- En
- Fr
- عربي
تحولات القضية النووية بين أميركا وإيران: تصادم الاستراتيجيات العليا
يسعى هذا البحث إلى الإضاءة على ما يتعدّى ظاهر الحراك الدولي حول الملف النووي الإيراني. ولقد وجدنا أن نشتغل منهجياً على تأسيسات الفكر الإستراتيجي الذي يحكم هذا الحراك، وهي تأسيساتٌ فكرية استراتيجية تنطوي على مقدّمات أيديولوجية وفلسفية ودينية سوف يترتب عليها إضفاء صفة فوق سياسية على القضية النووية المحتدمة الآن.
ذلك ما يمكن أن نطلق عليه بالإستراتيجيا العليا لكل من طرفي المواجهة: إيران من جهة، وأميركا والغرب من جهة ثانية.
وإذا كان منهج النظر إلى القضية النووية يبدأ من هذا المحل المعرفي بالذات، فإنّ منطق الأمور سيؤدي إلى بلوغ النقطة التي تصبح فيها هذه القضية، قضية نهضوية وتاريخية بامتياز. ذلك أنّها تتصل هنا بسؤال التقدّم والتأخر، بقدر ما تستعيد معاني الأسئلة الكبرى ومقاصدها حول الصدام الحضاري الطويل بين الشرق والغرب.
لا ينبسط هذا الكلام على أرض المبالغة كما قد يُظن. ولو شئنا إدراك خلْفيات الرفض الغربي للطموح الإيراني النووي، لَبَدا لنا أن ما يطفو على سطح السلوك الأميركي من هذا الوجه، هو استظهار خزائن اللاهوت السياسي المؤسس للظاهرة الأميركية.
وهذا اللاهوت المؤسِّس هو ما سندعوه بـ «لاهوت الهيمنة»، وهو اللاّهوت نفسه الذي سيطلق أيديولوجيا صارمة تقوم على السيادة المطلقة للرأسمالية الليبرالية، وهي الليبرالية الجديدة التي غالباً ما تستظهر أحوالها على شكل ديموقراطية ذات مقاييس ووظائف تعكس طبيعة المجتمع الأميركي الهجين، بحسب الدراسة المبكرة لعالم الاجتماع الفرنسي ألكسيس دي توكفيل، أو تلك المتمثلة بسلوكية نمط الحياة الأميركية حسب بارتنت، أو باعتبارها أيديولوجيا مشوبة بنزعة دينية يمينية مركبة، كما أشار باحثون أميركيون آخرون. يضاف إلى هذا ما يشكل أساس تلك السلوكية، وهي النزعة الاستعمارية التي رافقت النشأة الأميركية، وعكستها حروب مديدة، استهلها المهاجرون الأوائل بحق الهنود الحمر قبل بضعة قرون، مرورًا بالقنابل النووية على هيروشيما وناكازاكي، وصولاً إلى التراجيديا المتواصلة في أفغانستان والعراق.
لقد كان من الضروري، لكي تتحرك سَيْريَّة اللاهوت الأميركي المهيمن، في حقول التطبيق، أن تُسدَّد وتؤيَّد بمشروعية أخلاقية ودينية، وبفلسفة سياسية مستمدة من تراث الحداثة الغربية الفسيح .
ولكي نفهم جيدًا وضعية أميركا المعاصرة ينبغي أولاً إدراك أهمية الدين في تكوين المثل الأعلى الثقافي الأميركي. لقد انطلق المهاجرون الإنكليز -على ما تبيّن السيرة الأميركية- من فكرة أن مجتمعهم الجديد سيكون مجتمعًا معروفًا على المستوى الكوني. وهذا يعني أن المستعمرين الذي حَلُّوا في إنكلترا الجديدة ( أي البلاد الأميركية المكتشفة في ما وراء البحار) أرادوا أن يؤسّسوا لبلد نموذجي يكون مثالاً يُحتذى من كل شعوب أوروبا. وفي القرن الثامن عشر سيأخذ هذا البلد رحلته الكبرى في التعبير عن نفسه بوصفه المثل الأعلى للعالمية البروتستانية.
