- En
- Fr
- عربي
المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، الطبيعة الخاصة لإختصاصه
المقدمة
يشكّل نظام العدالة الجزائية ركنًا أساسيًا من أركان الدولة المبني على إستقلالية السلطة القضائية كما حدّدتها المادة 20 من الدستور اللبناني. فهو الضمانة لحماية حقوق المواطن والوطن من كلّ اعتداء يمكن أن يقع عليهما، أو على أحدهما، من قبل الخارجين على القانون أو غير الملتزمين إياه. وقد كرّست الدولة اللبنانية هذه الضمانة في مقدّمة الدستور من خلال النص على التزامها مواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الانسان، وتجسيد هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات من دون استثناء[1]. إن الإعلان العالمي لحقوق الانسان، الذي شارك لبنان في صوغ أحكامه، ينصّ صراحةً في المادة 8 على حق كل إنسان في اللجوء الفعلي إلى المحاكم الوطنية المختصّة لحماية حقوقه الأساسية المعترف بها في الدستور والقانون من أي اعتداء[2]. كما أن المادة 11 من هذا الإعلان تكرّس قرينة براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته بمحاكمة علنية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه، وتنصّ على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ومبدأ عدم رجعية العقوبة الأشدّ[3].
تخلّ الجريمة بأمن المجتمع واستقراره فيستدعي الأمر ملاحقة من ارتكبها وإنزال العقاب فيه. والملاحقة والعقاب، اللذان تولاهما، في العهود القديمة، الشخص الضحية، أو بعض أقربائه، عن طريق الثأر من الجاني، فإن الدولة اليوم، بعد أن تكوّنت مقوّماتها الواقعية والقانونية، أصبحت هي من يتولّى أمر الملاحقة والمحاكمة والإقتصاص من الجاني، تحصيلاً لحقوق الضحية، والمجتمع، في آنٍ معًا.
من الثابت أنه بقدر ما يكون النظام الإجتماعي والسياسي، في بلدٍ ما، متطوّرًا، بقدر ما يكون نظام العدالة الجزائية، فيه، منظّمًا تنظيمًا دقيقًا بصورة يؤمّن فاعلية الأجهزة القضائية في ملاحقة المجرمين بغية محاكمتهم وإنزال العقاب بهم من جهة، وتأمين حماية الأشخاص والمجتمع، من الأفعال المخالفة للقانون من جهةٍ ثانية.
يعتبر القضاء الجزائي، بجميع فروعه، عاملاً فاعلاً في حياة المواطن والدولة، من خلال شمولية صلاحيته للمسائل الإجتماعية والإنسانية والإقتصادية. وبما أن مهمة القضاء الجزائي، تقضي أولاً وأساسًا، بإرساء قواعد العدالة الجزائية في المجتمع عن طريق قمع الجريمة وملاحقة المجرمين وإحالتهم على المحاكم الجزائية المختصة بهدف معاقبتهم وإعادة الحق المغتصب إلى أصحابه، وردع المهيّئين لارتكاب الجريمة.
لذلك، لما كان لا بد من إيجاد قواعد وأصول تصون هذه العدالة الجزائية، أوجد المشترع قوانين أصول الإجراءات الجزائية، أو المحاكمات الجزائية، التي ترتكز على مبادئ وأسس من شأنها تحقيق صحة هذه العدالة وفعاليتها.
شهد لبنان أوّل قانون لأصول المحاكمات الجزائية العام 1879، حين وضعت السلطنة العثمانية، التي كان تحت ظلّها، «قانون الأصول الجزائية العثماني، وأخضعته له». في تلك الحقبة، كان معظم أحكام هذا القانون مستوحىً من قانون التحقيق الجنائي الفرنسي الصادر في عهد نابليون العام 1808. وبعد أن نال لبنان استقلاله، صدر، في 18-9-1948، أوّل قانون وطني لأصول المحاكمات الجزائية. والغرابة أن واضع هذا القانون قد استوحاه من قانون التحقيق الجنائي الفرنسي، المذكور آنفًا، إلا أنّه أبقى عليه من دون تطوير يذكر، مع العلم أن المشترع الفرنسي كان، في ذلك التاريخ، قد ألغى قانون التحقيق الجنائي وسنّ قانونًا بديلاً عنه إكتمل صدوره العام 1959، وسمّي بقانون الأصول الجزائية (Code de procédure pénale).
قد تكون الجريمة من نوعٍ خاص، أي أن لمرتكبها صفة شخصية محدّدة، كالرئيس والوزير، أو كالعسكري، أو الحدث، مثلاً، أو أن يكون للجريمة طابع خاص (كجرائم الاعتداء على أمن الدولة، أو جريمة مرتكبة بوساطة مطبوعة)، فيعطي المشترع صلاحية النظر فيها إلى مرجعٍ إستثنائي. والهدف من هذا الاختصاص الخاص، أو الاستثنائي، هو المحافظة على حسن سير العدالة بالنسبة إلى هذا النوع الخاص من الجرائم حيث يصحّ القول عندها: «محكمة إستثنائية خاصة لجرائم إستثنائية خاصة». وهذا الأمر نجده في التشريع الفرنسي، وهو متعارف عليه منذ القدم بحيث تسند صلاحية محاكمة الوزراء إلى محكمة خاصة تعتبر من المحاكم الإستثنائية، كما ورد لدى أحد الفقهاء الفرنسيين.
«C’est une tradition française d’instituer une Cour spéciale pour juger les membres du gouvernement, mais c’est aussi une particularité de notre culture de considérer aussitôt cette Cour comme une juridiction d’exception, au sens péjoratif du terme»[4].
أعطى قانون أصول المحاكمات الجزائية الأخير، بموجب نصٍّ عام، المحاكم العادية صلاحية النظر في جميع الدعاوى الجزائية، ما لم يوجد قانون خاص يمنع عنها صلاحية النظر في قضايا معيّنة ليدخلها في اختصاص محاكم إستثنائية أو خاصة، كالمجلس العدلي، أو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء مثلاً؛ فاختصاص المحاكم العادية هو الأصل، لتمتّعها – المبدئي- بالولاية الشاملة.
لذلك، فإن المحاكم الاستثنائية لا يحقّ لها النظر إلّا بقضايا معيّنة، حدّدتها التشريعات الخاصة على وجه الحصر، فإختصاصها هو الاستثناء، أي أنها لا تنظر إلا في فئة محدّدة من الجرائم، وفق أصول خاصة.
وبخلاف القضاء الجزائي العادي، لا تكون المحاكم الإستثنائية الجزائية مختصّة بالنظر في قضية معيّنة إلّا بموجب نصّ قانوني خاص يبيح لها حق الملاحقة والمحاكمة في بعض الجرائم المحدّدة حصرًا، إما بالنظر إلى صفة الشخص المنسوب إليه إرتكاب هذه الجرائم أو المساهمة في ارتكابها، وإما بالنظر إلى طبيعة الأفعال الجرمية المرتكبة.
يحتلّ القضاء الجزائي الإستثنائي، في لبنان، حيّزًا هامًا في بنية الجسم القضائي، نظرًا إلى اختصاصه وتنوّع الأشخاص الذين يحالون على المحاكمة أمامه، سواء بالنسبة إلى صفتهم الوظيفية، أو إلى طبيعة الأفعال المنسوبة إليهم.
تشمل المحاكم الجزائية الإستثنائية في لبنان: المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والمجلس العدلي، والهيئة العامة لمحكمة التمييز الجزائية عندما تنظر بالجرائم المنسوبة إلى القضاة والقضاء العسكري ومحكمة الأحداث ومحكمة المطبوعات والمحكمة الناظرة في القضايا الجمركية ومحكمة مكافحة الغش والإحتكار.
لذلك، إخترنا التركيز في هذا البحث على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، لجهة الطبيعة الخاصة لإختصاصه نظرًا إلى صفة الأشخاص المحالين عليه وطبيعة الإدعاء الخاصة أمام هذا المجلس، لأن ما يحدّد اختصاصه هو صفة الشخص المدعى عليه كونه رئيسًا أو وزيرًا في تاريخ ارتكاب الجرم المنسوب إليه، بحيث لا تشمل صلاحية هذا المجلس سوى هؤلاء الأشخاص، ووفق وظيفتهم.
إن محور هذا البحث الذي نتناول فيه دراسة قضاء إستثنائي إختصاصًا وأصولاً، -قضاء ملاحقة الرؤساء والوزراء، الذي يتجلّى بتطبيقه عبر المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء- هو التركيز على الطبيعة الخاصة لإختصاص هذا المجلس، من حيث صفة الأشخاص الذين يخضعـون لسلطته. فماذا عن نشأة هذه المحكمة وكيف تبرز المسؤولية الجزائية للأشخاص الخاضعين لسلطتها؟ هذا ما سوف نبيّنه.
ارتأينا تقسيم هذا البحث إلى ثلاثة فصول، نطرح في الفصل الأول منه نشأة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وفي الثاني المسؤولية الجزائية لرئيس الجمهورية وما يتفرّع عنها لجهة تحديد صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمته، ولإستكمال البحث في إختصاص هذا المجلس لا بدّ من طرح المسؤولية الجزائية لرئيس مجلس الوزراء والوزراء وهذا ما سنراه في الفصل الثالث.
الفصل الأول: نشأة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء
إن البحث في مسؤولية كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، سيقودنا إلى الحديث عن المجلس الأعلى لمحاكمتهم، المنصوص عليه في الدستور، وعن قانون أصول محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء أمام هذا المجلس. وقد أطلق بعض الفقهاء على هذا النوع من المحاكمات تسمية القضاء السياسي. وفي هذه الحال، من الممكن أن تتخذ العقوبة شكل العقوبة السياسية، أو العقوبة الجزائية، أو العقوبة المدنية، أو شكلين إثنين، أو الأشكال الثلاثة على السواء[5].
الفقرة الأولى: لمحة تاريخية
نصّت وثيقة الوفاق الوطني على تشكيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وعلى سنّ قانون خاص بأصول المحاكمات لدى هذا المجلس تحقيقًا لما نصّت عليه المادة 80 من الدستور. ويرعى إنشاء هذا المجلس القانون الرقم 13 الصادر في 18-8-1990، الذي نظّم أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى المنصوص عنه في المادة 80 من الدستور. وهذا القانون مأخوذ، في معظم أحكامه، من القرار التشريعي الرقم 59-1 تاريخ 2-1-1959 المنظّم لمحكمة العدل العليا في فرنسا[6]. وهو يسدّ ثغرة مهمّة في نظامنا الدستوري وإن لم تتجلّ على الصعيد العملي حتى الآن؛ إلا أنه قد يشكّل رادعًا بحيث يفسح في المجال أمام تثبيت مسؤولية كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء بصورةٍ فاعلة.
