- En
- Fr
- عربي
المياه: عامل إستراتيجي في الصراع العربي-الإسرائيلي
في العام 2001 أعدت منظمتا الأونيسكو والصليب الأخضر الدولي برنامجاً تحت عنوان ''من الأزمنة المحتملة إلى التعاون المحتمل''، وكان هذا من أجل دعم السلام من خلال دمج حلول تعاون بين الدول ومختلف الأطراف المعنية في ما يتعلق بالنزاعات في الشرق الأوسط حول المياه. الواقع أنه يمكن اعتبار إدارة الموارد المائية عامل تعاون وسلام أكثر من كونها رهاناً جيو-ستراتيجياً مؤدياً إلى النزاع المسلح. فالاعتقاد السائد حالياً لدى كثيرين من المحللين في الشرق الأوسط هو أن مشكلة المياه ستكون أحد أسباب الخلافات في المنطقة خلال القرن الواحد والعشرين، وأن غالبية دول المنطقة ستعاني مشكلة قلة المياه. ومعروف أن مسألة المياه بدأت تتخذ أهمية استراتيجية كبيرة بسبب ارتباطها المباشر بمصير مختلف شعوب المنطقة، وبروزها كعامل أساسي قد يساهم في إعادة خلط الأوراق وإعطاء دفع جديد لخطر المواجهة والحرب.
ويتمحور هذا العامل على أن الشرق الأوسط في حاجة دائمة إلى المياه، خصوصاً منه دول الخليج، ويعود ذلك إلى التضخُّم السكاني الكبير والتطور الصناعي السريع الذي يسبب التلوث ويتطلب كثيراً من المياه لتفادي انعكاساته. وفي هذا الصدد كتبت مجلة ''انترناشيونال ميدل إيست'' الأميركية مؤخرًا: ''إن مسألة المياه ستحتل مكانة مهمة إلى جانب البترول على الصعيد الجيو-سياسي في منطقة الشرق الأوسط، حيث أن السيطرة على منابع المياه كفيلة بتغيير موازين القوى الاستراتيجية، ما يشجع الدول على إقامة تحالفات بينها قد تصبح حاسمة في الصراع العربي-الإسرائيلي''(1). والغريب أن قلة من المراقبين والمسؤولين العرب بدأوا يتحسّبون لهذا الخطر الذي لمسه بعضهم منذ فترة بعيدة، ومن هؤلاء، وربما في مقدمهم، الزعيم اللبناني الراحل ريمون إده(2) الذي كان يطالب الدول الكبرى والهيئات الدولية بالضغط على إسرائيل لمنعها من سرقة مياه جنوب لبنان. فهل حقاً أصبحت مسألة المياه بمستوى أهمية البترول في الشرق الأوسط؟
الجواب على ذلك يتطلَّب مراجعة للخريطة المائية، وللانعكاسات الجيوبوليتيكية المترتبة عليها في المنطقة. إن الأهمية التي تكتسبها قضية المياه في الشرق الأوسط تجعلها تشكل جزءاً من الملف الأشمل المتعلق بإدارة شؤون الموارد والثروات الطبيعية في المنطقة. وتأخذ هذه القضية أهمية متزايدة وأبعاداً أكثر تأثيراً نتيجة الضغط الديموغرافي المتزايد والناتج عن دمج عنصرين مؤثرين هما الهجرة اليهودية إلى إسرائيل والتزايد السكاني في المجتمع العربي. وقد دقَّ خبراء من جامعة بنسلفانيا ناقوس الخطر العام 1980 حين أشاروا إلى أنه في أواخر القرن العشرين تكون كل من الأردن وإسرائيل والضفة الغربية المحتلة قد استهلكت كل موارد المياه في حال حصول تغير جذري في آلية استهلاكها. وفي 26 حزيران 1990 شرح ثلاثة خبراء من جامعات بنسلفانيا ويرنيسيفو وميتشيغان، وعلى رأسهم البروفسور توماس ناف، مسألة المياه مؤكدين بذلك على خطورتها الكبرى في المنطقة.
ومنذ ذلك الحين، لم تتغيَّر الأوضاع، لا بل على العكس، فهي فرضت نفسها على طاولة المفاوضين الإسرائيليين والعرب. إن لملف الأطماع الصهيونية في المياه العربية تداعيات كبيرة على الأمن العربي المائي بصفة خاصة وعلى الأمن القومي بصفة عامة. فالماء من القضايا الخطيرة التي تواجه العالم العربي وخصوصاً في ظل عدم التوافق بين عرض الماء المتناقص من ناحية، وتزايد الطلب عليه من ناحية أخرى(3). ويتعرّض الكيان الصهيوني للأزمة المائية ذاتها كونه يحتل أراضي عربية، وتتزايد حاجته إلى المياه مع اتساع رقعته الجغرافية الاحتلالية وارتفاع عدد مشاريعه التنموية في مجالي الصناعة والزراعة، وسعيه الدائم لتخضير صحراء النقب، إلى جانب الزيادة المتوقعة في عدد المستوطنين المهاجرين إلى فلسطين المحتلة والمقدَّر أن يصل إلى أكثر من 4,6 ملايين مستوطن بحلول العام.2020 ويعتمد الكيان الصهيوني في تلبية حاجاته المائية على سرقة المياه العربية، سواء من الأراضي المحتلة (فلسطين والجولان) أو من الأراضي العربية المجاورة أي سوريا ولبنان والأردن ومصر. ويظل الحلم بجعل الصحراء مزهرة مبدأ إسرائيلياً بارزاً، حتى عندما تتراجع الحاجة إلى المؤسسات الزراعية. ولقد عملت الهجرة المتزايدة على تعزيز الصفة اليهودية للدولة، وظلت مسألة المياه على ارتباط وثيق بالمصالح الزراعية، وأسباب الري على الرغم من تراجع أهميتها الاجتماعية والاقتصادية والاستنزاف المفاجئ لموارد المياه الطبيعية. لذلك أصدرت لجنة برلمانية حول الإدارة الكارثية لموارد المياه في إسرائيل قرارًا العام 2002 بإقصاء مياه الري عن مجريات تحقيقاتها وذلك لأن حصتها من المياه كانت ''سياسية''. فالشك في مسألة مياه الري يعادل الشك بالدولة نفسها. ومن دون ما يكفي من المياه لن تصبح إسرائيل محط اجتذاب للمهاجرين الجدد من البلدان الغربية، ومن دون هجرة اليهود ستخسر الدولة العبرية أحد أبرز مقومات استمرارها. من أجل كل ذلك أصبح ضمان موارد المياه في المستقبل عاملاً استراتيجيًا بالغ الأهمية لإسرائيل.
