- En
- Fr
- عربي
أسماء لامعة
جاهدة وهبه: مريضة القصائد تشفى بـغنائها
كاهنة المسرح والصوت الساحر، تعيد للأغنية العربية أحرف الشرف الخاصة بها. في زمن الغوغائية، تهديها أوتارًا صوتيّة تعجّ بالنغمات الحريرية، باللحن الوهّاج، بالأداء المبهر القوي بدون ميكروفون، وتهدينا ثقافة على طبق من شِعر ودهشة. إنها صاحبة الصوت الرخامي العريض الذي يناضل من أجل الفن الأصيل في الزمن الرديء، إنها المجاهدة والمطربة الكبيرة والملحنة البارعة جاهدة وهبه، كما أحب أن يصفها المطرب الكبير وديع الصافي.
بين المنسبط والمترامي صعودًا
في قرية عانا - البقاع الغربي على امتداد السهول الخضراء والجبال الصامدة في وجه الرياح، ولدت المطربة جاهدة وهبه. إبنة البقاع أخذت من أرضه هذا التضاد الجامح بين الجبل والسهل بين المنبسط والمترامي صعودًا... هذا التلوّن الذي ترتديه بساتين القمح مع المواسم... أخذت طيبة الناس، تجذّرهم بالطّين. «وعره صيّرني مغامرة، وانسيابه صيّرني حالمة»... تقول.
والدها الضابط الشهيد جان وهبه، ووالدتها السيدة تريز عساف. كان والدها صاحب صوت جميل؛ أداؤه أغاني أم كلثوم، وفريد الأطرش ووديع الصافي بصوته، كان له على الأرجح دور كبير في إيقاظ الحس الفني لدى الفتاة الصغيرة. الوالد شجعها على الغناء ودراسة الموسيقى، وكان يرافقها إلى «الكونسرفتوار» الوطني.
اختطفها الغناء وهي في بطن أمها، كما تقول. منذ طفولتها كانت تطرب لأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وتغنيها، ولكن نشوة الغناء لم تمتلكها إلا لاحقًا عندما بدأت تحيي الحفلات وخصوصًا عندما تنشد أغانٍ من تأليفها وتلحينها.
نالت جاهدة وهبه دبلوم دراسات عليا في التمثيل والإخراج من الجامعة اللبنانية - معهد الفنون الجميلة، ومن الجامعة نفسها إجازة في علم النفس الإجتماعي، وأخرى في الغناء الشرقي من المعهد الوطني العالي للموسيقى، حيث تابعت دراستها في العزف على العود وفي الغناء الأوبرالي باللغة العربية، والإنشاد السرياني والبيزنطي والتجويد القرآني.
هي عضو في نقابة الموسيقيين المحترفين في لبنان ورئيسة لجنة الثقافة والبرامج في مجلس المؤلّفين والملحّنين اللبنانيين، وعضو الجمعية الفرنسية للمؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى (ساسيم)...
غنت وكرّمت بصوتها عمالقة الغناء العربي، ولها عدة ألبومات وتسجيلات كلاسيكية، صوفية ووطنية، انتقت كلماتها من كبار شعراء لبنان والعالم، الكلاسيكيين والحديثين، واضعة لها الموسيقى بنفسها، كما غنّت من ألحان كبار الموسيقيين اللبنانيين، أمثال: وديع الصافي، إيلي شويري، زاد ملتقى، زياد بطرس...
في لبنان والخارج غنّت الشرق، الحب، الأرض والانسان، محييةً الكثير من الأمسيات الشعرية، منشدةً من ألحانها ابن عربي، رابعة العدوية، جلال الدّين الرّومي، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، جبران، غوته، طاغور، سارتوريوس، أدونيس، محمود درويش، طلال حيدر ، سعيد عقل، أنسي الحاج، أحلام مستغانمي، الحلّاج، لوركا، المتنبي، الحمداني، غونتر غراس وغيرهم... ونالت عددًا من الجوائز والتكريمات.
