشنطن يتولّون سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ أن أقسم بوش يمين الولاء في الرئاسة الأميركية".
المحافظون الجدد يريدون إمبراطورية أميركية، والشّارونيون يريدون السيطرة على الشرق الأوسط ، والمشروعان يتلاقيان بدقَّة. وعلى الرغم من إصرار المحافظين الجدد على أن الـ11 من أيلول أطلق شرارة الحرب على العراق وأنصار الإسلام، فإنَّ جذور هذه الحرب وخططها تعود إلى ما قبل ذلك بكثير.[33]
حمايـة المملكـة
في العام 1996 سيخطو التيار المتصهين في الفكر السياسي الأميركي خطوة استثنائية. فقد أعدّت مؤسسة الدراسات الإستراتيجية والسياسية المتقدمة الأميركية تقريراً بعنوان: "استراتيجيا جديدة لإسرائيل في العام 2000". وتنبثق الأفكار الأساسية للتقرير من نقاش شارك فيه صانعو رأي بارزون بمن فيهم ريتشارد بيرل وجايمس كولبرت وتشارلز فيربانكس ودوغلاس فايث وروبرت لوينبرغ ودايفيد وورمسر وغيرهم. المهم أنَّ المهندس الأساسي للتقرير هو ريتشارد بيرل، مساعد السيناتور سكوب جونسون في ذلك الوقت، علماً أنَّ هذا الأخير كان في العام 1970 خضع لاستجواب حول تسريب أشرطة تحمل معلومات سرية إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن. وفي العام 1974 كتب ستيفن د.اسحق في "السياسات اليهودية والأميركية" أنَّ "بيرل وموريس زميتاي يقودان جيشاً صغيراً من أنصار السامية في كابيتول هيل، ومهمتهم توظيف القوى اليهودية وتوجيهها لتحقيق المصالح اليهودية". وفي العام 1983 قالت الـ "نيويورك تايمز" إنَّ بيرل نال مبلغاً كبيراً من مصنع سلاح إسرائيلي.
وتحت عنوان "إنطلاقة نظيفة: إستراتيجية جديدة لتأمين المملكة" قُدِّم التقرير المشار إليه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو. وفيما يحثّ هؤلاء "نتنياهو" على دفن اتفاقيات أوسلو التي كان أنجزها زعيم "العمل" الراحل إسحق رابين، وذلك بهدف اعتماد استراتيجية جديدة أكثر شراسة: "تستطيع إسرائيل تشكيل محيطها الإستراتيجي، بالتعاون مع تركيا والأردن ، وذلك عبر إضعاف سوريا واحتوائها، أو حتى دحرها. ويمكن تركيز الجهد على إطاحة صدام حسين في العراق، وهو هدف استراتيجي بالنسبة لإسرائيل ـ وذلك من أجل إحباط الطموح السوري في المنطقة. ومؤخّراً تحدّى الأردن الطموح السوري عبر طرحه عودة العرش الهاشمي إلى العراق".
في استراتيجية بيرل ورفاقه تبقى سوريا هي العدو بالنسبة لإسرائيل، ولكن طريق دمشق تمرّ في بغداد. وإذا كانت الخطة تشجع إسرائيل على اعتماد "مبدأ الاستباق"، فإنَّ المبدأ عينه بات الآن مفروضاً على الولايات المتحدة بواسطة المجموعة عينها. وفي العام 1997 قال بيرل في ورقة وضعها تحت عنوان "استراتيجية من أجل إسرائيل" إنَّ على تل أبيب إعادة احتلال "المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية.. حتى لو جاء الثمن بالدم مرتفعاً".
من جانبه وضع وورمسر خطط حرب مشتركة لإسرائيل والولايات المتحدة "لتوجيه ضربة حاسمة إلى مراكز الأصولية في الشرق الأوسط. ويجب على إسرائيل والولايات المتحدة التوسُّع في الضربة بما يتجاوز مجرد نزع السلاح إلى القضاء الكلّي على مراكز الأصولية في أنظمة دمشق وبغداد وطرابلس وطهران وغزة. وسيكون من شأن ذلك تكوين قناعة شاملة بأنَّ محاربة الولايات المتحدة أو إسرائيل هو انتحار". وهو دعا البلدين إلى الانتباه للأزمات معتبراً أنَّها "قد تكون فرصاً". وقد نشر وورمسر خططه المذكورة في أول كانون الثاني من العام 2001 ، أي قبل تسعة أشهر من الـ11 من أيلول.