إن النصوص الدستورية والقانونية المرعية الإجراء أوجدت التباسًا في رسم الحد الفاصل بين الجرائم العادية أو المخالفات الناتجة من الإخلال بالواجبات المترتّبة على رئيس مجلس الوزراء والوزراء. كما أن الاجتهاد لم يحسم الاختلاف في وجهات النظر ما بين المخالفات التي تندرج في إطار الجرائم العادية والتي ينبغي الملاحقة في شأنها أمام القضاء العادي وبين المخالفات التي تندرج في إطار الإخلال بالواجبات المترتّبة على رئيس الحكومة والوزراء والتي تنبغي المحاكمة في شأنها أمام المجلس الأعلى، وسار نحو التوسّع لجهة اعتبار الجرائم والمخالفات العادية ناتجة من الإخلال بالواجبات المفترض التقيّد بها من كل من يمارس سلطة عامة. لكننا نجد أن التوسّع هذا قد يؤدّي الى عرقلة ملاحقة المرتكب لأن المحاكمة أمام المجلس الأعلى تتطلّب إجراءات أصعب بكثير من الإجراءات التي يتطلّبها القضاء العادي، مما قد يساهم في إبقاء المرتكب بعيدًا عن الملاحقة.
شهد قانون المجلس الأعلى سابقتين في محاولة إقراره. كانت الأولى بموجب المرسوم الرقم 4132 في 25 آذار/مارس 1966، حيث أحيل مشروع القانون على مجلس النواب، في عهد حكومة الرئيس رشيد كرامي، إلا أنه بقي في أدراج المجلس. والثانية كانت في مطلع الثمانينيات، عندما تقدّم النائب ناظم القادري باقتراح للقانون، لم يلق هو الآخر أي إستجابة.
وبعد ذلك، جرت محاولة من رئاسة مجلس النواب، للسير في مشروع قانون تنظيم المجلس الأعلى وأصول المحاكمات أمامه. فتشكّلت العام 1987 لجنة خاصة، برئاسة نائب رئيس المجلس المرحوم الدكتور ألبير مخيبر حينذاك، لدرس اقتراح النائب القادري، وأنهت اللجنة دراستها خلال ثلاثة أشهر وعرضتها على اللجان النيابية المشتركة، التي أضافت عليه تعديلات أساسية.
كذلك واجهت مشكلة التوصّل إلى قانون أصول محاكمات الرؤساء والوزراء في فرنسا عوائق لتحقيق الأهداف المنشودة حتى العام 1993 وهو تاريخ صدور القانون الدستوري في 27/7/1993، المكمّل بالقانون التنظيمي في 23/11/1993.
«Le 19 juillet 1993, par une majorité de 833 voix contre 34, les parlementaires instituaient la Cour de Justice de la République en donnant une nouvelle rédaction au titre X de la Constitution. Ce texte devenu la loi constitutionnelle No 93.952 du 27 juillet 1993 était mis en application par la loi organique No 93.1252 du 23 novembre 1993, votée après des débats d’une grande qualité»[7].
وقد عدّل هذا القانون الفقرتين 68/1 و68/2 من الدستور الفرنسي للعام 1958، كردّ فعلٍ مباشر على السخط الشعبي العارم على أثر قضية الدم الملوّث (Le sang contaminé).
«En revanche, dans l’affaire du sang contaminé, aucune requête n’a été présentée par le parquet, ce sont les victimes qui ont adressé une pétition au président du Sénat»[8].
وتنفيذًا لما جاء في وثيقة الإصلاح الوطني العام 1989، قدّمت الحكومة اللبنانية مشروع قانون أصول المحاكمات لدى المجلس الأعلى، الذي صدر بالقانون الرقم 13/90، في 18 آب/أغسطس 1990، وتضمّن أربعة فصول: تأليف المجلس الأعلى، الإتهام والتحقيق، المحاكمة والحكم، أحكام إنتقالية وختامية.
الفقرة الثانية: تأليف المجلس الأعلى
عملاً بأحكام المادة 80 من الدستور، يتألّف المجلس من: سبعة نواب ينتخبهم المجلس النيابي في بدء كل ولاية وفي أول جلسة يعقدها كأعضاء أصيلين، وينتخب ثلاثة نواب آخرين إحتياطيين (المادة الأولى من ق.أ.م. المجلس الأعلى)، وذلك لمدة ولاية مجلس النواب، ومن ثمانية من أعلى القضاة اللبنانيين رتبةً حسب درجات التسلسل القضائي أو بالنظر إلى الأقدمية إذا تساوت درجاتهم، ويجتمعون تحت رئاسة أعلى هؤلاء القضاة رتبة (م 80 من الدستور).
تسمّي محكمة التمييز، بجميع غرفها، هؤلاء القضاة العدليين الثمانية بمن فيهم الرئيس، وتسمّي أيضًا ثلاثة قضاة عدليين أعضاء إحتياطيين. ويقوم بمهمة النيابة العامة لدى المجلس الأعلى، قاضٍ تسمّيه محكمة التمييز في هيئتها العامة، إضافةً إلى قاضيين معاونين له. وقد حدّدت المادة السابعة من ق.أ.م.المجلس الأعلى، المنوّه عنه أعلاه، حالات إنتهاء عضوية النائب والقاضي في هذا المجلس.
أعطي المجلس الأعلى صلاحية بتّ طلبات التنحي والرد (بالغالبية المطلقة من أعضائه وبالاقتراع السري)، وله صلاحية إعلان إستقالة أي من أعضائه، إما عفوًا أو بناءً على طلب النيابة العامة لديه. ويصدر رئيس المجلس الأعلى تعليمات خطية أو قرارات إلى المحاسب المختص في مجلس النواب لتنفيذ النفقات الخاصة بالمجلس الأعلى (م 16 من ق.أ.م. المجلس الأعلى).
خصّت المادتان 60 و71 من الدستور، محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، بالمجلس الأعلى. فبهاتين المادتين منوط تحديد الجهة أو المرجع الخاص الذي يفترض فيه تولّي هذا النوع من المحاكمات السياسية والقضائية. وهذا ما يدلّ بوضوح على الغاية من تأليف المجلس الأعلى على النحو الذي قام عليه. فالمجلس الأعلى يتألّف من قضاة وسياسيين، والجرائم التي ينظر فيها (خرق الدستور والخيانة العظمى والإخلال بواجبات الوظيفة) هي جرائم سياسية وليست جرائم عادية، ولا ينفي هذه الصفة كون المجلس الأعلى ينظر بالجرائم العادية التي يرتكبها رئيس الجمهورية وفق أحكام قانون العقوبات أيضًا. وتبقى الجرائم العادية التي يرتكبها رئيس مجلس الوزراء من صلاحية المحاكم العادية، التي تنظر فيها وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية، وتطبّق عليها أحكام قانون العقوبات.
الفقرة الثالثة: صلاحية المجلس الأعلى
إن إعطاء المجلس الأعلى، وفق ما نصّ عليه الدستور في المادتين 60 و70، صلاحية محاكمة رئيس الجمهورية لعلّتي خرق الدستور والخيانة العظمى وحتى لإرتكابه الجرائم العادية، ومحاكمة رئيس الوزراء والوزراء لإرتكابهم الخيانة العظمى أو لإخلالهم بالموجبات المترتّبة عليهم يجعله ليس محكمة سياسية فحسب وإنما أيضًا محكمة جزائية إستثنائية، إذ إن مهماته الأساسية تكمن في محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء بالجرائم المسندة إليهم. وتتأكّد هذه الصفة الجزائية بطبيعة إجراءات الإتهام المتبعة أمام المجلس النيابي الذي أعطي صلاحية إستثنائية ألا وهي حق تحريك الدعوى العامة مكان النيابة العامة، وبطبيعة إجراءات التحقيق أمام لجنة التحقيق.
ولكن لا يقتصر دور المجلس الأعلى على محاكمة رئيس الجمهورية في الحالات المنصوص عليها في المادة 60 من الدستور، بل إن من اختصاصه محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزير المتهم أمامه أيضًا تطبيقًا لنص المادة 71 من الدستور نفسه ووفق الإجراءات والأصول التي نص عليها القانون الرقم 13 في 18 آب/أغسطس 1990 والمتعلّق بأصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة 80 المنوّه بها أعلاه.
إن الدستور اللبناني لم يخصّص للمجلس الأعلى سوى بعض الأحكام المقتضبة الواردة في المواد 60 و61 و70 و71 و80، وعلى الرغم من تطبيق هذا القانون منذ تلك الفترة فإن أي إتهامات في حق أي من الوزراء لم تصدر عن المجلس النيابي لتحال على المجلس الأعلى، على الرغم من المخالفات الكثيرة التي وضع القضاء العدلي يده عليها في هذا الخصوص.
إزاء هذه المعطيات، يمكننا أن نطرح الإشكالية الآتية: كيف يمكن ضبط أداء رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء من أجل الحؤول دون استغلالهم المراكز التي يشغلونها، وارتكابهم مخالفات تسيء إلى المصلحة العامة ومصلحة الأشخاص الآخرين في آن معًا، مع الأخذ بعين الإعتبار ضرورة الحفاظ على مبدأ الفصل بين السلطتين، الإجرائية والقضائية، والحفاظ على إستقلالية كل منهما. فاستقلالية السلطة الإجرائية هي في تعيين المخالفات وتحديدها والتي تستدعي ملاحقة مرتكبيها من أعضاء السلطة الإجرائية أمام القضاء العادي، وتلك التي لا تندرج في إطار الملاحقة أمام المجلس الأعلى؛ حيث لا يجوز للقضاء العادي أن ينظر في المسائل الداخلة ضمن صلاحية المجلس الأعلى، حفاظًا على إستقلالية السلطة الإجرائية. كما أنه لا يصّح التذرّع بمقولة أن بعض المخالفات غير المندرجة في إطار الإخلال بالوظيفة، هي إخلال بالوظيفة العامة، وذلك من أجل التهرّب من الملاحقة أمام القضاء العادي.
الفصل الثاني: المسؤولية الجزائية لرئيس الجمهورية
يتبيّن من نص المادة 18 - الفقرة الأولى من ق.أ.م. أمام المجلس الأعلى، أنه لا يمكن إتهام رئيس الجمهورية لعلّتي خرق الدستور والخيانة العظمى، أو بسبب الجرائم العادية، إلا من قبل المجلس النيابي الذي أعطي وحده سلطة حصرية، من دون سائر السلطات الأخرى، ولا سيما القضائية فيها، باتهام رئيس الجمهورية.
إن ما يميّز إجراءات الإتهام أمام المجلس الأعلى هو أن الإتهام المذكور, وعلى خلاف القواعد العامة المطبّقة في الإجراءات الجزائية العادية، لا يحرّكه ولا ينفّذه غير المجلس النيابي الذي هو السلطة الوحيدة التي يعود إليها، عملاً بالمادة 18 من القانون الرقم 13 الصادر في 18 آب/أغسطس 1990، حق إتهام رئيس الجمهورية لعلّتي خرق الدستور والخيانة العظمى أو بسبب الجرائم العادية. وللمجلس النيابي أيضًا أن يتّهم رؤساء الحكومة والوزراء لإرتكابهم الخيانة العظمى أو لإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم.