أدّت أدوارًا رئيسة، غناءً وتمثيلاً، في العديد من المسرحيات بإدارة كبار المخرجين اللبنانيين والعرب، منها مسرحية «أيام رباعيات الخيام» - من إنتاج مهرجانات بعلبك الدولية و«أنشودة المطر» و«نساء الساكسوفون» للمخرج العراقي جواد الاسدي، و«صخرة طانيوس» - للمخرج جيرار افيديسيان، كما شاركت في فيلمين سينمائيين «شولا كوهين» و«اللؤلؤة» للمخرج فؤاد خوري، وفي مسلسلات وأفلام عديدة ونالت الجائزة الأولى للأفلام الجامعية اللبنانية عن فيلمها «رصاصة فارغة».
تعاونت مع شركة «ديزني» العالمية و«فيلملي للإنتاج» في دبلجة وتسجيل برامج غنائية للأطفال.
مثلت لبنان رسميًا في عدة مؤتمرات ومناسبات وشاركت في العديد من المهرجانات الدولية منها، المهرجان الثفافي العربي في أوروبا، مهرجان الرّواد العرب برعاية جامعة الدول العربية، مهرجانات بعلبك الدولية، مهرجان الموسيقى العربية في دار الأوبرا في القاهرة، مهرجان جرش الأردني، مهرجان سانتا شيشيليا - روما (وكانت أول مطربة عربية تغني على مسرحه)، مهرجان فرانكفورت للكتاب - ألمانيا، معرض أبو ظبي الدولي للكتاب، «ملتقى العربيات المبدعات» في اسطنبول. ومن المهرجانات التي تعتزّ بالمشاركة فيها «مهرجان فاس للأغاني الصوفية والروحية» في المغرب، وقد شاركت فيه عدة مرات. وهي تشير في هذا المجال إلى تفاعل الجمور المغربي معها لدرجة السلطنة.
كتبتني... هبني قبلتك
أنتجت المطربة جاهدة وهبه العديد من الألبومات ومنها ألبوم «كتبتني» من ألحانها ومن شعر: غونتر غراس، أنسي الحاج، طلال حيدر، أمل الجبوري، لميعة عمارة، الحلاج ، أحلام مستغانمي وأبو فراس الحمداني. وحقّق هذا الألبوم نجاحًا كبيرًا حيث احتلّ المراتب الأولى في سوق المبيعات على مدى أشهر.
أما ألبومها «أيها النسيان هَبني قُبلتك» الذي صدر ضمن كتاب احلام مستغانمي «نسيان.كم» فهو ثمرة جهد مشترك بين الكاتبة ووهبه، وما زال يتصدّر حتى الآن المبيعات في إحدى أهم صالات البيع في لبنان والخارج منذ اطلاقه منذ أكثر من عامين.
«الأزرق والهدهد»
انتاجها الأخير كان كتاب «الأزرق والهدهد - عشق في الفايسبوك» صادر عن دار الساقي. فيه انتقلت من الاحساس بجمال الكلمة وتلحينها وغنائها إلى كتابة هذه الكلمة في «نصّ ثوري جديد، عتيق في انزياحات الوله نحو باسق الرّيح، نحو جذر الألق، نحو انسكاب الدهشة كمطر».
احتلّ المرتبة الأولى في مبيعات كتب الأدب ضمن معرض بيروت الدولي، وقيل عنه إنه يؤسس لنوع أدبي جديد، سيبدأ بالظهور مع الثورة التكنولوجية والرّقمية لهذا العصر. الكتاب حمل صاحبته إلى عواصم ومدن عربية وعالمية، حيث وقّعته في أجواء احتفالية.
العصر ربط الأغنية بالصورة
تغني جاهدة وهبه من خارج السياق السائد اليوم. تجتهد بصدق في بحثها عن الجمال في الأصالة والرقي، كلمة ولحنًا وأداء. لكن من يغامر اليوم في توظيف جميع طاقاته في فن نخبوي لا يطعم خبزًا ولا ينتج ألبومًا؟
تقول وهبه: في ما أقدمه أبحث عن مساحة لفن مختلف عما هو سائد ولا أدّعي النخبوية. أقدم ما يشبهني ولا أستطيع أن أكون غير ما يشبهني. المشكلة اليوم أننا نعيش في حال من الهستيريا الجماعية الفنية، حيث تتداخل كل الافكار الثورية والرجعية والتحررية والسلفية وكل الموضات العصرية واللاعصرية مع بعضها البعض. وانا على يقين أننا بتنا بحاجة الى إرساء سبل تثقيفية وتعليمية أشمل، والى تعميم حال من التربية على الجمال والموسيقى والسعي إلى خلق وضع من الثقافة المستدامة، التي قد تحمي مجتمعاتنا فتدرأ عنها خطر الإصابة بعمى الألوان الغنائية الهابطة.