المياه عامل استراتيجي في الشرق الأوسط:
إن مسألة المياه، بغض النظر عن الجانب النظري، تشكِّل مشكلة واقعية. ذلك أنه منذ بدء المفاوضات الإسرائيلية العربية في مدريد في شهر تشرين الثاني /نوفمبر العام 1990 كان المفاوضون، وخصوصًا ممثلو إسرائيل، يؤكدون على أولوية الأبحاث التقنية ومنها مشكلة المياه، غير أن سوريا أكدت على ضرورة إجراء تسوية حقوقية دولية بادئ ذي بدء بالنسبة إلى المعضلات الثنائية القائمة(4). ومن الواضح أن مسألة المياه تشكل تحدياً استراتيجياً يتعلق بالأمن الوطني، عدا أنه يشكِّل عدة تحديات اقتصادية وجيو-سياسية. فهل إن مسألة اقتسام المياه في الشرق الأوسط تشكل سبباً لنزاعات جديدة؟
على الرغم من الاعترافات المتبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد مجابهات نصف قرن، فإن الاتفاق الموّقع بين ياسر عرفات وإسحق رابين في 13 أيلول /سبتمبر العام 1993 في واشنطن شكّل بحد ذاته حدثًا تاريخيًا. فعلى هذا الأساس هل يمكننا أن نطرح أهمية المياه كرهان حيوي في مسيرة السلام؟ إن دراستنا تنحصر بتوضيح هذه المسألة في إطاري الدراسة والتحذير. لقد اجتزنا الخطوة الأولى ونحن نحاول دراسة الخلافات شتى حول مسألة المياه مهما كانت معقدة.
ومن الملاحظ أن العالم يتجنب بحث مسألة المياه في الصراع العربي-الإسرائيلي بعمق، بينما هي ماثلة في كل مجالات الجدل الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
وقد وصل الأمر بالمجلة الفرنسية «لفنمان دو جودي» إلى حد القول: «إن المياه هي القنبلة الموقوتة في الشرق الأوسط»(5). وقد نضيف أيضاً تصريح الوزير الإسرائيلي للشؤون الخارجية شيمون بيريز حيث أكّد على أن أزمة المياه بين دول المنطقة ''لها من الأهمية أكثر مما للنفط من أهمية''(6)، ناهيك عن قول الرئيس المصري السابق أنور السادات بعد إبرام اتفاقيات كامب ديفيد: «من المياه المقدسة إلى المدينة المقدسة: مياه النيل لمدينة القدس»(7).
إن المياه هي رمز الثروة والورقة الرابحة اقتصاديًا وسياسيًا، والرهان المائي قد حلّ الرهان النفطي سواء في الحلقات السياسية الاستراتيجية أو في المخطط المستقبلي الموضوع من قبل دارسي المستقبل. إن العوامل الاقتصادية للنزاع العربي-الإسرائيلي تخضع لمباحثات سياسية طويلة. ولكن بحسب''توماس ستوفر'' فإن العوائق الاقتصادية أمام كل تسوية سلمية جماعية مهما كانت ليست بأقل صعوبة من العوائق السياسية، لأن السلم بالنسبة إلى جميع الفرقاء في النزاع لا يكلف الأراضي وحسب، بل تفرضه أيضاً التزامات على حساب المكاسب الاقتصادية الحاصلة نتيجة لحالة الحرب وبشكل خاص في حقل المياه. يجب إذن دراسة الوضع الحالي في إسرائيل وما ستؤول اليه النتائج المحتملة إذا استمرت حالة الحرب.
وفي الدراسات الإسرائيلية يبدو أن تحسين مستوى العيش وبناء المستوطنات يحتّم تأمين زيادة في المياه بمقدار 600 مليون متر مكعب كل سنة. فإذا تعثَّر الحصول على ذلك فيكون من الضروري تأمين ثلثه على حساب المشاريع الزراعية، ما يؤدي إلى أزمة اقتصادية واجتماعية بغض النظر عن الأضرار التي تحصل بفعل برنامج التوزيع السكاني. يتعيَّن إذن على إسرائيل مواجهة نقص في المياه يزداد مع ازدياد التوسع الزراعي في النقب والتوسع الصناعي وسياسة الاستيطان في الضفة الغربية وفي إسرائيل نفسها، في الوقت الذي لا توجد فيه موارد مائية احتياطية في المناطق الإسرائيلية الأخرى. وأما في ما يتعلق بالأساليب الحديثة للحصول على المياه، مثل إزالة ملوحة مياه البحر أو معالجة المياه المستعملة، فإن ذلك مكلف جداً. لذلك فإن إسرائيل مستعدة لاستثمار عدة مليارات من الدولارات من أجل خلق موارد إضافية للمياه لصالح قطاعات أخرى في المجتمع، ولا سيما العائلات، من أجل إبقاء المثال الصهيوني حياً. إن إسرائيل مستمرة في إحكام السيطرة على موارد المياه الطبيعية التي تمتلكها حاليًا. وحيث أن أكثر من ثلث المياه المستهلكة اليوم في الدولة العبرية تنبع من منابع موجودة في الأراضي العربية المحتلة، ولا سيما الضفة الغربية والجولان، فسوف ينتج عن هذه السياسة نزاعات من المؤكد ان تؤدي إلى مجابهات عسكرية.
أمام هذا الواقع، ما هي الوسائل التي يمكن من خلالها منع حدوث نقص مأسوي بالماء في إسرائيل؟ إن الجواب الصحيح على ذلك يكون في أن نستعرض سياسة إسرائيل الاستراتيجية في هذا المضمار.
المياه استراتيجية صهيونية:
قبل إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين العام ,1948 فكّر المسؤولون الصهاينة بتأمين المياه للدولة العبرية المقبلة. ففي المنظار الاستراتيجي الطويل الأمد، كتب رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، حاييم وايزمن، إلى رئيس الوزراء طالباً إليه توسيع الحدود الشمالية لفلسطين حتى تشمل كل مصادر المياه، وبعبارة أخرى ترسيم الحدود الفلسطينية ليس على أساس الاعتبارات الدينية والتاريخية فحسب، بل على أساس الاعتبارات المائية أيضاً.