يستنتج من ذلك أنه، إستثناءً للقاعدة العامة، لا تعود مهمات تحريك دعوى الحق العام والإتهام إلى النيابة العامة التي تكون متخصّصة عادةً في تحريك الدعوى العامة وفي ممارسة مهمات الإتهام العام بإسم المجتمع ونيابة عنه، بل إلى سلطة خوّلها الدستور صراحة هذا الحق.( المادتان 60 و70 من الدستور).
إن هذه الحصانة الممنوحة لرئيس الجمهورية لجهة تحديد طريقة ملاحقته وحصر الجهة المخوّلة هذه المهمّة بالمجلس النيابي لها أسبابها ومبرّراتها التي حدّدها الدستور اللبناني، ولكن السؤال المطروح هو عن ماهية الأفعال الجرمية التي يسأل عنها رئيس الجمهورية في لبنان وهل يسأل عن أفعال جرمية معيّنة؟ وإذا كان يسأل عن بعض الجرائم، فكيف حدّدها الدستور؟
لقد أقرّ الدستور اللبناني مسألة عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن مجمل التصرّفات والأقوال التي تصدر عنه خلال قيامه بوظيفته، ولكن هذه الحصانة السياسية لا تحول دون ملاحقة الرئيس جزائيًا في حال ارتكابه الجرائم العادية أو الخيانة العظمى أو خرق الدستور. وفي هذه الحالات، يجب صدور قرار الاتهام عن مجلس النواب بغالبية ثلثي مجموع أعضائه. وعندما يتوقّف الرئيس عن ممارسة مهماته، تناط صلاحياته وكالة بمجلس الوزراء ويحاكم أمام المجلس الأعلى، حتى إذا ما صدر حكم بإدانته أعفي من منصبه وانتخب رئيس جديد بدلاً منه ولولاية جديدة[9].
إنّ المادة 60 من الدستور تنصّ على أنه «لا تبعة على رئيس الجمهورية خلال قيامه بوظيفته». لذا سيقودنا البحث في مسؤولية رئيس الجمهورية إلى الحديث عن المجلس الأعلى المنصوص عليه في الدستور وعن قانون أصول محاكمة رئيس الجمهورية، لنجد، وفق ما نصّت عليه هذه المادة، أن مسؤولية رئيس الجمهورية في لبنان لا ترتدي طابع الإطلاق، فهو مواطن يخضع لقانون العقوبات، وعدم مسؤوليته تبقى محصورة في أعمال وظيفته. أما الجرائم التي قد يرتكبها خارج الوظيفة فيمكن ملاحقته جزائيًا من أجلها ولكن أمام هيئة قضائية خاصة.
إن إسناد هذه المسؤولية إلى الرئيس يبقى ممكنًا في الواقع وفي القانون، إلا أن هذا الأمر يرتبط بوجود جرائم نصّت عليها المادة المذكورة، وهي الخيانة العظمى وخرق الدستور والجرائم العادية.
الفقرة الأولى: المسؤولية عن جريمة الخيانة العظمى
ليس ثمة تعريف محدّد لجريمة الخيانة العظمى فهي ليست بحدّ ذاتها جريمة جزائية، وقانون العقوبات الذي عيّن الأعمال التي تشكّل جريمة الخيانة لم يعرّفها، فهي إذًا ذنب سياسي، وتقصير بواجبات الوظيفة، وخرق خطير للواجبات الملقاة على عاتق الرئيس. ومجلس النواب الذي يتهم، والمجلس الأعلى الذي يحكم يتمتعان بحقّ التقدير المطلق في ما إذا كانت الأعمال التي تؤخذ على رئيس الجمهورية تؤلّف خيانة عظمى[10].
إنّ الفقه والاجتهاد مستمران في القول إن الخيانة العظمى لا تقع تقليديًا تحت تحديد النصوص التشريعية ولاسيما أنّ هذه النصوص وفي مقدّمها قانون العقوبات اللبناني خالية من هذا التحديد، الأمر الذي جعلها متروكة لتقدير القضاء الذي يحاكم رئيس الجمهورية على ارتكابها، وهو في الدستور اللبناني المجلس الأعلى.
وكان دستور الجمهورية الثالثة الفرنسية ينصّ على أن «لا مسؤولية على رئيس الجمهورية إلاّ في حال الخيانة العظمى». الأمر الذي نجده في الدستور اللبناني ومعظم دساتير الأنظمة البرلمانية الجمهورية. وهذا يعني أن تصرّفات الرئيس لا تخضع للمحاسبة أو المساءلة إذا كانت لا تشكّل جريمة الخيانة العظمى (La haute trahison).
وهكذا يتضح لنا أن الخيانة العظمى هي فكرة ذات طابع سياسي تتضمّن كل انتهاك جسيم يقدم عليه رئيس الجمهورية بمخالفة التزاماته الدستورية، وبالتالي قد ينشأ عنها ضرر بمصالح الدولة العليا. وعلى الرغم من كل ذلك فإن المادة 50 من الدستور حدّدت، بطريقة غير مباشرة، الخطوط العريضة لهذه الجريمة.
والخيانة العظمى تعتبر من الجرائم السياسية التي يحاسب عليها رئيس الجمهورية في ما إذا عرّض سلامة الدولة وأراضيها واستقلالها للخطر. والدستور اللبناني وضع أصولاً خاصة لملاحقة رئيس الجمهورية في هذه الحال، فأعطى مجلس النواب حقّ ملاحقته وليس للنيابة العامة.
ولو ألقينا نظرة على هذا الموضوع في التشريع الفرنسي نجد أنه منح رئيس الجمهورية صلاحيات إستثنائية، فالمادة 16 من الدستور تمنحه، في الظروف الاستثنائية (كالاحتلال الأجنبي، والحرب الأهلية، والهجوم النووي) صلاحيات واسعة تخوّله الحلول محلّ البرلمان والحكومة وبقية السلطات العامة ومنها السلطة القضائية لمواجهة الأخطار الداهمة[11].
وفي مقابل هذه الصلاحيات الواسعة، يلتزم رئيس الجمهورية عدم ممارسة أي عمل عام أو خاص خلال مدة ولايته، وإيداع بيان بما يملك لدى المجلس الدستوري عند تقديم ترشيحه للرئاسة. على أن يُنشر في الجريدة الرسمية عند إعلان انتخابه. وعليه، عند انتهاء ولايته، تقديم تصريح جديد بأملاكه، يُنشر كذلك في الجريدة الرسمية. وهذا الحرص على الشفافية المالية يرمي إلى تمكين كل مواطن من التدقيق في ثروة الرئيس ومعرفة ما إذا كان خلال فترة الرئاسة، قد استغلّ منصبه لتحقيق إثراء غير مشروع. ومن ناحية المسؤولية، الرئيس غير مسؤول إلا في حال الخيانة العظمى، لأن المسؤولية السياسية تقع على عاتق الحكومة[12].
درجت الدساتير الفرنسية السابقة دستور 1958 على تقرير عدم المسؤولية الجزائية لرئيس الدولة لدى ممارسة صلاحياته الدستورية، إلا في حال الخيانة العظمى، فنصّت الفقرة الأولى من المادة 12 من دستور الجمهورية الثالثة الصادر في 16 تموز/يوليو 1875 على أن لا تبعة على رئيس الجمهورية لدى قيامه بوظائفه إلا في حال الخيانة العظمى. ولا يمكن اتهامه إلا من مجلس النواب كما نصّ دستور الجمهورية الرابعة الصادر العام 1946 في المادتين 42 و56 على مسألة عدم مسؤولية رئيس الجمهورية لدى قيامه بوظائفه إلا في حال الخيانة العظمى، ونصّت الفقرة الأولى من المادة 68 من دستور 1958 على أن «لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهمّاته إلا في حال الخيانة العظمى».
وقد ورد النص الفرنسي كالآتي:
«Le Président de la République n'est responsable des actes accomplis dans l'exercice de ses fonctions qu'en cas de haute trahison».
يتبيّن لنا من خلال هذا النص أن رئيس الجمهورية لا يقاضى بسبب الجنايات والجنح التي تقع لدى ممارسة صلاحياته، ويستثنى من ذلك حال اتهامه بالخيانة العظمى، ولهذا إن المسؤولية الجنائية الكاملة لرئيس الجمهورية تبدو وهمية في نظر Belanger لأن تمثيله للأمة يجعل هناك تردّدًا في اتهام الرئيس الأعلى للدولة [13].
إختلفت الاتجاهات والآراء الفقهية في تحديد مضمون الخيانة العظمى، فمنهم من رأى أنها تتضمّن كل انتهاك خطر من جانب رئيس الجمهورية لإلتزاماته الدستورية [14]. وبعضهم الآخر وصفها بأنه يمكن إثارتها في حال وقوع خلاف خطير بين البرلمان ورئيس الجمهورية[15].
أما G.Vedel فإنه يرى أن الخيانة العظمى في ذاتها ليست جريمة جنائية، لأن قانون العقوبات عرّف الخيانة ولم يعرّف الخيانة العظمى، التي هي برأيه إهمال شديد للالتزامات الوظيفية، وانتهاك جسيم للواجبات الملقاة على عاتق رئيس الجمهورية، ولذلك، إنه يتعيّن على الجمعية الوطنية التي توجّه الاتهام، والمحكمة التي تتولّى المحاكمة أن يقدّرا أولاً ما إذا كانت الأفعال المنسوبة إلى رئيس الجمهورية تشكّل خيانة عظمى أم لا؟[16].
إنطلاقًا من ذلك، يتضح لنا أن الخيانة العظمى هي مفهوم ذات طبيعة سياسية غير محدّدة قانونًا، بل إنها تؤلّف ذنبًا سياسيًا ناتجًا عن الإهمال الشديد في أداء التزامات الرئيس وواجباته، أو خرقه لأحكام الدستور.
ولو عدنا بالتاريخ إلى نشأة الدستور اللبناني العام 1926، نجد أن جرم الخيانة العظمى وكذلك خرق الدستور منصوص عليهما في الدستور اللبناني منذ ذلك التاريخ، وهذان الجرمان قائمان ولا يقال إنهما كانا معرّفين أولاً. فهذه الجرائم موجودة، ومن المتعارف عليه دوليًا أن التعريف لا يحتاج إلى نص خاص فلو أخذنا، مثلاً، القانون الإنكليزي فمعظم مواده ونصوصه تقليدية وغير خطية، ومع ذلك يمكن أن يكون هذا الموضوع منصوصًا على هذا الشكل، وإن هذا التفسير لإرادة المشترع عند إقرار الدستور يدلّ صراحة على أن خرق الدستور في نية المشترع هو خيانة عظمى [17].