وتضيف: هناك موجة تسود العالم العربي منذ سنين وهي موجة الغناء الاستهلاكي، إذ أصبح الغناء في معظمه سلعة تحضّر وتعدّ للبيع والإتجار، وتُحمّل بكل ما يمكّنها من استقطاب اكبر عدد من المشترين. والمشترون ليسوا بالضرورة من يشتري المنتوج بقدر من هم مسوّقوه، خصوصًا شركات الانتاج التي تتحكم بالذائقة الفنية اليوم، وتحديدًا تلك التي على الشبكة العنكبوتية والتي تسعى الى سحق الشركات الصغرى من حيث تسعير الألبومات بأسعار متدنية جدًا، واستقطاب أكثر المغنين شهرة عبر إغرائهم بالمال الوفير، والسيطرة على برامج أهم المهرجانات العربية والفضائيات العربية، وإقحام أضخم تقنيات التصوير والإخراج في الفيديوكليبات، وذلك للتغطية على الضعف البنيوي للأغاني.
وتتساءل وهبه: في ظل أوضاع سياسية متدهورة واضطرابات أمنية مقلقة وإشكاليات معرفية كبرى، كيف سيصطلح الفن؟ الفن هو إبن البيئة السياسية بامتياز، فإذا كانت بيئة صالحة، يستطيع الفن الحقيقي أن يزدهر وينمو.
وتضيف: يلهث المغنون والمنتجون ليطبخوا أغنية جديدة، لأنهم يعرفون أن اغنيتهم الضاربة اليوم «ستنضرب» غدًا وسيضربها المتلقون عرض الحائط، وأن جديدهم سيمسي قديمًا في شهور، وهم بحاجة الى أغنية «كاسحة» ترجعهم الى الساحة الغنائية المزدحمة، وطبعًا هم بحاجة الى «لوك» جديد مع كلّ طلّة و«خبطة».
إن أغاني الزمن الجميل ما زالت حاضرة في ذاكرتنا وفي أسماعنا ودندناتنا ونسترجعها كل يوم، لأنها أغان جيدة والأغنية الجيدة تحمل مفردات خلودها في خلاياها.
هناك طبعًا حسنات لهذا العصر وهي الثورة التكنولوجية والتقدم السمعي والمرئي، ولكن من سيئاته ايضًا انه ربط الاغنية بالصورة، وأصبحت المفردة او المنظومة المشهدية لأي أغنية هي الأهم، أي أن المعادل الصوري بات العامل الابرز في نجاح أغنية.
من هنا تخلخل سلم المعايير... معيار الاغنية الناجحة كان: كلمة جميلة، لحن غني ومتنوع، واداء راق ومؤثر، الى حضور حسن. ومعيار الاغنية «الضاربة» اليوم حضور «سوبر» أخّاذ و«روعة»، أما الكلمات واللحن فعلى طريقة «خود ايدك والحقني» ، تركي ، يوناني، سرقة لا يهمّ.
نحن أمم ضعيفة، والعولمة قد تبتلع ثقافتنا وهوياتنا الحضارية، اذا لم نحمِها. وآمل حقاً أن تنسحب الثورات الحالية على الوضع الفني لتحدث فيه تغييرًا جذريًا وعميقًا.
اللغة كآخر مرغوب ومحبوب
تختار وهبه النصوص والقصائد بعناية فائقة وبرؤية مثقفة، وتقول: «القصيدة الجميلة تحرّضني على غنائها وتستفزني لإعطائها بعدًا موسيقيًا بصوتي... ومن عادتي - ولا أعرف إن كانت حميدة أو سيئة - أن أمرض بالقصائد الجميلة ولا اشفى منها إلا عندما أغنيها؛ لعلّ احساس المسؤولية بالنص يتولّد من شغف الفنان ومن حرصه على إعطاء أبعاد جديدة للمفردات... ربما عليه أن يعامل الّلغة كآخَر مرغوب ومحبوب ومشتهى، كأنثى من نور ونار... أن يُلبِسها خاتم حواسّه مجتمعة... حواسّه من البصيرة والعلم والخبرة، ومن معاينته تجارب الكبار، لمسه وتلمّسه مزاج المشهد الغنائي، إلى تذوّقه نكهات الأدب والجمال والابداع.