وكان للكاتب مايكل ليند أن يتحدث عن عصبة بيرل، فايث وورمسر بقوله: " إنَّ اليمين الصهيوني الذي ينتمي إليه بيرل وفايث وعلى الرغم من قلَّته العددية ، فإنَّه يتمتع بنفوذ كبير في دوائر صنع القرار مع الجمهوريين. إنها ظاهرة تعود إلى السبعينات والثمانينينات حين عمد عدد من المفكِّرين اليهود الديمقراطيين إلى الالتحاق بتحالف ريغان. وإذا كان العديد من هؤلاء الصقور يتحدثون علناً عن حملات صليبية من أجل الديمقراطية، فإنَّ الهمّ الأساسي لدى عدد من المحافظين الجدد هو السلطة وسمعة إسرائيل".[34]
وعلى الرغم من غلبة هذا التيار وسيادته على مركز القرار في الولايات المتحدة، فثمة من الخبراء الأميركيين من يطلق صرخته من سوء العاقبة المنتظرة بسبب من العمى الإيديولوجي الذي يسيطر على السياسات الأميركية في الشرق الأوسط والعالم. دعونا نقرأ أخيراً ما ختم به باتريك بوكانان مقالته المستفيضة حول الوقائع الدراماتيكية التي جعلت الإدارة الأميركية في عهد بوش الإبن تؤول من آخرها إلى الزاوية اليهودية الحادة: "إنَّ الرئيس بوش تحت الإنذار: فإذا مارس الضغط على إسرائيل لمبادلة الأرض بالسلام، وهي معادلة أوسلو التي وضعها أبوه واسحق رابين، فسوف يُتَّهم بمعاداة السامية، كما كانت حال أبيه، كما باتّباع أسلوب ميونيخ، وذلك من قِبَل الإسرائيليين ومعهم المحافظون الجدد الموجودون داخل خيمته".
وإذا لم يتخلَّ بوش عن شارون فلن يكون هناك سلام. ومن دون سلام في الشرق الأوسط لن نحصل على أمننا أبداً لأنَّ الإرهاب لن ينتهي. يضيف: "إنَّ أيّ ديبلوماسي أو صحافي يزور الشرق الأوسط سوف يربط فشل أميركا في تطبيق السياسة المعتدلة بفشلها في لجم شارون، وفشلنا في إدانة استخدام إسرائيل العنف المفرط، وتآمرنا الخلقي مع إسرائيل في سلب أراضي الفلسطينيين وحرمانهم حقهم في تقرير المصير، الأمر الذي سيكون من شأنه تعزيز العداء للأميركيين في العالم الإسلامي الذي ينمو فيه الإرهاب والإرهابيون.
دعونا نستنتج ونستخلص يقول بوكانان: الإسرائيليون أصدقاء أميركا ولهم الحق في السلام والحدود الآمنة، وعلينا مساعدتهم في تحقيق ذلك. نحن كأمّة لدينا التزام خلقي دَعَمَهُ أكثر من ستة رؤساء ويدعمه الأميركيون، وهو عدم ترك هذا الشعب، الذي طالما عانى الكثير، يتعرض لرؤية بلاده تُدمَّر، وسوف نفي بالتزامنا.
لكن المصالح الإسرائيلية والأميركية ـ حسب رؤية بوكانان النقدية ـ ليست شيئاً واحداً، فقد خدعت إسرائيل أميركا مرَّات عديدة على امتداد نصف قرن، أبرزها ما قام به عملاء الموساد في الخمسينات حين فجّروا منشآت أميركية لجعل الأمر يبدو من فعل المصريين، ومنها في مرحلة متأخرة عندما كُلِّف جوناثان بولارد بسرقة أسرارنا النووية.