كذلك يجب أن نتذكر أنه العام ,1919 وفي أثناء مؤتمر باريس، طالب وايزمن أن تشمل حدود فلسطين الشمالية جبل الشيخ وموارد مياه نهري الأردن والليطاني. وبموجب هذا المخطط تكون حدود فلسطين في القسم الشمالي قد دخلت في الأراضي اللبنانية 25 ميلاً، وكذلك في الأراضي السورية، وذلك من أجل السيطرة على مرتفعات الجولان ومنطقة حوض اليرموك. وهذا يفسر توطين اليهود شمال فلسطين حيث يتوافر 85% من احتياطي المياه.(8)
والعام ,1921 حصلت الحركة الصهيونية من الدولة الحامية، بريطانيا، على إذن بإقامة مشروع كهربائي مائي لاستثمار مياه الأردن واليرموك وبحيرة طبرية. والعام 1936 أسست الوكالة اليهودية بالتعاون مع اتحاد العمال الصهيونيين، شركة ميكوروث من أجل تحقيق مشاريع مائية في فلسطين. ولم تتوقف الاستراتيجية الصهيونية عند هذا الحد، فمن أجل تحفيز مخطط مائي واسع يصلح لمستقبل الدولة العبرية، استدعت المنظمة الصهيونية المهندس الزراعي ''وولتر كلابي'' الذي نشر العام 1944 اقتراحاته في مؤلف تحت عنوان «فلسطين أرض المياه».(9)
إن وجهة نظر المهندس الزراعي الأميركي «لودرميلك» تركَّزت على تنظيم وادي الأردن. ومثل ذلك يفترض أولاً استثمار مياه أنهار الأردن واليرموك وبانياس والحاصباني والزرقة لريّ حوض الأردن الذي يمكن أن يستوعب 4 ملايين مهاجر يهودي لاحقاً. ومن جهة أخرى، تركز الخطة على تأمين الطاقة بأقل كلفة ممكنة، وذلك عبر فتح قناة تصل بين البحر المتوسط والبحر الميت وتسمح بتحقيق المشاريع المائية (نهر الأردن يقع تحت مستوى البحر). وقد تطورت فكرة هذه القناة وسوف تدّشن تحت عنوان «قناة المتوسط والميت».
ومنذ العام 1948 تبنت إسرائيل سياسة تأمين مجمل مواردها المائية بمساعدة مهندس أميركي يدعى «جون كوتون» الذي أصبح مستشاراً لدى الحكومة الإسرائيلية بين العامين 1951 و,1956 حين بدأت إسرائيل بفتح قناة التحويل بالقرب من الحدود السورية، وعندئذٍ بدأت سورية تعارض بسرعة، ونشرت فرقاً عسكرية على حدودها. ولاحتواء هذه الأزمة التي أصبحت استراتيجية وحيوية للبلدين، سارعت الولايات المتحدة من خلال رئيسها ''إيزنهاور'' بإرسال مستشار الرئيس إلى المنطقة المدعو ''إيريك جونستون'' الذي اقترح خطة استثمار محلية لنهر الاردن بين البلدين حيث يمتد شاطئ النهر، وفق مخطط عمل ''شارل ماين''. وقد تقبّل الأفرقاء المعنيون المشروع من وجهة النظر التقنية، غير أنهم رفضوا الخطة السياسية والاستراتيجية. وقد طُوي مشروع ''جونستون'' وأُغلق ملف المفاوضات المائية من دون حل الخلاف بين البلدان الثلاثة ذات العلاقة، وكان ذلك إثر العدوان الثلاثي من جانب إسرائيل وفرنسا وإنكلترا على مصر العام .1956 غير أن إسرائيل تابعت مشاريعها على نهر الأردن بمحاذاة حدود المملكة الهاشمية، حيث تم البدء بتنفيذ قناة الغور، وهي أول مرحلة من المشروع.
لقد شكّل النزاع العربي الإسرائيلي دائماً اختباراً جيداً للمواجهة بين الشرق والغرب. فالنزاع المسلّح صار حتمياً بين الدول العربية وإسرائيل. ومن حوادث بسيطة أو أزمة سياسية تنشأ أزمة تتطوَّر حتى التهديد بالحرب التي لا يمكن لأحد أن يسيطر عليها. فإذا تتبعنا الأحداث التي سبقت الحرب الإسرائيلية العربية الثالثة العام ,1967 والتي توصف بحرب الستة أيام، ستصدمنا المفارقات بين هذه الأحداث والنتائج المأسوية التي أدت إليها. إن كل شيء كان مهيأ للتسارع بالتوازي مع قضية مياه الأردن بعد أن رفضت الدول العربية مشروع جونستون. وفي الوقت الذي تتصاعد الاحتجاجات فيه لدى هيئة الأمم ضد إسرائيل للأعمال التي قامت بها العام ,1960 وضعت الجامعة العربية مشروعاً لاستثمار روافد نهر الأردن لمصلحة ثلاثة بلدان عربية هي الأردن وسورية ولبنان.
في العام ,1964 بعد أن أنجزت إسرائيل حبس المياه، تهيأت لتشغيل آلات الضخ. وكان هذا العمل في مفهوم البلاد العربية عملاً عدوانيًا لا يمكنها السكوت عليه. وسرعان ما استدعى جمال عبد الناصر، الزعيم العربي الذي لم يكن له منازع آنذاك، رؤساء الدول العربية إلى القاهرة. وشكَّلت هذه الدعوة الأولى انطلاقة لسلسلة أبحاث القمة التي اجتمعت في القاهرة من 13 إلى 16 كانون الثاني/يناير العام .1964 أما قضية مياه نهر الأردن فشكلت تحدياً لدى عبد الناصر لا يقل أهمية عن بناء سد أسوان في العام .1960
وفي البيان النهائي لقمة القاهرة، اكتفى رؤساء الحكومات العربية بالتأكيد مجدداً وبقوة على المقررات المتخذة سابقًا، تلك التي كانت تلحظ بالدرجة الأولى ما يأتي:
- تأليف قيادة موحدة تحت سلطة المشير المصري علي علي عامر.
- تنفيذ مخطط تحويل روافد نهر الأردن تحت قيادة موحدة.
- إنشاء «كيان فلسطيني».
وعلى هذا الأساس، كتب «سيمون جارجي» ما يلي: ''لم تكن الفكرة عدائية في اجتماع قمة القاهرة. إن تحويل روافد الأردن من شأنه إذن أن يكون عامل إنذار للغربيين ولإسرائيل على حد سواء. وبكل تأكيد كانوا يأملون في أوساط الجامعة بأن كل شيء سيكون من شأنه محاولة منع العرب من وضع مشاريعهم قيد التنفيذ''.(10)
غير أن الرؤساء العرب لم يدخلوا في حسابهم ردود الفعل التي ستنتج عن هذه التصاميم، سواء على الصعيد الدولي أو العربي. ووفق صحيفة ''جيروزاليم بوست'': سيرتفع الصوت إذ يصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق «ليفي أشكول» في 20 كانون الثاني/يناير العام 1964 أن الحكومة ستعارض كل محاولة من قبل العرب لتحويل روافد الأردن. وما إن كشف النقاب عن هذا التهديد حتى أجاب عنه بتاريخ 21 كانون الثاني/يناير من العام نفسه الوزير الأميركي المساعد أليكسيس جونسون بقوله: «إن الحكومة الأميركية لن تتخذ موقفاً حيادياً إذا وقعت اعتداءات في الشرق الأوسط». وتدخَّل الاتحاد السوفياتي بدوره عند إعلان المخطط الإسرائيلي بشأن تحويل مياه الأردن الذي يصيب البلاد العربية بأضرار فادحة مثل سورية والأردن. وقد اتهمت موسكو إسرائيل والولايات المتحدة بالتحضير لاعتداء عسكري شبيه باعتداء 1956».(11)
إن مؤتمر القمة الثاني المنعقد في الإسكندرية من 5 إلى 11 أيلول من السنة نفسها أظهر الهوة الفاصلة بين الرغبات الحقيقية. فعلى الصعيد التقني توقعت توصيات الخبراء التحويل الفعلي لروافد الأردن، الحاصباني والوزاني في لبنان وسوريا واليرموك في الأردن.