مخاض الجمل اللحنية
الفن تقول، ضمائري المتّصلة والمنفصلة وأدواتي لاكتشاف نفسي وهتك العالم... واهتمامي بالفن بكل وجوهه عتيق فيَّ عتق وعيي، وهو ميل متطرّف غريزي حاد، سعيدة به ولا أستطيع العيش من دونه، كونه يوسّع افقي ويجعلني على تماس مع كينونتي... وهو بساط ريح يحملني خارج زماني ومكاني، يسرقني إلى انعتاقي إلى منفاي، ينتشلني من العادي ويرفعني إلى هواء أو هوى صحّي... يأخذني إلى حالة أصير فيها «جاهدات»... أكثر من احتمال جميل في الوقت نفسه.
وعن التلحين والغناء تقول: التلحين عملية مخاض كبيرة، يقلق ليلي، فمن رحمه تولد الجمل اللحنية التي تتحرش بي. أما الغناء فعملية أسهل بكثير، تساعدني في العودة إلى ذاكرة سابقة ولاحقة. الغناء يقصقص جوانح الحزن فيّ، ويمنحني أحساسًا أكبر بوجودي، إنه يعطّل الضجر في داخلي»...
«الغناء هو ذريعتي للطيران إلى سدرة شاهقـة والنظر بعدهـا بعين الزرقـة وهـو دليلي إلى التوهان الأقصى، أمارسه كفعل حب أحمّله قلبي وعندي أني يجب أن اُطرَب لكي أُطرِب.
لذا ترينني أدخل في حالة من النشوة، من الغيبوبة، أتفلّت فيها مما حولي أصعد الى عوالم أخرى أبحث عني في أمداء الحلم.
يعبرني في رحلتي ما بصمني ويعبرني ما سيأتي وسيدمغني يخرمشني ويدميني... تعبرني حياتي يمتشقني موتي ثم يعفيني.
يقــول، سوف أؤجــل حتفك هــذه المرّة ويعدني بميتات أخــرى. لذا بتّ في كل مرة أصعد فيها الى المسرح، أفكر انها قد تكون المــرة الاخيرة، واحاول أن أعطي جلّ ما عندي ولعلّ لأجل ذلك يكون مع الجمهور أقصى «وحدي» وتوحّدي».
المشاريع المستقبلية
تعمل وهبه على ألبوم جديد من ألحانها لكتّاب من بينهم: محمود درويش، أدونيس، أنسي الحاج، طلال حيدر، الأخطل الصغير، سعاد الصباح ،رابعة العدوية وأحمد رامي، كما تعدّ البومًا بالعاميّة اللّبنانيّة.
وسوف تطلّ من جديد على خشبة المسرح من خلال مسرحية غنائية كبيرة مع السيدة نضال الأشقر العام المقبل، أما الصيف فله في جعبتها العديد من المواعيد في مهرجانات وحفلات.
«يا بيّي»
تعقد جاهدة وهبه ولاءها للجيش اللبناني، بكل وضوح وفخر. هي إبنة الضابط الشهيد جان وهبه، «الجيش في قلبي ودمي» تقول.
غنّت له العديد من الأغاني وصورّت بعضها، منها «يا بيي» من كلمات وألحان إيلي شويري، إخراج المؤهل الأول شربل نصر، «كلنا إلك» التي كتب كلماتها هنري زغيب ولحّنتها جاهدة بنفسها وأخرجها جو بو عيد.
وفي كلمة أخيرة تقول: «دور الجيش ليس محصورًا فقط بحماية الوطن، له أدوار أخرى ومنها حماية الثقافة والفن في المجتمع والإرتقاء بهما».
«صوتها متمكّن جدًا وقوي، يستطيع تأدية أغنيات الرجال كما النساء بمرونة وإتقان، صوت عريض مثقَف ذو تقنيَة وحرفة عالية وإلمام بالمقامات الموسيقيَة ...».
المطرب وديع الصافي
«من فيروزتنا الى جاهدة، لا خوف على لبنان بعد اليوم... يحلو لي أن أناديها رنغانا: إسم يحمل كلَ رنين الكون وتردداته».
الشاعر سعيد عقل