- En
- Fr
- عربي
الهوية الوطنية وفخ العولمـة
لم يظهر الاهتمام بظاهرة العولمة على هذا الشكل المعمّم, سياسياً واقتصادياً واجتماعياً, وعلى مستويات المجتمعات كافة, بما فيها المتقدمة الصناعية والنامية والسائرة في طريق النمو, وحتى المتعثرة في إثبات وجودها على الساحة الدولية؛ لم يظهر هذا الاهتمام, إلا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ولم يتزامن بروز العولمة, كظاهرة عالمية, مع انهيار الاتحاد السوفياتي هكذا بالصدفة, بل برز كنتيجة لهذا الحدث, وحصيلة طبيعية له. وقد رسمت معالمه, وحملت لواءه الولايات المتحدة الأميركية. وبدأت انطلاقاً منه تتفرّد بالقرار الدولي باسم نشر الحرية وتعميم الديموقراطية, والقضاء على الجوع في العالم.
والولايات المتحدة ما كانت قادرة على لعب هذا الدور لو لم تمتلك في هذه الفترة الزمنية, مقدرات ضخمة, سياسياً, واقتصادياً وإعلامياً, كانت, بالإضافة إلى مساهمتها في انهيار الطرف المقابل والمعطّل لإمكانية التفرد في التوجه العولمي, العاملة على وضع أسس النظام العالمي الجديد, وبلورة مفهوم العولمة وصوغه عملياً, بتوجهها الإعلامي بشبكاته الضخمة, وتوجهها الاقتصادي بشركاته المتعددة الجنسية والعابرة للقارات.
إلاّ أنّ بروز العولمة على هذا الوجه السافر, لا يعني أنها ولدت من رحم الأزمة السوفياتية, وأو النجاح الباهر لتوجه الليبرالية الحديثة, وهي الصفة المخففة للرأسمالية العالمية. ذلك أن العولمة ظاهرة شمولية في توجهها وأهدافها, انطلاقا من مركز تحدده لنفسها, أو يحدده من يعمل على نشر توجهها في العالم؛ وهو توجه يتغير بتغير الأهداف والغايات, وبتغير المرتكزات التي يستند عليها. وآحادية المركز لا تتحصّل هكذا بسهولة, إذ لا بدّ من الصراع من أجل امتلاك مركز الاطلالة على العالم, ومن ثم العمل على الاحاطة به. ووسع مسرح الأحداث العالمي يسمح باستقبال فاعلين كثراً, متقابلين أو مؤتلفين, ولا يعطل الأدوار المتناغمة والمتكاملة إلا الأدوار المتقابلة على تناغم وتكامل مغايرين. ولا يلغي ثنائية الأدوار المتقابلة, أو يخفف من تأثير أحدها, إلا الحروب التي تحاول أن تبقي على الغالب وتبعد المغلوب في عملية اقتسام مغانم العالم, أو النظر إليه واحتوائه في موقع واحد يضم الكثيرين, وبقيادة لا يشغلها إلا كيفية العمل على “الانفراد بالمجد”.
هذه التداعيات أتاحت لي الدخول في تحليل ظاهرة العولمة في بدايات تشكلها على مدى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية, من خلال الإجابة على التساؤلات التالية: كيف تشكلت ظاهرة العولمة, وكيف ارتبطت تاريخياً بنزعة السيطرة؟ ما هي الظروف التي أدت إلى تشكّل مراكز الأقطاب في العالم؟ وكيف اختصرت الأحداث العالمية هذه الأقطاب لتنحصر في اثنين؟ وكيف أصبح الوضع بعد انهيار أحد القطبين؟ كيف تتجلى العولمة اليوم, وما الفرق بينها وبين النظام العالمي الجديد؟ وكيف يمكن التعامل مع العولمة والنظام العالمي؟
بدايات التشكل في العصر الحديث
عندما وطأت قدما “نابوليون بونابرت” أرض مصر, على مشارف القرن التاسع عشر, لم يجد طريقةً أفعل للدخول إلى قلوب المصريين إلا العاطفة الدينية, ولم يتوجه إليهم إلاّ باسم الإسلام. ولم يكن ذلك التوجه من موقع التدين, بقدر ما كان توجهاً سياسياً يوفر عليه حسب ما أمله وارتجاه الكثير من الدم والكثير من العقبات والعراقيل. ولم يفعل ذلك إلاّ بعد علمه بدواخل المصريين وبمدى التأثير في عاطفتهم الدينية وفي بنيتهم الذهنية التي يحل فيها الدين, واللغة الدينية وقضايا الإيمان, بالمرتبة الأولى ([1]).
ما قام به “بونابرت”, وإن كان لم ينطلِ على قلوبِ المصريين, وعلى عقولهم, فهو كان محاولة متقدمة في مخاطبتهم بما يستهوي قلوبهم قبل عقولهم. وهي تفترض معرفةً وافية في أحوال هؤلاء الناس, وفي ثقافتهم, وفي عاداتهم وتقاليدهم. وتلك معرفة محصّلة من سنين سبقت, تقدّم خلالها فكر النهضة الأوروبية, وقدّم الرحالة والمستكشفون والمبشّرون الكثير من المعلومات والتقارير والوثائق التي تظهر جميعاً الحالة الاجتماعية في بلاد “البرابرة” الموجودة دائماً خارج حدود أوروبا “المتحضرة” و”الرسولة” في هداية الأمم والشعوب إلى الحضارة, وإلى الحياة السوية الأوروبية في نزعتها وانتمائها ([2]). هي معرفةٌ أنتجت, بكل أشكـالها, الثورة الفرنسية في سنة 1789 م وتجلياتها اللاحقة.
عندما وقف “مترنيخ” زعيم الرجعية في أوروبا, يحدوه الخوف مما آلت إليه القارة بعد تجربة “نابوليون”, وبعد توجهه العاطفي نحو مصر بعقدٍ ونصف؛ عندما وقف متهللاً بنجاح خطتهِ في تثبيت الأوضاع في الداخل الأوروبي, لم يدر في خلده أن ما فعله في مؤتمر “فيينا” ([3]) سنة 1815م ليرضي الزعماء الأوروبيين بما يتوازى مع قواهم العسكرية, وبما يضمن منع الحروب بينهم للحفاظ على أوروبا هادئة ومستقرة, سيؤول, مع تفجّر الثورة الصناعية, إلى تقسيم دولي للعمل بين منتج ومنافس على الإنتاج, من جهة, وبين مقدِّم (أو مجبر على التقديم) للمواد الأولية, من جهة ثانية. ولم يدرك أن العالم سيتجه, بهذه السرعة, وجهة الانقسام إلى شمال متخم وصاحب قرار, وجنوب جائع, أو على الحافة, ومنفعل بما يريده القرار ([4]).