إن هذا الفهم التكويني الذي أرساه المؤسسون الأوائل لأميركا سوف يتواصل من دون قطيعة، حتى أن الفلسفة السياسية التي ظهرت في أحقاب متواترة على امتداد أجيال كاملة، راحت تتولى تغطية هذا الفهم بإنشاءات لاهوتية دينية شديدة الإغواء.
مع بلوغ اليمين المسيحي منطقة القرار في البيت الأبيض، اكتمل عقد اللقاء الحميم بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة. لقد وقعت السلطة بأكملها تحت سطوة نخبة تؤمن إيماناً عميقاً بوجوب عدم جواز الفصل بن الدولة والدين.
وهذا ما بيَّنه مقرَّبون من النخبة الحاكمة حين تحدثوا عن ظاهرة التزاوج بين الأيديولوجيا واللاّهوت، معتبرين أن أمراً كهذا يحصل للمرة الأولى في تاريخ الولايات، حيث يستأثر مثل هذا التزاوج بالحكم، ويحتكر السيطرة على البلاد (1).
لم يصل هذا «التطور الحلولي» بين اللاهوت والممارسة السياسية إلى حدوده القصوى بنتيجة المصادفة، بل كان حاصل تراكمات من التفاعل في مكوّنات العقيدة السياسية الأميركية تعود، كما أشرنا، إلى بدايات التأسيس.
وهكذا فعلى أساس الثقافة السياسية الممتدة عبر التاريخ، يمكن رؤية المواجهة مع إيران، لكن لا على شكل مواجهة تقليدية مع مشروع يعمل على إرباك خط استكمال رسم الخارطة الجديدة للشرق الأوسط الكبير، بل بصفة كونها احتداماً يتخذ لنفسه بعداً ذا سمة فوق سياسية.
وسعياً لتأسيس منظور معرفي تبعاً لهذه السمة، وجدنا أن نستخدم مفهوم «الميتا- ستراتيجيا»(2) لأنه المفهوم الأكثر قرباً إلى «محل النزاع» حيث تتقاطع البنيتان الأميركية والإيرانية الـراهنتان علـى ما أجـزنا تسميتـه بـ «ميتافيزيقا الممارسة السياسية».
ولئن كان لا مناص من حفظ خطوط التمايز بين البنيتين لما يعود لأصل الميتافيزيقا وتكوينها، والعقيدة الدينية المكوّنة لكل منهما، فسنجد ذلك في منهجيات النظر والاستخدام، ولا سيما إذا تناولنا التمايز على قاعدة التفريق بين الرؤية القرآنية التي يأخذ بها المشروع الإسلامي الإيراني في ممارسته السياسية والاستراتيجية، والرؤية الإنجيلية التوراتية للمحافظية الأميركية الجديدة. وعلى هذا، يمكن النظر إلى الميتا - ستراتيجيا كمعادل لما يجوز أن نعرّفه في ثقافتنا العربية الإسلامية بـ «الغيب السياسي». ولسوف نرى كم لهذين المفهومين في حال أُخِذَ كلٌ منهما على حدة، من فعالية في إجراء تحويلات جذرية في الجغرافيا والتاريخ البشريين.
عندما وُضع هذا المفهوم «الميتا- ستراتيجيا» كمصطلح في علم الحروب والصراعات الكبرى، لاحظ واضعوه مركزية الإيمان الديني وحضور الاعتقادات الغيبية في الزمن السياسي. وهذا يعني أن نشوء المفهوم ما كان ليتحصّل خارج نطاق الحراك العام، وبالتـالي فإن «الميتا- ستراتيجيا» هي وليد موضوعي واقعي، ينمو ويتطوَّر ويتكامل، ضمن سيرية الإلتقاء الحميم بين الإيمان الديني، ومنظومة الأفكار التي تعكس المصالح السيادية العليا للأمة.
في التجربة التاريخية للغرب لم تغب حضورية اللاهوت اليهودي والمسيحي عن مشاغل النخب التي تولّت قيادة هذه التجربة. لقد لاحظ الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ هذه السمة في مقالته المعروفة «ضرورة إصلاح الفلسفة» معتبرًا أن عصور الإنسانية لا تتميز إلا بتغيّرات دينية، ولا تكون الحركة التاريخية أساسية إلا إذا كانت جذورها متأصّلة في قلوب البشر. وسنلاحظ استطراداً أن فيورباخ، مثلما فعل من جاء قَبْلَه، كهيغل وكانط وسواهما، لم يروا إلى القلب إلا بوصفه المكان الأخير للمعرفة، وإلى النظر إليه ليس كصورة من صور الدين وإنما باعتباره جوهر الدين وعينه.
