سياسات واستراتيجيات

بين الدبلوماسية والميدان
إعداد: المقدم الركن فادي بعقليني

المقدم الركن فادي بعقليني

 

أزمة الصواريخ الكوبية ونجاح الدبلوماسية
في 14 تشرين الأول من العام 1962، التقطت طائرة تجسس أميركية صورًا تُظهر وجود منصات إطلاق صواريخ سوفياتية في جزيرة كوبا التي تبعد نحو 140 كلم فقط عن سواحل فلوريدا، ما يعني أنّ مدنًا عديدةً في الولايات المتحدة الأميركية ستكون ضمن مدى هذه الصواريخ.
واجه الرئيس كينيدي مجموعة من الخيارات للتعامل مع التهديد السوفياتي في كوبا. أوصى وزير الدفاع الأميركي روبرت مكنامرا، بشن هجوم استباقي على كوبا لتدمير المنصات السوفياتية، وهو ما كان سيُدخل العالم في حرب غير مسبوقة، يمكن أن تُستخدم فيها الأسلحة النووية على نطاق واسع. في حين أشار السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة أدلاي ستيفنسون إلى تسريع الجهود الدبلوماسية وفتح قناة اتصال مع الرئيسين السوفياتي والكوبي.
اتخذت الولايات المتحدة سلسلة إجراءات وفرضت حصارًا بحريًا على كوبا، كما عملت على تفتيش السفن القادمة إليها وتسيير طلعات جوية استطلاعية. وبشكلٍ غير متوقع، وعلى الرغم من الرفض العلني للمطالب الأميركية بضرورة تفكيك المنصات وإزالة الصواريخ، أعاد السوفيات سفنًا كانت في طريقها إلى كوبا، وباشروا بفتح قنوات اتصال سرية مع الأميركيين من أجل تقديم اقتراحات لحلّ الأزمة.
في 26 تشرين الأول 1962، تلقى الرئيس كينيدي رسالة من الزعيم السوفياتي خروتشوف يَعِد فيها بإزالة منصات الصواريخ إذا وافقت الولايات المتحدة على رفع الحصار وتعهدت بعدم مهاجمة كوبا، أعقبها بعد يومٍ برسالة ثانية مشترطًا إزالة الصواريخ التي نشرتها الولايات المتحدة في تركيا ومناطق أخرى.
انتهت أزمة الصواريخ الكوبية في 28 تشرين الأول 1962، بعدما توصّل الطرفان إلى اتفاق يقضي بإزالة الصواريخ السوفياتية ومنصات الإطلاق من الأراضي الكوبية، شريطة تعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وبأن تتخلص تدريجيًا من صواريخها المنصوبة في بريطانيا وكلٍّ من إيطاليا وتركيا.
كان الحل الدبلوماسي لأزمة الصواريخ الكوبية خطوة مهمة منعت العالم من الانزلاق إلى صراع نووي واسع النطاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. تمّ حل الأزمة من خلال سلسلة مفاوضات وتنازلات، مع التأكيد على أهمية الدبلوماسية والتواصل في زمن التوترات المتزايدة. وبعد هذه الأزمة، تمّ إنشاء خط ساخن يوفر اتصالًا مباشرًا بين البيت الأبيض والكرملين، كما جرى توقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية في الخامس من آب 1963.
تظل أزمة الصواريخ الكوبية حلقة حاسمة في تاريخ الحرب الباردة وشهادة على ضرورة الحلول الدبلوماسية. وقد شددت الأزمة على أهمية التواصل والتفاوض في إدارة التوترات العالمية، وسلطت الضوء على الحاجة الملحّة للحدّ من انتشار الأسلحة والحلول الدبلوماسية.

في قلب العاصمة الفرنسية باريس، داخل حرم الكلية العسكرية التي أسسها لويس الخامس عشر في العام 1751، تطالعك عند التجول في أرجائها لوحة كُتبت عليها العبارة الآتية:
«Gagner la guerre avant la guerre»، أي كسب الحرب وتحقيق النصر قبل الحرب. في هذا السياق بالتحديد، وفي إطار حالة التنافس الدولي الدائم على تحقيق المصالح، تتجلّى أهمية الدبلوماسية والمجال المعلوماتي كعنصرين بارزين في ساحات الصراع، وبالتالي ضرورة إدراك آليات هذه الاستراتيجية واستخدامها، بالإضافة إلى أخذ مجالات جديدة بالاعتبار.