ثم يخلص بوكانان إلى القول إنَّه على الرغم من أننا كررنا مراراً أننا نقدِّر الكثير مما حققه هذا الرئيس فإنه لن يستحق إعادة انتخابه إذا لم يتخلَّص من عبء المحافظين الجدد وبرنامجهم المتضمن لحروب لا تنتهي على العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي لا يخدم إلاَّ مصالح دولة هي غير الدولة التي كان انتُخب للحفاظ على مصالحها.[35]
لم يكن ابتعاث "العصب الإسرائيلي" لأميركا في زمن المحافظين الجدد، إلاَّ لتأكيد الميتافيزيقا التاريخية التي رست عليها المقولة الأميركية. وهذا "العصب" الذي يمنح لأميركا معناها الإسرائيلي، مربوط بحبل وثيق إلى سلسلة غير متناهية من المفاهيم التي تؤول على الإجمال إلى إعادة إنتاج عقيدة الفرادة، أو ما يرسِّخ خرافة النوع الأميركي النادر. لقد ذهب المسؤول السابق في البنتاغون مايكل ليدين إلى تسويغ مذهب القوة اللاّمتناهية ، حتى ولو أدَّى الأمر بالولايات المتحدة إلى أن تقوم كل عشر سنوات باختيار بلد صغير تضرب به عرض الحائط، وتدمِّره، وذلك لغاية وحيدة وحسب وهي أن تظهر للجميع أنها جادّة في أقوالها.
وينطلق ليدين من نظرية أنَّ "الاستقرار مهمة لا تستحق الجهد الأميركي" ليحدد بالتالي "المهمة التاريخية" الحقيقية لأميركا فيقول: التدمير الخلاّق هو اسمنا الثاني (Name Middle) في الداخل كما في الخارج. فنحن نمزق يومياً الأنماط القديمة في الأعمال والعلوم، كما في الآداب والعمارة والسينما والسياسة والقانون. لقد كره أعداؤنا دائماً هذه الطاقة المتدفقة والخلاقة التي طالما هدَّدت تقاليدهم (مهما كانت) وأشعرتهم بالخجل لعدم قدرتهم على التقدّم.. علينا تدميرهم كي نسير قُدُماً بمهمتنا التاريخية.
إنها إذاً، إيديولوجيا الحرب من أجل الحرب، ما دامت الهيمنة وشغف السيطرة يحكمان الميتافيزيقا السياسية لأميركا مع بداية السنوات الأول للقرن الحادي والعشرين. ومن المنطقي أنّ القول إنّه إذا كان الكمال الأميركي بالهيمنة المطلقة على العالم فذلك ما لا فرصة موفورة لتحقيقه في عالم دخل في سيرورة غير متناهية من عدم الاستقرار فإنَّ منطق الهيمنة يفترض إثارة المزيد من أهلَّة الأزمات ليتسنّى لإيديولوجيا القوة المفرطة أن تواصل ديناميتها بلا وازع. وإذا كان الاستقرار مهمة لا تستحق عناء الأميركيين كما يقرِّر "ليدين" فإنَّ حاصل هذا السلوك هو المضي بعيداً في صناعة الحروب والأزمات. وهو أمر يفترض عناء ومشقَّة من نوع آخر لدى صنَّاع القرار في الولايات المتحدة، أي الإهتمام ليس بالسؤال عمّا إذا كان يجب إحداث اهتزازات في الاستقرار الذي يسود الجيوبوليتيكا المقصودة بالهيمنة، وإنما بالسؤال عن الكيفية التي ينبغي اعتمادها لنزع الإستقرار وإشاعة الفوضى.. أما سؤالنا، الذي يدنو من كونه سؤالاً فلسفياً ، هو ذاك الذي وجده الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز حين رأى إلى الدولة بأنها حيوان أسطوري مقدَّس، وبأنَّ "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان".
هل يكون إنسان القرن الحادي والعشرين "إنساناً هوبزياً"، أي مغلولاً بــ "ذئبية" سياسية وأمنية وثقافية واقتصادية لا حدود لضراوتها ؟
ذلكم هو السؤال الكبير الذي ولد كجبل في مستهل القرن الجاري. والقلق الذي يساورنا نحن الآن في شبه القارة العربية الإسلامية هو نفسه الذي يمسك بالنفس الأوروبية المتعبة والغاضبة.
في نهاية كتابه "أميركا التوتاليتارية" يستعيد الكاتب الفرنسي ميشال بوغنون ـ موران([36]) صوت الفيلسوف جان ـ ماري بنوَا الذي طالب أمم أوروبا منذ الستينات بــ "ألاَّ ننام وألاَّ نتقبَّل الانخفاض إلى حالة مستهلكين شبعانين، ومنتجين مستغلين ومبهورين في آن. كان بنوَا يوصي بالمقاومة وبألاَّ نعود مخدوعين بواقع العالم. وكان يتساءل: "بأي حقٍّ سنعتبر أنفسنا أننا مقدورون، بقدر محتوم، لكي نتقاسم إيديولوجيا الطريق الأميركية في الحياة، وباسم اي أمر من القَدَر سنرى فيهم مستقبل مجتمعنا ؟
المقصود مما قال بنوَا، هو ألاَّ ننسى أبداً أنَّ أيّة شريحة من البشر لا تملك صيَغَاً يمكن تطبيقها على الكلّ، وأنَّ بشرية مذابة في نمط معيشي وحيد هي بشرية لا يمكن تصوّرها، لأنَّها ستكون بشرية عظيمة"...