وعلى سبيل المثال، فلقد اضطلع لاهوت القضاء والقدر حسب الإنجيلي الأميركي جون كالفن بدور مهم في ولادة الرأسمالية، حيث يقرر هذا اللاهوت أن الخلاص يكون مقدّراً للبعض، والعقوبة للبعض الآخر. لكن إذا كان هذا البعض يمتلك رأس المال ووظَّفه بطريقة عقلانية ثم حصّل بواسطته النجاح، فذلك يكون بحسب اللاهوت المشار إليه علاقة دالَّة على الخلاص.
في المجال الذي مورست فيه لاهوتيات الغلبة الأميركية عبر الزمن كانت الميتا-ستراتيجيا حاضرة حضور العين. ولو نحن أخذنا المشهد الأخير لسياسات الهيمنة سنرى مثلاً أن إدارة الرئيس جورج بوش نجحت، (مدفوعة برغبة الانتقام التي تلت صدمة 11 أيلول/سبتمبر 2001) في جَمْعِ ثلاثة عوامل قوية في الشعور القومي والديني لدى الأميركيين:
- العامل الأول: الرغبة في القيام بهجوم مضاد سريع عندما تعالج هجوماً أو تغسل عاراً. وهذه الروحية ليست حكراً على أميركا.
-العامل الثاني: هو الاقتناع بأن أميركا بلد مختار من الله وأن قوته لها ما يبررها، وهي موضوعات نجدها تتكرَّر في خطابات بوش والزعماء الجمهوريين الآخرين منذ 11 أيلول/سبتمبر، وصولاً إلى انتخابات 2004 وما بعد. إن هذه الفكرة عن البلد المختار ليست وقفاً على أميركا كما سبق وجاء في العامل الأول، ذلك أن جميع البلدان الأوروبية تشاركها هذه الفكرة إلى حدٍّ ما.
ولكن في أوروبا، فإن الأحداث المروِّعة في سنوات 1914-1945 التي استمرت إلى حد ما مع الحروب الاستعمارية التي تلتها، زعزعت هذا الإيمان على الأقل في شكله التقليدي والقاطع.
وبسبب من عزلة أميركا وتاريخها الأكثر هدوءاً وسروراً خلال القرن الماضي، احتفظ هذا الإيمان بكل زخمه وهو يغذي ما أسميته جوقة الأساطير التي ترافق العقيدة الأميركية القديمة: أساطير البراءة والطيبة وفعل الخير والانتصار الحتمي.
- العامل الثالث: هذه الأساطير ترتبط بدورها بما يمكن تسميته بالصبغة الدنيوية للإيمان وبمكانة أميركا التي قررها الله، وهي فكرة تقوم على أن الولايات المتحدة الأميركية هي حاملة اللواء والنموذج الأمثل عن الديموقراطية والحرية، ولديها القدرة ولها الحق وعليها واجب نشر قيمها في سائر العالم. إنه الإيمان الذي لم يتوانَ بوش ومناصروه عن التعبير عنه خلال الحملة الانتخابية العام 2004(2).
وعلى هذا الوزن ستجري تغطية هذه المجموعة من العوامل بمؤيّدات من المشروعية تبرر السلوك الأميركي العام تجاه العالم. وهكذا فقد دخل التبرير كعامل مكوّن في الممارسة السياسية العسكرية للاهوت الهيمنة. ومنذ الحرب الأميركية الإسبانية العام 1898 جرى بناء رؤية استراتيجية تقوم على عنصرين متوازيين:
- أولاً: تبرير استخدام القوة في رسم هدف خارجي أو تحقيقه في إطار الحفاظ على المصالح القومية، إقتصادية كانت أم سياسية، حتى في إطار العلاقات الدولية.
- ثانيًا: تبرير الهيمنة والاستعمار المباشر بغية إحلال مفاهيم ورؤى تقدمية «الحداثة والديمقراطية» أو تنموية «رأسمالية اقتصاد السوق»، وهي مفاهيم وأفكار تنطوي على أبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية وحتى دينية.
