- En
- Fr
- عربي
الفوضى الدولية والإقليمية والفوضى غير البناءة في لبنان
"إنّ سياسة واشنطن الإستباقيّة خلقت لأميركا صورة الشرطي العالمي الذي ليس له مرجع أعلى، والذي يقتحم البيوت ساعة يشاء". هذا ما أشار إليه جون أكينبري تعبيراً عن دمج مفهومي الحرب الإستباقيّة والوقائية لتبرير حروب إدارة بوش على الإرهاب المزعوم.
لقد عرفت الإستباقيّة بأنّها الهجوم على دولة على وشك القيام بعمل عسكري، وقد سبق للقانون الدولي أن عرّف منذ وقت طويل بهكذا تحرّك لإحباط خطر فوري جاثم وواضح.
أمّا الوقائيّة فقد عرفت بأنّها إعلان الحرب على دولة يمكنها أن تمثّل خطراً في لحظة مستقبلية ما. وقد خلطت إدارة بوش بين هذين المفهومين باستعمالها كلمة الإستباقيّة في سياق مبرّرات تبيّن لاحقاً أنّها واهية.
الفوضى الدولية
إنّ الإستباقية المعرّفة بالوقائيّة أظهرت الولايات المتحدة أمام العالم بمثابة خطر راهن قادر على تعميم الفوضى والخراب والحروب، إذ أصبح بمقدور واشنطن أن تعلن فجأة، وفي اللحظة التي تختارها هي، أنّ أمنها يتطلّب انتهاك سيادة بعض الدول الأخرى.
إنّ الادّعاء الأميركي بالحقّ في استباق الخطر يولّد البلبلة والفوضى في العلاقات الدولية. وإدارة بوش الثانية تحاول تصحيح الأخطاء والسلبيات الناجمة عن ممارساتها السابقة التي تميّزت بالخلط بين القوة والحكمة، بين العجرفة والغموض، بين العجز والمصلحة. وقد باشرت إدارة بوش بحوارات مع حلفائها مستفيدة من دروس الماضي:
1- العضلات ليست أدمغة. ليس من الحكمة أبداً إهانة الحلفاء. من المفيد التشاور والإقناع ومساعدة الأصدقاء وكسب الدعم المتعدد الأطراف لاستعمال استباقي للقوة الأميركية.
2- إصلاح المؤسسات الأمنية والدفاعات الداخلية يتكامل مع ضمان مصلحة مختلف الأمم.
3- الأولوية الرئيسة لإدارة بوش الثانية هي نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط، وقد أكّد الرئيس بوش في أكثر من تصريح أنّ العالم لن يكون آمناً من الإرهابيين حتى يصبح الشرق الأوسط مكاناً أمناً للديموقراطية.
إن خطة "الصدمة والرعب" التي نفّذتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق جعلت القوة الأميركية أكثر مهابة في الشرق الأوسط، لكنّ الاحترام للثقافة والمؤسسات والقيادة الأميركية قد ضعف بشكل كبير، وموجات العداء لأميركا تزداد. صحيح أنّ الولايات المتحدة متحصّنة في الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بأقوى مما كانت عليه قبل أحداث 11 أيلول، لكن حتى الآن يبدو أن هدف استراتيجية بوش في تجفيف التجنيد في تنظيم القاعدة لم يتحقق، بل كان له مردود عكسي، إذ تشهد الساحة العراقية وغيرها تزايداً في العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية، مع احتمال توسّعها وانتشارها أكثر من إمكانية حصرها وبترها كما كانت ترغب واشنطن وتخطّط.
المهمة الملحّة التي وضعها استراتيجيو الإدارة الأميركية هي تمهيد الطريق للديموقراطية في الشرق الأوسط بهدف فرض السيطرة على منابع النفط، وضمان الأمن لإسرائيل، وتغيير الأنظمة الحاكمة، خصوصاً و أنّ بعض أطراف الإدارة الأميركية أدرك أنّ هذه الأنظمة المدعومة تاريخياً من الولايات المتحدة، هي أنظمة استبدادية تفتقر إلى التمثيل الشعبي وتحتكر ثروات أنعمت عليها من باطن الأرض داخل حدودها، ومنعت إنتاج ليبرالية سياسية، وتقاطعت مصالحها مع مؤسسات دينية ذات نزعة حرفيّة في فهم القرآن، قاومت التغيير وقمعت الأقلّيات ولم تعترف بحقوق الإنسان البديهية. كما أنّ انعكاسات "الصدمة والرعب" لم تؤثر على المجتمعات العربية ولم تولّد الديموقراطية المطلوبة. بالإضافة إلى أنّ زرع الديموقراطية من خلال الإحتلال العسكري لم يؤدِّ بعد إلى النتائج المرجوّة.
باختصار، إنّ بعض الأوساط الأميركية تعتبر أنّ المزيج الضار من الاستبداد والثروة والتطبيق الحرفي للدّين، الذي ما زالت تدعمه إدارة بوش، والأفق المسدود لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي، أوجدت حالة ستاتيكو أدّت إلى التضحية بالناس وأصبحت تمثّل تهديداً لبقية العالم.
من هنا غدت أولوية إدارة بوش الثانية كسر حال الجمود وتسريع الدمقرطة في العالم العربي عبر اعتماد مخططات لزرع الفوضى وإيجاد حالة من اللاإستقرار و"خضّ" المستنقع العربي بشعارات التغيير والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والأقليات، حيث إنّ هزّ الستاتيكو وكسر حلقة النظام القديم سيشجعان على قيام نظام آخر جديد تلقائياً.
إنها عقلية السوق الحرّة المطّبقة على الجغرافيا السياسية، بمعنى أنّ إزالة القيود أمام الاقتصاد (دعه يعمل دعه يمرّ) تسمح مباشرة وبشكل آلي بتنظيم السوق وتأمين المصالح الخاصة والجماعية. كذلك يعتقد أصحاب هذه المدرسة بأنّ خلق حالة من الفوضى واللاإستقرار سوف يؤدي حكماً إلى بناء نظام سياسي جديد يوفر الأمن والازدهار والحرية. إنّه العلاج بالصدمة.