ولقد أعلنت الوفود وقتئذٍ عن الصعوبات القائمة في وجه تنفيذ هذه المشاريع، واحتج يومها الرئيس اللبناني شارل حلو بكل صراحة بأن مثل هذا التحويل قد يؤدي إلى حرب في وقت لن تكون الجيوش العربية مستعدة فيه للدخول في حرب.
وبكل تأكيد، فإن النزاع حول مياه نهري الأردن واليرموك كان السبب الرئيس لحرب الأيام الستة. وبالفعل تمثل المياه مظهرًا رئيسًا للقضية الفلسطينية وللنزاع المستقبلي حول الأراضي العربية المحتلة. وطالما أن استراتيجية الردع الإسرائيلية ترتكز على مفهوم «الضربة الاحترازية»، فكل تحرك عربي ضد إسرائيل مثل التغيير الاقتصادي والعسكري والخطر البحري، وحرمانها موارد المياه ... يعتبر كإعلان حرب في المفهوم الإسرائيلي.
ويجدر بالإشارة أن المياه تدخل ضمن مسلمات الاستراتيجية الإسرائيلية العسكرية. وهذا ما تؤكده الهجمات الجوية ضد منشآت المياه الأردنية والسورية التي وقعت في نيسان/أبريل وأيار/مايو العام .1967 وحرب الستة أيام كانت من دون أدنى ريب، حرب مياه. لقد قدمت هذه الحرب إلى الدولة العبرية فرصة تاريخية لتضع حداً للمشاريع العربية، وبالمقابل لتحقيق المشروع الصهيوني. وتمكَّنت إسرائيل في هذه الحرب من السيطرة على المناطق الاستراتيجية التي ينبغي أن تضمن لها الأمن المائي. إن مشكلة المياه ستشكل حجر عثرة في أيّ تسوية مستقبلية. لذا فإن الصهاينة طالبوا صراحة بعد صدور وعد بلفور بأن يمتد احتلالهم حتى نهر الليطاني في لبنان ليتسنّى لهم السيطرة على مياه هذا النهر. وهم سعوا كذلك إلى الاستيلاء على مختلف الأراضي العربية التي تقوم فيها مصادر المياه المجاورة لحدودهم، وعملوا على ما يأتي:
أ. الاستيلاء على مياه نهر الأردن بعد تحويل مجراه العام ,1964 وضخ حوالى 450 مليون متر مكعب من مياهه إلى صحراء النقب والجزء الجنوبي من الساحل الفلسطيني، وكان تحويل روافد هذا النهر الدافع الأساسي لحرب العام 1967 بنظرنا.
ب. احتلال هضبة الجولان السورية بهدف السيطرة على مصادر المياه وعلى الأراضي الخصبة في تلك المنطقة، وتؤمن هذه المياه 22% من الاحتياجات المائية للكيان الصهيوني.
ج. احتلال الجنوب اللبناني العام 1982 بهدف الاستيلاء على المياه اللبنانية التي تغذي مياه نهر الأردن وبحيرة طبرية التي تؤمن مياه الشرب والري للعديد من المستوطنات الصهيونية.
د. منع لبنان من استغلال مياه نهر الحاصباني العام 1965 والعمل على سرقة 157 مليون متر مكعب من المياه سنويًا منه. وقام جيش الاحتلال الصهيوني بقصف المعدات التي أعدتها الدولة اللبنانية يومذاك لاستثمار مياه نهر الحاصباني. وفي العام 2002 هدد شارون بشن حرب ضد لبنان إذا حاول استغلال مياه نهر الوزاني.(12)
المياه: سلاح جيو-ستراتيجي
على صعيد التموين بالمياه أصبح الإسرائيليون أسياد المنطقة بعد حرب .1967 إن معضلة توزيع الموارد المائية بين الدولة العبرية وجيرانها هي دون شك معضلة معقدة يصعب حلها. ففي غياب تشريع دولي محدد، فإن كل اتفاق يتطلب بعض التعاون، ومن الصعب التوصل إلى هذا التعاون في حال جهل حدود الشبكة المائية. يمكن أن نقرأ للكاتبة الفرنسية ''فرنسواز شيبو'' في صحيفة «لوموند» ما يلي: «إن وضع مختلف البلاد في هذا الجزء من الشرق الأوسط غير المتجانس، فاللبنانيون والسوريون غير متأثرين في الوقت الحاضر بنقص المياه، إلا أنه من الواضح أن الضفة الغربية من الأردن، والجولان وجنوبي لبنان المحتل من قبل إسرائيل، تمثل مناطق ذات أهمية حيوية لهذا البلد (تعني إسرائيل)».(13)
فهل يجب أن نذكر بأن 67% من استهلاك إسرائيل من المياه يأتي من خارج حدود العام 1948 (35% من الضفة الغربية في الأردن ومن روافد نهر الأردن و32% من هضبة الجولان المحتلة)؟
فإذا ما تم احتلال هذه الهضبة الغنية بالمياه، بما فيه جزء من لبنان، تكون إسرائيل أمنت السيادة على ثلاثة عناصر تؤلف المجرى العالي لنهر الأردن، أي على نهري الحاصباني في لبنان، وبانياس في سوريا، وعلى ينابيع دان في إسرائيل وكذلك الأحواض الجوفية الواقعة في الضفة الغربية.
إن أولى مقولات الدولة العبرية غداة احتلال هذه المنطقة، بعد حرب ,1967 كانت تتلخَّص بأن المياه هي مورد استراتيجي تحت السيطرة العسكرية. ومنذ هذا التاريخ رأى الفلسطينيون أنه بات محظورًا عليهم حفر آبار، فانخفضت نسبة الأراضي المروية في الضفة الغربية من 27% قبل 1967 إلى 7% في اليوم الحاضر.
وبهذا الخصوص كتب المعلق العسكري الإسرائيلي زئيف شيف ما يلي: «على إسرائيل عدم قبول أي انسحاب من الضفة الغربية، وعلى خبراء المياه أن يضطلعوا بدورهم القاطع في تحديد حدود إسرائيل النهائية»(14).
ومقابل ذلك فإن ضمّ الجولان إلى إسرائيل في 14 أيلول العام ,1981 يقدم فائدة مائية استراتيجية مزدوجة. فقد أعلن الرئيس السوري الراحل أنه «حتى إذا اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، فإن سوريا لا يمكنها قبول ذلك». وجواباً على هذا التصريح، قدّر رئيس الوزراء الأسبق إسحق شامير، أن الإسرائيليين لا يمكنهم إعادة الجولان إلى سورية، معلنًا أن إسرائيل قررت ترجمة موقفها بقرار قضائي(15).