في الخمسينيات حين كانت الحرب الباردة في ذروة احتدامها، سيأخذ «لاهوت الغلبة» صورته الأكثر وضوحاً. كان ذلك حدثاً ضرورياً لكي يتحوّل هذا اللاهوت إلى سلوك عملي له استراتيجياته الكاملة. في هذه الحقبة سوف يتحد المفهوم بالموضوع اتحاداً لا قِبَلَ لأميركا به: إتحاد المفهوم أي «الأيديولوجيا الذي كانت تحتاجه تلك الإمبراطورية الصاعدة لصقل رؤيتها وتسويغ أفعالها»، بالموضوع الذي هو مزيج المصالح والقوة والأفكار، لا سيّما بعد أن حددت خصمها للمرحلة المقبلة «الإتحاد السوفياتي وحلفاؤه»، وهو خصم مُعَزَّز بأيديولوجيا جذابة وصارمة، ما يقتضي مواجهته بأيديولوجيا أكثر جاذبية وأكثر صرامة.
كان المفكر الاستراتيجي الأميركي «زبيغنيو بريجنسكي» من أبرز أيديولوجيي التنظير لسقوط الشيوعية السوفياتية. ومنذ وقت مبكر وفي الستينيات تحديداً ، وضع أطروحته الشهيرة حول عدم تلاؤم الشيوعية مع العصر.
كان بريجنسكي يقول إن تراجيديا الشيوعية كمنظور عالمي هي أنها جاءت قبل وقتها بزمن كبير، وبعد وقتها بزمن كبير، ويضيف: كان الوقت مبكراً جداً لكي تكون هذه الظاهرة مصدر أممية حقيقية، لأن الإنسانية لم تكد تستيقظ بعد لوعيها الذاتي بالقومية، ولأن الوسائل التقنية المحدودة للاتصالات لم تكن مستعدة لدعم منظور عالمي. ثم يوضح أطروحته فيقول «لقد جاءت متأخرة جداً بالنسبة إلى الغرب الصناعي، لأن القومية والمفاهيم الليبرالية حول إصلاح الدولة قد أجهضت جاذبيتها الإنسانية من خلال الدولة/الأمّة. وكانت مبكرة جدًا بالنسبة إلى الشرق ما قبل الصناعي، حيث لعبت دور المنبّه الأيديولوجي للجماهير النائمة، محركة فيهم قومية راديكالية متزايدة». ثم يخلص إلى القول:
«ولأن الشيوعية كانت متأخرة جداً في الغرب ومبكرة جداً في الشرق فقد وجدت فرصتها لا في الشرق ولا في الغرب، ولكن في موقع وسط هو روسيا. لذا يجب النظر إلى نجاحاتها وفشلها، وكذلك إلى طابعها الخاص، من محتوى الرباط المميّز ذو الخمسين عامًا، بين ما كان مفترضاً لأن يصبح عقيدة عالمية، وبين ما هو واقع قومي أوراسي متميز بدرجة عالية».(3)
لقد اشتغل بريجنسكي على الجانب الأيديو- ستراتيجي في سياق تنظيراته لسقوط الشيوعية. ولسوف يُستأنفُ هذا النوع من الاشتغال على مدار الحقبة التي تلت سقوط المعسكر الإشتراكي. وفي هذا السياق من الما بعد العالمي، لم تكن نهاية الحرب الباردة سوى خاتمة غير سعيدة لدورة حياة الدول/الأمم التي نشأت كنتيجة لحربين عالميتين استبدّتا بالنصف الأول من القرن العشرين.
ويشاء القدر أن يستأنف العالمُ دورته الجديدة على أنقاض الإتحاد السوفياتي بوصفه النموذج الأعلى والمتسامي للدولة/الأمة، والتي حوّلها شغف الامتداد والسيطرة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف. ولا بد من أن يكون لهذه المشيئة معناها الكبير، حيث سيتأسس على انهيار الشيوعية السوفياتية يقين أميركي هو أشبه بميتافيزيقا سياسية، مؤداها نهاية الزمن الذي كان الأشرار يزاحمون أميركا فيه على قيادة العالم.
في بداية التسعينيات بلغت حيوية التحويل والتجديد في الفلسفة السياسية الأميركية مرتبة وازنة. وكان أن استأنف لاهوت الغلبة والهيمنة دورته على نشأة أخرى، لعل من أهم خصائصها تكثيف هائل لثقافة سيطرة عمرها أكثر من خمسماية عام.