وهذه الخطة تفترض أنّ المجتمعات تنتظم بشكل بنّاء وصحيح بعد الصدمة التي ولّدتها الفوضى، وهي لا تأخذ بالاعتبار والحسبان ردّات الفعل السلبية. ومن أخطاء إدارة بوش أنّها لم تتوقع نشوء مقاومة متعددة الأطراف للضربة الاستباقية التي افترضتها قاضية. الصدمة قد لا تؤدي إلى الرعب، بل قد تولّد مقاومة وصدمة معاكسة. وليس حتمياً أن تكون الفوضى بنّاءة، بل قد تكون أيضاً فوضى للفوضى، فوضى للتخريب والحروب الأهلية والدمار والارتداد على مخطّطها مقاومة وعنفاً وممانعة. إنها الإستراتيجية الأميركية التجريبية الخالية من الأخلاق والمبادئ والأهداف الإنسانية، وهي تستند فقط إلى رسالة الأيديولوجيا الأميركية التي تجمع بين القيم والمصالح القومية الأميركية، ما يعطي استراتيجيتها بعداً دينياً شمولياً يطمح إلى بناء نظام عالمي جديد هو أشبه بأمبراطورية أميركية ترتكز على مثلّث القوة والمصالح والدعاية وتتجاوز المنظّمات الدولية وعلى رأسها هيأة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ممّا يهدّد السلم العالمي ويفكّك النظام الكوني القائم على سيادة الدولة / الأمّة، ويعرّضه لنوع من الفوضى الدولية لأنّه يشبه "الهندسة العالمية المتغيّرة" حيث تكون أميركا المركز الهندسي، وبقية العالم الخطوط والزوايا الهندسية المتعلّقة بالمركز، والمهدّدة دوماً بالخربطة والفوضى.
الغاية التي تحتلّ المرتبة الأولى في الأهداف الاستراتيجية الأميركية هي الحفاظ على التفوّق الأميركي، ولذلك هي تسعى بأيّ ثمن وبأي وسيلة إلى توفير الإستقرار والإزدهار والأمن للمجتمع الأميركي أولاً ومن ثم للحلفاء، وإغراق الآخرين بالفوضى والتخلف والحروب الأهلية. وهذه المعادلة دعت الولايات المتحدة إلى عدم التقيّد بآليات الأمم المتحدة حتى يكون تدخّلها الإستباقي مباحاً وأكثر ردعاً وسرعة وتطابقاً مع مصالحها القومية.
وهكذا تضع الولايات المتحدة الأميركية العالم أمام خطر "فوضى دولية" كما يخشى بعض المفكرين المتشائمين، لأنّ واشنطن تسعى إلى التفرّد بالسيطرة على العالم رغم الممانعات والمنافسات، وهي ما زالت حتى الآن ترفض إيجاد صيغة لنظام عالمي جديد متوازن وعادل قائم على قاعدة التعاون والتضامن والمشاركة من دول سيّدة وحرّة، لأنّه يفسح المجال أمام نظام دولي متعدّد الأقطاب، وهو الحلّ الوحيد والممكن حسب "جان باشلر".
الولايات المتحدة تضع العالم كله أمام اختيار صعب. إمّا نظام عالمي جديد تنفرد بالسيطرة عليه، وإما التسبّب بفوضى عالمية. وهذه الإشكالية هي موضوع الكتاب الأخير للمفكر الإستراتيجي الأميركي زبغينيو بريجنسكي. "الإختبار. السيطرة على العالم أم قيادة العالم"، ويتناول فيه مستقبل التفوّق الأميركي إذ يعتبر أنّ "الزوال المفاجئ للهيمنة الأميركية يعجّل بدون شك في حدوث فوضى عالمية شاملة تتخللها ثورات تتّسم بالدمار الشامل"...
لذلك يرى، لتفادي الكارثة، "أنّ التفويض التدريجي للقوة يمكن أن يؤدّي إلى بروز مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة..." وهو يعتبر أنّ "التحدي الرئيسي للقوة الأميركية لا يمكن أن ينبع إلا من داخل أميركا بسبب سوء استخدام أميركا لقوّتها" وبما أنّ "الأمن القومي الأميركي يمتزج بشكل متزايد بقضايا الرخاء العالمي" يدعو بريجنسكي القيادة السياسية الأميركية "إلى استراتيجية بعيدة المدى تعبّئ الدعم العالمي ولا تنفّره".
فهل تتعظ إدارة بوش وتعمل بموجب نصائحه وتوفر "القيادة البنّاءة في إنشاء النظام العالمي بشكل تعاوني" كما علّق على هذا الاقتراح "صموئيل هنتنغتون" مؤلف كتاب "صراع الحضارات وإعادة إنشاء النظام العالمي"، أم سيبقى العالم ينتظر ما بين "الفوضى الدولية" والنظام الدولي العادل رغم المقاومات والممانعات العالمية وداخل الولايات المتحدة نفسها؟ حيث توجّه الانتقادات إلى "التفرّد الأميركي"، وهو كتاب من تأليف "ستيفان هالبر" و"جوناثان كلارك" يفنّدان فيه وجهة نظر "المحافظين الجدد والنظام العالمي" والسلبيات التي أحدثوها. "إنّ حسابات المحافظين الجدد كانت خاطئة جداً. فقد أظهر استخدام الولايات المتحدة للقوة محدودية هذه القوة". ويخلص الكتاب إلى أنّ "هناك حاجة إلى العمل على إحياء السلطة الأخلاقية الأميركية... وستلقى الولايات المتحدة الأميركية المساعدة من أصدقائها عندما يكونون شركاء لها". ترتكز الاستراتيجية الأميركية على أيديولوجيا أميركية نابعة من مدرستين رئيستين.
الأولى صاغها "فرانسيس فوكوياما" تحت عنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" ويقسّم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي، وعالم آخر ما بعد تاريخي، ديمقراطي ليبرالي آمن على الطريقة الأميركية. ومن العوائق التي تحول دون تطبيق الديموقراطية حسب نظرية فوكوياما، عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية.
الثانية صاغها "صموئيل هنتنغتون" تحت عنوان "صراع الحضارات" معتبراً أنّ النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ويقسّم الحضارة العالمية المتبقية إلى ثمانية وهي. الغربية والإسلامية والكونفوشيوسية واليابانية والهندوسية والسلافية واللاتينية والأفريقية. ويعتبر أنّ النزاعات الدولية سوف تحدث بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة. ذلك أنّ الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل.
ورغم التناقضات والتباينات بين النظريتين إلاّ أنّهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، كما أنّهما متّفقتان على معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية تاريخياً.