لكن بوغنون سيدعو ـ ومعه الكثيرون من نخب الغرب الغاضبة والمحتجَّة على أحوالها ـ أميركا وأوروبا والبشرية أجمعين إلى رفض تحجير العالم...
بقي اليقين في التساؤل عمَّا إذا كانت دعوة كهذه، تفترض بادئ بدء أن تستيقظ الإيديولوجيا الجديدة من جنونها المفرط..
[1] لويس هـ. لافام. روما الأميركية عن نظرية الإمبراطورية الفاضلة. نقله إلى العربية شادي عمران بطاح في إطار ملف أعدته "مجلة الثقافة العالمية" الكويت. بعنوان طبيعة الدولة الفاشلة. العدد 117 مارس / ابريل 2003.
[2] لافام – المصدر نفسه.
[3] لافام – المصدر نفسه.
[4] ميشال بوغنون-موردان- أميركا التوتاليتارية – الولايات المتحدة والعالم إلى أين؟ تعريب د.خليل أحمد خليل – دار الساقي – الطبعة الأولى 2002 (ص542).
[5] المصدر نفسه – (ص 342).
[6] المصدر نفسه – (ص642).
[7] مايكل هاردت وأنطونيو نيغري – الإمبراطورية – إمبراطورية العولمة الجديدة – تعريب افضل جتكر – مراجعة النص د.رضوان السيد – مكتبة العبيكان 2002 – الرياض – السعودية (ص 862).
[8] Bruce Ackerman proposes a periodization of the first three regmes or phases of U.S. Constitutional history. See wetne people: Foundations (Cambridge, Mass: Harverd University press 1991) in particular pp.58-80.
مايكل هاردت وأنطونيو نيغري – المصدر نفسه (ص252).
[9] راجع محمد حسنين هيكل – الإميراطورية على الطريقة الأميركية – مجلة "وجهات نظر".
[10] العدد الخمسون – آذار (مارس) 2003.
[11] هيكل – المصدر نفسه.
[12] هيكل – المصدر نفسه.
[13] زبينغيو بريجنسكي – بين عصرين – أميركا والعصر التكنوتروني – ترجمة وتقديم محجوب عمر – دار الطليعة – بيروت – الطبعة الأولى 0891 (288.287).
[14] Gerard Chaliand et Arnaud Blin American is back – less Nouveaux Cesars dzu. 2002 Pentagooune. Paris
[15] راجع حسن ولد المختار – أميركا بين واقعية "مكيافيللي" ومثالية "روسو" –"الاتحاد" أبو
ظبي 25/4/2003.
[16] أنظر ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس – فصل من كتاب نشرته فصيلة زشؤون الاوسطس – العدد (011) ربيع 2003، ترجمة علي جوني والعنوان الكامل للكتاب:
Pourquoi le monde deteste –t-il l’Amérique? Fayad.2002.P.482.
[17] المصدر نفسه.
[18] المصدر نفسه.
[19] يورغوهابر ماس "التمثال والثوريون" – "لوموند" – باريس – السبت 3 أيار (مايو) 2003.
[20] الياس حنا – استراتيجية الأمن القومي الاميركي –ندوة "شؤون الأوسط" عدد 110- ربيع 2003.
[21] ج. جون إكنبري – طموح أميركا الإمبريالي – "شؤون الأوسط" العدد 110 – ربيع 2003. ترجمة غسان رملاوي نقلاً عن فصيلة Forign Affairs sep.oct.2002 vol 81.no5)).
[22] إكنبري - المصدر نفسه.
[23] إكنبري - المصدر نفسه.
[24] إكنبري - المصدر نفسه.
[25] المصدر نفسه – (ص244).
[26] The National Intenteres-2001.
[27] محمد حسنين هيكل – الإمبراطورية على الطريقة الأميركية – "وجهات نظر" القاهرة – العدد الخمسون – السنة الخامسة – مارس (آذار) 2003.
[28] هيكل – المصدر نفسه.
[29] منير العكش "اميركا والإبادات الجماعية" رياض الريس للكتب والنشر – بيروت 2002 (ص123-124)
[30] العكش- المصدر نفسه(ص131).