ما رسّخه “مترنيخ” وشيوخ السياسة الأوروبية, على امتداد القرن التاسع عشر, لم يدم أكثر من قرن واحد, تخللته مناوشات وحروب وصراعات لتكريس الزعامات الأوروبية أو مقاومتها انتهت جميعاً إلى حربٍ عالمية طاحنة مهدت لها ثنائية شديدة التناقض أملتها الظروف والمستجدات الإقليمية والدولية وتنازعتها المصالح الاستعمارية والسياسية والاقتصادية التي لم تجد منفذاً لها إلاّ على جثث ملايين الضحايا, ودمار مساحات شاسعة من العمران, وخسارة ما لا يحصى من الرساميل ووحدات الإنتاج في شتّى الميادين والحقول. ولم يسلم من ويلاتها إلا من كان بعيداً عن ميادين القتال؛ وهؤلاء, إما كانوا غارقين في تطلعاتهم وهمومهم وفي نمط حياتهم المغلق والخاص بهم, كما في الهند والصين وجنوب شرق آسيا؛ وإمّا كانوا يتحيّنون الفرص للظهور على المسرح الدولي باقتناص ما يمكن اقتناصه من التدخل في عمليات إنهاء الحرب, أو إجراء مهمات التفاوض بين المتحاربين, كما فعلت الولايات المتحدة تحديداً, خلال التمهيد لمؤتمر الصلح في باريس, وفي المؤتمر بالذات سنة 1919 ([5]).
العولمة المنقسمة وتنافس القطبين
الحياد الذي فرضته الأحداث على الولايات المتحدة, والمسافة التي نشأت بينها وبين أوروبا, لم يدوما طويلاً. فقد تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929 التي كان من مسبباتها ما آلت إليه نتائج الحرب, ومهّدت في الوقت نفسه, مع عوامل أخرى, إلى نشوب الحرب العالمية الثانية, التي أنتجت بنهايتها, من جملة ما أنتجت, فاعلين كباراً على مستوى السياسة الدولية وقيادة العالم. كما ساهمت بالقضاء على القوة الأوروبية, وحصر القوة والنفوذ بالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي الذي ذاع صيته لمساهمته الكبرى في القضاء على ألمانيا. وهذه هي القوة الثنائية التي سيطرت على العالم ما يزيد عن الأربعة عقود باسم توازن الرعب النووي الذي أنتج تقسيماً جديداً للعالم إلى ثلاثة عوالم, كان نصيبنا منه, نحن العرب, ومع غيرنا, في العالم الثالث المتشظّي في ولاءاته بين العالمين, أو المفتش, في قسم منه, عن انتماء جديد يمحضه ولاءه, ويحميه من مغبّة الانحياز ([6]).
في زحمة هذا الصراع, كان الكثير من بلدان العالم الثالث مع هذا القطب, أو ذاك: مع الولايات المتحدة وما تمثله من قيم الغرب ومبادئه, أو مع الاتحاد السوفياتي وما يمثله من قيم النضال لتحرير الشعوب من الاستعمار والاستغلال. يحدو الجميع في ذلك الرغبة في زيادة وتيرة التنمية, والعمل على ترسيخ أسس الدول “القومية” أو “الاشتراكية” على صورة دول القطبين ومثالهما من الناحية السياسية ([7]). فنشأت علاقات وطيدة باسم التعاون وباسم التنمية وباسم التدريب على الديموقراطية. ونشأت دول وقامت حكومات, وظهرت جمهوريات, وبرزت أفكار وفلسفات تروّج لهذه الإيديولوجيا أو تلك, وتعمل على دعم هذا النظام, أو على قلب ذاك. ودارت حروب وأبيدت الملايين باسم الحرية وباسم الدفاع عن الديموقراطية, وبمباركة القطبين بالذات, وبموافقة من يدور في فلكهما ([8]).
الميزة الخاصة لهذا العصر, عصر الرعب النووي, أنه خلق قدراً من حرية الحركة والقرار, وإن كانا ملجومين بمصالح هذا القطب أو ذاك المحددة بالعمل على نشر اقتصاد عالمي خاص بكلٍ منهما: الاقتصاد الاشتراكي بقيادة موسكو, والاقتصاد الحر بقيادة واشنطن ([9]). وكان احتمال الانحياز إلى الخيار الآخر يملي على القطب انتهاج سياسة اللين, وتوسّل الدعم, والتوجه جهة الدفاع عن مصالح الحلفاء, من أجل الحفاظ على الولاء, ومخافة التفلّت من قبضة مدير اللعبة ومدبّرها. فيفوح من تفاعل هذه العلاقات قليل من رائحة الحرية والديموقراطية, على القدر الذي يكفل استمرار التعاون بالتبعية, دون أن يصل الأمر إلى جوهر الحرية والديموقراطية في طريقة ممارستهما, وفي معناهما, في الغرب على الخصوص ([10]).
بانتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي وزوال تأثيره السياسي والعسكري, زالت القطبية الثنائية وانتهت مرحلة الرعب النووي لتبدأ مرحلة سيطرة القطب الواحد. وغاب عصر الخيارات المتعددة ليشرق عصر الخيارات المعدومة.
من تنافس القطبين إلى تفرد القطب الواحد
استبدل الأميركيون الحرب الباردة التي كانت تحكم علاقاتهم بالاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية, بحرب إرادية يشنونها ساعة يشاؤون, حسب ما تقتضيه مصالحهم,ضدّ الدول التي يصفونها عدوّة ([11]). وكانوا يخلقون الذريعة للتدخل بحجة حماية الديموقراطية أو الأقليات المضطهدة, ويعملون على إضفاء الشرعية على ما يقومون به بواسطة المنظمات الدولية والدول التابعة لتوجههم, والخاضعة لهيمنتهم في نظام هرمي لا يقبل المشاركة ولا يسمح بالفكاك من كمّاشة النظام العالمي الجديد, نظام القطب الواحد, الذي يملك, بالإضافة إلى الذراع العسكرية المتطورة, أحدث ما توصلت إليه عبقرية الإنسان من شبكات التواصل في الإعلام والدعاية وإغراءات الاستهلاك ([12]).
النظام العالمي الجديد
كان انبثاق النظام العالمي الجديد, في معناه الحديث, نتيجة طبيعية لتطور الأحداث السياسية العالمية بعد انتهاء الحرب الباردة سنة 1991, وبزوال الثنائية القطبية, وتحكم الولايات المتحدة بمصير العالم. وإذا كان هذا النظام لا يزال في طور تشكله, فإن إعادة إنتاجه على هذا الشكل أتاحتها حرب الخليج الثانية من أجل العمل على خلق الاستقرار في العالم, وحل المنازعات بالطرق السلمية, وتجنب اللجوء إلى القوة في العلاقات بين الدول.