رأى هنتنغتون أن مواجهة الصدام الحضاري المقبل هي بين العالم الحضاري الغربي حيث التهديد الأهمّ والأشدّ خطورة سيكون من الحضارة الإسلامية، وهكذا استُبدل "الخطر الشيوعي" بـ "الخطر الإسلامي". وفي هذا السياق سيعيد فوكوياما تنظيم الأيديو ـ ستراتيجيا الأميركية من خلال دمج النظريتين. نهاية التاريخ وصدام الحضارات، مؤكداً أنّ الولايات المتحدة، بوصفها ممثلة للحداثة والديموقراطية الغربية هي في مواجهة مع الراديكالية الإسلامية التي ولّدت ما أسماه "الفاشية الإسلامية" وهي معيق للديمقراطية، ما يعني عودة جديدة للتاريخ قبل استكمال نظرته حول "نهاية التاريخ" من أجل احتواء ظاهرة الفاشية الإسلامية عسكرياً وسياسياً وأمنياً. ودعا المسلمين إلى احتواء هذا الخطر والمصالحة مع الحداثة من خلال بناء دولة علمانية وتسامح ديني.
هذه بعض ملامح الأيديولوجيا الأميركية التي وإن اعتمدت استراتيجيات متعددة، إلاّ أنّها تبشّر "بصدام الحضارات" الدائم مع الإسلام حيث تدّعي أنّها المنتصر الأكيد في "نهاية التاريخ" ولا تترك مجالاً للحوار والمشاركة والمصالحة والتعارف الإنساني. إنها استراتيجيا الإستكبار وتضع العالم أمام خيارين. إمّا التبعية لتفوّقها وجبروتها وأمبراطوريتها، وإمّا الفوضى والخراب والصدام والحروب.
الفوضى الإقليمية
هذه "الفوضى الدولية" ترجمتها الولايات المتحدة إلى "فوضى إقليمية" في الشرق الأوسط الكبير هدفها فرض "السلام الأميركي" والهيمنة الأميركية الصهيونية على المنطقة من أجل تفكيك العالمين الإسلامي والعربي وإعادة تركيبهما على قاعدة هيمنتها وإضعاف مكامن القوة والممانعة والمقاومة فيهما.
للولايات المتحدة نظرة مركّبة للشرق الأوسط الكبير من جهة مصالحها ونفوذها وهيمنتها، تعتبره وحدة استراتيجية كي تتمكن من السيطرة على موارده والتحكّم بمواقعه وضمان أمن إسرائيل وتفوّقها على جيرانها؛ من هنا تعمل على إيجاد قواعد عسكرية واتفاقيات ثنائية بينها وبين دوله. ومن جهة أخرى فهي تمنع أيّ تقارب جدّي بين دول الشرق الأوسط الكبير، وتحارب أيّ محاولة وحدوية أو تعاون بعيداً عنها، كما تسعى إلى زعزعة الاستقرار وتعميق التناقضات بين دوله و إلى دعم الحروب الأهلية وعرقلة مشاريع التنمية. وتقرير التنمية البشرية الأخير "نحو الحرية" يؤكد مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية في إعاقة نشر الحرية والليبرالية والتنمية بسبب دعمها التاريخي لأنظمة الإستبداد في المنطقة.
كما أنّ الولايات المتحدة هي الداعم الأساسي لجميع مشاريع التفتيت الأثني ـ الطائفي الأقلّوي في العالم العربي والشرق الأوسط الكبير. إن "مسألة الأقليات" وحرية الأقليات هي موضع اهتمام ودعم في مختلف دوائر الإدارة الأميركية، بهدف زعزعة الإستقرار ونشر الفوضى وتجزئة الدول وتقسيمها والتبشير بمشاريع دويلات جديدة من ضمن ما يسمى سايكس ـ بيكو جديد.
الشرق الأوسط الكبير هو وحدة استراتيجية من وجهة نظر المصالح الأميركية، لكنّه مشاريع فوضى إقليمية لتجزأته وتقسيمه على قاعدة التعدّدية الحضارية والفدراليات والكانتونات الأقلّوية. وهذا يتطلّب دراسة مفصّلة حول الأكراد في شمال العراق، والوضع في جنوب السودان، والحريّات الدينية في مصر... وغيرها من المسائل التي تلامس الأقلّيات وتهدّد بفوضى إقليمية جديدة من معالمها حروب أهلية واضطرابات وأشكال من التقسيم والتجزئة.
لبننة الفوضى
ما هو انعكاس الفوضى الدولية والإقليمية على لبنان؟ يطيب للبعض اعتبار الفوضى ميزة خاصة تطبع اللبنانيين، والبعض يربطها بزمن الفينيقيين لأنّه من طباعهم المركنتيلية الملازمة لسكان الشواطئ والتجار، وما ينتج عن ذلك من فردانية تتفلّت من كل نظام وتنظيم. وإذا تجاوزنا هذا التحليل التاريخي لطباع وسلوك اللبناني، فإننا نرى أنّ الفوضى رافقت الحياة السياسية اللبنانية، ومرّت في ثلاث مراحل في العصر الحديث هي:
1 ـ فوضى الحرب، امتدت من بدايات الحرب حتى اتفاق الطائف.
2 ـ فوضى البناء، ابتدأت من اتفاق الطائف واستمرت حتى التمديد للرئيس لحود واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
3 ـ الفوضى البنّاءة، وهي مرحلة إنتقالية ابتدأت مع القرار 1559 وانسحاب الجيش السوري من لبنان، ولم تتوضح بعد نهايتها ومعالم المستقبل الجديد.
1 ـ فوضى الحرب
أقل ما يُقال في الحرب اللبنانية التي اشتعلت عام 1975 بأنها كانت وليدة "القتال المدمّر الفوضوي" على حدّ تعبير الدكتور "جورج قرم"([1]). من أسباب هذه الحرب الفوضى السياسية والاقتصادية التي سادت لبنان في مطلع السبعينيات نتيجة أزمة نظام سياسي متعثّر وأزمة هوية مبعثرة بين لبنانية منغلقة إلى حدّ الانعزال، وعروبة خيالية إلى حدّ الضياع، وقد فجّرتها صدامات بين الجيش والفدائيين وفاقمتها أزمة اقتصادية اجتماعية قسّمت المجتمع بين محرومين وأحزمة فقر من جهة، وطبقة رأسمالية إقطاعية طائفية من جهة أخرى.
ولعب لبنان كالعادة "دور المختبر الطليعي للفوضى الدولية التي عمّت تدريجياً مناطق العالم وراحت تنذر بمزيد من المتاعب في مناطق أخرى"، حسب الدكتور جورج قرم في المرجع السابق ذكره. وهذه الفوضى عرفت بـ "اللبننة"، وهي شقيقة البلقنة، للتعبير عن فوضى التجّزئة والتقسيم والاقتتال المجاني، وقد جرى تصديرها إلى الخارج وأصبحت نموذجاً في أفغانستان، الجزائر، الصومال، رواندا، أنغولا، العراق والبوسنة...
وهذه الفوضى استمرت حتى اتفاق الطائف، وهو تسوية تاريخية بين المتقاتلين تحت رعاية إقليمية دولية وضعت حدّاً لفوضى الحرب لتبدأ مرحلة جديدة يمكن وصفها بفوضى البناء.