في موازاة سعي الجيوش حاليًا إلى أن تكون أكثر حضورًا وكفاءة في مجال المعلومات، تبرز ضرورة تفعيل الدول لأنشطتها الدبلوماسية، وإرساء حالة من التنسيق الوثيق والتام بين الدبلوماسية والميدان، لضمان تحقيق الأهداف العليا والدفاع عن المصلحة الوطنية.

القوة الوطنية


تسعى السياسات والاستراتيجيات الوطنية إلى مواجهة التحديات وردع الاعتداءات عن أرض الوطن، كما أنّها تعتمد بشكلٍ دائم حلولًا للنزاعات الإقليمية والدولية باستعمال مقاربات عناصر القوة الوطنية. وتُعتبر الاستراتيجيات عديمة الفائدة من دون ترجمتها إلى خطط وأوامر يتم تنفيذها بشكلٍ فعال، لذلك ينبغي على القادة فهم أدوات القوة الوطنية والطرق التي يجب اعتمادها في تنفيذ السياسات. يعتبر «جوزيف ناي» أنّ القوة الوطنية هي «القدرة على التأثير في النتائج التي نريدها، وإذا لزم الأمر، تغيير سلوك الآخرين لتحقيق ذلك». وغالبًا ما ينطوي تنفيذ هذا المبدأ على المستوى الوطني على واحدة أو أكثر من أربع أدوات رئيسية للقوة: الدبلوماسية والاقتصاد والقوة العسكرية والمعلومات. يتطلب تحقيق المصالح الوطنية تنسيقًا فعالًا بين هذه الأدوات الأربع، وهنا يكمن التحدي الأكبر لصانعي القرار، مع العلم أنّ القوة العسكرية هي التي تهيمن في زمن الحرب من دون أن تحلّ مطلقًا محل الأدوات الأخرى أو تنفي فعالية دورها. تجدر الإشارة إلى أنّ بعض المنظّرين يدرجون القوة المالية وإنفاذ القانون والاستخبارات ضمن أدوات القوة الوطنية أيضًا.
لقد تطور مفهوم القوة مع تطور نظريات العلاقات الدولية إذ برز مفهوم القوة الصلبة التي تعتمد بشكلٍ أساسي على القدرات العسكرية لإخضاع الدول، إلى جانب العامل الاقتصادي عن طريق فرض الحصار والعقوبات الاقتصادية. من ناحية أخرى، يعتمد مفهوم القوة الناعمة على التأثير في الدول وشعوبها عن طريق استخدام الإعلام والدبلوماسية فضلًا عن الدعم المالي، لتحقيق أهداف محددة تخدم الغاية النهائية المرجوّة.
إذا كان إدراك الدول للقدرات العسكرية لدولة ما يشكّل عاملًا أساسيًا في امتلاك قدرة الردع الاستراتيجي لهذه الدولة، فإنّ فعالية هذا الردع تتوقف على قدرة هذه الدولة في التأثير في إدراك، مفاهيم ومعرفة تلك الدول.

خياران متكاملان
تؤمّن الأنشطة الدبلوماسية الوسيلة المثلى لاستعمال القدرة غير القاتلة في نطاق العمليات الممتد من السلم إلى الحرب مرورًا بالنزاعات، وحتى خلال الفترات التي تلي الحروب مباشرةً. لذلك تعتمد دول العالم أجمع على قواتها المسلحة للدفاع عن مصالحها، ولكن عليها أن تلجأ إلى الدبلوماسية أيضًا بهدف التواصل والتفاعل مع باقي الدول، إذ تحاول الجهود الدبلوماسية تسوية الخلافات والتوصل إلى إبرام تحالفات وعقد اتفاقيات طويلة الأمد، تصب في مصلحة الوطن.
وتطبيقًا لهذا المبدأ، نلاحظ كيف أنّ العديد من الدول قد اعتمدت مقاربة دبلوماسية يمكن أن تشكّل الذراع القوي للاستراتيجيات خلال تفاقم النزاعات والصراعات. من هنا، على القادة أن يفهموا بيئاتهم الاستراتيجية بشكلٍ كامل، ويَعوا العوامل والتأثيرات المحتملة على العمليات الجاري تنفيذها، أو تلك المخطط لها.
تلجأ الدبلوماسية عادةً إلى الاستعانة بأجهزة الدولة الأخرى لتعزيز موقفها حول أي من المواضيع أو الملفات التي تتولى التفاوض حولها، بخاصةٍ قواتها المسلحة، وتعمل وفق ما يمليه الميدان العسكري على قاعدة أن يكون الميدان في خدمة الدبلوماسية لتعزيز موقفها التفاوضي.
تسابق الجهود الدبلوماسية عادةً التطورات الميدانية لاحتواء الصراع، ولكن عندما تصل الأمور إلى طريق مسدود ولا تستطيع الدبلوماسية تحقيق ما ينبغي تحقيقه، تلجأ الأطراف المتنازعة إلى وسيلة أخرى لبلوغ الأهداف، ألا وهي الحسم العسكري عن طريق الحرب، إذ يخفت صوت المفاوض ويتكلم الميدان، في تأكيد على ما قاله أدولف هتلر: «عندما تنتهي الدبلوماسية، تبدأ الحرب». مهما ظهر من تباين بين خيار الدبلوماسية والميدان، إلّا أنّهما في حقيقة الأمر خياران متكاملان، لتحقيق أهداف السياسة العليا والمصلحة الوطنية. على هذا الأساس، يجب الاعتراف بوجود صلة وثيقة بين الدبلوماسية والميدان، فأحيانًا تبدأ الحرب من حيث تنتهي الدبلوماسية، ما يثبّت مقولة هتلر، كما أنّ الدبلوماسية قد تبدأ من حيث تنتهي الحرب. فكل حرب يسبقها ويتخللها ويتلوها دبلوماسية، لكن هذه العلاقة التشاركية بين الدبلوماسية والميدان لا تعني بالضرورة تلازم المسارين، بحيث يمكن أن تنتصر الدبلوماسية على الرغم من الهزيمة في الحرب أو حتى دون إطلاق رصاصة واحدة، كما يمكن أن تفشل الدبلوماسية حتى مع تحقيق النصر العسكري في ميادين القتال.