إلاّ أنّ الولايات المتحدة لم تتوانَ عن استغلال مبادئ هذا النظام التي تقوم على الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والاستقرار والتنمية واحترام قواعد القانون الدولي. فعملت على صوغها إعلامياً, من أجل تأمين أكبر حشد من التأييد الدولي لسياستها تجاه أزمة الخليج الثانية, ومن أجل الظهور بمظهر المدافع عن الأخلاق والإنسانية في العالم ([13]). وكانت النتيجة أن قلبت هذه المناورة السياسية الحقائق والأوضاع, فظهرت عناصر العولمة الاقتصاد المتعدد الجنسية وشبكة الاتصالات الدولية في خدمة النظام العالمي الجديد, أي في خدمة السياسة المدعمة بالذراع العسكرية.
وهنا, من المهم التأكيد أن النظام العالمي الجديد هو مفهوم سياسي يتوسّل واضعوه الوسائل جميعاً من أجل بلورته وتهيئته وإظهار مفاصله الأساسية ليحكموا بموجبه العالم على الصورة التي يرونها مناسبة لمصالحهم ومستجيبة لتطلعاتهم, ولإيمانهم بأنه يمثل “نهاية التاريخ”.
المفهوم الحديث
أما العولمة, فهي المفهوم الاقتصاديالعالمي المتحقق فعلاً, وهي ناتجة عن تطور النظام الرأسمالي في العالم الذي يملك الوسائل الاقتصادية والثقافية والإعلامية والاجتماعية كافة. وهي القادرة على الانتشار في العالم أجمع مخضعةً الجميع لمنطقها الاستهلاكي وتداعياتها الشمولية عن طريق تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات التي جعلت من العالم قرية صغيرة. هذا على المستوى العام, أما على المستوى الخاص, فالعولمة هي نمط سلوك وحياة دخل في نسيج حياتنا اليومية واستوطن بيوتنا دون استئذان.
والعولمة أجبرتنا على الانخراط في توجهات منطقها, وعلى الاستجابة لدواعي سلطتها حتى دون أن تطلب ذلك منا؛ هذا على مستوى تداعيات العولمة على الخاص والتجربة الشخصية. أما على مستوى امتداداتها العالمية, فهي تشير إلى “بعض الظواهر والمتغيرات التي تحدث على الساحة العالمية والتي تؤدي إلى مزيد من الترابط والتداخل بين دول العالم ([14]), بقيادة الولايات المتحدة, مركز الثورة التكنو إلكترونية, بفضل تقنياتها ومناهجها وممارسات التنظيم الجديدة على حد تعبير “بريجنسكي” ([15]). وقد اكتسبت صفتها العالمية من خلال ما تعنيه من “الحركة المعقدة لانفتاح الحدود الاقتصادية وليونة التشريعات, مما يشجع النشاطات الاقتصادية الرأسمالية على توسيع حقل عملها ليشمل المعمورة برمّتها ([16]), بواسطة شركات متعددة الجنسية تعمل على تنمية حسّ الاستهلاك والخضوع المطلق للقنوات التلفزيونيّة الفضائية وتوجيه الإعلام وسيادة قيم التجارة والربح. هذا طبعاً, بالإضافة إلى ما يمكن أن ينتج عن هذا التوجه من أزمات تطول مسألة الانتماء ووعي الهوية يمكن أن تنقلنا من عصر”نهاية التاريخ” إلى بداية عصر جديد, يمكن أن يكون “بعض” بداياته نوعاً من “صدام الحضارات” من أجل إعادة صنع النظام العالمي ([17]).
العرب والعولمة
ما يمكن أن ينتج عن العولمة في علاقاتها المهيمنة حو نظام عالمي جديد, يضع البشر في تشكّل ثنائي شديد التناقض وشديد التلازم غير المتكافئ في الوقت نفسه: المنتجون, من جهة, بنسبة لا تتعدى20%, والمستهلكون, من الجهة المقابلة, بنسبة80 %, مع كل ما يعني ذلك من احتمالات البطالة والجوع ([18]), ومن البقاء للأقوى في خدمة توجهات العولمة وسيطرتها على مقدّرات العالم, على اقتصاده عبر الشركات العابرة للقارات, وعلى نمط حياته وأولويات سلّم قيمه؛ وعلى توجهات استهلاكه, عبر وسائل الإعلام والقنوات الفضائية ([19]).
مع تنامي تأثير العولمة المتسارع, بدأ يظهر الوعي بخطورتها, حتى في العالم الصناعي, وبدأ القلق يرتسم على أوجه المتحمّسين لتوجهاتها بعد ملاحظة ما نتج وما يمكن أن ينتج عنها, من اتساع الهوة الاقتصادية بين الشمال والجنوب, وضمن مناطق الشمال الصناعي ذاته. وبدأ التفكير بكيفية التخفيف من حدتها, وحرفها عن مسارها المدمّر, وإلاّ... سيشهد العالم حركات اجتماعية وانتفاضات شعبية لا يمكن التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعدها ([20]). وقد بدأت هذه الانتفاضات تظهر فعلاً في أماكن كثيرة من آسيا وأفريقيا وشرق أوروبا.
أما في ما يتعلق بالمجتمع العربي, فقد توافق المهتمون, على اختلاف توجهاتهم الفكرية والاقتصادية والسياسية, على القول أن الطريقة التي يتم فيها التعاطي مع الغرب في تحدّيه الحضاري, أو مع العولمة, تحديداً, وفي توجهها الراهن, تزيد من الضرر على العرب, وتعمّق تبعيتهم, وتساعد على رفع وتيرة تهميشهم في علاقاتهم الدولية, وتبقيهم في مـوقع الانفعـال. فـالتحدي الحضاري الذي يفرضه الغـرب علينا من خلال علاقته بنا, كما يفهمه ويحلّله هشام شرابي مثلاً ([21]), لا يختلف عمّا يطرحه حسنين ابراهيم في تحليله لمثالب العولمة وتأثيرها السلبي علينا: من أثرها الحاد على تعميق الهوة بين الشمال والجنوب, ومساهمتها الفعّالة في تنامي اتجاهات التطرف والعنف والجريمة المنظمة والصراعات الداخلية, إلى العمل على توظيف الشرعية الدولية لحساب سياسات ومصالح الولايات المتحدة, الخ. ([22])... ويتوافق كل ذلك مع ما توصّل إليه سيّار الجميل في هذا المجال ([23]).