2 ـ فوضى البناء نجح اتفاق الطائف في إدخال لبنان "جنّة" السلم الأهلي وأوقف لغة المدفع وفوضى السلاح والاقتتال، لكنّه فشل في بناء نظام العدالة والقانون والمؤسسات، فإذا بالسلم الأهلي نظام غير مستقر تسوده الفوضى في العمران والبناء والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية، ويمكن تلخيص سماتها كما يلي:
1 ـ ظهور حالات مذهلة من التفاوت في الثروات والمداخيل، ونشوء فئة من الأثرياء الجدد ذات ثقل دولي.
2 ـ إنتشار تجارة المخدرات والأسلحة والتهريب والرشوة والفساد على أنواعه واستباحة الأموال والأملاك العامة.
3 ـ تقوية النظام الطائفي وتعزيزه مؤسّسياً بحجّة إزالته تدريجياً.
4 ـ إنهيار العمل السياسي المنظّم بالرغم من كثرة الكلام حول الديمقراطية والتعددية، فعرف لبنان الكثير من الحريّة والقليل من الديمقراطيّة.
5 ـ إنهيار الثقافة السياسية المبنية على مفاهيم واضحة وعلى عقائد متمحورة حول مفاهيم الصالح العام أو الصالح المجتمعي، واستبدال الثقافة السياسية بالضجة الإعلامية المستمرة عبر الوسائل البصرية. فوضى المفاهيم لا تؤسس لنهضة عمرانية.
6 ـ همّ الناس اليومي يقتصر على البحث عن لقمة العيش في حالة الفقر، وعلى البحث عن زيادة الإفراط في الاستهلاك البذخي في حالة الغنى. وفي الحالتين يواكب هذا الهمّ المادي اضطراب نفساني عميق يتمحور حول البحث، إمّا عن هوية عرقية أو طائفية أو مذهبية أو إقليمية ضيقة، أو عن هوية دينية أشمل وأوسع من الهوية القومية أو الوطنية التقليدية.
7 ـ عجزت الطبقة السياسية عن تقوية دور الدولة، مما أدّى إلى انحطاط النظام الديمقراطي الرأسمالي وظهور المزيد من التشتّت والتشرذم واستغلال الدين والطائفية لتأجيج الصراعات وإضعاف تماثل المجتمع.
8 ـ هذه الفوضى ناتجة عن انهيار قيم فلسفة الأنوار في العالم، لذلك نعيش في نوع من الفراغ الفكري والحضاري والشعور بالإحباط واليأس وفي حالة جمود فكري و"تفاهة" إجتماعية وثقافية.
في ختام استعراضه لسمات الفوضى في لبنان اعتبر الدكتور جورج قرم أننا أمام "الخط الفاصل بين الفوضى والعمران... هل نحن مع الحرية أم أننّا استسلمنا إلى من يريد ويؤجج الفوضى الدولية؟!".
سؤال لم يتسنّ للدكتور قرم الإجابة عنه، فجاءت الأحداث اللبنانية العاصفة، من التمديد إلى استشهاد الرئيس الحريري إلى القرار 1559 إلى خروج الجيش السوري من لبنان، لتدخل بلدنا في مرحلة جديدة عرفت باسم "عدم الإستقرار البنّاء".
فوضى البناء التي امتدت من اتفاق الطائف إلى القرار 1559 أفرزت طبقة سياسية واحدة توزّعت بين المعارضة والموالاة، في تداول السلطة والحكم، محكومة بعقد الاستئثار والإقصاء والثأر، ما شجّع السلوك الانتهازي والفوضى، علماً بأنّه في ظل التركيبة اللبنانية، يصل إلى الحكم أشخاص لا يكونون بالضرورة هم الذين يمتلكون السلطة الفعلية. في لبنان نظام أمني طائفي فاسد، وبعض الزعماء، وإن كانوا خارج الحكم، يمتلكون أحياناً سلطة بفعل موقعهم الطائفي، أو يتنعّمون بثروة طائلة توفّر لهم الخدمات والأتباع ويتاح لهم نفوذ يستمدّونه من تحالفاتهم الخارجية (عربية أو دولية).
أما قوى التغيير الفعلية (يمينية أو يسارية) فكانت بعيدة عن مواقع الحكم والسلطة، وذلك نتيجة الإقصاء أو الإبعاد أو نتيجة الأزمة البنيوية الفكرية والتنظيمية التي تعاني منها، أو بسبب تدجين أطراف من هذه التيارات والأحزاب.
3 ـ الفوضى البنّاءة
إنّ فوضى البناء أوصلت البلاد إلى تمديد حالة الفوضى وإغراق لبنان في أزمة نظام وهوية وتخلّف، أدخلت البلد في مرحلة انتقالية جديدة غير واضحة النتائج، مفتوحة على كل الاحتمالات، تحكمها ثلاثة سيناريوهات.
أولاً: الفوضى الخلاّقة:
استعرض "روبرت ساتلوف" مدير معهد واشنطن، سياسة الإدارة الأميركية في سوريا ولبنان المعروفة باسم "عدم الاستقرار البنّاء" وهي السياسة التي اعتمدها الرئيس جورج بوش بديلاً من سياسة الحفاظ على الإستقرار في الشرق الأوسط التي ميّزت السياسة الأميركية تاريخياً. وسنكتفي باستعراض أهم المحطات التي أشار إليها التقرير والتي تفضح آلية الفوضى المدمرة على الطريقة الأميركية([2])، ومن أبرز بنوده:
- وصلت "سياسة بوش لعدم الاستقرار البنّاء" في الشرق الأوسط إلى منعطف دقيق في لبنان، وكخطوة أولى ركّز بوش جهوده على أحد بنود القرار 1559 مستغلاً التداخل النادر للأحداث وللمصالح الدولية.
-وجدت الإدارة أنّ الخطوة التالية الضرورية يجب أن تكون الانتخابات النيابية، وكي تكون "حرّة وعادلة" يجب أن تخضع لمراقبة دولية، إضافة إلى الانسحاب السوري الكامل.
- نظراً لصعوبة تحقيق هذه الأهداف مجتمعة، ينبغي تجزئة مسألة تجريد حزب الله من سلاحه وفقاً للأولويات. إن أكثر العناصر تهديداً لاستقرار المنطقة (تل أبيب)هي في ترسانة الحزب وتتمثّل في امتلاكه للمئات من الصواريخ بعيدة المدى، ولذا فإنّ نزع هذه الصواريخ من الحزب ومن كل لبنان مسألة استراتيجية أو أمنية استراتيجية، كذلك يجب إخراج الخبراء العسكريين الإيرانيين ومنعهم من البقاء تحت أي صفة أخرى، إضافة إلى منع أيّ وسيلة تسمح بتزويد الحزب بالعتاد عبر السفارة الإيرانية.