حتمية الخيار العسكري


في الوقت الذي تؤدي فيه الدبلوماسية دورًا مهمًا في مجال العلاقات الدولية، وتعمل على معالجة التباين في وجهات النظر والتوفيق بين المصالح المتعارضة، وحلّ النزاعات وتسوية الخلافات بالطرق السلمية تجنّباً للدمار والخسائر في الأرواح، يرى البعض في المقابل أنّ الحروب هي أعلى درجات الدبلوماسية، وبالتالي يمكن اعتبارها أيضًا وسيلة من وسائل التفاوض عند استحالة التوصل إلى حلول ملائمة. هناك قضايا حيوية لا يمكن المساومة بشأنها وتقديم تنازلات، وبخاصةٍ تلك التي تهدّد الأمن القومي وتشكل خطرًا وجوديًا. فعندما تخفق الدبلوماسية في إجبار الطرف الآخر على الإذعان لإرادتها، لا بدّ في هذه الحالة من اللجوء إلى التصعيد والضغط واستخدام القوة الصلبة وتوجيه الرسائل العسكرية من خلال الميدان، مع مواصلة الجهود الدبلوماسية للوصول إلى أرضية مشتركة بهدف معالجة نقاط الاختلاف وإقناع الخصم بضرورة تسوية النزاع بأقل خسائر ممكنة. هكذا، يبدو السباق على أشدّه بين الخيارين العسكري والدبلوماسي، فالأول قد يصبح أمرًا واقعًا في أيّ لحظة بالاستناد إلى الوقائع وتطور الأحداث. إذا كانت الدبلوماسية والحرب تتكاملان بوصفهما أداتين للقوة الوطنية ووسيلتين يمكن للدولة استخدامهما في إطار استراتيجية واضحة لإقناع الطرف الآخر أو إجباره على الامتثال لإرادتها، فالأَوْلى أن تحقق الدول غايتها وتفرض إرادتها من خلال الأساليب والمهارات الدبلوماسية التي ترتكز على امتلاك قوة فعلية، يمكن التلويح بها أو التهديد باستخدامها من دون التورط في الحرب، لما تتطلبه من نفقات وموارد، وما تخلّفه من خسائر ومخاطر على كلا الجانبين. وفي ذلك ترجمة لما قاله الاستراتيجي الروماني «فيجيتيوس» في نهاية القرن الرابع: «إذا أردت السلم، عليك أن تستعد للحرب»، وعليه يُعتبر التلويح باستخدام القوة العسكرية في الميدان أحد أذرع الدبلوماسية الناجحة.
يعتبر الجنرال والمفكر الاستراتيجي البروسي كارل فون كلاوزفيتز أنّ «الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى». فالحرب بالنسبة إليه هي أداة سياسية، وكل عمل عسكري وراءه هدف سياسي، وإذا تحقق هذا الهدف بوسائل أخرى فلا داعي للحرب أو العمل العسكري. الحرب إذًا ليست من عمل السياسة فقط، بل هي استمرار للنشاط السياسي بوسائل أخرى. لكن التطور اللافت يتمثل في إقدام عدة دول على تعزيز ترسانتها المسلحة والاتحاد في تحالفات لم يكن المقصود منها شنّ الحرب، بل على العكس تمامًا، منعها. من هنا، لم تعد الحرب امتدادًا للسياسة، بل هي تعطيل لها على نحو يهدد جدواها، وهي كارثة تسعى السياسة إلى تجنبها. تقدم تسوية الأزمة الكوبية في العام 1962 مثالًا على تطبيق هذه القاعدة في ظل العصر النووي. فبفضل الدبلوماسية ووسائل الدعاية الحديثة، أدرك طرفا الأزمة أنّهما يواجهان خطر اندلاع حرب نووية لا يرغبان في الانجرار إليها.