ولكن كيف يمكن مواجهة هذا التأثير السلبي للعولمة؟ وهل ثمة إمكانية للوقوف في وجهها والحدّ من تأثيرها؟ وإذا كان ذلك بالإمكان فإلى أي مدى؟
يحاول الكثيرون من المهتمين العرب الإجابة عن هذه التساؤلات, فلسفياً حيناً, وسياسياً حيناً آخر, وأدبياً عاطفياً في أكثر الأحيان. ويحاول هذا البحث, أن يقصر الأمر على بعض الباحثين الذين حاولوا أن يعالجوا هذه المسألة بجدّية, عن طريق وضع الاستراتيجية اللازمة للعمل في هذا المجال: فمنهم من يحاول أن يضع, أو يساهم في وضع, استراتيجية عمل مضادة لتوجهات القطب الواحد المسيّر للعولمة. وهي استراتيجية يمكن أن تتمظهر في موقع ثانٍ مقابل للقطب الواحد, أو عدة أقطاب متعاونة في مواجهة القطب الواحد, من أجل العمل على التخفيف من حدة العولمة وآثارها المدمرة. ويتساءل الباحث عن مدى إمكانية قيامها, والأسباب التي يمكن أن تمنع قيامها ([24]), مع ما يستبطنه هذا التساؤل من خوف على ذوبان الهوية القومية للعرب في الشرق أوسطية الجديدة, وهو خوف ما لبث أن ظهر جلياً ([25]). ومنهم من يتحدث عن انفجار الهوية إذا لم يتم تدارك الأمر من خلال فهم آلية اشتغال العولمة والعمل من أجل الحدّ من تأثيرها سياسياً واجتماعياً وثقافياً ([26]), إمّا عن طريق فهم الواقع الاجتماعي العربي الذي يشكّل بداية الطريق للتغيير ([27]), وإما عن طريق تغيير جذري للمناهج التربوية والتعليمية العربية لتكون أكثر جدارة ببناء الفرد القادر على إثبات الذات والمواجهة, بعد التأكيد على وجوب مواجهة العولمة بكل الوسائل, ليس فقط عربياً, بل وإسلامياً أيضاً ([28])؛ أو من خلال تكاتف أهل المعرفة مع السلطة ومؤسسات المجتمع الأهلي من أجل بناء الوعي والإدراك العربي الذي يمكن أن يواجه كل التحديات ([29]). ويترافق مع هذه الاقتراحات الإقرار الصريح بعدم جدوى التكاتف الإسلامي في مواجهة العولمة لأسباب ذاتية وموضوعية تتعلق بدول العالم الإسلامي في علاقاتها الداخلية من جهة ([30]), ولعدم قدرة هذا العالم على المواجهة من او الإعلامية, من جهة ثانية.
بناء الذات المجتمعية
إن المساهمة التي يعمل هذا البحث على تقديمها في هذا المجال, تطمح للقيام بما يمكن أن يزيد من المقترحات التي تعالج كيفية مواجهة العولمة, وردّ التحدي, والانتقال من الانفعال بالأحداث إلى الفعل فيها. وتنحصر هذه المساهمة في التأمل في كيفية الخروج من الوضع الراهن بعد فهمه وإدراك المفاصل الأساسية الكابحة لتقدمه, والعاملة على إبقائه في طور التبعية والانفعال, دون الادّعاء طبعا بالإحاطة التامة بالموضوع.
لقد طاول هذا التأمل مفاهيم أساسية ينبغي معالجتها, من أجل إضفاء المزيد من التماسك والقوة للمجتمع العربي. من هذه المفاهيم: الانتماء والهوية, المجتمع الأهلي والمجتمع المدني.
مسألة الانتماء
لم تكن مسألة الانتماء من صنف واحد يحاكي الغريزة والأنس بالعشير ويربط حدوده بحدود القبيلة, بل هو متنوّع بتنوّع الوعي بأهميته, وبما يمكن أن يكون عليه. والتنوع في النظرة إلى الانتماء لم يقتصر على الفلاسفة, قديمهم وحديثهم فحسب, بل وصل إلى الأديان وإلى أهل الدين الذين نقلوا مسألة الانتماء من حضن القبيلة والعشيرة, إلى وحدة انتماء من نوع جديد يقوم على وحدة الدين, ثم على وحدة أكثر تفصيلاً تخصّ المذهب أو الطائفة, أي إلى وحدة الولاء الإيماني الديني, ومن ثم المذهبي, الطائفي السياسي: ولاءات عاطفية تفرضها انتماءات مخصوصة تجرّ, بطبيعة منطق تشكّلها, إلى مواقع متقابلة. وحدات من الانتماءات المتراصفة جنباً إلى جنب, دون طغيان أو إلغاء, إلاّ في حالات لا بدّ فيها من خيار الولاء.
إلاّ أنّ القيمين على زرع هذه الانتماءات المتراصفة والمفصحة عن ولاءات متعددة ومتقاطعة بتعدّد هذه الانتماءات وتقاطعها, لم يغلقوا الكلام عليها وينصرفوا, بل لاحظوا ما للعلاقات الإنسانية الاجتماعية من تأثير في هذا المجال, بما أنها علاقات تحصل في المجتمع المفتوح على كلّ الانتماءات, وبالتالي على شتى الاحتمالات: فالجار له الموقع المميز في الإسلام دون تحديد لدينه أو مذهبه أو طريقة أدائه لصلاته؛ والأخ في المسيحية ليس في القرابة والنسب والإيمان الديني, فحسب, بل الأخ أيضاً هو من يصنع الرحمة إلى أي دين أو طائفة أو مذهب انتمى.
طهارة الانتماء وصفاؤه انتهيا في اللحظة التي تلازم فيها هذا الانتماء مع الواقع الاجتماعي. وتلازمه هذا, يعني أنه متغير بتغير الواقع الاجتماعي. وبالتالي فإن أنواع الانتماءات تتدرّج بالأهمية والقوة وتتراصف من الأقرب إلى الأبعد, إلى الأكثر بعداً... تبعاً لدرجة الإحساس بهذا الانتماء, ولدرجة الوعي به مع الإيمان المطلق بأهمية درجة الانتماء في تقديمها كل ما يلزم للشعور بالاستقرار الشخصي والاطمئنان الذاتي والأمن والحماية, ضمن حدود لا يمكن التفريق فيها بين الذاتي والجماعي, بين الفرد والمجموعة, لأن الفرد, هنا, للمجموعة, والمجموعة للفرد. وشخصية الفرد تندغم في شخصية المجموعة في حدها الأدنى: الأسرة, وصولاً إلى العشيرة, فالقبيلة.