- الطريق إلى دمشق:
عدم منح هذا النظام حبال إنقاذ. لطالما استخدمت سوريا مسألة انخراطها في عملية السلام العربي "الإسرائيلي" وسيلة لتجنّب تصنيفها مع دول محور الشرّ. لذا يجب على الولايات المتحدة ألاّ تمنح سوريا مثل هذا العذر. وما يمكن أن يحظى باهتمام الإدارة الأميركية هو أحد احتمالين مستبعدين:
الأول: زيارة الأسد لإسرائيل لمخاطبة الشعب "الإسرائيلي" حول السلام وطرد كل المنظمات المعادية للسلام من الأراضي السورية، بالإضافة لإدانة العنف.
الثاني: صراع مسلّح أو "مقاومة وطنية" كوسيلة لحل النزاع العربي "الإسرائيلي".
- تاريخياً، كان السعي للحفاظ على الإستقرار ميزة أساسية في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. جورج بوش كان أول رئيس يقول إنّ الاستقرار بحدّ ذاته عثرة في طريق المصالح الأميركية في المنطقة. بعد أحداث 11 أيلول، سعت الإدارة نحو سياسة من عدم الاستقرار البنّاء، بناءً على الاعتقاد بأنّ حماية المواطنين الأميركيين والمصالح الأميركية تتم عبر تغييرات أساسية في أنظمة الشرق الأوسط. وفي هذا الاتجاه اتخذت الولايات المتحدة عدداً من الإجراءات القسرية وغير القسرية بدءاً من الحرب على أفغانستان والعراق، وصولاً إلى عزل ياسر عرفات وتشجيع رئاسة فلسطينية جديدة "مسالمة" ويمكن التعويل عليها، ثم إلى الضغط بلطف على مصر والسعودية للمضي في طريق الإصلاحات.
- فقط في لبنان ترتبط المفكرة الديموقراطية بهموم استراتيجية تقليدية، أي حلّ مسألة سلاح إيران النووي سلمياً، لأنّ من الصعب ألاّ تعتبر إيران المفاوضات حول السلاح النووي والـ 1559 ، إلاّ كحملة دولية متكاملة للقضاء على تأثيرها الإقليمي.
الموضوع اللبناني يلامس عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما يثير نقاشاً داخلياً إسرائيلياً حول مدى الفائدة من الديموقراطية على حساب الاستقرار، بالإضافة إلى يقظة عالمية غير مسبوقة (إدراج حزب الله من قبل البرلمان الأوروبي في لائحة المنظمات الإرهابية إضافة إلى إشارة بوش لسوريا كمضيفة للمسؤولين عن تفجير تل أبيب الأخير).
- على الرغم من أنّ كلاً من هذه العوامل هو ميزة خاصة للوضع اللبناني، إلاّ أنّها كلّها مترابطة. فإسرائيل وإيران، وأوروبا والولايات المتحدة، وسوريا والفلسطينيون، كلهم يلتقون في لبنان.
- في هذا الإطار ينبغي الإجابة عن الأحجية الديمقراطية "وهي الإسراع في الترويج للحرية في الشرق الأوسط مقابل وصول إسلاميين مناهضين للغرب إلى السلطة. والحلّ يكمن في مسؤولية واشنطن في الاستثمار في إنجاح ديموقراطيين، وليس فقط المثالية المجرّدة للديموقراطية. وليس من النفاق تحويل الدعم الأميركي للديموقراطية إلى دعم عملي سياسي، معنوي، مادي وغيره، للعرب الليبراليين الديموقراطيين.
ثانياً: الفوضى المدمّرة
أو الفوضى غير البنّاءة التي تخطط لها الولايات المتحدة، دون الإفصاح عنها صراحة وعلناً. فتحت عنوان نشر الديموقراطية والحرية في الشرق الأوسط، تخطّط الولايات المتحدة لنشر آلية التدمير والخراب انطلاقاً من لبنان وتصديرها إلى سوريا والمنطقة العربية.
وملامح المشاريع التي تزعزع الاستقرار في لبنان دون ضبط عملية التحول والتغيير، والتي تعرّض لبنان للفوضى المدمرة غير البنّاءة، عديدة، ويمكن تلخيص بعض معالمها بالتالي:
أ ـ تقسيم لبنان.
رغم تأكيد اتفاق الطائف على رفض التقسيم، إلاّ أنّ مشاريع التقسيم ما زالت مطروحة. البعض منها ما زال في أروقة سرية، والبعض الآخر يجري التداول به في أوساط دولية. ونكتفي في هذا المجال بالإشارة إلى مشروع قدّمته مجموعة من اللبنانيين البارزين في الولايات المتحدة إلى تجمّع المحافظين الجدد، و هو مشروع متكامل وموثّق يقع في 280 صفحة، حول ما أطلقوا عليه "الطريقة المثلى" لتقسيم لبنان دولتين. مسيحية ومسلمة، "على غرار تجارب قبرص وكوسوفو والبوسنة". ويبرّر التقرير مشروع تقسيم لبنان بقصد حماية من "تبقّى من مسيحيين" فيه وفي الشرق الأوسط من مخاطر "الهجرة والإنقراض"، ومن طغيان الأغلبية الإسلامية الساحقة "في العالم العربي على أقلّياته المسيحية". ويعترف التقرير بأنّ مشروع التقسيم يواجه صعوبات جمّة، غير أنّه ضروري ولو اقتضى الأمر "فرز بعض السكان وإجراء عمليات تبادل واسعة"... بعدالة وذكاء "لمنع أي تداخل أو احتكاك بين المسيحيين والمسلمين من شأنه أن يولّد الاضطرابات في المستقبل، وقد تكون عملية "التهجير القسري" التي حصلت خلال حرب لبنان "قاعدة" يمكن استخدامها في هذا المجال.
ويبدي أصحاب هذا التقرير خشيتهم من تزايد الهجرة المسيحية من لبنان، ولا تفوتهم الملاحظة أنّه كما غادر نصف مسيحيي لبنان وطنهم قسراً منذ منتصف السبعينيات، فإن النصف الباقي يمكن أن يغادر خلال السنوات العشر المقبلة، فتتكرر مأساة المسيحيين الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون ما نسبته 35 في المئة عند قيام دولة إسرائيل عام 1948 ، فانخفضت هذه النسبة بسبب الضغوط الإسرائيلية والإسلامية، على حال ما جاء في التقرير، لتصل إلى حدود 2 في المئة في العام 2004
ويجهد واضعو هذا التقرير لإظهار عملية التقسيم على أنّها مشروع يمكن إتمامه بصورة "هادئة وسلمية" إذا ما اتبّعت منهجية ذكية، ودونما حاجة إلى "طرد المسلمين من لبنان إلى سوريا بالقوة"، ودونما الوقوع في شرك إنشاء "إسرائيل ثانية". ويقترح التقرير ترك الخيار أمام مسلمي لبنان بـ"الالتحاق أو الاندماج" بسوريا إذا شاءوا.