وهكذا يتبيّن لنا أن الاتجاه الفقهي الراجح يؤكّد غلبة الطبيعة السياسية لجريمة الخيانة العظمى، وذلك بسبب عدم وضع تعريف لها من المشرّع الدستوري، أو المشرّع العادي من ناحية، وطبيعة إجراءات الاتهام والمحاكمة، من ناحية أخرى، وقد حرصت فرنسا على تنظيم الهيئة التي تتولّى محاكمة رئيس الدولة في دساتيرها المعتمدة الحديثة وخصوصًا بعد التعديل الدستوري الصادر العام 1993 بحيث لا يمكن محاكمته إلا أمام محكمة العدل العليا (La Haute Cour de Justice) بناءً على قرار إتهامي من طريق مجلسي البرلمان: الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، يصدر بالتصويت العلني وبالغالبية المطلقة للأعضاء الذين يتكوّن منهم هذان المجلسان. أما بالنسبة إلى العقوبة المفروضة على جريمة الخيانة العظمى، فإن المشرّع الفرنسي لم يحدّد العقوبة المفروضة عليها سواء في الدستور، أو في قانون العقوبات. ولهذا إن الفقه الدستوري الفرنسي يجمع على أن المحكمة المختصة تتمتّع بسلطة تقديرية واسعة في تكييف الوقائع المنسوبة إلى رئيس الجمهورية في الاتهام، من ناحية، وفي تقدير العقوبة، من ناحية أخرى[18].
ويقول بيلانجيه، في هذا المجال، إن العقوبات التي يمكن توقيعها على رئيس الدولة تثير مشكلات سياسية أكثر منها جنائية. كما يرى أنه في الإمكان تحديد ثلاثة أنواع من العقوبات المحتملة، يتمثّل الأوّل منها في العزل، أي الإسقاط من دون محاكمة جنائية. ويتبدّى النوع الثاني منها في العزل بعد المحاكمة الجنائية. وهذا هو جوهر نظام الاتهام الذي هو إجراء جنائي صرف، ولكنه يتحرّك بوساطة إتهام سياسي، وأخيرًا، يأتي الجزاء السياسي الخالص، وهو ذو درجات متنوعة[19].
الفقرة الثانية: المسؤولية عن جريمة خرق الدستور
إن اللامسؤولية الواسعة، التي يفيد منها رئيس الجمهورية، لجهة كل عمل من أعماله الداخلة في صلاحياته الدستورية، تزول تمامًا في حال خرقه الدستور أو إرتكابه الخيانة العظمى. فخرق الدستور يعني أن هناك مخالفة جسيمة، من شأنها أن يكون قد نتج عنها ضرر بالغ بالمصلحة العامة[20].
تنص المادة 12 من مشروع قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى على أن خرق الدستور هو «كل عمل يتجاوز فيه أحد أعضاء السلطة التنفيذية حدود الدستور»[21] . يختلف فقهاء القانون الدستوري في تحديد جريمة خرق الدستور، فهل تعني خطأً جسيمًا يرتكبه رئيس الجمهورية، أو أنه مجرد مخالفة دستورية بسيطة كعدم نشر قانون ضمن المهلة القانونية يمكن اعتبارها خرقًا للدستور؟
وقد وردت عدة تعريفات لجريمة خرق الدستور نذكر منها تعريف الدكتور أنور الخطيب ورد فيه:
«إنّ العمل الذي يشكّل خرقًا للدستور يشكّل، في الوقت عينه، جريمة الإخلال بواجبات الوظيفة، وجريمة الخيانة العظمى، ولم يكن من داعٍ في نظرنا لأن يعمد المشرّع الدستوري اللبناني إلى التفريق بين جريمتي الخيانة العظمى وخرق الدستور، وإن خرق الدستور يدخل في عناصر جرم الخيانة العظمى، فهل من ضرر يلحق بمصالح الدولة أكبر من خرق دستور الدولة»[22].
وفي رأيٍ آخر للدكتور زهير شكر يرى فيه أن «التعبير الأصح هو أن كل مخالفة للدستور أيًا يكن حجمها أو خطورتها، تشكّل خرقًا للدستور»[23].
إن المشرّع اللبناني لم يعرّف جريمة خرق الدستور، والسبب في ذلك قد يعود إلى أن هذه الجريمة لا تقع تحت التحديد والحصر القانوني، فما يعتبر خرقًا للدستور في فترة زمنية محدّدة وفي ظروف معيّنة قد لا يعتبر كذلك في زمنٍ آخر، لذلك فإن الأمر متروك لاستنسابية مجلس النواب في قرار الاتهام من جهة وللمجلس الأعلى الذي يتولّى محاكمة رئيس الجمهورية من جهة أخرى.
لقد أثيرت مسألة خرق الدستور في أكثر من عهد رئاسي، خصوصًا في عهد الرئيس أمين الجميل بحيث صادق المجلس النيابي على مجموعة كبيرة من القوانين، أحالها بعد ذلك على الحكومة لإصدارها بتوقيع رئيس الجمهورية كي تصبح نافذة لنشرها في الجريدة الرسمية، إلا أنه لم يفعل ذلك وبقيت في أدراجه، الأمر الذي اعتبره بعضهم مخالفة جسيمة لأحكام الدستور تستوجب المحاسبة.
ويبقى السؤال عن حصرية جريمة خرق الدستور برئيس الجمهورية من دون الوزراء، فما هو مبرر ذلك ولماذا حصرت برئيس الجمهورية فحسب ولا تطول رئيس مجلس الوزراء والوزراء؟
إعتبر بعضهم أن النص الدستوري عندما ميّز بين حالتي مساءلة رئيس الجمهورية ومساءلة رئيس الحكومة والوزراء، لم يغفل جريمة خرق الدستور في الحالة الثانية إعتباطًا، وإنما كان ذلك مرده إلى أن رئيس الجمهورية هو أولاً المؤتمن على الدستور واحترامه بموجب نص المادة 50 منه. ماذا يبقى من هذا الدستور لو أن رئيس الجمهورية كان المبادر إلى خرقه؟ وهو، أي الرئيس، غير مسؤول أساسًا، إلا في حالتي خرق الدستور والخيانة العظمى وفق نص المادة 60 من الدستور. وفي المقابل، فإن من المسلّم به تجاه رئيس الحكومة والوزراء هو استواء مسؤوليتهم الدستورية الفردية والجماعية، الجزائية والمدنية، وتاليًا لم يكن هناك من حاجة إلى التخصيص نصًا على حال خرق الدستور من رئيس الحكومة والوزراء، وحيث إن الأحكام الدستورية تأتي في رأس الموجبات المترتبة عليهم[24].
الفقرة الثالثة: المسؤولية عن الجرائم العادية
أما في حال ارتكاب رئيس الجمهورية الجرائم العادية من جناية وجنحة ومخالفة وفق التصنيف الوارد في قانون العقوبات، فإنه يكون فيها خاضعًا «للقوانين العامة» كما تنص المادة 60 من الدستور. ويكون الدستور قد عامله، من هذه الجهة، على أساس المساواة مع سائر الأشخاص الخاضعين لقوانين الدولة[25]. ومن الطبيعي ألا يحاكم رئيس الجمهورية، في حال اقترافه خرق الدستور أو الخيانة العظمى أو أحد الجرائم العادية كسائر الأشخاص أمام القضاء العادي، بل أن تجرى محاكمته أمام هيئة خاصة، هي سياسية بطبيعتها، الأمر الذي دعا رجال القانون إلى وصف هذا النوع من المحاكمة بالقضاء السياسي، وهي القاعدة التقليدية التي أوجبت المادة 60 التقيّد بها، بقولها إنه: «يحاكم أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة 80 من الدستور، وذلك ليس بما يتعلّق بخرق الدستور فقط أو الخيانة العظمى وإنما في ما إذا اتهم بارتكاب الجرائم العادية أيضًا».
ويبدو أن المادة 60 من الدستور قد ميّزت بين الجرائم الناشئة عن الوظيفة، والجرائم العادية التي أخضعتها للقوانين العامة، فإذا تسبّب رئيس الجمهورية مثلاً بأي جريمة عادية طبّقت في حقّه نصوص قانون العقوبات المتعلّقة بهذه الجريمة، ولكن اتهامه بها لا يمكن أن يتمّ إلا بقرار من مجلس النواب وبغالبية ثلثي مجموع أعضائه، ومحاكمته من أجلها لا يمكن أن تجري إلا أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة 80 من الدستور.
قبل أن نختم البحث في هذا البند عن المسؤولية الجزائية لرئيس الجمهورية في أشكالها الثلاثة، لا بدّ أن نعرض بلمحة سريعة ماهية العقوبات المطبّقة على الرئيس في حال تحقّق مسؤوليته عن أيٍ من هذه الأنواع الثلاثة. ففي الجرائم العادية تطبّق العقوبات المنصوص عليها في القوانين الوضعية. أما في ما يتعلّق بخرق الدستور والخيانة العظمى، فإن الدستور لم يحدّد العقوبة الخاصة بكل منهما، الأمر الذي دفع الاجتهاد الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة في فرنسا، بحيث كانت الوضعية القانونية مماثلة من هذه الجهة، إلى القول إن للمجلس الأعلى الذي يقاضي رئيس الجمهورية صلاحية تحديد هذه العقوبة بملء سلطانه، وفي هذه الحال، من الممكن أن تتّخذ العقوبة شكل العقوبة السياسية، أو العقوبة الجزائية، أو العقوبة المدنية، أو شكلين من هذه الأشكال، أو هذه الأشكال الثلاثة على السواء[26].
فالعقوبة السياسية هي في إقالة رئيس الجمهورية من منصبه أو في تعليق ممارسته إياها لمدة محدّدة، وتعتبر هذه الحالة الأخيرة نظرية إذ إن الرئيس يكون فقد الهيبة والاحترام. أما العقوبة الجزائية، فإن للمجلس الأعلى أن يختارها بين العقوبات المحدّدة في قانون العقوبات، من عقوبات جنائية عادية (المادة 37) وعقوبات جنائية سياسية (المادة 38) وعقوبات جناحية عادية
(المادة 39) وعقوبات جناحية سياسية (المادة 40) وحتى في أبسط الأحوال سواء في العقوبتين المنطبقتين على المخالفات (المادة 41) مع العقوبات الفرعية أو الإضافية (المادة 42) أو من دونها.
ولوضع حد لهذا السلطان المطلق الذي يمارسه المجلس الأعلى في تحديد العقوبة إضافة إلى سلطانه في تحديد جناية الخيانة العظمى، وليس لجرم خرق الدستور. فإن القانون الفرنسي الصادر في 27 تشرين الأول/أكتوبر 1946، قد أوجب تطبيق أحكام القوانين الوضعية في تحديد الجناية والعقوبة احترامًا لمسألتي شرعية الجرائم وشرعية العقوبات اللتين تبناهما في لبنان مشروع القانون المحال على مجلس النواب في هذا الشـأن أيضًا[27].
