- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
يخضع النظام السياسي الإسرائيلي منذ خطواته الأولى لتأثيرات كثيرة أبرزها التأثيرات العثمانية والبريطانية والصهيونية واليهودية، وقد تجلّى ذلك في الإستجابة لاحتياجات التجمع الإستيطاني المتعدد القوميات والأعراق والثقافات والجنسيات. وكانت المنظمة الصهيونية العالمية قد اختارت أسلوب التمثيل النسبي في الانتخابات البرلمانية، إلا أن هذا الخيار أدى الى وجود نظام سياسي صعب المراس وصعب القيادة. ومن المفارقات التي وسمت هذا النظام أن التعددية الحزبية التي أنتجها ترافقت في الوقت عينه مع ثقافة الحزب الواحد في السلطة، والذي حكم الكيان العبري طوال أجيال عديدة عبر هيمنة حزب العمل واتحاد نقابات العمال، انتهت العام 1977 ومن ثم دخلت إسرائيل في فترة التقلبات والأزمات السياسية الضيقة التي ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا. ولقد قامت خلال هذه الفترة عدة محاولات لاحتواء هذه الأزمات وتطويعها مثل إضفاء شكل الحكم الرئاسي عبر الإنتخاب المباشر لرئيس الحكومة، إلا أن المحاولة فشلت، ما أتاح المجال أمام تدخل المحكمة العليا في أنشطة الحياة السياسية أكثر فأكثر، لا سيما على ضوء ما يتفرّد به النظام السياسي الإسرائيلي من تعددية حزبية نابعة من التناقض الإجتماعي الصارخ الذي يشوب المجتمع الإستيطاني الصهيوني. وعلى الرغم من أن دستور أي دولة هو الذي يحدد طبيعة نظامها السياسي، والعلاقة بين السلطات الثلاث فيها (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، إلا أن إسرائيل التي تصف نفسها بأنها واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط، ليس لها دستور مكتوب حتى الآن على الرغم من أن هذه الجزئية كانت مثار جدل بين القيادات العليا منذ إعلان الدولة العام 1948. فدافيد بن غوريون مؤسس الدولة الصهيونية وأول رئيس حكومة فيها، كان يعتبر أن الدستور الدائم لا ينبغي التفكير فيه قبل هجرة جميع يهود العالم الى ما يسمى «أرض الميعاد» حيث ينبغي أن يعكس الدستور وجهة نظر هؤلاء ولا يقتصر على التعبير عن وجهة نظر اليهود الذين هاجروا في المراحل الأولى من تأسيس الدولة. واعتبر بن غوريون ايضاً أن من شأن وضع الدستور الدائم أن يثير الخلافات الحادة حول هوية الدولة وحول ما إذا كانت دولة دينية أم علمانية، هذا ناهيك من أن الدستور يجب أن يحدد حدود الدولة بصورة رسمية ونهائية، علماً بأن الصهيونية رفعت شعار حدود إسرائيل من الفرات الى النيل.
في ضوء ما تقدم يمكن الإشارة باختصار الى تيارين رئيسين سيطرا على البرامج السياسية التوسعية في إسرائيل منذ عدوان العام 1967 وحتى الآن وهما: التيار الذي مثّله حزب العمل بقياداته التاريخية مثل غولدامئير ورابين وبيريس وباراك، والذي شدّد على عوامل الزمن وضروراته لتبرير تعطيل التسويات السلمية وفرض التوسّع الإستيطاني والعدواني، وصولاً الى نظرية الحدود الآمنة والتي يمكن الدفاع عنها. أما التيار الثاني فهو التيار الذي مثله حزب الليكود ومشتقاته، والذي يدعو الى السيطرة الإسرائيلية على فلسطين الإنتدابية مستنداً الى الأسس العقائدية والدينية والميثولوجية، والى الفصل بين الحاجة الى تسوية سياسية مع الفلسطينيين والعرب وبين وقف الإستيطان! علماً بأن مختلف الحكومات الإسرائيلية بانتماءاتها شتى كانت تعمل على تكثيف الإستيطان على الأرض جنباً الى جنب مع طرح مبادرات سياسية تكتيكية، وهذا ما حصل في أثناء اتفاقيتي كامب ديفيد مع مصر وفي أثناء انعقاد مؤتمر مدريد وفي أثناء جولات المفاوضات العبثية مع السلطة الفلسطينية. والمذهل في الأمر أن القيادات الإسرائيلية كانت