إن احتلال مرتفعات الجولان يسمح لإسرائيل بالسيطرة على مصادر مياه روافد أنهار الأردن الحاصباني وبانياس، التي تساهم في ثلثي منسوب النهر، بتقديم ما يقارب 12 مليون متر مكعب في السنة، وزيادة على ذلك، فاعتباراً من جنوب الجولان يمكن التحكم تماماً ببحيرة طبرية التي تقدم ربع المياه التي تستهلكها إسرائيل. وأخيراً فإن هضبة الجولان تؤمن السيطرة على نصف شواطئ اليرموك.
والمنطقة الأخرى الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية هي الضفة الغربية حيث تكثر الأمطار فوق التلال فتكون المورد الرئيس للمياه الجوفية الفلسطينية.
وإلى الجولان والضفة الغربية، هناك أيضا قطاع غزة. إن الحالة في غزة حيث يتجمع أكثر من مليون فلسطيني فوق شريط ضيق مساحته 360 كلم. مربعاً على امتداد شاطئ البحر المتوسط، تشكل بحد ذاتها قنبلة موقوتة قابلة للانفجار، إذ أن كثافة السكان العرب فيه، تبلغ عشرة آلاف نسمة في كل متر مربع واحد، بالإضافة إلى المزارعين الإسرائيليين المتجمعين في القطاع. وهذا ما جعل مخزون المياه الجوفية يجف إلى درجة أن مياه البحر بدأت تتسرَّب إليه، وتزيد في ملوحة مياه الشفة.
ومن المقدر أن عدد سكان غزة سيزيد على مليونين نسمة العام ,2010 ما يستدعي إيجاد موارد إضافية للتموين سواء على أساس استغلال المياه المسحوبة من المناطق المجاورة، أو تكرير المياه المستعملة، أو عن طريق إزالة ملوحة مياه البحر. إن قطاع غزة لا يدخل في حساب قسم من مياه إسرائيل حتى وإن كانت المناطق الإسرائيلية في «الكليف» تتغذى من أقنية واقعة وراء الخط الأخضر (معدلها ثلاثة ملايين من الأمتار المكعبة في السنة) فالمياه من أي مصدر أتت، تأخذ أهمية أساسية في موضوع البحث عن السلام في الشرق الأوسط.
وهل من الضروري التذكير بأن أولى مخططات دولة إسرائيل كما رسمها لودرميلك (1944) كانت تلحظ استخدام مياه الليطاني، وأنه خلال غزو لبنان، كانوا يقولون أن الهدف الخفي لهذه العملة هو السيطرة على ذلك النهر؟
ولقد تردد كثيراً أن إسرائيل تحفر قناة لمجرى يؤدي إلى الليطاني بالقرب من قلعة «بوفور» وذلك لجلب المياه عبر وادي الحاصباني حتى بحيرة طبرية. وبخصوص هذه المعلومات «فليس هناك من برهان أكيد لوجود مثل هذه القناة» حسب رأي جون كولار(16).
فهل يمكننا القول أخيراً أن الضغوط حيث تظهر بين الإسرائيليين والعرب تكون بسبب المياه؟
وهذا الوضع ينطبق أيضًا على مياه نهري الأردن والليطاني، وهو ما لحظته الحركة الصهيونية منذ البداية. وهذا ما يمكن ملاحظته أيضًا باستقراء بعض أحداث التاريخ القريبة: زفالعام 1948 كانت إسرائيل تشرف على ينبوع «دان». وفي العام 1967 استولت على نهر بانياس، وفي العام 1967 استولت أيضاً على منابع الحاصباني، وهي ظلّت منذ العام 1982 تحتل جزءاً استراتيجياً من مجرى الليطاني إلى أن تمّ تحرير الجنوب العام .2000 وتقول الكاتبة والباحثة «إليزابيث بيكار» في مقالة لها: «عندما نتفحص معضلات قسمة المياه في حوض الأردن في وقتنا الحاضر، لا يمكن إلا أن نصدم بواقعية المخطط المقترح من قبل الولايات المتحدة العام 1953 (مخطط جونستون)، وقد رفضته البلاد العربية في بادئ الأمر توافقًا مع رفضها السياسي لوجود إسرائيل في المنطقة».(17)
فهل علينا أن نذكر على نحو آخر أنه في حال عدم وجود قانون دولي مدروس لهذه المسألة، فإن التسويات على الصعيد الفني، لا تنشأ عن حساب عقلاني أو خيار رابح من قبل الولايات المتحدة. إن مسألة الاقتسام في نهاية الأمر تمثل تحديا هامًا في مسيرة السلام الإسرائيلي - العربي.
ويمكن القول أنه منذ العام 1967 وإسرائيل تضع استراتيجية مائية تدور حول محورين:
- أولاً، وضع تشريع دقيق تحدد بموجبه السيطرة على المياه وتقنين استهلاكها من قبل عرب غزة والضفة الغربية والجولان، ومن ثم احتلال رقعة من الأرض بوجود عسكري فعلي دائم وزرع المستوطنات قرب مصادر المياه.
- ثانيًا، ترتبط مسألة المياه دائمًا بالأمن، لاسيما حين تكون مادة نادرة، لأن جميع الأطراف المعنية تشعر بأنها مضطرة إلى السيطرة على الأرض التي تجري المياه فوقها أو في باطنها. لذلك تقيم إسرائيل علاقاتها الإقليمية على توازن بين الاعتماد على المياه وبين الأمن كعلاقة حيوية. فالمياه من المسائل الاستراتيجية التي يشكل فيها أي مكسب لأحد الأطراف، خسارة للطرف الآخر، ولاسيما حين يتنافس على منابع المياه اكثر من طرف بينهم حالة من العداء.
المياه ومسيرة السلام في المنطقة:
يجب النظر إلى المسائل الأساسية بصورة مختلفة. أليست سيطرة إسرائيل على منابع الأردن وعلى الأحواض الجوفية في المنطقة من ضرورات الأمن؟ إن الحكام السياسيين يعترفون بوجود معضلات جدية حول نقص المياه في لبنان وفي الأردن وفي قطاع غزة وكذلك في البلدان العربية في المنطقة، فيقدرون أن قلة مصادر المياه هي في أساس حدة الخلاف.
إن المؤسسة الإسرائيلية ''ميكوروث'' (الشركة الوطنية للمياه) كُلفت من قبل العسكريين العام 1982 بأن تهتم بالإدارة الفنية لجميع الآبار العربية لأغراض الخدمات العامة والصناعية، وهي تدير شؤون 70% من المياه المستخدمة في القطاع المحتل حالياً من قبل إسرائيل.