الفصل الثالث: مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء
إن التعديل الدستوري الذي حصل على الدستور اللبناني الذي كان قائمًا منذ العام 1926 أناط برئيس مجلس الوزراء صلاحيات مهمة واختصاصات لم تكن ممنوحة له خلال الوضع القائم في ظل الدستور المعمول به، الأمر الذي استوجب إلزامه مسؤوليات مهمة تؤدّي مخالفتها إلى محاسبته وفق القانون، فالمادة 70 من الدستور المعدّلة العام 1990 نصّت على أن لمجلس النواب أن يتّهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم، بعدما كانت تنص المادة ذاتها قبل التعديل، على أن لمجلس النواب أن يتهم الوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم. وكذلك حدّدت المادة 71 من الدستور، المرجع الذي يحاكم أمامه رئيس مجلس الوزراء. والمادة 72 قرّرت وجوب كفّه عن العمل فور صدور قرار الاتهام في حقه.
يحاكم رئيس مجلس الوزراء إذًا أمام المجلس الأعلى بعد اتهامه من مجلس النواب بموجب قرار يصدر عن غالبية الثلثين من مجموع أعضائه، وذلك عن جريمتي الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتّبة عليه.
ويجدر بالإشارة أن المواد 70 و71 و72، كانت قبل التعديلات الدستورية ما بعد الطائف لا تتضمّن إضافة أحكامها إلى رئيس مجلس الوزراء مباشرةً، حيث كانت تعتبره من ضمن الوزراء الذين يعيّنهم رئيس الجمهورية ويسمّي منهم رئيسًا (حسب المادة 53 من دستور 23 أيار 1926).
لذلك إن الأحكام المتعلّقة بمسؤولية رئيس مجلس الوزراء المذكورة أعلاه، تطبّق نفسها على الوزراء أيضًا. مع التأكيد أن عدم تحديد عناصر جرائم خرق الدستور والخيانة العظمى والإخلال بواجبات الوظيفة في قانون العقوبات اللبناني وسائر النصوص القانونية الأخرى، تستدعي إستبعاد تطبيق مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات (لا جريمة من دون نص)، الأمر الذي يبقي هذه الجرائم، في الدرجة الأولى، جرائم سياسية غير عادية، ومجلس النواب هو الذي يقدّر توافرها أم عدمه.
فما هي مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء عن الخيانة العظمى؟ وما هي مسؤولياتهم عن الإخلال بالواجبات المترتبة عليهم؟ وما هو مفهوم المسؤولية الحقوقية في الفقه اللبناني؟ هذا ما سوف نبحثه في هذا الفصل وفي فقرات ثلاث.
الفقرة الأولى: المسؤولية عن جريمة الخيانة العظمى
إن طبيعة الجرائم والمخالفات التي يرتكبها رئيس الوزراء والوزراء هي جرائم سياسية لا تقع تحت التحديد القانوني لها، لذلك لم يعط المشرع الدستوري أي تعريف لمضمون الخيانة العظمى، أو حتى وصف الأفعال التي تؤدّي إلى الملاحقة بها، ولم نجد حتى في قانون أصول محاكمة الرؤساء والوزراء أي تعريف لها أيضًا على الرغم من المحاولات الكثيرة التي جرت لوضع تعريفٍ لها.
وفي ظل غياب أي تحديد للمشرّع اللبناني، لا في الدستور ولا حتى في قانون أصول محاكمة الرؤساء والوزراء، لمضمون الخيانة العظمى سواء ارتكبها رئيس الجمهورية أو الوزراء وهل هي واحدة بمفهموها أو أنها تختلف وفق صفة مرتكبها، لذلك يبقى المرجع الأساس لتحديد ذلك المجلس النيابي الذي أعطي الصلاحية أن يحدّد في قرار الاتهام ما إذا كانت الأفعال المنسوبة إلى رئيس الوزراء والوزراء تؤلّف خيانة عظمى أم لا، كما يعود إلى المحكمة المختصّة التي تتولّى محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء أن تفعل ذلك، لأن لها حق تعديل الوصف القانوني للأفعال الواردة في قرار الاتهام، استنادًا إلى المادة 42 من القانون الرقم 13/90.
إنّ الفقه والاجتهاد مستمران في القول إن الخيانة العظمى لا تقع تقليديًا تحت تحديد النصوص التشريعية، لاسيما أنّ هذه النصوص وفي مقدّمها نص قانون العقوبات اللبناني خالية من هذا التحديد، الأمر الذي جعلها متروكة لتقدير القضاء الذي يحاكم رئيس الوزراء والوزراء على ارتكابها، وهو في الدستور اللبناني المجلس الأعلى.
إنّ الخيانة العظمى يمكن أن توجد ولو لم يكن ثمة نص يعرّفها أو عقوبة جزائية تقمعها، وذلك عندما ينظر إلى الخيانة العظمى كذنب سياسي لا كجناية أو جنحة. فإذا كان العمل ذنبًا سياسيًا كبيرًا أم صغيرًا فليس للمجلس الأعلى أن يحكم بأكثر من العزل الذي هو عقوبة.
الفقرة الثانية: المسؤولية عن الجرائم الأخرى
نصّت المادة 70 من الدستور المعدّلة العام 1990، كما أشرنا أعلاه، على أن لمجلس النواب أن يتّهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، بعدما كانت تنصّ المادة ذاتها قبل التعديل، على أن لمجلس النواب أن يتّهم الوزراء فقط بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم. وكذلك حدّدت المادة 71 من الدستور المرجع الذي يحاكم أمامه رئيس مجلس الوزراء. والمادة 72 قرّرت وجوب كفّه عن العمل فور صدور قرار الاتهام في حقّه.
تنصّ الفقرة الثانية من المادة 66 من الدستور على أن «يتولّى الوزراء إدارة مصالح الدولة. ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين، كلّ بما يتعلّق بالأمور العائدة إلى إدارته وبما خصّت به». وتضيف الفقرة الثالثة من المادة نفسها على أن «يتحمّل الوزراء إجمالاً تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة العامة ويتحملّون إفرادًا تبعة أفعالهم الشخصية».
يحاكم رئيس مجلس الوزراء أمام المجلس الأعلى بعد اتهامه من مجلس النواب بموجب قرار يصدر عن غالبية الثلثين من مجموع أعضائه، وذلك عن جريمتي الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتّبة عليه.وأما في ما يخص الجرائم العادية التي يمكن أن يتّهم بها، فإن الأصول المطبّقة هي أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات اللبناني، على أساس مساواته مع سائر الأشخاص الخاضعين لقوانين الدولة اللبنانية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسؤولية المدنية[28].
وهنا يطرح السؤال عن مفهوم الإخلال بالموجبات المترتّبة على الوزراء في غياب أي تحديد واضح في نصوص المجلس الأعلى لذلك تعدّدت الآراء حول هذا المفهوم، فاعتبر بعضهم، ومنهم الدكتور حسن الرفاعي، أن الواجبات المترتّبة على الوزير هي تلك المفروضة عليه، ومن واجبه التقيّد بها خلال ممارسته وظيفته العامة، ولكنه يُخرج منها كل ما يقع تحت طائلة قانون العقوبات. وبمعنى آخر فإن الإخلال بالواجبات هو كل عمل يقوم به الموظّف (الوزير) ويأتي مخالفًا لما توجب عليه أمانة تسيير المصلحة العامة، مثل رفضه توقيع مرسوم يتعلّق بشؤون وزارته وشؤون الحكومة، وامتناعه عن الحضور إلى وزارته، وتسيير أمور الناس والمصلحة العامة[29].
ويخالف بعضهم الآخر[30]هذا الرأي، باعتبار أنه لو أخرجنا كل ما يقع تحت طائلة قانون العقوبات عن صلاحية المجلس الأعلى وأنيطت الصلاحية بالقضاء الجزائي العادي، فما هو وضع الجرائم التي ترتبط بالوظيفة كالرشوة مثلاً، ألا تشكّل عملاً مخلاً بواجب أمانة تسيير المصلحة العامة؟
إن التوسّع في مفهوم الإخلال بالواجبات المترتّبة على الوزراء قد يؤدّي إلى منحهم امتيازًا ما ويوفّر لهم حصانات في غير موضعها تحول دون ملاحقتهم لارتكاب أفعال ينصّ عليها قانون العقوبات. إن هذا الأمر يتعارض مع كل المبادئ الدستورية، ولاسيما مسلّمة المساواة بين المواطنين أمام القانون، فإن أي استثناء عام لهذه المسألة الدستورية لا يجوز من دون النصّ عليه بشكلٍ واضح يخلو من أي لبس فيه، وهو في كل الأحوال إستثناء لا يجوز التوسّع في تفسيره وتطبيقه. ولقد استقر الاجتهاد في لبنان والعالم لكون الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات ليست من الأفعال المتصلة بصورة مباشرة بممارسة الوزير لمهماته القانونية والوزارية. إنما تبقى خاضعة لصلاحية القضاء العادي وتخرج عن صلاحية مجلس النواب. وهنا يقتضي العودة إلى الدراسات الجدية والجديرة بالتقدير التي قام بها رجال القانون الدستوري في لبنان والتي طالبت بوضع مثل هذا المعيار.
إن اقتراح القانون الموجود حاليًا في أدراج المجلس النيابي والمقدّم من عدد من النواب لم يتمكّن من وضع حدٍّ فاصلٍ للاجتهادات المتناقضة حول تحديد الإخلال بالواجبات المترتّبة على الوزراء ومفهومه، وتاليًا لا بد من وجود معيار موضوعي يحدّد الفوارق بين الأفعال التي يرتكبها رئيس مجلس الوزراء والوزراء، معتبرةً إخلالاً بالواجبات المترتبة عليهم، بحسب المادة 70 من الدستور، وبين الأفعال الجرمية التي تخرج عن مفهوم تلك المادة، حيث أن المادة المذكورة تتحدّث عن الإخلال بالواجبات المترتبة على الوزراء.
ويبقى السؤال: كيف يمكن محاكمة الوزير على أساس «الإخلال» واعتباره جريمة خاضعة لقانون العقوبات؟ في حين أن قانون أصول محاكمة الرؤساء والوزراء وضع «الإخلال» كالخيانة العظمى خارج الوصف القانوني، وبالتالي إن للبرلمان في الاتهام وللمجلس الأعلى في المحاكمة، صلاحية تقدير الإخلال والعقوبة الملائمة. وماذا لو تخلّف المجلس عن الإتهام لأسباب سياسية معيّنة، فما هو مصير مساءلة الوزير عند الإخلال بوظيفته أو لإرتكابه جريمة أخرى في أثناء ممارسة وظيفته؟
من هنا نجد ضرورة الإفساح في المجال أمام القضاء العدلي والنيابة العامة التمييزية لتضع يدها على الجرائم التي يرتكبها الوزراء، خصوصًا في ظل ما نصّت عليه المادة السابعة من الدستور اللبناني عن المساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، وما نصّت عليه المواد 5 و19 و25 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي أناطت دعوى الحق العام بقضاة النيابة العامة، كما أناطت جرائم إختلاس الأموال العمومية بقضاة النيابة العامة المالية، إذا تخلّف مجلس النواب عن اتهام الوزراء في القضية المثارة من دون أن يتعارض ذلك مع مسألة فصل السلطات ويؤدّي بالتالي إلى طغيان السلطة القضائية على السلطة التنفيذية.