حرارة الانتماء هذا تجعل الفرد لصيقاً بالجماعة, لا بسبب المحبة والخير الكامنين فيه بالطبيعة, بل لشعوره العاطفي, وملامسته المادية, بالملاحظة والممارسة, أن الجماعة التي ينتمي إليها, خاصّته, تقدم له أسباب الراحة, والأمن, والطمأنينة, إما عن طريق الدفاع المشترك عن الجماعة من أجل الحفاظ على الوجود, أو عن طريق الغزو المشترك من أجل الحفاظ على استمرارية الوجود, ولا فرق بين الحالتين؛ مقابل واجبات عليه تقديمها, ومواصفات عليه التحلي بها, وسلوك عليه التصرف بموجبه, تجعل النظام الاجتماعي (Système) على حالته من الاستقرار والثبات والديمومة التي لا يمكن أن تكون إلا بتأمين ذلك التوازن الدقيق بين حقوق الفرد في الجماعة وواجباته تجاهها. والإخلال بهذا التوازن, أو العمل بما يوحي بهذا الإخلال, يعني محاولة القضاء على التنظيم الاجتماعي برمّته. فيرد التنظيم بآليات دفاعه المتوفرة بين أيدي القيمين على شؤونه بالعقاب الصارم, طرداً وهدراً للدم, ووصفاً بالصعلكة.
يتشكل وعي الفرد في القبيلة من حرارة الانتماء إلى جماعة اطمأن إليها. فمنحته هذا الشعور الذي يتعمق على قدر ترسّخ شعوره ذاته في عدم قدرته على الحياة خارج أسوارها العالية. وعي الانتماء هذا لا يعدو كونه “العصبية” عند ابن خلدون. هو الالتحام بالنسب والنعرة على ذوي القربى ([31]). ووعي الانتماء ليس إلا ذلك الشعور المتشكّل, وبشكل متكرر, لهذا التوازن الدقيق بين ما يتوجب عليّ وما يحق لي, إنه “ذلك النزوع الذي يرشدنا كأفراد وجماعة, إلى المسلك الأفضل والأكثر انسجاماً مع البنية الاجتماعية” ([32]). هذا النزوع أو الـHabitus حسب “بيار بورديو” P. Bourdieu, ما هو إلا إنتاج فئة محددة من الثوابت الموضوعية, لذلك فهو يميل إلى توليد مسالك معقولة ومنسجمة مع الحس السليم ([33]). وهو التجسد العملي للمعرفة التي هي من الناحية السوسيولوجية ليست محصلة للعقل فحسب, بل أداة من أدوات الحياة الاجتماعية, “وهي التي تجعلنا ننظر إلى الآخرين وإلى العالم أجمع نظرة خاصة من زاوية محدّدة وبشحنة نفسية اجتماعية معينة” ([34]). هذا النزوع الشخصي الاجتماعي يجعل من فرد القبيلة “مواطناً” واعياً لحقوقه وواجباته, ومراقباً, في الوقت نفسه, كيفية حصول الآخرين على حقوقهم, وطريقة قيامهم بواجباتهم. فيتشكل من وعي الجميع لسلوكهم وتصرفاتهم مجموعة القيم والأعراف والتقاليد والعادات التي تضمن حسن سير العمل في المجتمع, وتعمل على استمراريته عن طريق الضبط الاجتماعي الصارم, المخوّل القيام به جهاز خاص يفرض احترامه, طوعاً أو قسراً, على الجميع, بإشراف مباشر من شيخ القبيلة, أو مركز السلطة فيها.
المجتمع الأهلي ومقوماته
هنا تتشكل نواة المجتمع الأهلي بكل آليات اشتغاله وعناصر تكوّنه. ويبقى محكوماً, بتغيّره الداخلي, بعناصر ولائه الأساسية القائمة على رابطة الدم والقرابة وقوة العصبية, أو بما يخدم هذا التوجه عن طريق المصاهرة والاستتباع من أجل تقوية العصبية ذاتها لتوسيع سلطتها, لأن السلطة مرغوبة لذاتها حسب ابن خلدون ([35]). وبتمدّد السلطة تنضوي عصبيات تحت لواء العصبية الأقوى. ويسود منطق الاستتباع وتعدّد الانتماءات, وبالتالي تعدّد الولاءات, من الأقرب إلى الأبعد, تلخّصها قولة العرب المشهورة: “أنا وأخي على ابن عمي, وأنا وابن عمي على الغريب”.
أما ما قام به الدين في هذا المجال, فهو دمج الروابط القَبَليّة في رابطة واحدة هي الرابطة الدينية, وتطويع الروابط النفسية والاجتماعية التي يقوم عليها التنظيم الاجتماعي القبلي في بنية المجتمع الذي يقوم على الإيمان الديني الجديد. واتخذت كلمة الخضوع معناها المتجدّد, وهو الخضوع للأمة القبيلة ولرمزها: الله ([36]).
وترتّبت نتيجة الفعل الديني أولويات الانتماء, وبالتالي الولاء. وتشكّلت دائرة كبرى تحيط بالدوائر جميعاً هي دائرة الانتماء الديني. وتفرّعت هذه الدوائر إلى دوائر أصغر شكّلت حدود الانتماءات المذهبية والطائفية, ومن ثم التوجهات المختلفة للفرق الدينية ضمن المذهب الواحد أو الطائفة الموحدة. واقتربت هذه الدوائر المتفرعة من الدائرة المركزية التي تشكل محور انتماء الفرد والجماعة؛ أو ابتعدت, على قدر ما استطاعت السياسة تقريبها أو إبعادها. والسياسة هنا ما هي إلاّ توجهات القبيلة في علاقاتها مع الآخرين, أو التوجهات نفسها للطائفة الدينية كسلطة حاكمة, أو كرعيّة محكومة. كل ذلك في مجتمعات لم تعرف حدوداً واضحة بين الانتماء إلى القبيلة, أو الانتماء إلى العقيدة الدينية, أو لم تتبلور لديها درجات القرب من, أو البعد عن, الانتماء القبلي أو الانتماء الديني ([37]). ولم تصل درجة الوعي بالدولة إلى المحل الذي يمكن مقارنته بدرجات الوعي السابقة عليها ([38]). وإذا كان هذا الوعي موجوداً, فلم يكن مستقلاً, في أيّ فترة من الفترات, عن مسألة الانتماء القبلي أو الديني.
من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني
وإذا كان الكلام يدور حول التشكّل التاريخي للمجتمع الأهلي, فإن هذا المجتمع لا يزال موجوداً في أيامنا الحاضرة, بآليات اشتغاله وبنمط حياته في نظرته إلى ذاته وإلى الآخر, تحدد معالمه نظرة كل فئة اجتماعية, في داخله, إلى ذاتها, وإلى الفئات الأخرى, وفي طريقة التعامل بين عناصرها الداخلية, وبين هذه العناصر والآخر, بما يخدم توجهها من خلال التعامل مع الفئات والعناصر المغايرة؛ لها أن تفعل ما يتناسب مع توجهها دون اهتمام بما للآخرين من توجهات واهتمامات, ولو من باب الملاحظة. وإذا كان ثمة ملاحظة, فهي مطالبة الآخرين بما عليهم من واجبات دون الحاجة إلى التفكير بما لهم من حقوق.