وفي الإطار نفسه كشف الوزير السابق سليمان فرنجية في مطلع آذار الماضي عن مشاريع تقسيم يروّج لها رجال إكليروس في لبنان ممّا أثار حذر أوساط مسيحية واسعة. وفي 13/3/2005 دعا مجلس كنائس الشرق الأوسط في القاهرة، الأنبا شنودة، وبطاركة طائفتي الكاثوليك والروم الأرثوذكس في مصر، وعدداً من رؤساء الطوائف المسيحية في الشرق الأوسط إلى اجتماع عاجل لم يحدد موعده بعد، بوصفهم أعضاء في المجلس، لمناقشة تصريحات وزير الداخلية اللبناني المستقيل سليمان فرنجية، التي اتّهم فيها بعض رجال الدين المسيحي (الإكليروس اللبناني) بأنّهم "قدّموا مشاريع خرائط مرسومة تحوي تقسيماً مسيحياً لدولة لبنان، لرؤساء دول غربية، وتلقّيهم وعداً بكيانات خاصة لهم بعد تقسيم لبنان".
وقال رئيس مجلس كنائس الشرق الأوسط صفوت البياضي إن "اتهامات فرنجية خطيرة وتعني ضلوع بعض رجال الإكليروس اللبنانيين في مشاريع تفتيت لبنان، ما يعيد شبح الحرب الأهلية من جديد"، مؤكّداً رفض المجلس لهذه الاتهامات وخشيته من خطورة اشتعال الأوضاع. وأشار إلى أنّ اتهامات فرنجية تأتي في الوقت الذي يبدي فيه البطريرك الماروني مار نصر الله صفير تحرّكات إجرائية يلتقي خلالها الرئيسان الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك، وهو ما يجعله عرضة لاتهامات الوزير المستقيل. وأعلن البياضي تكليفه الأمين العام للمجلس جرجس صالح، بالسفر إلى لبنان وإجراء لقاءات مباشرة مع رجال الدين المسيحي المشار اليهم لاستقصاء حقيقة اتهامات فرنجية وتقديم تقرير للمجلس بها لاتخاذ القرار المناسب([3]) حيالها.
وترافق مع تسريب هذه التقارير والتصريحات، تعليقات صحافية في لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة تتخوّف من عودة الاعتبار لمشاريع التقسيم، ونكتفي بالإشارة إلى البعض منها:
- الصحافي "سركيس نعّوم" في "النهار"، عدد 27 كانون الأول 2004 ، أبدى تخوّفه من محاولات رفض اتفاق الطائف "مما سيؤدي إلى إعادة نظر جديدة في الوضع اللبناني يمكن أن تؤثر على الوحدة والكيان والعيش المشترك، إذ من جهة يمكن أن يعود البعض إلى المطالبة بصيغ للنظام رفضت في السابق وكانت من أسباب استمرار الحروب التي شهدها لبنان مثل الفيدرالية أو الكونفيدرالية، متشجّعاً بتوجّه العراق، وهو دولة عربية شقيقة، نحو صيغة كهذه، وأكثر من ذلك، بدعم المجتمع الدولي لها".
- كشفت الصحف الأميركية واللبنانية عن تحركات للأقليّات العربية في الولايات المتحدة وتوفير الدعم والتشجيع لها وكان أبرزها "مؤتمر الأميركيين الشرق أوسطيين من أجل الحرية والديموقراطية" الذي أقيم في واشنطن في الأول من تشرين الأول 2004 وضمّ حوالى 400 مندوباً يمثّلون هيئات ومنظمات أقلّوية خلصت إلى دعم القرار الدولي 1559 وطالبت بدعم الولايات المتحدة لحقوقها، وقد تلقى المؤتمر رسالة تنويه من الرئيس بوش.
- ومن جهتها، كشفت الصحف الإسرائيلية([4]) عن تقرير للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تعبّر فيه عن تفاؤلها بالعام 2005 نتيجة التطوّرات الأخيرة في الشرق الأوسط لمصلحة إسرائيل التي شهدت تراجعاً للعمليات العسكرية ضدها مقابل تصاعد للصراع الطائفي في لبنان والعراق، "ومن المنتظر أن يؤدي ذلك إلى بلورة كيانات سياسية جديدة وتقسيمات إقليمية من بيروت مروراً بدمشق وحتى بغداد".
إنّ مشاريع التقسيم في المنطقة ولبنان تعتمدها واشنطن من أجل تشجيع الفوضى فيه، وهذا ما أكّده الباحث الكندي "فرد ريد" بقوله "إن الكيانات الحالية القائمة في المنطقة ليست سوى نتيجة لاتفاق سايكس ـ بيكو الذي تحاول الإدارة الأميركية نسفه من أجل إرساء نظام جديد قائم على هندسة جديدة تلائم الاستعمار الأميركي للمنطقة"([5]).
ب ـ التوطين:
من آليات الفوضى المدمرة. شبح توطين الفلسطينيين في لبنان خصوصاً بعد اتجاه التسوية الإسرائيلية الفلسطينية إلى رفض عودة الفلسطينيين إلى ديارهم. لن نستعرض في هذه الدراسة الصيغ والتقارير التي تستعرض مشاريع توطين الفلسطينيين في أماكن إقامتهم، بل نكتفي بالإشارة إلى أنّ اتفاق الطائف أكّد رفض التوطين، لكنّ محاولات فرضه ما زالت مستمرة نتيجة التسوية السلمية غير العادلة في المنطقة والتي تحاول إسرائيل والولايات المتحدة فرضها على حساب حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه وحق الشعب اللبناني في رفض توطين الفلسطينيين على أرضه، لذلك تمّ الربط بين التوطين والتقسيم، لما يولّده التوطين من خلل ديموغرافي على التركيبة الطائفية اللبنانية، وهذا ما كشفت عنه جريدة "الوطن" السعودية([6]) في تقرير خاص عن اتصالات أجراها بعض اللبنانيين مع مسؤولين أميركيين وإسرائيليين "لممارسة الضغط على سوريا لسحب قواتها من لبنان. وقالت المصادر إنّ هؤلاء يعملون على إقناع الولايات المتحدة بتوطين الفلسطينيين في لبنان لتبرير مطالبة المسيحيين المتشددين بفرض تقسيم لبنان". إلى ذلك فانّ مطلب تجريد الفلسطينيين من سلاحهم كما ورد في القرار 1559 هو المدخل لإشعال حرب مخيمات جديدة.