إن النصوص الدستورية والقانونية المرعية الإجراء أوجدت التباسًا في رسم الحدّ الفاصل بين الجرائم العادية والجرائم أو المخالفات الناتجة من الإخلال بالواجبات المترتّبة على رئيس مجلس الوزراء والوزراء. والاختلاف في الاجتهاد في شأن المخالفات التي تندرج في إطار الجرائم العادية والتي ينبغي الملاحقة في شأنها أمام القضاء العادي، والمخالفات التي تندرج في إطار الإخلال بالواجبات المترتّبة على رئيس الحكومة والوزراء والتي تنبغي المحاكمة في شأنها أمام المجلس الأعلى، والتوسّع في الاجتهاد لجهة اعتبار الجرائم والمخالفات العادية ناتجة من الإخلال بالواجبات المفترض التقيّد بها من كل من يمارس سلطة عامة، فالتوسّع هذا قد يؤدّي إلى عرقلة ملاحقة المرتكب لأن المحاكمة أمام المجلس الأعلى تتطلّب إجراءات أصعب بكثير من الإجراءات التي يتطلّبها القضاء العادي، وقد يؤدّي ذلك إلى إبقاء المرتكب بعيدًا من الملاحقة.
وإذا كان ضبط أداء السلطة الإجرائية من الوجهة السياسية يتحقّق عبر ممارسة مجلس النواب رقابة فاعلة على الحكومة في الأنظمة البرلمانية، فكيف يتم تصويب أداء هذه السلطة لجهة المسؤولية الجزائية والمدنية لمنع أي وزير من استغلال موقعه في السلطة من أجل الإثراء غير المشروع أو اختلاس المال العام أو القيام بأعمال جرمية تترتّب عليها مسؤولية جزائية ومدنية. إن ذلك لا يتحقّق إلا من خلال سلطة قضائية: القضاء العادي أو المجلس الأعلى.
إختلفت الآراء في الفقه الفرنسي لجهة فصل المسؤولية الجزائية عن المسؤولية السياسية، فمنهم من يرى أن «المسؤولية الجرمية هي مسؤولية سياسية»، بينما يعتبر الرأي الآخر أن المسؤولية الجزائية متميّزة كليًا عن المسؤولية السياسية، ومنهم الفقهاء Vedel, Duhamel, Beaud الذين ميّزوا بين المسؤوليتين على الشكل الآتي:
«Pour le doyen Vedel et le professeur Duhamel, une faute pénale est presque toujours personnelle, une erreur politique est presque toujours collective. Pour le professeur Beaud, il ne peut y avoir superposition des deux responsabilités, la responsabilité politique est prééminente, la responsabilité pénale est résiduelle»[31].
فالمسؤولية الجزائية لا تثار إلا حين يقترف الوزير خلال تأدية مهماته عملاً ملحوظًا ومحدّدًا في القانون الجزائي ويشكّل وفق هذا القانون جناية. ولم تستخدم بعض الدساتير المسؤولية الجزائية، إلا لأنها لم ترغب في إدخال المسؤولية السياسية، بينما فرّقت دساتير أخرى بين شكلي المسؤولية من دون الغوص في تفاصيل هذا التمييز، ولم تصبح المسؤولية الجزائية قائمة فعليًا في فرنسا إلا مع التعديل الدستوري العام 1993.
«La loi constitutionnelle No 93- 952 du 27 juillet 1993 a largement judiciarisé la mise en œuvre de la responsabilité pénale des membres du gouvernement, en créant la Cour de justice de la République»[32].
ويبيّن ذلك الكاتب Beaud بشكلٍ ممتاز في كتابه حول قضية الدم الملوّث فيقول إنه في الأنظمة الدستورية، نجد أن هناك تناغمًا وانسجامًا بين المسؤولية السياسية والمسؤولية الجرمية ما دامت أولوية الأولى على الثانية تبقى محترمة ويؤخذ بها.
«Dans une démocratie constitutionnelle, la responsabilité politique et la responsabilité criminelle se conjuguent de manière harmonieuse, tant que la primauté de la première sur la seconde est conservée. Nous proposons d'appeler ici principe constitutionnel d'adéquation politique cette équivalence fonctionnelle entre l'action gouvernementale et la responsabilité politique faisant que la responsabilité des gouvernants est assurée, principalement, devant le Parlement et devant le peuple… »[33].
إلا أن لافروف يرى، من وجهة نظره، أن المسؤولية الجزائية أصبحت مشوّهة لأنها إذا كانت مرتكزة بدايةً على الطابع الشخصي للخطأ الذي يحدّد المسؤولية في حين اليوم تغيّرت تمامًا في الجمهورية الخامسة، فأصبحت وخلافًا للسابق مرتكزة على أخطاء منسوبة إلى الغير ويقترح إلغاء القوانين النافذة حاليًا، لذلك فإن هذه القاعدة لم تعد اليوم محترمة وتاليًا لم يعد يؤخذ بها.
«Or, sous la Vème République cette règle n'est plus respectée. On constate que la responsabilité pénale est défigurée car si elle repose, en principe, sur le caractère personnel de la faute engageant la responsabilité, elle est aujourd'hui engagée par les actes imputables à autrui si bien que le procureur général près la Cour de justice de la République a pu déclarer que l'on était dans un système de responsabilité pénale du fait d'autrui. Il rappelait justement que la responsabilité d'un ministre est subordonnée à l'existence soit de la preuve de sa responsabilité dans l'élaboration ou la non–élaboration de la norme en cause, soit son implication personnelle dans la mise en œuvre inadaptée ou dans la défaillance du pouvoir de contrôle de l'Etat»[34].
ومن المعلوم أن مسؤولية الوزراء في لبنان ترتدي أشكالاً ثلاثة، سياسية ومدنية وجزائية. فمسؤولية الوزراء السياسية تجاه المجلس هي من كنف النظام البرلماني، الذي يتميّز بها عن النظامين الآخرين، الرئاسي والمجلسي، وهذه المسؤولية تتخذ شكل المسؤولية الجماعية والمسؤولية الفردية، وكلاهما ورد في نص المادة 66 من الدستور، «يتحمّل الوزراء إجمالاً تجاه المجلس تبعة سياسة الحكومة ويتحملون إفرادًا تبعة أعمالهم الشخصية».
إن النص في الدستور على مسؤولية الوزراء التضامنية يعني ضمنًا أن الحكومة برلمانية. وتحميل الوزراء هذه المسؤولية بالتضامن، يعني أن الوزراء هم الذين متشاركين بالاشتراك السياسة العامة للحكومة.
أما مسؤولية الوزير الإفرادية فلا تتناول عادةً إلا التصرّفات التي يقوم بها شخصيًا، والتي تدخل في نطاق أعمال وزارته، أما المسؤولية المدنية، فإن الدستور لم ينص عليها، إلا في ما يتعلق بمسؤولية الوزراء الحقوقية والتي من أجلها قد صدر قانون خاص في شأنها لكونها خاضعة للقانون العادي، في حين أشار إلى مسؤولية الوزراء الجزائية في الحالتين المنصوص عليهما في المادة 70 من الدستور وهما الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات الوزارية، إضافةً إلى مسؤوليتهم الجزائية العادية الخاضعة للقوانين الوضعية، فما هو مفهوم المسؤولية الحقوقية وإلى أي مدى تترتّب على الوزراء لدى مخالفتهم القوانين أو الإخلال بواجباتهم الوظيفية، هذا ما سوف نبحثه في الفقرة الثالثة من هذا البند.
الفقرة الثالثة: المسؤولية الحقوقية
إن مفهوم المسؤولية الحقوقية للوزراء في لبنان قد أثار جدلاً كبيرًا حول تحديده، وبالعودة إلى محاضر مجلس النواب في 21/9/[35]1990 المتعلّقة بمشروع القانون الدستوري الوارد في المرسوم الرقم 202 الرامي إلى إجراء بعض التعديلات الدستورية، يتضح لنا الإختلاف في وجهات النظر حول تحديد مفهوم هذه المسؤولية والتي هي، في الأساس، مستقاة من القانون الفرنسي الواضح في تفسيره لهذه المسؤولية الحقوقية، فالنص الفرنسي الأساسي الذي ترجم عنه الدستور اللبناني كان يتكلّم على «Responsabilité Civile»، وهي المسؤولية المدنية وليست المسؤولية الحقوقية.
فماذا تعني مسؤولية الوزراء الحقوقية؟ ولماذا هذا الغموض في تحديد مفهومها؟
إن أساس هذه المسؤولية وضع عند صوغ الدستور عندما وافق واضعوه على عبارة الحقوقية لدى صوغهم النص كما يلي «يحدّد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية». كان يمكن أن يكونوا على علم بأن هذا الشيء فيه مسؤولية جزائية ومدنية، وكان بإمكانهم وضع قانون يحدّدون فيه مسؤولية الرؤساء، وهذا ما لم يفعلوه. ويعتقد أنهم تركوا كلمة حقوقية مبهمة للإفساح في المجال أمام اللذين سيضعون أصول محاكمة الرؤساء والوزراء لكي يحدّدوا كما يجب: مسؤولية مدنية فقط، أم مسؤولية مدنية مع جزائية؟
لكن التفسيرات التي أعطاها النواب لدى مناقشتهم مشروع القانون المنوّه به أعلاه تضاربت حول مفهوم هذه المسؤولية، فمنهم من اعتبر أنها التعويضات الشخصية، أي بما معناه مسؤولية مدنية، وبعضهم الآخر رأى أن على المشرّع عند وضع قانون أصول المحاكمات للمجلس الأعلى أن يحدّد مفهوم هذه المسؤولية وهل تقتصر على المسؤولية المدنية فقط أو إنها مسؤولية مدنية مع جزائية؟
وفي تعليقٍ للنائب السابق مخايل الضاهر في أثناء المناقشات في مجلس النواب التي تكلّمنا عليها آنفًا وردًا على إحدى المداخلات أشار إلى التجربة الموجودة لدى المحاكم العسكرية، التي فيها بداية واستئناف وتمييز، ومع كل ذلك لا يحكم بتعويضات شخصية أمام المحكمة العسكرية وعلى المتضرّر أن ينتظر صدور الحكم الجزائي عن هذه المحكمة ليذهب إلى القضاء المدني من أجل تعويضاته الشخصية، وأحيانا قد تطول هذه المحاكمات وتأخذ سنوات، بينما هنا، هذه المسلّمة موجودة، نحن أمام محاكمة أمام المجلس الأعلى للوزير أو لرئيس الوزارة ووضعنا مهلة شهر حتى انتهاء المحاكمة، فإذًا، ليس هناك تطويل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تستطيع الدولة إذا كانت متضرّرة، وكذلك أصحاب العلاقة الذين لحق بهم الضرر أن يلقوا فورًا الحجز الاحتياطي على كل الأموال والممتلكات وأن يحفظوا حقوقهم، إذًا فليس هناك خوف[36].