ميتا - ستراتيجيا اللاهوت الأميركي الجديد:
امتلأت السنوات الأولى التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، بتحولات أساسية في نظرة اللاهوت السياسي الأميركي إلى العالم. كان كل شيء في العقل الاستراتيجي الأميركي يُرتسم على ثنائية الخير المحض في مقابل الشر المحض. وتحددت معيارية التميّز والانتماء إلى أحد طرفي هذه الثنائية، بمقدار قرب وبعد الدول والشعوب والمجتمعات - من أو عن- المشروع الذي تقوده أميركا في العالم، وهو مشروع يُنظر إليه من جانب اللاهوت الأميركي على أنه مشروع رسالي يقصد إلى إعادة تأسيس الحضارة العالمية وإقامتها على هيئة الإرادة المؤسّسة وأحوالها.
خلال التسعينيات سادت نظريتان مركزيتان شكّلتا المتّكأ الأيديولوجي المتجدد للاّهوت الغلبة، نظرية «صدام الحضارات» ونظرية «نهاية التاريخ» للمفكرين الأميركيين صمويل هانتنغتون وفرانسيس فوكوياما. وربما فعلت هاتان النظريتان والمناقشات الفائضة حولهما فعلاً وازناً في التوظيف السياسي لمنطق الأمركة. لكنهما ستُستأنفان من جديد بعد زلزال الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ,2001 وسيظهر تنظير متجدد يجعلهما ضمن مزيج واحد بعد وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في البيت الأبيض.
سيعيد فوكوياما، بعد مراجعة درامية لنظريته، تنظيم الأيديو- ستراتيجيا الأميركية من خلال دمج النظريتين في وعاء فكري واحد، وسيعمد إلى إعادة إنتاج مقولته حول الصراع الأيديولوجي التاريخي ولكن ضمن إطار الصدام الحضاري. وفي مقالة له تحت عنوان: «هل بدأ التاريخ من جديد؟» اعتبر فوكوياما أن الحرب القائمة بين الولايات المتحدة الأميركية بوصفها ممثلة للحداثة، والديموقراطية الغربية، في مواجهة ما سمَّاه «الراديكالية الإسلامية»، تعيد تأكيد فرضيته حول نهاية التاريخ. فنهاية التاريخ لا تعني نهاية الحدث بل نهاية الجدل حول النموذج الأفضل أو المنتصر في نهاية التاريخ. وفي ما يدل على تعمُّد فوكوياما توظيف جهده النظري لخدمة السلوك السياسي للمحافظين الجدد، راح يعيد التأكيد على ما يمكن وصفه بـ «حقّانية الملحمة الأميركية». وهو ما انتهى حسب زعمه إلى نتيجة قوامها انتصار الديموقراطية الغربية واقتصاد السوق الرأسمالي بعد اختبار عدة نظم ونظريات، حيث أن الحداثة الغربية المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية والديمقراطيات النامية الأخرى تبقى ركناً أساسياً في السياسة العالمية، في حين ستستمر مبادئ الحرية والمساواة الغربية وقيمها بالانتشار في العالم. غير أن الوجه الأبرز في هذا التنظير هو الكلام على الخصم الأيديولوجي لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وهو ما سُمّي «الفاشية الإسلامية» »Islamo - Fascism« إذ أن هذا الخصم هو - بحسب مدعيه- وليد الراديكالية الإسلامية المتأتية من مشكلات مبدئية للإسلام مع الحداثة. إن هذا الكلام ليس جديداً بقدر ما يشكل تكراراً للمقولة الشائعة حول التحدي الذي يثيره الإسلام لقيم الحضارات الغربية. مع المحافظين الجدد بدت أميركا كمرآة مكتظة بالمفارقات. لا منطق للعالم من دونها، أو من دون أن يكون له بها صلة الربط، والشرط والإصغاء. في الفلسفة السياسية المملوءة عن آخرها بلاهوت الغلبة، سيغدو لأميركا الحق في أن تجمع المتفرِّق، وأن تفرّق المجتمِع، ثم لتستأنف الجَمْعَ والفِرقة حيثما شاءت لها عقيدة القضاء والقدر. لم تفصل الفلسفة السياسية الأميركية بين الديني والقومي، ولا بين أميركا وبقية العالم. كل شيء ضمن خريطتها الفكرية والأيديولوجية يتعيّن داخل الأوعية المتصلة المرصودة للاستثناء الأميركي. ولكن حين تبلغ الأيديولوجيا الأميركية أقصاها، سنرى كيف تحوّلت عمليات التوظيف إلى نشوء ما يسمى بـ «الدين الجديد» حيث يتوحد الدين مع القومية، وتتوثق هوية الاستيطان في ما يسمى أرض «إسرائيل الجديدة».