مجتمع هذا شأنه, لم يبقِ على وفائه للعناصر الأهلية المشكّلة لبنيته ولآلية تحركه, ولم ينجح باستبدال عناصره الأهلية بعناصر حديثة “مدنيّة” مؤتلفة ومتناسقة في اشتغالها ومنسجمة في تشكّلها, فأدى ذلك إلى نوع من الخلل متأتٍ من دخول عناصر مستحدثة على بنية أهلية. مجتمع أهلي دخل في العصر الحديث, أو أخذ منه ما يتناسب مع توجهه في الشكل دون النفاذ إلى المضمون. فلم يبقَ, بذلك, كما كان في السابق, مع كل ما يعنيه من توازن دقيق في الحقوق والواجبات, ولَحظِ الآخر وتحديد موقعه, ولم يستطع الدخول في العصر الحديث, كمضمون, بانتقاله من مجتمع أهلي تابع إلى مجتمع مدني يعي تماماً المنتمون إليه ما لهم وما عليهم.
تزامُن المجتمع الأهلي والمجتمع المدني سمح بملاحظة ما يميّز هذا عن ذاك, كما سمح بأن يكوّن المجتمع الأهلي أفكاره الخاصة عن المجتمع المدني, أو أن يكوّن المجتمع المدني أفكاره الخاصة عن المجتمع الأهلي.
فالمجتمع المدني, بنظر الأهل, وليدٌ مسخ أفرزته عقول أبناء “آخر الزمان”, وأوجده تفكك أواصر العلاقات القرابية, وتفشّي علاقات المصلحة وانهيار الأخلاق, وخفوت ظاهرة التدين بشكلها الطقسي والإيماني, والاعتماد الكلّي على القوانين الوضعية غير المستمدّة من الشرائع الإلهية, والإيمان بقدرة العقل وحده على حل المشاكل الإنسانية كافة.
والمجتمع المدني يحمل جملة من الأفكار عن المجتمع الأهلي, منها: تفاوت في فهم واستيعاب ما يعنيه مفهوم المجتمع أهلياً كان أو مدنياً. فهو يمكن أن يكون بالنسبة للبعض منهم: العائلة, العشيرة, أو القبيلة, من حيث هي جميعاً مصدر الأمن والمعاش؛ وهو يمكن أن يكون الطائفة من حيث هي المساهمة الرئيسة في خلق وعي الانتماء عند البعض الآخر؛ كما يمكن أن يكون المدى الحيوي لتحركه اليومي ولتفاعله الاجتماعي مع منطقة ـ طائفة متماثلة مع انتمائه الطائفي, أو يستعمل منطقته جسراً للعبور إلى منطقة أبعد تتماثل معه طائفياً. “وفي كل الحالات تعدّد في حالات الانتماء يفرز تعدداً في حالات الولاء ليست على الدرجة نفسها من القوة والزخم, بل تتدرّج من القوة إلى الضعف بالدرجة نفسها التي يتركها إلقاء حجر في بركة من ماء, والولاء الأخير يمكن أن يصيب الدولة, أو لا يصيبها, كما يمكن للدائرة الأخيرة أن ترتسم فوق صفحة الماء أو لا ترتسم” ([39]).
تتأرجح الكثير من المجتمعات الإنسانية بين نمطي الحياة: الأهلي والمدني. وهي لذلك لا تستطيع أن تحدّد موقعها بالضبط في هذا الموقع أو ذاك. والقيمون على شؤون هذه المجتمعات, وأهل الحل والعقد فيها, يأخذون ما يلزم من حياة المجتمع الأهلي, ومن نمط حياة المجتمع المدني. والأخذ يكون على قدر خدمة توجهاتهم, وترسيخ ما يتناسب مع هذه التوجهات. تارةً يعملون على الخروج من “ظلمات” المجتمع الأهلي إلى “أنوار” المجتمع المدني, وتارة يعزفون على وتر التراث والأصالة من أجل مقاومة ما يقتضيه نمط حياة المدينة. وفي كلتا الحالتين ترسيخ لواقع الحال, وتعميق لتعدّد الولاءات على حساب الولاء الواحد, أو كبديلة للولاء الواحد.
إن أخطر ما تعيشه هذه المجتمعات الحائرة في انتماءاتها: إلى المجتمع الأهلي في المضمون, وإلى المجتمع المدني في الشكل؛ هو في أنها تقوم بأنواع متعددة من الأفعال في حياتها اليومية وفي ممارساتها العملية, لا هي بالتقليدية النابعة من ظروف الحياة في المجتمعات الأهلية, ولا هي بالحديثة النابعة من ظروف الحياة في المجتمعات المدنيّة من حيث هي فهم عميق لحقوق المواطن وواجباته, وإيمان راسخ بالحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة, والمشاركة الحقيقية في الحياة, وعلى شتى الوجوه والاحتمالات.
والممارسة على صعيد الشكل, المتأثرة بما أنتجته الحياة الحديثة وتقنياتها, والإبقاء على المضمون بحالته التقليدية المتّصلة بمورثات المجتمع الأهلي, يورّثان نوعاً من الانفصام على الصعيد المجتمعي, يظهر على شكل تعايش مختلف أنماط الحياة: من المغرق في الحداثة, وإن كان على الصعيد الفردي, إلى المغرق في التقليد على الصعيدين الفردي والجماعي. وبينهما أنماط حياة تقترب من هذا النمط أو ذاك. وتنعكس جميعاً, على متانة المجتمع, وتساعد على تخلخل بنيته, هذه البنية الاجتماعية التي لا تزال على تقليديتها “الجارحة” في المضمون, وعلى حداثتها “الفاضحة” في الشكل الخارجي, تستمد من مظاهر الحداثة ومن ثوب العصرنة الوافدة إلينا من الخارج قشرة لا تستر حقيقة ما نحن عليه فحسب, بل تصفّح بالادعاء والتشويه والتمويه هذه الحقيقة ليصعب الوصول إليها وفهمها ومعالجتها ([40]).
إن الانتقال من نمط حياة المجتمع الأهلي الذي تحكمه العلاقات الإنسانية الطبيعية المتدرّجة من العائلة إلى الطائفة أو الدين, أو المنطقة المندغمة في التجمع الديني أو الطائفي أو التحالفات المبنية على هذه الاعتبارات, إلى نمط حياة مجتمع آخر تحكمه دولة تدّعي انتماءها إلى العصر وإلى الحداثة: بقوانينها ومؤسساتها ودستورها, وبمبدأ الفصل بين سلطاتها, وتمارس غير ما جاء في الكتب والدساتير, وتعمل على غير ما نصّت عليه قوانين المؤسسات, وعلى غير ما أنشئت من أجله؛ إن هذا الانتقال لا يعني بالضرورة أن المجتمع انتقل من حالته الأهلية إلى حالته المدنية. ودولة هذا شأنها لا يمكن أن تحوّل المجتمع الأهلي ببنيته الذهنية وطريقة تفكيره وممارسته إلى مجتمع مدني, لأن الأمر ليس منوطاً, فقط, بانتقال السلطة, وبالمعنى الذي أورده “جان وليم لابيير” في كتابه القيّم “السلطة السياسية” من حالتها الأهلية إلى حالة الدولة لمجرّد أن لها دستوراً وقوانين ومؤسسات ([41]).