إن بن مائير المكلف سابقًا بمسألة المياه في إسرائيل، عرض جيداً المعضلة في محاضرة ألقاها في تموز/يوليو 1989 وقال فيها: «يقدر المنسوب المستخدم ما بين البحر ونهر الأردن بمقدار 2 كلم مكعب. وتستخدم الضفة 130 هكتومتراً مكعبًا في السنة، وقطاع غزة 120 هكتومترًا مكعبًا، من دون أن ننسى الأمطار التي تعطي 70% من حاجة الاستهلاك. فإسرائيل تجد نفسها والحالة هذه، مجبرة على توفير كمية أكبر بالنسبة إلى الاحتياطي العام، بغض النظر عن المخزون المائي الماثل حاليًا في الضفة وقطاع غزة، بينما الجفاف عمّ في السنين الأخيرة كل المنطقة».(18)
ونرى متناقضات وفرقاً كبيراً بين الآمال الاقتصادية في إسرائيل ومواردها المائية. إن النقص في المياه يمس مصالح كل المنطقة (إسرائيل والأردن وسورية ومصر ولبنان وحتى تركيا)، ومن جراء ذلك، فإن كل دول المنطقة وخصوصاً إسرائيل، ستضطر إلى مراجعة حساباتها السياسية حول التطوُّر الزراعي، وتؤدي المعطيات الجديدة إلى جعل مسألة المياه قضية ثابتة في الرهان الذي يقوم به السياسيون.
ولذلك يؤكد الإختصاصيُّون على أن الحل لا يمكن أن يحصل إلا ضمن معادلة السلم المؤدية إلى خلق مشاريع جماعية مشتركة.
إن المفاوضات المتعددة التي عقدت من جديد في واشنطن منذ 15 أيلول /سبتمبر 1992 بالتوازي مع المفاوضات الثنائية حول المعضلات الأرضية، سبقت في دورتين المناقشات حول المياه، في موسكو أولاً في شهر كانون الثاني/يناير من العام ,1992 وفي النمسا في شهر أيار/مايو من السنة نفسها. ففي الدورة المنعقدة في موسكو التي قاطعها اللبنانيون والسوريون، صرَّح المفوض الإسرائيلي بموضوع المياه، على عكس ذلك، إن بلاده تقبل باستخدام المياه المتوافرة بصورة مشتركة، بدلاً من إقامة محطات جديدة لإزالة ملوحة مياه البحر، على أن يكون ذلك بتنسيق الجهود المشتركة في حقل مراقبة التلوث.
ويخشى الإسرائيليون بالفعل أن يجري وضع هذين الاحتياطين من المياه تحت السيطرة الفلسطينية، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى نقص في مراقبة الضخ بسبب عدم الإتقان في حفر الآبار. ويفسر ذلك قلة حماسة الإسرائيليين للتخلي عن الضفة الغربية تحت شعار الأرض مقابل السلام.
ولكن هناك بعض المسائل تفرض نفسها مع طلب المياه في الضفة الغربية والتي ستزداد تعقيدًا عند عودة الفلسطينيين من الشتات إثر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وثمة بعض المقترحات التي قد تنشأ مسبقًا، كما إن العديد من المسائل ستطرح حول تسوية النزاع السوري الإسرائيلي. فإذا أعيد الجولان إلى سورية سيحصل الإسرائيليون على ضمانة من سورية أنها لن تقلل من منسوب نهر بانياس. والتراجع الإسرائيلي الجزئي كما تقترحه الآن سيسمح لها الاحتفاظ بسيطرتها على هذا النهر. ويجب التذكير بأن الإسرائيليين رفضوا التفاوض مع الفلسطينيين حول معضلة المياه. وقد صرّح المفوض الإسرائيلي في شؤون المياه أنه في ما يتعلق بالمياه، فإن إسرائيل ترفض أن تتبع أي بلد مجاور وحتى في أيام السلم.(19)
وحتى في مباحثات فيينا التي جرت في 13 و 14 أيار/مايو من العام ,1992 فإن المفاوضين الإسرائيليين سجلوا مرة أخرى معارضة الدولة العبرية لكل تخصيص جديد للموارد المائية في المنطقة.
تعتبر إسرائيل أن إعادة توزيع أبسط الموارد القائمة، هو كرهان على لا شيء، بل إنه مضاد للمشاريع الجماعية بالنسبة إلى المياه المتوافرة. وهنا ثمة فكرتان مطروحتان: الأولى وهي استيراد المياه، والثانية تشغيل منشآت مشتركة عربية إسرائيلية على أساس إقامة محطات لتحلية مياه البحر على شاطئ المتوسط.
الفكرة الثانية تقول باقتراح تجميع مياه الليطاني في بحيرة طبرية، أو بإقامة سد على اليرموك بقصد تغذية الأردن والضفة، أو بسحب المياه من تركيا في أنابيب تحت البحر وإنشاء قناة تسمح بتموين سورية والأردن والضفة من الأنهار التركية، أو بالسماح لإسرائيل بسحب مياه الليطاني مقابل الحصول على الطاقة الكهربائية، وأخيرًا باستيراد المياه من النيل إلى قطاع غزة بواسطة قناة تمتد في سيناء. كل هذه المشاريع ستفرض على الأردنيين والفلسطينيين أن يعدلوا عن مطالبتهم باليرموك.
إن الكثيرين من الاختصاصيين اقتنعوا بأن رغبة العرب من أردنيين وفلسطينيين تستدعي حقاً شرعياً بالنسبة إلى المشاريع المائية الأردنية المستخدمة في الوقت الحاضر من قبل إسرائيل. ويريد الفلسطينيون اعترافاً بمبدأ السلام مقابل الأرض وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة في قطاع غزة والضفة الغربية. هذه هي الشروط الضرورية لكل مفاوضة حول موضوع المياه. ويؤكدون على أن الأكثر أهمية بين كل هذه الحالات هي مراقبة الموارد المائية، مؤكدين على ترميم الحقوق الشرعية وإقامة حصة (كوتا) دنيا مقدارها 220 مليون متر مكعب في كل سنة.(20)
إن وضع الأردن يحتّم القول إنَّ توزيع الموارد المائية يجب أن ينتقل من حالة عدم التوازن إلى استخدام المياه بصورة عادلة. ويعتقد الأردنيون أن بلادهم مهضومة الحق من قبل إسرائيل، عدا عن أن وسائل الضغط التي تملكها عمّان محدودة جداً. وعلى هذا يمكن القول أن الأردن لا يملك الكثير ليخسره.
أما في سورية فالأمور تبدو أكثر وضوحاً. فدمشق تطلب الاعتراف الدولي وتحديد الحدود الإسرائيلية السورية كما تطالب بحقوق الفلسطينيين. وقسم كبير من الاختصاصيين مقتنع بأن الإرادة الإسرائيلية بالاحتفاظ بالجولان تتمسك باعتبارات متعلقة بالمياه أكثر منها بمتطلبات الأمن، لا سيما وأن العديد من القادة العسكريين الإسرائيليين كان قلل من الأهمية الأمنية لهضبة الجولان.