[31] العكش – المصدر نفسه(ص130).
[32] Patrick Bucanan. The American Conservative March 24, 2003.
[33] أنظر أيضا باتريك بوكانان، برنامج المحافظين الجدد "المستقبل" الجمعة 11 نيسان (ابريل) 2003.
[34] المصدر نفسه.
[35] المصدر نفسه.
[36] ميشال بوغنون – موردان- مصدر سبق ذكره (ص262).
Philosophy politics of the new Americans conservative: the ideology of creative anarchy
The researcher considers that the ideology of creative anarchy is in fact a philosophy politics of the new Americans conservative. It rests on the hypothesis of the existence of a surprising danger, which justifies to the administration that it launches a fight against this danger that exists in the world, without respecting of the sovereignty of the States and of their borders. It sees that this ideology is founded theoretically on the duality to destroy and to construct , so that the destruction is being the means of America concerning construction of new world. But to seize itself of this mission drove America, according to the researcher, to win these wars, without succeeding winning peace. In an attempt to show bases of the role that America has wanted for itself, the researcher finds that the does summarizes itself by a lonely expression that us :” the theology of the force”, and this, according to the quotations said by the American former president Richard Nixon:” God is with America. God wants America to dominate the world”. And to realize God’s wishes, the American want their country to be always the strongest and the richest so that it hasn’t rival in the world. “ America is the world”, according to the American political doctrine that was renewed after the events of September 11 2001. under this title, the American administration invented the philosophy to justify the war that it will deliver in any place in the world. The question is not “ when to attack”, and not if one will attack or no… and by the continuation, America plays the role of the intelligent pirate that does not pillage the fleeting boats, but those of the other pirates: by this manner his gain will be a bigger one, as well as it “ will punish” the other pirate, but that is intelligent. We deduct that America in not different then the British concept applying the historical idea of Israel, where “ Israeli collection of Egypt towards Canaan” is the superior example of the American fight. The new conservative want to check the Middle- East and the two projects agree. But the research wonders at the end with the philosopher John Marries Sanctimonious: according to which do the Americans consider themselves endowed to oblige the entire world to adopt the American way of life
La philosophie politique des nouveaux conservateurs américains : l’idéologie de l’anarchie créative
Le chercheur considère que l’idéologie de l’anarchie créative est la philosophie politique des nouveaux conservateurs américains. Elle repose sur l’hypothèse de l’existence d’un danger surprenant, ce qui justifie que l’administration lance une lutte contre ce danger, qui pourrait exister n’importe où dans le monde. Il voit que cette idéologie se fonde théoriquement sur la dualité de détruire et de construire, de façon à ce que la destruction soit le moyen pour achever le parti designécomme étant l’ennemi, et ceci afin de le reconstruire selon la mission de l’Amérique concernant la construction du nouveau monde. Mais par contre s’emparer de cette mission a conduit l’Amérique, selon le chercheur, à remporter ces guerres, sans réussir à gagner la paix. Dans une tentative de démontrer les bases du rôle que l’Amérique a voulu pour elle-même, le chercheur trouve que le fait se résume par une seule expression qui est « la théologie de la force », et ce, selon les citations de l’ancien président américain Richard Nixon : « Dieu est auprès de l’Amérique, Dieu veut que l’Amérique dirige le monde ». Et pour réaliser les commandements de Dieu, les américains veulent que leur pays soit toujours le plus fort et le plus riche de sorte qu’il n’ait aucun rival dans le monde. « L’Amérique est le monde », selon la doctrine politique américaine qui fut renouvelée fermement après les événements du 11 septembre 2001. Sous ce titre, l’administration américaine a inventé la philosophie de justifier la guerre qu’elle livrera dans n’importe quel endroit au monde. Et par la suite l’Amérique joue le rôle du pirate intelligent qui ne pille pas les bateaux passagers, mais ceux des autres pirates : de cette façon son gain sera beaucoup plus grand. Nous déduisons alors que l’Amérique n’est autre que le concept britannique appliquant l’idée d’Israël historique, où le « retrait israélien d’Egypte vers Kanaane » est l’exemple supérieur de la lutte américaine. Les nouveaux conservateurs veulent contrôler le Moyen-Orient et les deux projets se concordent. Mais le chercheur se demande à la fin avec le philosophe Jean-Marie Benoît : selon quel droit les américains se considèrent-ils dotés d’obliger le monde entier à partager avec eux la voie américaine dans la vie