ويعتبر الدكتور زهير شكر في كتابه: «الوسيط في القانون الدستوري اللبناني»، «أن عبارة المسؤولية الحقوقية أوسع، وتتضمّن بالإضافة إلى المسؤولية المدنية بصورة أساسية المسؤولية الجزائية؛ فالمسؤولية تتضمّن المسؤولية الجزائية عن الجرائم التي ترتكب في أثناء أو في مناسبة ممارسة الوظيفة والتي يقوم بها الوزير، بصفته الوزارية، ومستغلاً هذه الصفة بما في ذلك التزوير والاختلاس والرشوة»[37].
إن أي تحديد لمفهوم هذه المسؤولية يبقى غامضًا ما لم يأت النص القانوني في قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الاعلى ليحسم الجدل ويعطي التفسير الذي يجب أن يحقّق الهدف الذي أراده المشرع لدى وضعه الدستور، وهذا ما نأمله قريبًا عبر المناقشات التي تحصل حول مشروع تعديل قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ولكن ما هو موقف الإجتهاد حول هذه المسؤولية الحقوقية؟
مفهوم المسؤولية الحقوقية في الاجتهاد اللبناني
إن موقف الإجتهاد لم يبرز كثيرًا حول تفسير المسؤولية الحقوقية للوزير لكون القضايا التي أثيرت حول مساءلة وزراء قليلة جدًا ومعدودة، إلا أننا نجده في قضية الوزير السابق برسوميان خلال العام 1999، حيث برزت وجهة نظر مختلفة في التفسير، بحيث اعتبر قاضي التحقيق الأول حينذاك القاضي سعيد ميرزا أن ما يعزّز التفريق بين الأفعال التي يأتيها الوزير، توجب إتهامه من ثلثي أعضاء مجلس النواب، وتتصف بالخيانة العظمى أو بالإخلال بالواجبات المترتبة عليه، وبين الأفعال الجرمية العادية التي ترتّب عليه مسؤولية حقوقية عادية، وليست دستورية، هو ما جاء في آخر نص المادة 70 من الدستور الذي أشار إلى صدور قانون لاحق يحدّد شروط مسؤولية الوزير الحقوقية. ولو شاء المشرّع أن تكون المادة 70 من الدستور شاملة كل الأفعال التي يرتكبها الوزير، سواء تلك التي ترتب عليه مسؤولية حقوقية أو جزائية عادية، لكان انتهج ما انتهجه في نص المادة 60 من الدستور المتعلّقة بمسؤولية رئيس الجمهورية[38].
غير أن الهيئة الاتهامية في قضية الوزير المذكور إعتبرت أنه لو كانت المادة 70 من الدستور اللبناني تحصر الملاحقة بكل الجرائم التي يرتكبها الوزير في المجال النيابي، لما كانت نصّت في فقرتها الأخيرة على إصدار قانون خاص يحدّد فيه شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية، وطالما لم يصدر مثل هذا القانون الخاص تبقى ملاحقة الجرائم العادية الشخصية التي يرتكبها الوزير من صلاحية القضاء العادي[39].
وعلى الرغم من أن القرارات القضائية السابقة إعتبرت أن المقصود بالمسؤولية الحقوقية المسؤولية الجزائية لرئيس مجلس الوزراء والوزراء، إلا أنها وقعت في خطأ عندما اعتبرت أن المسؤولية الحقوقية هي مسؤولية رئيس الوزراء عن الجرائم العادية. لأن ما يقصد بالمسؤولية الحقوقية هو مسؤولية الوزراء الجزائية عن الجنايات والجنح المرتكبة، في أثناء أو في مناسبة ممارسة وظائفهم. وما يبرّر ذلك أن مسؤولية الوزراء عن الأفعال الجرمية العادية لا تُرتّب عليهم مسؤولية حقوقية، بل مسؤولية جزائية عادية. واستنادًا إلى ذلك، نظّم الدستور مسؤولية رئيس الوزراء والوزراء الدستورية في المادة 70 (خيانة عظمى وإخلال بالواجبات). ويفهم من خلال المقاربة بين نص المادة 70 من الدستور والمادة 42 من قانون 13/90 أن للمجلس النيابي حقّ اتهام الوزير بما يمكن أن يرتكبه من أفعال لها الصفة الجزائية في مفهوم قانون العقوبات، فلا يكون الأمر مقتصرًا على القضاء الجزائي العادي فقط. ولمّا كان القضاء العادي له الصلاحية بملاحقة رئيس الوزراء والوزير عن الجرائم العادية فقط، فإن تفسير المادة 42 المذكورة يعني، بما لا يقبل الجدل، أن الجنايات والجنح التي يرتكبها الوزير في أثناء أو في مناسبة ممارسته وظائفه بصفته الوزارية ومستغلاً هذه الصفة بما في ذلك التزوير والاختلاس والرشوة والعمولة، تخضع لصلاحية المجلس الأعلى بناءً على قرار إتهامي صادر من المجلس النيابي[40]. لذلك، نرى أن المادة 42 حدّدت السلطة المختصة بملاحقة الوزراء عن الجنايات والجنح المرتكبة في أثناء ممارستهم وظائفهم، وأغنت عن صدور قانون شروط مسؤولية الوزراء الحقوقية عندما أخضعت الجرائم الأخيرة لمسألة الشرعية. ويمكن اعتبار هذه المادة بمنزلة هذا القانون[41].
قبل أن ننهي البحث في هذا الفصل عن مسؤولية رئيس الوزراء والوزراء، من المفيد أن نلقي نظرة على القانون الفرنسي الحالي في هذا المجال وخصوصًا بعد التعديل الدستوري الحاصل العام 1993، والذي أتى نتيجة تجارب سابقة لإشكاليات متنوّعة لمحاكمة الرؤساء والوزراء لم تكن ناجحة، وبهدف إضفاء مزيد من الشفافية على أداء السلطات العامة، وبحيث إن وضع الوزير لا يمكن أن يكون مماثلاً لوضع رئيس الجمهورية الذي لا يسأل إلا عن الخيانة العظمى بينما مسؤولية الوزير متعدّدة الجوانب، منها ما يتصل بالمسؤولية السياسية، ومنها ما يتعلّق بمسؤوليته العادية كمواطن، وهي على أنواعها مدنية وجزائية نتيجة التصرفات والأعمال التي يقدم عليها بغير صفته الوزارية (جرائم قتل، شيك بلا رصيد، إحتيال) فيحاكم أمام المحاكم العادية.
إذًا، في ضوء هذه التجربة، أقدم رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق فرنسوا ميتران، الذي اعتبر أن المجلس الأعلى، الذي يقضي دستور الجمهورية الخامسة بمحاكمة الرؤساء والوزراء أمامه، غير ذي جدوى، فقرّر التعديل ولجأ إلى تشكيل لجنة من كبار الفقهاء برئاسة العميد جورج فيديل سمّيت لجنة الحكماء، وطلب إليها تعديل المادتين 67 و68 من الدستور الفرنسي، وفي 15 شباط/ فبراير 1993 قدّمت اللجنة مشروعها إلى مجلس الوزراء الذي أقرّه وسلك الطرق الدستورية لإقراره من البرلمان بمجلسيه (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ).
«Depuis le 2 décembre 1992, un comité consultatif institué par le chef de l’Etat pour réviser la Constitution, siégeait sous la présidence du doyen Vedel. Le 15 février 1993, ce comité déposait son rapport concluant à la création à côté de la haute Cour compétente pour juger le président de la République en cas de haute trahison, d’une Cour de justice destinée à connaître des crimes et délits imputés à des membres du gouvernement dans l’exercice de leurs fonctions»[42].
ماذا عن مسؤولية الوزراء عن الجرائم المرتكبة لدى ممارستهم وظائفهم؟ فقد نصّت المادة 68 من الدستور الفرنسي الحالي المعدّلة بموجب القانون الدستوري الصادر في 27/7/1993 على ما يأتي: «إن أعضاء الحكومة مسؤولون جزائيًا عن الأفعال التي يرتكبونها في أثناء ممارسة وظائفهم والتي تعدّ جرائم وجنحًا لحظة ارتكابها، ويحاكمون أمام محكمة عدل الجمهورية».
Article 68–1: «Les membres du gouvernement sont pénalement responsables des actes accomplis dans l'exercice de leurs fonctions et qualifiés crimes ou délits au moment où ils ont été commis. Ils sont jugé par la Cour de justice de la République».
فالتعديل إذًا ألغى صلاحية المجلس الأعلى في الأعمال الواقعة تحت أحكام قانون العقوبات، وتاليًا أنشأ محكمة خاصة صلاحيتها النظر في جرائم الرؤساء والوزراء، وهذا يعني أن الجرائم المرتكبة من جراء الوظيفة أو في معرضها هي من صلاحية محكمة عدل الجمهورية، بحسب ما ورد في النص الدستوري المذكور أعلاه.
ونظرًا إلى أهمية مضمون رسالة رئيس الجمهورية التي أرسلها في 30 تشرين الثاني/نوفمبر إلى كل من رؤساء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والمجلس الدستوري، والتي تضمّنت أفكاره وتصوّراته للأسس التي يجب أن تقرّ على أساسها المسؤولية الجزائية للوزير، نورد أهم ما جاء فيها: «يجب ألا تبقى المحكمة العليا إلا في حال جريمة الخيانة العظمى التي يرتكبها رئيس الجمهورية والجرائم ضد أمن الدولة التي يرتكبها الوزراء. كل الجرائم والجنح الأخرى التي يرتكبها الوزراء في أثناء ممارسة وظائفهم تعود إما إلى القضاء العادي أو إلى هيئة قضائية للتوفيق بين المبادئ القضائية وفصل السلطات».
وعن مفهوم الأفعال الجرمية التي يرتكبها الوزراء في أثناء قيامهم بوظائفهم، فإن الاجتهادات الفرنسية الصادرة قبل العام 1993، كانت مستقرّة على أن تفسير المادة 68 القديمة من الدستور يقصد به أن محكمة العدل العليا هي وحدها المخولة بتّ الأعمال الجرمية من أي نوعٍ كانت، والتي يرتكبها الوزراء في أثناء قيامهم بوظائفهم، فكان أي جرم أو جنحة يقترفها الوزراء في أثناء ممارسة وظائفهم من اختصاص محكمة العدل العليا من دون الحاجة إلى النظر في ما إذا كانت قد ارتكبت في إطار صلاحياتهم أو لا. لذلك كان تحريك المسؤولية الجزائية للوزراء شبه مستحيلة عمليًا نظرًا إلى الشروط الصارمة التي ترعى إتهام الوزراء أمام محكمة العدل العليا. عبر قراءتنا لقرار محكمة التمييز الفرنسية[43]، نجد أنه اعتبر أن فعل القدح والذم المرتكب من الوزير أو فعل الإخلال بالوظيفة من شأن هيئة قضائية في ما يختص بالقرار أو بالحكم الصادر عنهما، هما من الأفعال الجرمية الداخلة ضمن فئة الجرائم المنبثقة عن قيام الوزير بمهامه.