ج ـ التدويل:
من آليات الفوضى المدمّرة، إعادة طرح مشاريع تدويل لبنان، إمّا سلمياً عبر الإدارة الدولية التي تشهدها الساحة اللبنانية من لجنة تحقيق باغتيال الرئيس الحريري، إلى لجنة التحقّق من انسحاب الجيش السوري، إلى مراقبة دولية للانتخابات النيابية، إلى لجنة الإشراف على تنفيذ القرار ...1559 وغيرها من الصيغ التي وضعت لبنان تحت مظلة دولية أو انتداب دولي بأسلوب "سلمي"، أما الأخطر فهو ما يطرح من مشاريع عسكرية لتدويل المسألة اللبنانية، وهناك عدة سيناريوهات حول التدخل الدولي في لبنان منها:
- بعد المأزق الذي وصلت إليه الولايات المتحدة في العراق، تحاول واشنطن إعطاء دور أكبر للأمم المتحدة ولحلف الأطلسي في إطار خطة شاملة تلحظ نشر قوات دولية في العراق وغزّة ولبنان. يقول بريجنسكي. "إنها مسألة وقت قبل أن نرى وصول قوات من حلف شمال الأطلسي تفصل بين الفلسطينيين وإسرائيل"([7]).
- تدور من وقت إلى آخر مداولات في الكواليس الدولية حول احتمال تعديل مهمّة القوات الدولية في جنوب لبنان لتشمل كل لبنان وتكلّف بمهمة تنفيذ القرار الدولي 1559
- تلوّح الولايات المتحدة من وقت إلى آخر بإمكانية التدخل العسكري المباشر في لبنان عبر تسريب معلومات حول تحرّكات الأسطول الأميركي السادس المرابط في المتوسط على مسافة غير بعيدة من الشواطئ اللبنانية والسورية.
وحول خطة التدخل العسكري الأميركي في لبنان، كشف قائد القوات المركزية الأميركية جون أبي زيد أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ في الأول من آذار الماضي حول تصوّر عمل القوات الأميركية خلال عام 2005 بالنسبة لسوريا ولبنان، حيث ذكر أنّ هذين البلدين قد أضيفا إلى قيادة القوات المركزية في نيسان من العام 2004، في إشارة واضحة إلى الإستعداد الأميركي للتدخل العسكري والأمني في لبنان وسوريا عند الضرورة، أو على الأقل توفير الدعم والمساعدة للجيش اللبناني والقوات الأمنية لتطوير قدراتهما وإمكاناتهما العسكرية والمالية واللوجستية.
هذا بالإضافة إلى الاعتماد على الوحدات الخاصة الجديدة التي أنشأها البنتاغون لمهمة تثبيت الأمن والاستقرار على ضوء التجربة العراقية.
- أشارت بعض التقارير الفرنسية نقلاً عن قيادة الحلف الأطلسي في بروكسل إلى إنشاء خمس قواعد جوية وبرية في كل من الأردن وإسرائيل ومصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، إلى جانب القاعدة الأضخم في تركيا... وربما في لبنان([8]).
- التقاء المصالح الأميركية والأوروبية في الشرق الأوسط أدّى إلى "انقلاب استراتيجي" ومهّد الطريق أمام دور جديد للحلف الأطلسي في الشرق الأوسط، لا تعارضه الأمم المتحدة، وقد يؤدي إلى نشر قوات أطلسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين إثر التوصل إلى تسوية بينهما، ونشر قوات مماثلة على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية والحدود اللبنانية ـ السورية، ومن الواضح أن الدور الأطلسي الجديد يمكن أن "ينفلش" إلى العراق وإيران مع فرض حلول أطلسية على سوريا([9]).
د ـ الحرب الأهلية:
بعد أن استعرضنا آليات الفوضى المدمّرة بفعل عوامل إقليمية متفاقمة كالتقسيم والتوطين والتدويل، نتوقف، ولو سريعاً، حول آلية الفوضى المدمرة لعوامل داخلية تتجلّى بالتقاء الفوضى الاقتصادية والاجتماعية مع الفوضى الأمنية والسياسية، ممّا يولّد حرباً أهلية لها أسباب وأبعاد متنوّعة يمكن تلخيصها بالعناوين التالية:
*أزمة حكم تؤدّي إلى تعطيل الحياة السياسية، وتوليد فراغ دستوري في المؤسسات الشرعية من رئاسة الجمهورية إلى المجلس النيابي فالحكومة. لقد تجاوز لبنان مؤخراً بعض هذه المآزق لكن آليات العمل الديموقراطية لا تبشّر بأن لبنان قادر دوماً على حلّ مشاكله السياسية والدستورية بطرق سلمية طبيعية، ما قد يؤدي إلى نشوب فوضى دستورية لغياب آلية الاحتكام إلى مرجعية ديموقراطية واضحة المعالم. فنظام لبنان الحالي هو توليفة هجينة في نظام توافقي، طوائفي شكلاً، قائم فعلياً على الاقتسام والمحاصصة والفساد دوماً.
*أزمة اجتماعية مالية اقتصادية تهدّد استقراره وتهدد بانقسام طبقي حاد نتيجة الفقر والهجرة والتخلّف والبطالة، مما يولّد فوضى اقتصادية تهدّد بثورة شعبية نتيجة الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي.
*أزمة هوية نتيجة تداخل مسألة الصراع العربي الاسرائيلي مع أزمات المنطقة العربية وانعكاساتها على تجاذبات الساحة الداخلية. فلبنان كان عبر تاريخه جسر عبور ونقطة انفصال واتصال بين الحالة العربية المأزومة والحالة اللبنانية المتأزّمة. فهناك ترابط وتداخل بين القومي والوطني، بين الإقليمي والدولي والمحلّي، ولا يمكن تالياً عزل صراعات لبنان الداخلية عن الصراعات العربية والدولية. من هنا فإنّ أزمة الهوية تهدّد بفوضى المفاهيم وتعرّض لبنان ليكون ساحة لحروب الآخرين على أرضه، أو ليكون ممراً تصدّر منه الفوضى والأزمات إلى المنطقة العربية، فهو نموذج مزدوج لحالتي الإستقرار والفوضى.