المفاوضات ومستقبل الصراع


عندما لا ينتهي الصراع باستسلام الخصم، كما كانت الحال مع ألمانيا واليابان في العام 1945، فإنّه سينتهي في نهاية المطاف بالمفاوضات عبر بلوغ تسوية قد لا تكون أحيانًا على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب». فالدبلوماسية هي التي أدت إلى وقف الحرب الكورية في العام 1953، ونهاية الحرب الإيرانية – العراقية في العام 1988، وأيضًا إلى حل الأزمة الروسية – الجورجية في العام 2008. لقد مرّ أكثر من عامين على الحرب الروسية – الأوكرانية، ومنذ بداية المعارك، وبعد تعثر الهجوم الروسي، بدأت المحادثات بين الأوكرانيين والروس، لكنّ نطاقها كان محدودًا ولم تسفر إلّا عن بعض عمليات تبادل الأسرى. وكانت هناك أيضًا مفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة وتركيا لإبرام اتفاقية بشأن تصدير الحبوب والأسمدة، والتي يتم تجديدها بانتظامٍ منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية المبذولة، ما زال الصراع مستمرًا. وقد نشرت صحيفة «برافدا» الروسية تقريرًا لفتت فيه إلى أنّ روسيا ترفض الخطة التي يروّج لها الغرب لبدء المفاوضات، وهي تنطلق من خطة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي التي أعلن عنها أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة. وأوضح التقرير أنّ خطة زيلينسكي تقوم أساسًا على شرطين: سحب القوات الروسية من جميع أراضي أوكرانيا والعودة إلى حدود العام 1991، وإعادة السيطرة الأوكرانية على حدود البلاد كافة، وعلى المنطقة الاقتصادية الخاصة في البحر الأسود وبحر آزوف، وكذلك مضيق كيرتش. واختتم الكاتب التقرير بالشروط الروسية التي أعلنتها المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا لبدء مفاوضات سلمية مع كييف، والتي تشمل وقف كييف للأعمال القتالية، ووقف الغرب إمدادها بالأسلحة، مع تأكيد الوضع المحايد لأوكرانيا والاعتراف بـ «الواقع الإقليمي الجديد» الذي ضمت بموجبه روسيا أربع مناطق أوكرانية، ناهيك عن ضمان حقوق الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا.

 

حاجة… أم خيار


يمكن للعلاقات الدولية المحكومة بالمصالح أن تسبب صراعات لا تقتصر على نطاق ضيّـق من عالمنا الحاضر، بل إنّ وسائل الحرب الحديثة التي ستُستخدم قد تهدد مستقبل البشرية جمعاء. فهل تمكنت الدول من تكييف دبلوماسيتها مع هذه الحقائق الجديدة؟ في الظروف الحالية المعقدة، وفي خضم تشابك المصالح وتفاقم التوترات والخلافات بين الدول بشكلٍ كبير، أصبحت الحاجة إلى حلّ النزاعات الدولية باستخدام الطرق السلمية أمرًا حتميًا. فالحرب قد تعزز أوراق التفاوض حول ملفات معينة، وفي المقابل يمكن لتداعيات الأعمال القتالية أن تعرقل مساره، وبالتالي فإنّ الدبلوماسية مطلوبة أكثر من أي وقت مضى للعب دور على درجة عالية من الأهمية، كما يجب على الأطراف أولًا أن يقتنعوا أنه لم يعد لديهم ما يكسبونه من استمرار الصراع.
إذا كان كلاوزفيتز في كتابه قد حدد تسعة مبادئ للحرب، اختصرها الماريشال الفرنسي فرديناند فوش بثلاثةٍ أساسية هي حرية المناورة، التركيز والحشد، والاقتصاد بالقوى، فإنّه لا مكان في الدبلوماسية إلّا لمبدأ واحد للحرب يتجسّد في عدم خوضها.