تحاول تغطية اعتداءاتها وجرائمها بحق الأرض والإنسان العربيين بشعارات إنسانية زائفة مثل طرح حق الشبان اليهود في المسكن وأماكن العمل والتكاثر الطبيعي للعائلات اليهودية فحسب! من هنا يمكن القول إن هذا الكيان هو كيان قائم على العدوان وصناعة الحرب وإنتاج العنف بحكم طبيعته وتكوينه البنيوي وتشكّله التاريخي، وهو غير قادر على الإطلاق على التخلي عن ذلك حتى لو أراد، فعلى مرّ العقدين الأخيرين كانت القضية الفلسطينية السبب الرئيس وراء تخبطات اتخاذ القرار السياسي ووراء سقوط الحكومات المتعاقبة، ذلك أن هذه القضية حتى لو كانت قضية سياسية خارجية إلا أن مستلزمات حلها تتطلب تنازلات تتعلق بالأرض، الأمر الذي يجعلها قضية سياسية داخلية بحتة ومعقدة. وهنا نتذكر مقولة كيسنجر الشهيرة: «ليس لدى إسرائيل سياسة خارجية وإنما سياسة داخلية فقط». وفي هذا السياق يمكن فهم التناقضات والتعقيدات التي ألمّت بالسياسة الداخلية الإسرائيلية في ظل حكم كل من رابين وبيريس وباراك ونتنياهو وشارون وأولمرت وسواهم، خصوصاً على صعيد تشكيل الإئتلافات الحكومية التي كانت تتهاوى وتسقط بسرعة من جراء أدنى تنازل أو تساهل إزاء الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً. وقد بلغ عدد الحكومات الإسرائيلية منذ العام 1992 وحتى العام 2009 اثنتا عشرة حكومة تناوبت على رئاستها أحزاب العمل والليكود وكاديما.
إن عدم الإستقرار السياسي الداخلي في إسرائيل انعكس حالات من عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي على امتداد المنطقة بأسرها. والمحصلة السياسية لهذا الوضع هي أن النظام السياسي الإسرائيلي بتجلياته اليمينية واليسارية والوسطية شتى، إذا صح التعبير، لا يوفّر وليس من شأنه أن يوفّر في المستقبل آلية عملية وموضوعية تسمح بحل الصراع في فلسطين والمنطقة والإتيان بالسلام العادل والشامل كما يطالب به القادة العرب بالإجماع. وبتعبير أدق، إن النظام السياسي الإسرائيلي القائم على التمثيل النسبي، يسمح لكل فريق ذي مصلحة قطاعية أو ايديولوجية معينة مهما كانت ضيقة، بتمثيل نفسه في الكنيست، الأمر الذي مكّن الأحزاب الصغيرة نسبياً وخصوصاً الأحزاب الدينية، من ممارسة سياسة إبتزاز مالي وسياسي، مستفيدة من حالة الإستقطاب العام في إسرائيل ومركزية دور هذه الأحزاب الصغيرة في تشكيل الحكومات المتعاقبة. وعليه فإن المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي، وفقدان ديناميكية سياسية تسمح لبعض رؤساء الحكومات بتنفيذ رؤيتهم السياسية التسووية هنا أو هناك، إنما يشكلان المقبرة الدائمة لأي شكل من أشكال الحلول المطروحة على بساط البحث من أوسلو الى واي ريفر الى كامب ديفيد وما شابه. وهنا تبرز أهمية دور العامل الخارجي، الولايات المتحدة بشكل خاص ثم الإتحاد الأوروبي، في ترجيح كفة السلام على كفة الحروب والأزمات، الأمر الذي لم يثبت نفسه حتى الآن على الرغم من الأسلحة الفعّالة المتوافرة لديه. فتعطلت اللجنة الرباعية الدولية وتبدّدت خارطة الطريق وانهارت الآمال التي عقدت على شخصيات ذات مسحة براغماتية أو إنسانية مثل شخصية الرئيس كلينتون ومن ثم الرئيس باراك أوباما اللذين عجزا عن الوقوف بوجه العنف الإسرائيلي، بل ولم يتمكنا حتى من فرض إيقاف زمني ومؤقت لأعمال بناء المستوطنات داخل أكثر المناطق حساسية في العالم، أي داخل القدس بقسميها الشرقي والغربي وصولاً الى المسّ بمقدسات المسلمين والمسيحيين في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة. وهكذا يستمر المأزق السياسي في المنطقة المتكوّن من الضعف العربي حتى العجز ومن أطماع إسرائيل الإقليمية ومن سياسات الهيمنة الغربية.