صار يُرى إلى نظرية « أميركا هي العالم، العالم هو أميركا» كأساس ميتافيزيقي للاهوت الغلبة. وليست هذه النظرية مجرد أطروحة للاستخدام الأيديولوجي. إنها على الحقيقة، الأيديولوجيا الأميركية في تمثلاتها القصوى. لذا فإن عالمية أميركا ستتحول إلى قضية عقائدية من قبل أن تكون شيئاً متعلقاً بالحاجة إلى الانتشار والتوسع والنفوذ الجيو- ستراتيجي.
ولقد ظهر بوضوح أن شعور أميركا بنفسها اليوم، هو شعورها نفسه يوم وضع مؤسسوها الأوائل مهمتها العظمى بما هي أمة مبعوثة للبشرية. كأن أميركا أمة لمّا تزل في طور التأسيس. من إبراهام لينكولن إلى جورج بوش، بدت الكلمات التي ترسلها إلى العالم، هي هي، وخطاب استعظام الذات هو نفسه، وكل الذين اعتمروا البيت الأبيض من المحافظين والديموقراطيين ما كان لهم أن يفارقوا تلك اللغة التي لا ترى إلى العالمين إلا كـ «أغيار» لا سبيل لهم إلى نعمة الخلاص. لقد استطال هذا الشعور إلى درجة أن كثيرين راحوا يستعيدون كلمات الكاتب الأميركي هيرمان ملفيل التي رفعته بارانويا الاستعلاء والقوة وتقديس الدماء إلى حد الجنون: «لا تستطيع إراقة قطرة واحدة من الدم الأميركي من دون أن يُراق دمُ العالم كله. دمُنا نحن أشبه بطوفان الأمازون. إنه دمٌ مؤلف من مئات التيارات النبيلة المترافدة في مجرى واحد .. نحن لسنا أمة، بمقدار ما نحن عالم. فما لم نكن قادرين على أن نزعم أن العالم كله هو لأبينا وسيدنا، مثل ملك إبراهيم، يبقى نَسَبُنا ضائعًا في الأبوة الكونية الشاملة».
على هذه الروح تتكئ العقيدة السياسية الأميركية . وذلك ما لا يخشى إظهاره إلى العلن كل الذين يضيفون على الثقافة السياسية جريمة زائدة من الغيب أولئك الذين يبتغون مخاطبتهم انطلاقًا من روح رسولية يشترك فيها السياسي والديني من دون تفاوت. فلو قرأنا وثيقة ماي فلاور لعام ,1920 لرأينا كيف شبّه أول حاكم لبوسطن مدينته بالقدس الجديدة، ما يكشف مرة أخرى عن اللاهوت التوراتي المؤسس للثقافة الأميركية عبر التاريخ.
بعد قرون سينكشف الخطاب الأميركي عن رسولية مزعومة لا تفاجئ أحداً، إذ على الأميركيين (كما صرّح أحد الشيوخ، وهو جس هلمز، في الكونغرس العام 1996 ) «حمل مشعل الأخلاق السياسي والعسكري في قانون القوة، كما عليهم أن يصبحوا قدوة للشعوب».
لقد بدأت أميركا بالأيديولوجيا لتؤسس الدولة بالفكرة، ولتحيي فكرة الأمة بالعقيدة. حتى جورج بوش الذي دخل مغامرته الكبرى ليخوض حربين عالميتين بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر سوف يحفر في سر الإشكال ويقول: «لا يوجد عرق أميركي بل توجد عقيدة أميركية فقط».