*تنامي الأصوليات الدينية والمذهبية وتصاعد التيارات الراديكالية وتجذّر الحركات الطائفية التي تتّخذ أحياناً أشكالاً عنصرية وتدميرية يتحكّم فيها وهم السلطة والاستئثار ورفض الآخر، مما يهدّد تسوية الطائف بعدم الاستمرار، ويتخوّف البعض من نهج الاستقواء بالخارج العربي أو الدولي للانقلاب على الطائف وتفجير الإستقرار بفوضى غير بنّاءة تدمّر البناء القائم وتكون عاجزة عن بناء جديد، مما يدخل البلاد في دوامة الفوضى و عدم الاستقرار، لأنّ الظروف الدولية والإقليمية والداخلية غير مؤاتية لاستنباط تسوية تاريخية عادلة وقابلة للحياة.
*يمرّ لبنان في مرحلة انتقالية تتميّز بفوضى الأوزان وفوضى الإتزّان، لوجود اتحاد مرجعيات وتعدّد رعايات مما يشجع على المغامرات الفاشلة وغير المحسوبة.
ثالثاً ـ الفوضى المنظّمة: التغيير
وهو السيناريو الأكثر تفاؤلاً، ولن نتوقف عنده طويلاً، وهو يختصر بإمكانية إجراء تغيير جذري وجدّي بطريقة ديموقراطية سلمية، فتتبدّل طبيعة النظام القائم على الطائفية والفساد والأمن إلى نظام ديمقراطي مدني تنموي يقوده إنسان جديد ملتزم بالمبادئ والأخلاق والقيم الإنسانية المتجددة وقادر على الخروج من حالة الفوضى والبلبلة إلى حالة النهضة والعمران والتقدّم. مع العلم أنّ الفوضى الثورية كانت البداية والأساس في تفجير ثورات عالمية هامة. منها الثوررتين الفرنسية والروسية. فهل ينظّم اللبنانيون حالة الفوضى المتعددة الأوجه التي تهدّد حياتهم السياسية والوطنية والاجتماعية، أم يتركون الفوضى تلتهم استقرارهم وازدهارهم، فتقضي مرة جديدة، حربهم الأهلية المدمّرة على البشر والحجر وجمال الطبيعة؟
سؤال برسم المستقبل، موجّه إلى الجيل الجديد، حتى لا يكرّر مآسي فوضى الآباء والأجداد.
ثمّ، هل يصدّر لبنان فوضاه إلى سوريا والدول العربية، أم يتحوّل إلى نموذج ديموقراطي بنّاء؟
[1] محاضرة للدكتور جورج قرم نشرها في مجلة "المستقبل العربي" عدد تشرين الأول 1994
[2] نشرت التقرير صحيفة "السفير" اللبنانية في عددها الصادر بتاريخ 8/4/2005
[3] النشرة 14/3/2005
[4] صحيفة "معاريف" 23/3/2005
[5] صحيفة "النهار" اللبنانية 5/1/2004
[6] صحيفة "الوطن" السعودية 10/3/2005
[7] صحيفة "النهار" اللبنانية 10/3/2004
[8] النشرة 17/11/2004
[9] مجلة "الكفاح العربي" اللبنانية 21/3/2005
anarchy in Lebanon
The researcher sees that the preventive war adopted by the United States represents the source of the anarchy in the world. In opposite of Washington’s desires, this anarchy didn’t realize until now the American goals, notably in Iraq, which pushed the administration of president Georges Bush to get up the slogan: “ introducing democracy in the Arab countries”. Indeed, the American administration doesn’t leave a margin rather wide to the others, but she put the world in front of different choices: or a world wide system and she takes care alone to impose the strength, or anarchy
In the Middle-East, where anarchy was under the aegis: “ American peace “ that implies the military basic establishments, and the signature agreed with the states of the region. All that is in the interest of American attitude on Lebanon that figured in a period before “ laboratory pioneer of international anarchy” to the conclusion of the agreement of taef that put an end to this state, and that has establishes civil peace. But the American project needs the broadcasting of the “ constructive instability”
All that is in line with the framework on the Israeli. Then the resolution 1559 attempts persevered to sow the denominational discord to Lebanon, just as in Iraq, in hope that results in establishment again political entities, from Beirut. Trough Damask and arriving to Baghdad . And if the researcher exposes the mechanisms of anarchy destructive by the effect of regional factors megalomaniacs as the division, establishment and the internationalisation, it notices the development of religious and denominational ethnic groups and the entrainment of the movements denominational. The researcher concludes wondering if the Lebanese are going to organize the anarchy state that threatens their life, or if they will leave it to invade their stability and their prosperity? Lebanon will export his anarchy to Syria and to the Arabic states, or it will be the example of constructive democracy
L’anarchie internationale et régionale, l’anarchie non constructive au Liban
Selon le chercheur, la guerre préventive adoptée par les Etats-Unis est la source de l’anarchie dans le monde.
Par opposition aux désirs de Washington, cette anarchie n’a pas encore realisé les buts américain surtout en Irak, ce qui a poussé l’administration du president Georges Bush à introduire le slogan:” la démocratie dans le monde arabe”.
En fait, cette administration n’accorde pas une large marge aux autres, mais plutot elle met le monde devant un choix assez difficile: soit un système mondial dont elle detient le pouvoir, soit alors l’anarchie.
Au Moyen-OrIent, l’anarchie a été mise en place sous l’egide de la paix americaine qui implique quand à elle l’établissement de bases militaires, et la signature d’accords avec les états de la région , tout cela étant dans l’intérêt des Etats-Unis.
Le chercheur expose cette attitude américaine se reflétant sur le Liban. Elle figurait dans une phase antécédante dans ce qu’on appelle le Laboratoire pionnier de l’anarchie internationale”"
L’accord de Taêf a alors mis fin à cet etat et a établi la paix civile. Par contre, le projet americain imposait alors la diffusion de l’instabilité collective. La resolution 1559 a alors vu le jour.
Tout cela s’ensuit dans le cadre des tentatives israéliennes qui insistent pour semer les discordes confessionnelles au Liban ainsi qu’en Irak pour etablir de nouvelles entités politiques allant de Beyrouth, passant par Damas et arrivant à Bagdad.
Le chercheur expose les mécanismes de l’anarchie destructive et spécifiquement l’effet de facteurs régionaux tels que : la division , l’implantation et l’internationalisation.
De même, il remarque le développement d’ethnies religieuses et confessionnelles ainsi que l’enracinement des mouvements confessionnels.
Enfin le chercheur se demande si les libanais chercheront à organiser l’état d’anarchie qui menace leur vie ou à laisser envahir leur stabilité et leur prosperité.
Il pose la question suivant: le Liban exportera-t-il son anarchie à la Syrie et aux Etats arabes ou bien sera-t-il l’exemple démocratique constructif?