الخاتمة
إن طبيعة تأليف المجلس العدلي, وطبيعة اختصاصه الحصري, ونوعية الأشخاص المحالين عليه أدّت إلى إعطاء هذا المجلس صفة إستثنائية لجهة إجراءات التحقيق والتقاضي لديه؛ لذلك, ومع استبعاد النيابة العامة حقّ تحريك الملاحقة الجزائية والسير بها، يبقى السؤال حول إمكان توصّل المجلس النيابي، في ظل الظروف السياسية الحاضرة والإنقسامات الحادة بين مكوّناته، إلى تقرير إتهام رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء والوزراء في حال ارتكابهم جرمًا ينضوي ضمن إختصاصه.
تتعدّد، في الواقع، المآخذ على القضاء الإستثنائي، ليس فقط على صلاحية هذا القضاء السائرة قدمًا نحو التوسّع، إنما أيضًا على إجراءات المحاكمة أمامه، أهي أصول محاكمة إستثنائية، أم محاكمة أمام المحاكم الإستثنائية.
وعلى الرغم من تعدّد هذه المآخذ، فإن سببها يظلّ واحدًا، كامنًا في الطبيعة الاستثنائية لهذا الـقضاء، لجهتي الطبيعة الخاصة لإختصاصه والاصول المعتمدة لديه، بحيث أن الكلام عن قضاء إستثنائي يستوجب البحث، بالتوازي، في مدى استثنائية تنظيمه لجهتي الاختصاص والتقاضي، أو بمعنى آخر للصلاحيات التي ينفرد بها والإجراءات الخاصة المتبعة لديه.
لقد ثبت، من خلال الممارسة، أن قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء قد تضمّن أصولًا معقّدة وطويلة، تكاد تجعل ملاحقة الخاضعين له أمرًا قد يصل إلى حد الإستحالة. ولا يخلو من الثغرات، حيث لم تفلح التعديلات المقترحة المتتالية في تجاوزها. ولما كان تغييب دور هذا المجلس كمحكمة إستثنائية ليس واردًا، فإنه لا بد من تعديل هذا القانون بما يتلاءم مع التشريعات الجزائية الحالية من جهة، ومع الدور الذي يريده المشترع لهذه المحكمة الإستثنائية من جهة ثانية.
فهل سيفلح المشترع في سحب اقتراح القانون المرمي في أدراج المجلس النيابي ووضع اللمسات الأخيرة عليه لإطلاقه عله يبصر النور قريبًا؟ هذا ما سنترك للأيام المقبلة أن تجيبنا عنه؛ فلعله خيرٌ.
[1]- مقدّمة الدستور اللبناني: ب. «لبنان ...، كما هو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والاعلان العالمي لحقوق الانسان. وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات من دون استثناء».
[2]- Art. 8 de la Déclaration universelle des droits de l’Homme de 1948: «Toute personne a droit à un recours effectif devant les juridictions nationales compétentes contre les actes violant les droits fondamentaux qui lui sont reconnus par la Constitution ou par la loi».
[3]- Art. 11 de la Déclaration universelle des droits de l’Homme de 1948: «1. Toute personne accusée d'un acte délictueux est présumée innocente jusqu'à ce que sa culpabilité ait été légalement établie au cours d'un procès public où toutes les garanties nécessaires à sa défense lui auront été assurées. 2. Nul ne sera condamné pour des actions ou omissions qui, au moment où elles ont été commises, ne constituaient pas un acte délictueux d'après le droit national ou international. De même, il ne sera infligé aucune peine plus forte que celle qui était applicable au moment où l'acte délictueux a été commis».
[4]- L. de Gondre, «De la haute Cour à la Cour de Justice de la Répuplique», Revue pénitentiaire et de droit pénal, éd. Cujas, 2000, p.74.
[5]- إدمون رباط،، «الوسيط في القانون الدستوري اللبناني»، دار العلم للملايين، بيروت، 1970 ص 734-733.
[6]- La composition de la Haute Cour, les règles de son fonctionnement et la procédure applicable devant elle, sont fixées par l'Ordonnance n° 59-1 du 2 janvier 1959 portant la loi organique pour la Haute Cour de justice.
C. Bigaut, «La responsabilité pénale des hommes politiques», L.G.D.J. - EJA, 1996, p.49.
[7]- L. de Gondre, «De la haute Cour à la Cour de Justice de la République», Revue Pénitentiaire et de Droit Pénal, éd. Cujas, 2000, p.p.78-79.
[8]- L. de Gondre, «La haute Cour, les raisons d’un échec», Revue Pénitentiaire et de Droit Pénal, ibid, p.76
[9]- محمد المجذوب، «القانون الدستوري والنظام السياسي في لبنان وأهم النظم الدستورية والسياسية في العالم»، منشورات الحلبي الحقوقية. بيروت، 2002، ص335.
[10]- أنور الخطيب، «القضاء السياسي في الحكومات الديمقراطية»، نشر وتوزيع دار الثقافة، بيروت، ص191.
[11]- محمد المجذوب، مرجع سابق، ص168.
[12]- محمد المجذوب، مرجع سابق، ص171.
[13]- M.Belanger, «Contribution à l'étude de la responsabilité du chef de l'Etat», R.D.P-1979 (4-6), p.p. 1266 et 1276.
[14]- M.H.Fabre, «Principes républicains de droit constitutionnel», 3ème éd. L.G.D.J, Paris-1977, p.385.
[15]- M.Prélot, «Institutions politiques et droit constitutionnel», 11ème éd. Dalloz,1990, p.658.
[16]- G.Vedel, «Manuel élémentaire de droit constitutionnel», éd. Dalloz, 2002, p.546.
[17]- أنور الخطيب، مرجع سابق، ص252.
[18]- A. Moreau, «La haute trahison du Président de la République sous la Vème République», R.D.P (4-6), 1987, p.1578 et s.
[19]- M.Belanger, «Contribution à l'étude de la résponsabilité du chef de l'Etat», op.cit, p.1286.
[20]- إدمون رباط، مرجع سابق، ص730 و 731.
[21]- أنور الخطيب، مرجع سابق، ص295.
[22]- أنور الخطيب، «دستور لبنان، السلطات العامة»، مؤسسة عاصي للإعلام والتوزيع، بيروت 1970، ص252.
[23]- زهير شكر، «الوسيط في القانون الدستوري اللبناني»، 2001، دار بلال، بيروت، ص676.
[24]- أحمد سرحال، «دراسات ووثائق أساسية في النظام السياسي اللبناني»، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، بيروت، 2002، ص181 و 182.
[25]- إدمون رباط، مرجع سابق، ص732.
[26]- إدمون رباط، مرجع سابق، ص733 و 734.
[27]- ادمون رباط، مرجع سابق، ص733 و 734.
[28]- يذكر هنا أن صلاحية المحاكم الجزائية، في ما يتعلّق بالملاحقة والتحقيق والمحاكمة في شأن الجرائم المعاقب عليها في ق.ع، بقيت في ظل القانون 13/90 مثار جدل.
[29]- مقابلة مع د.حسن الرفاعي في جريدة السفير، في تاريخ 1999/3/6.
[30]- أحمد سرحال، مرجع سابق، ص183.
[31]- L. de Gondre, «De la haute cour à la Cour de Justice de la République », op.cit., p.85.
[32]- C. Bigaut, «La responsabilité pénale des hommes politiques», op.cit., p.3.
[33]- O. Beaud, «Le sang contaminé», Coll.Béhémoth¡ Paris¡ PUF, 1999, p.120.
[34]- D. G. Lavroff, «Le Droit Constitutionnel de la Vème Republique», 3ème éd. Dalloz, 1999, p.p.652-653.
[35]- محضر مجلس النواب، تاريخ 1991/8/21، ص377.
[36]- محضر مجلس النواب، تاريخ 1990/8/21، ص377 و 378.
[37]- زهير شكر، مرجع سابق، ص817.
[38]- قرار قاضي التحقيق الأول في بيروت، قضية الوزير بارسوميان، تاريخ 1999/3/9. (غير منشور)
[39]- الهيئة الاتهامية في بيروت، قرار رقم 121/99 قضية الوزير بارسوميان، تاريخ 1999/3/12. (غير منشور)
[40]- عبد الغني بسيوني، «سلطة ومسؤولية رئيس الدولة في النظام البرلماني»، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1995، ص237.
[41]- عبد الغني بسيوني، مرجع سابق، ص238.
[42]- L. de Gondre, «De la haute Cour à la Cour de justice de la République », op.cit., p.78.
[43]- Crim. 14 mars 1963, Crim., no 122, Dalloz, 1984, p.7, note: j-m-r
The Supreme Court for the Prosecution of Presidents and ministers, The special nature of specialization
The Penal Justice system constitutes a main pillar in the state structures. It is based on the independence of the judicial authority as defined in the 20th article of the Lebanese Constitution and it serves as a guarantee for the rights of the citizens and the country against any aggression.
The Lebanese State established this guarantee in the Constitution’s preamble.
The last Code of penal justice gave to ordinary courts, according to a general provision, the jurisdiction to consider all penal action, except when there is no special law that forbids it to consider certain issues and reserves it to exceptional courts or special courts such as the Tribunal or the Supreme Court for the prosecution of presidents and ministers since these courts are officially designated for these purposes for they possess the inclusive jurisdiction.
Therefore we have chosen to concentrate in this research on the supreme court for the prosecution of presidents and ministers since this falls under its jurisdiction.
Furthermore, we will be studying the formation of this court and the penal responsibilities of the individuals who fall under its jurisdiction.
Le conseil supérieur pour juger les présidents et les ministres, La nature de sa spécialisation
Le système de la justice pénale constitue un pilier fondamental de l’Etat basé sur l’autonomie de l’autorité juridique comme a été défini par l’article 20 de la Constitution Libanaise. Il est le garant pour protéger les droits des citoyens et de la nation contre toute agression. L’Etat libanais a élaboré cette garantie dans le préambule de la Constitution.
La dernière loi du code des procédures pénales a accordé aux cours normales la compétence d’examiner tous les procès pénaux, sauf au cas d’une loi qui lui accorde des cours exceptionnelles ou spéciales comme le conseil juridique ou le conseil supérieur pour juger les présidents et les ministres par exemple, cette compétence; la spécialisation des cours normales est à l’origine, vu qu’elles émane de l’autorité globale.
C’est alors que nous avons choisi de mettre le point dans cette recherche, sur le conseil supérieur pour juger les présidents et les ministres, vu la nature de sa spécialisation.
Nous allons étudier la création de cette cour et la responsabilité pénale des personnes soumises à son autorité.
Nous avons alors divisé cette recherche en trois chapitres. Dans le premier chapitre nous évoquons la création du conseil supérieur pour juger les présidents et les ministres, dans le deuxième chapitre, la responsabilité pénale du Président de la République, tout en définissant la compétence du conseil supérieur pour le juger. Afin de continuer l’étude au niveau de la compétence de ce conseil, il est impératif de poser la responsabilité pénale du président du Conseil des ministres et des ministres, et c’est ce qui va être évoqué dans le troisième chapitre.