أما بالنسبة إلى لبنان فإنه معارض لكل اقتراح يقضي بتصدير مياه الليطاني، خصوصاً وأنه يعاني حالات شحّ متزايدة عاماً بعد عام، بينما كل مشاريع تحسين حوض الأردن المدعومة من قبل إسرائيل هي حتى الآن داخلة في مسألة الليطاني. ومنذ العام 1982 إثر الغزو الإسرائيلي للبنان، يؤكد لبنان الرسمي على أن موارده المائية ليست قابلة للمساومة، بينما يؤكد الخبراء اللبنانيون أن البلاد واقعة في عجز مائي متفاقم باستمرار. إن إسرائيل ترغب من دون شك في العودة لتثبيت سيطرتها على منابع نهري الحاصباني والوزاني، حتى وإن كان ذلك يؤدي إلى حروب جديدة في جنوب لبنان. ففي العام 2001 قامت الحكومة اللبنانية بإنشاء خط انابيب يصل نبع الوزاني ببعض القرى وذلك بعد مرور سنة على خروج الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. وفي أيلول من العام 2002 شرعت الحكومة اللبنانية في توسيع قطر الأنبوب حوالى 16 إنشاً وجعلت سعته من 4 إلى 10 مليون متر مكعب سنويًا. وقد سبَّب هذا الأمر قلقاً في إسرائيل حيث أن كل متر مكعب من المياه تسحبه القرى اللبنانية من الموارد المشتركة، يعني حصول إسرائيل على نسبة أقل من المياه. هذه الخطوة كانت كافية ذات يوم بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لاعتبارها حجة لإعلان الحرب. كانت تل أبيب تخشى أن يأخذ لبنان مبادرات جديدة كهذه، لذا، كان لا بد من التحرك سريعاً. وجاءت ردة الفعل الإسرائيلية على إنشاء المحطة المائية لتحول هذه المسألة إلى قضية سياسية هامة في لبنان. والجدير بالذكر أن رئيس الوزراء اللبناني السابق الشهيد رفيق الحريري كان شكّل لجنة من الخبراء اللبنانيين برئاسته قامت بإعداد ملف للدفاع عن القضية أمام الأمم المتحدة(21). كما أرسلت الأمم المتحدة مبعوثها تيري لارسن إلى بيروت للبحث في تطورات هذه المسألة. على الرغم من الوضع المتوتر اللبناني-الإسرائيلي قام رئيس الجمهورية العماد إميل لحود ورئيس مجلس النواب نبيه بري في السادس عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر العام 2002 بافتتاح منشآت المياه بحضور سفراء من دول الاتحاد الأوروبي ورسميين من الأمم المتحدة، مشكّلين درعاً بشرية للحؤول دون قيام إسرائيل بأي هجوم عسكري خلال الاحتفال.
إن خروج الدولة العبرية في 25 أيار/مايو من العام 2000 من معظم الجنوب اللبناني المحتل جاء نتيجة الضربات الموجعة التي وجهتها المقاومة اللبنانية في المناطق المحتلة القريبة من منابع المياه. كما إن الحرب التي شنتها إسرائيل في شهر تموز/يوليو من العام 2006 فدمَّرت البنى التحتية من طرق و جسور بعيدة من الناحية العملية عن جنوب لبنان، أكدت على أن إسرائيل تنتهج الاستراتيجية التدميرية للحفاظ على تفوُّقها العسكري.
يبقى السؤال الهاجس الذي يطرح نفسه وهو: لماذا لم تقم إسرائيل بهجوم عسكري شامل على لبنان؟ ربما لأن لهذا الأمر علاقة بالاستعدادت الأميركية للحرب على العراق ولاسيما أن واشنطن سارعت بإرسال فريق تقني إلى جنوب لبنان من أجل التحقيق في المطالب اللبنانية والإسرائيلية.
إن مسألة المياه معقدة وتدخل ضمن نطاق الصراع في الشرق الأوسط، لا سيما أن القانون الدولي بوصفه وسيلة لحسم مسائل المياه، يبدو إلى حد بعيد غير ذي فعالية في ظل عدم وجود الإطار القانوني الدولي لإيجاد الترتيبات القانونية المسبقة لعقد المعاهدات بين الدول(22).
بنهاية السياق، نقول إن مفاوضات السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب تتركَّز على مجموعة من العوامل الجيو-سياسية خصوصاً بعد عقد معاهدات بين إسرائيل ومصر والأردن وخروجها من جنوب لبنان، أهمها تحديد الوضع النهائي لحوض الأردن. فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذه المرحلة من عملية المفاوضات حول مسألة المياه هو هل إن مؤتمر السلام الذي تطرحه أوروبا سيعطي هذا الملف الأهمية التي يستحق ؟
مما لاشك فيه أن إسرائيل تسيطر عملياً على أغلب موارد المياه في حوض نهر الأردن وفي هضبة الجولان، ولديها القوة العسكرية الساحقة فضلاً عن دعم الولايات المتحدة الأميركية. كل ذلك من هذه العوامل الجيو-سياسية يقترن برفض الدولة العبرية التنازل عن أي أرض احتلتها وخصوصاً الأراضي الغنية بالمياه.
إن لدى الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية الحوافز القوية لاقناع إسرائيل بقبول التفاوض على مجمل القضايا الاستراتيجية للنزاع العربي- الإسرائيلي لا سيما أن منطقة الشرق الأوسط تشهد تغييرات إقليمية و جيو-سياسية كبيرة.
الخلاصة
على ضوء ما تقدم يجدر بنا تحديد الموقف الأكثر ملاءمة للوقوف في وجه أزمة المياه المتصاعدة في الشرق الأوسط. فهل يتوجب التركيز على الحلول التقنية لمشكلة المياه، كمدخل للحلول السياسية الشاملة، أو يُفضّل التركيز على الحلول السياسية مع الاعتراف بالمطالب التاريخية ؟
مهما كان الأمر فإن المعضلة المركزية تقع ضمن نطاق الحالتين، أي في السيادة على موارد التموين. وعلينا أن نأخذ دائما بعين الاعتبار أن المياه في جو الخلاف الإسرائيلي العربي تمثل العنصر الرئيس.
ولذلك يجب راهناً تعيين الأهداف الواقعية. فهل إن مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والعرب حول المسائل المائية، ستؤدي إلى إيجاد أرضية صالحة للتفاهم وبالتالي لإقامة السلام العادل والشامل في المنطقة ؟
إن الحدث التاريخي بالاعتراف المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين فتح عهدًا جديداً في الشرق الأوسط قد لا يلبي رغبات الأطراف العربية جميعها، لكنها بداية حميدة بنظرنا، تماماً كما إن المصافحة بين الرئيس الراحل لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل (الأسبق) إسحق رابين (19)في 13 أيلول /سبتمبر في واشنطن شكلت حدثاً بحد ذاتها وتحولاً جذرياً في علاقات الطرفين على الصعيد الجيو-سياسي.