المجتمع المدني, مجتمع حديث ومواجه
إذا كان المجتمع الأهلي على اختلاف أنواعه وأشكاله, من “طبائع” الاجتماع الإنساني, فإن المجتمع المدني, بدستوره وقوانينه ومؤسساته وتوجّه مواطنيه, هو مجتمع “مصنوع” بشكل من الأشكال. إنه صناعة مدركة وواعية تعمل على تحويل المجتمع الأهلي الطبيعي إلى مجتمع مدني. صناعة تنشئة وتربية على انتماء يختلف عن أنواع الانتماءات السابقة, مع أنه يستمد عناصره منها, وأهمها: وعي المصلحة العامة, ووعي وحدة الإرادة والمصير, ولحظ التوازن بين الحقوق والواجبات؛ وإعادة ترتيب هذه الانتماءات بحيث إن الانتماء إلى الوطن يعلو على أي انتماء آخر, ويحتويها جميعاً, في الوقت نفسه. هذا الانتماء لم تتحه الطبيعة من أجل أن يستوعبه الإنسان, ويؤمن به من خلال إحساسه بقيمته واقتناعه بجدواه وبأهميته وجدارته لضم الجميع تحت لوائه بصرف النظر عن انتماءاتهم الفرعية وتدرّجها. ولأنه “صناعة”, فهو “يتخطى” الخصوصيات, ويشكل مساحة مشتركة يختبر الإنسان قدرته فيها على التفاعل مع الآخر واستيعاب التنوّع, وإعادة صوغه في إطار مشروع حضاري ([42]). وأهمية هذا الانتماء أنه لا يتناقض مع أي انتماء آخر, وبالتالي يتميز بأنه الجامع المشترك للانتماءات جميعاً. إنه من صناعة الدولة وبالتعاون والتنسيق مع, أو بالضغط من, المؤسسات الأهلية التي تخطّى المنتمون إليها ولاءاتهم الفردية والتقوا في الولاء المشترك “لصورة” المجتمع المدني المتبلورة في الأذهان. وهي المسؤولة عن وحدة الولاء في المجتمع بترسيخ وحدة الانتماء بالنصوص والممارسة؛ أن ترسّخها في القوانين, وأن تعلّمها في المدارس والجامعات, وأن تربّي الناس عليها بالسلوك السياسي والإنمائي, وبممارسة الحرية والديموقراطية, وتطبيق العدالة بالقول والفعل.
وعي الانتماء ووعي الهوية
بهذا التوجه يمكن أن تتحقق الديموقراطية في المجتمع العربي. وبتحقيق الديموقراطية تتحقق الحرية والعدالة والمساواة. ذلك أن وعي الانتماء يعني وعي الهوية. والمشاركة في الانتماء إلى الهوية الواحدة من خلال وعي أهمية وحدة الإرادة ووحدة المصير, يعطي المواطن, ومن خلال الإحساس بوحدة الإرادة ووحدة المصير, القدرة على المواجهة. فالمعرفة هي التي تعطيه القدرة على فهم الذات وموقعها في هذا العالم, والثقة بهذه الذات, وبالتالي القدرة على المواجهة. وإذا أراد التعاطي مع العالم, ومع العولمة, فرداً أو مجتمعاً, ينظر إلى العالم, وإلى العولمة, على أنهما شأنين إيجابيين يمكن أن ينفتح عليهما وأن ينفتحا عليه, بما يخدم الذات والآخر. ويقف سداً منيعاً في مواجهة سلبيات العالم, والعولمة, ذاتاً ومجتمعاً أيضاً. ولا يمكنه ذلك, إلا إذا كان يدرك ذاته, ويعي تماماً مسألة الانتماء, وما يمكن أن تعنيه الهوية.
[1] أنظر الرواية الدراماتيكية لهذه الحادثة التاريخية في:
عبد الرحمن الجبرتي, تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار, الجزء الثاني, دار الجيل, د.ت ص: 182 وما بعدها.
[2] محمد فايز الطراونة, “ضيوف غير مدعوين والتمييع الثقافي في الفكر العربي”, العدد193, صيف 1998, معهد الإنماء العربي, بيروت, ص ص: 193- 195.
[3] حول مؤتمر “فيينا” ودور “مترنيخ” في الحفاظ على الوضع القائم في أوروبا ومحاولة منع التغيير, أنظر:
هـ. أ. فيشر, تاريخ أوروبا في العصر الحديث, تعريب أحمد نجيب الهاشم ووديع الضبع, دار المعارف بمصر, الطبعة السابعة, القاهرة, ص ص: 109 115.
[4] غسان العزي, “في جذور العولمة وإشكالياتها”, في منبر الحوار, العدد 37, شتاء 1999, بيروت, ص: 48.
[5] حول تجليات مؤتمر الصلح في باريس و”آثاره” على المنطقة, أنظر:
سيار الجميل, العولمة الجديدة, والمجال الحيوي للشرق الأوسط, مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق, 1997, بيروت, ص: 85 86.
[6] حول مساهمة “جمال عبد الناصر” و”تيتو” و”نهرو” في إظهار كتلة عدم الانحياز في مؤتمر “باندونغ”, أنظر:
دزموند ستيوارت, تاريخ الشرق الأوسط الحديث, دار النهار للنشر, بيروت, 1974, ص330.
[7] حول هذه المسألة أنظر:
الجميل, العولمة الجديدة, مذكور سابقاً ص ص: 125 126.
[8] الطراونة, الفكر العربي, العدد 193, مذكور سابقاً, ص: 196.
[9] حول هذه المسألة, أنظر الطريقة التي اختطّها الأميركيون لتكوين اقتصاد عالمي يخصهم في:
العزي, منبر الحوار, العدد 37 مذكور سابقاً, ص 49.
[10] الطراونة, الفكر العربي, العدد 193, مذكور سابقاً, ص ص: 197 198.
[11] الجميل, العولمة الجديدة, مذكور سابقاً, ص: 157. ومن المهم التأكيد أن ثمة الكثير من الإشارات على تفرّد الولايات المتحدة بالقيادة العسكرية للعالم, منها: انهيار الاتحاد السوفياتي, حرب الخليج الثانية, الحرب في أفغانستان ويوغوسلافيا وفي أماكن كثيرة من العالم. وقد ظهر أخيراً بعد قبول يوغوسلافيا بالشروط الروسية الأوروبية أن للولايات المتحدة “مجلساً دولياً” خاصاً بها ولا تعير اهتماما لأحد (4 حزيران 1999), أنظر في هذا الخصوص:
ادوار سعيد, الثقافة والامبريالية, دار الآداب, بيروت, الطبعة الأولى, 1997, وخصوصاً المقدمتين العربية والإنكليزية, ص ص: 9 12, 57 72.
[12] أنظر للتفصيل:
الجميل, العولمة الجديدة, مذكور سابقاً, ص: 156 158.
[13] حسنين توفيق إبراهيم, “العلاقة بين أطروحتي نظام عالمي جديد
وعولمة, في منبر الحوار, العدد 37, شتاء 1999, بيروت, ص: 70 72.
[14] المرجع نفسه, ص: 64. وللمزيد من التفصيل حول هذا المفهوم أنظر:
أحمد عبد الرحمن, “العولمة, المفهوم, المظاهر والأسباب” في مجلة: العلوم الاجتماعية, مجلّد 26, عدد ربيع 1998.
وحول أخطار العولمة, وخدمتها للولايات المتحدة, أنظر:
حسنين إبراهيم, منبرالحوار, العدد 37, مذكور سابقاً, ص ص:73- 89.
[15] أنظر:
غسان العزّي, منبر الحوار, مذكور سابقاً, ص 46.
[16] المرجع نفسه, ص: 46.
[17] أنظر في هذا الخصوص الكتابين المتناقضين في توجهاتهما ونتائجهما:
فرنسيس فوكوياما, نهاية التاريخ ودراسات أخرى, ترجمة يوسف جهامي, دار الحضارة الجديدة, بيروت, 110 ص.
صاموييل هنتنغتون, صدام الحضارات, إعادة صنع النظام العالمي, ترجمة طلعت الشايب, 1998, سطور, دون ذكر مكان النشر. 251 ص. دون الهوامش.
[18] هانس بيترمان وهارلد شومان, فخ العولمة, الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية, ترجمة عدنان عباس علي,عالم المعرفة, العدد 238, المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, 1998, الكويت, ص: 25 26. وبرأينا فإن هذا الكتاب يعتبر من أفضل ما كتب في هذا الموضوع.
[19] حول تأثير العولمة على العالم, أنظر, في ما يتعلق بالنمور الآسيوية “الورقية”:
كمال مجيد, العولمة والديموقراطية, دار الحكمة, سنة 2000, لندن, ص ص: 45 62.
[20] حول الاحتمالات السوداء التي يمكن أن يصل إليها العالم بسبب العولمة, أنظر:
العزي, منبر الحوار, العدد 37, مذكور سابقاً, ص ص: 62 69.
[21] للتفصيل, أنظر:
هشام شرابي, مقدمات لدراسة المجتمع العربي, الأهلية للنشر, 1977, بيروت, ص ص: 94 99.
[22] للتفصيل, أنظر:
حسنين توفيق ابراهيم, منبر الحوار, العدد 37, مذكور سابقاً, ص ص: 83 89.
[23] أنظر للتفصيل في هذا الخصوص:
الجميل, العولمة الجديدة, مذكور سابقاً, ص ص: 149 160.
[24] المرجع نفسه, ص ص: 160 166. ولكن هنا يبحث الجميل في الأسباب “الداخلية” التي تمنع تشكل النظام المتعدد الأقطاب أو ذي الثنائية القطبية دون أن يأتي على ذكر الدور الهام الذي تلعبه الولايات المتحدة في منع تشكل هذا النظام من أجل أن تبقى في موقع الهيمنة.
[25] المرجع نفسه, ص ص: 169 187.
[26] أنظر الصورة الدراماتيكية التي يرسمها ابراهيم محمود لتأثير العولمة وما تتطلبه للانخراط في “لعبتها”, في:
ابراهيم محمود, “العولمة, هل هي انفجار الهوية؟” في: الفكر العربي, العدد 93, مذكور سابقاً, ص:163.173
[27] هشام شرابي, مقدّمات لدراسة المجتمع العربي, مذكور سابقاً, ص ص: 82 93.
[28] أنظر في هذا الخصوص, للتفصيل:
عدنان سليمان, “مقاربة أولية لتداعيات العولمة على المجتمع العربي”, في: الفكر العربي, العدد 93, مذكور سابقاً, ص ص: 157 162.
[29] الجميل, العولمة الجديدة, مذكور سابقاً, ص ص: 188 192.
[30] المرجع نفسه, ص: 164.
[31] ابن خلدون, المقدمة, دار الجيل, بيروت, ص: 141 142.
[32] عاطف عطية, المجتمع, الدين والتقاليد, جرّوس برسّ, 1992, طرابلس, لبنان, ص: 50.
[33] Pierre Bourdieu, Le sens pratique, ed. De minuit, Paris, 1980, P: 93.
[34] فريدريك معتوق, المعرفة, المجتمع والتاريخ, جرّوس برسّ, 1991, طرابلس, لبنان, ص:62.
[35] ابن خلدون, المقدمة, مذكور سابقاً, ص: 153 154.
[36] عاطف عطية, الناقد, العدد 55, مذكور سابقاً, ص 23.
[37] أنظر للتفصيل حول هذه المسألة الهامة في الفكر السياسي العربي:
محمد عابد الجابري, العقل السياسي العربي, مركز دراسات الوحدة العربية, 1990, بيروت, ص ص: 57 197. وخصوصاً ص: 132.
[38] أنظر في هذا الخصوص الملاحظة التي أبداها زهير حطب حول التفريق بين الانتماء من حيث هو ارتباط بأصل مفروض عل الإنسان, وبين الهوية من حيث هي فعل إرادي انتقائي يقرّب بين العناصر المكوّنة للهوية, في:
زهير حطب, “نحو بناء مجتمع إنساني جامع يواكب العولمة الاقتصادية”, في: الفكر العربي, العدد 90, معهد الإنماء العربي, خريف 1997, بيروت, ص: 4.
[39] عاطف عطية, “من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني, صحيفة الديار البيروتية, الدراسات, 7 آب 1994.
[40] المرجع نفسه, وحول “التصفيح” لتمويه الواقع وحمايته من التغيير, أنظر:
داريوش شايغان, النفس المبتورة, هاجس الغرب في مجتمعاتنا, دار الساقي, 1991, لندن, ص ص: 94 121.
[41] حول أشكال السلطة وكيفية تشكلها, أنظر:
جان وليام لابيير, السلطة السياسية, زدني علماً, ترجمة الياس الياس, منشورات عويدات, الطبعة الثانية, 1977, بيروت, ص ص: 19 45.
[42] سمير فرنجية, “الانتخابات البلدية وإعادة تجديد معنى لبنان”, في: البلدية سلطة محلية ومشاركة مدنية في القانون والممارسة, وقائع المؤتمر السابع عشر, منشورات سيدة اللويزة, لبنان 1998, ص: 31.