إن الاتفاق على اختيار غزة وأريحا أولاً، بعد الاتفاقات الموقعة بين مصر والأردن من جهة و إسرائيل من جهة أخرى، يمكن أن يشكل خطوة نحو السلام إذا صدقت إسرائيل في سعيها نحو السلام، ومركز المياه هو في الواقع هام بحسب الإعلان المبدئي بشأن الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني. إنه يلخص تعاوناً في حقل المياه يستند إلى برنامج متطور للموارد المائية حضّره اختصاصيون من قبل الطرفين ومن شأنه أن يحدد صيغ التعاون في إدارة الموارد المائية في الضفة الغربية وقطاع غزة. إن مسألة المياه في الشرق الأوسط والتي دخلت بتداعياتها العسكرية في موازين القوى في المنطقة، لايمكن إلا أن تشكِّل الوقود الجديد لإشعال النار بين هذه الدول خلال القرن الواحد والعشرين، إذا لم تتوصَّل عملية السلام إلى بناء أساس متين للتعاون على قاعدة احترام السيادة الوطنية.
فثمة رسالة أمل ورسالة سلام بين أعداء الأمس. ولكن هل لنا أن نقول إن على إسرائيل الإسراع في المصالحة مع دول المنطقة ؟
إن اقتسام المياه يفترض دراسة توزيع موارد أخرى في المنطقة، والعمل فعلياً على نزع أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، وفي مقدمها السلاح النووي الإسرائيلي.
إنه فقط في إطار السلام يمكن أن نأمل يوماً بمستقبل أفضل يضع حداً للنزاعات المقنعة، وإلا فإن المنطقة ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، والماء وحده لا يستطيع إطفاء نار الحرب.
هوامش و مراجع
1 وليد عربيد، محاور للمستقبل و تبقى المياه لهب القرن المقبل، دار المهى، بيروت .1995
2 عميد حزب الكتلة الوطنية اللبنانية.
3 تشير الإحصائيات المائية إلى أن (13 دولة عربية تعتبر من الدول ذات الندرة المائية)، وأن (متوسط نصيب الفرد من المياه سنوياً في الوطن العربي يقل عن 1000 متر مكعب، وهو المتوسط الطبيعي للفرد من المياه سنوياً)، وأن (نصيب الفرد من المياه العذبة يتجه نحو الانخفاض من 3300 متر مكعب إلى حوالي 650 متر مكعب في السنة-أي بنسبة 80%)
4 وليد عربيد، محاور للمستقبل، دار المهى، بيروت عام .1995
5 L'evenement du jeudi, 31 octobre 1991.
6 Ibid
7 Voir, walid ARBID, l'eau: enjeu strategique dans le conflit israelo -arabe, in Enjeu et Rapport de Force, ed. l'Harmatan, Paris 1995.
8 جريدة القدس في 14 تموز، 1990
9 Walid ARBID, op.cit,p.105.
10 Voir,Simon Jargy, l'orient déchiré, ed. Labor, Geneve 1984, p.130.
11 The Jerusalem Post, 21 janvier 1964.
12 مما لاشك فيه ان إسرائيل تسعى دائماً غير مكترثة بالقانون الدولي و لا بالأسرة الدولية الى انتهاك السيادة اللبنانية في محاولة للسيطرة على منابع المياه. لذلك فالحرب الأخيرة في شهر تموز عام 2006 التي حملت يافطة المقاومة اللبنانية لللجيش الإسرائيلي ببسالة. هل تكون رسالة مفتوحة للدولة العبرية بأن المياه اللبنانية ليست بدون حماية؟ بنهاية القول ان النقص الحاد في إمدادات المياه في المنطقة سيجعل من هذه المسألة قضية معقدة سوف تتأثر بموازين القوى في الشرق الأوسط.
13 Le monde, 28 janvier 1992.
14 Walid ARBID,op.cit,107.
15 Ibid
16 Voir, John Kolars, les resources en eau du Liban, in Maghreb-Machrek, N 139, octobre 1992.
17 Voir, Elizabeth Picard, les problemes de l'eau au Moyen-Orient, in Maghreb-.9.P .2991 erbotco ,831 N ,kerhcaM
18 وليد عربيد، محاور للمستقبل و تبقى المياه لهب القرن المقبل، دار المهى، بيروت .1995
19 وليد عربيد، المصدر ذاته.
20 كان ليفي أشكول، ثالث رئيس وزراء لإسرائيل ويعود له إنشاء المؤسسة الوطنية الإسرائيلية «ميكوروث»يصف المياه بأنها الدم المتدفق في شرايين الأمة.
21 لا بد من الإشارة الى أن الدولة اللبنانية رحبت ببناء المحطة المائية و اعتبرتها مفخرة للوطن.
22 أنظر كتاب المياه في العالم العربي: مصدر سابق.
The water strategy in the Arab-Israeli conflict
The researcher discusses in the beginning the growing importance that the water constitutes in the Middle East especially under the auspices of the growing needs to acquire this primary material in the Arabic gulf countries from one side and Israel from the other part.
The researcher notices in this regard the fundamental role that the issue of the water occupies in the minds of the Israeli leaders since the foundation of the Israeli entity.
The researcher stresses in this regard on the desire of the Israeli leaders to include in “the promise of Belfore” the domination of Israel over the territories north of the Litani River in Lebanon to ensure its control over the water of that Lebanese river.
During his review of the Israeli wars against the Arabs, the researcher notices the importance of the issue of water in the wars since Israel continually attempted to launch its aggressive wars in order to acquire more water resources the thing that explains its continuous occupation of the Syrian Golan heights and this also reveals its avidities in southern Lebanon.
According to this the researcher concludes the gravity of the water issue in the region and the necessity to agree on dividing these resources in a way that satisfies all the parties to prevent the transformation of this issue into a sparkle that ignites more wars.
La stratégie de l’eau dans le conflit israélo-arabe
Le chercheur évoque au début l’importance accentuée de l’eau dans la région du Moyen-Orient, notamment à l’ombre des besoins qui augmentent envers cette matière dans les pays du Golf arabe d’une part et Israël d’autre part. Dans ce contexte on note la dimension vitale qu’a prise la question de l’eau chez les leaders sionistes, dès l’établissement de l’entité israélienne: c’est dans ce contexte que le chercheur insiste sur la volonté des leaders israéliens à ce que la promesse de Balfour contienne entre autre, le contrôle israélien sur les territoires au nord du Litani au Liban et ce afin de garantir qu’Israël puisse contrôler les eaux du fleuve libanais.
En citant les guerres israéliennes menées contre les arabes, le chercheur évoque l’importance de l’eau dans ces guerres, vu qu’Israël a toujours œuvré à mener ses guerres agressives dans le but d’obtenir des sources additionnelles en eau: ce fait explique l’occupation continue par Israël du Golan syrien, tout en dévoilant ses avidités dans le sud libanais.
Le chercheur conclut en signalant que la question de l’eau dans la région est très dangereuse et qu’il est nécessaire de se mettre d’accord sur le partage de cette richesse dans le but d’empêcher que cette question ne devienne l’essence pour le déclenchement de nouvelles guerres.