كثيرون من مؤرخي سياسة أميركا الخارجية حلَّلوا المسارات الأخلاقية لهذا البلد، فأدرجوا هذا الدور ضمن استمرارية الهيمنة. وحين دخلت الولايات المتحدة مع العولمة زمناً آخر، كان عليها أن تتهيأ لعالم راح يتحول إلى منطقة فراغ. كان عليها أن تملأ مثل هذا الفراغ بأي ثمن، حتى لا تغدو هي نفسها تائهة في فضاء العدم. لكنها، وهي تفعل ذلك، ما لبثت أن امتلأت بعالم يكتظ بفوضاه، ويمنحها أعداء أخذت تؤسس على عداوتهم المفترضة زمنها الجديد.(4)
لنرَ الآن كيف تعاملت الميتافيزيقا السياسية الأميركية مع الجغرافيا الإسلامية في الشرق الأوسط، ولا سيما حيال قضية عالية الحساسية كالقضية النووية.
القضية النووية بما هي صدمة حضارية:
عقد صانعو الاستراتيجيات الأميركية في الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، الرهان على إمكان «التحريك الخلاّق» لما سمي بـ «نظرية الدومينو الإيجابية». وكان واضحاً أن إيران اندرجت منذ ما قبل وصول المحافظين الأميركيين الجدد إلى السلطة، ضمن ما أطلقوا عليه « محور الشر». حتى إذا بلغت الميتا- ستراتيجيا الأميركية ذروتها مطلع القرن الواحد والعشرين، وجد المحافظون الجدد أن زمناً آخر حلّ على الشرق الأوسط باحتلال أفغانستان والعراق، وبنوا عقيدتهم العسكرية والأمنية والسياسية على قاعدة ما قرروه من أن من علامات هذا الزمن أن يفضي إلى إطلاق الموجة الديموقراطية القصوى لتكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الجدار التالي الكبير الذي ينبغي أن يسقط في إطار نظرية الدومينو سالفة الذكر.
كانت الولايات المتحدة الأميركية تدرك أنها تقوم بعمل تأسيسي وهي تسعى لإنجاز مهمة احتواء الشرق الأوسط الجديد. وعلى هذا الأساس كتبت على نفسها ألاّ تدع آلية من آليات الاحتواء إلا وتأخذ بها، من الضغط السياسي، إلى الحصار والعقوبات الاقتصادية فضلاً عن تحشيد الجيوش والأساطيل الحربية، وصولاً إلى الإحتلال المباشر.
يمكن القول إن اللحظة النووية كانت البداية الفعلية لبلوغ الحرب الباردة الإيرانية - الأميركية نقطة الذروة. والمسألة المهمة هنا هي أن هذه الحرب أخذت تنمو وتتطور في لحظة تحول استراتيجي في الداخل الإيراني بلغت فيه العقيدة السياسية مرتبة متقدمة من التماسك والتجانس والانسجام. وسيكون لهذا التحول أثره الكبير في التعاطي مع ملف في غاية الأهمية والخطورة كالملف النووي.
لقد أسفرت عملية انتقال السلطة التي أعقبت حكم الرئيس السابق محمد خاتمي ضرباً من إعادة توحيد ومركزة القرار الاستراتيجي. وكان ذلك واضحاً بعد أن استنقعت البلاد في نوع من ازدواجية السلطة بين الإصلاحيين والمحافظين سحابة ولايتين كاملتين من عهد خاتمي. حتى أن بعض الذين عاينوا صعود الرئيس محمود أحمدي نجاد لم يترددوا في ملاحظة أن تحولاً غير عادي قد حدث بعد نحو ثلث قرن على الثورة. وقالوا: إنها عودة النظام بدولته، وقدرته، وعقيدته السياسية إلى سيرته الأولى. وقالوا إنها ثورة احترازية على بوادر وهنٍ كان ينذر بثورة مضادة على أصول وأهداف روح النشأة الأولى. ومن قراءة لما قيل في هذا الصدد نستطيع أن نقول إن تحصيل هذه الثورة الاحترازية بدا أشبه بإجراء استراتيجي مثلث المقاصد:
- المقصد الأول: ثورة على الوهن وسوء الإدارة والفوضى وتوزيع الثروة.
- المقصد الثاني: ثورة على الجمود الذي كان سيضيِّع حق إيران في أن تتحول إلى دولة إقليمية عظمى.
- المقصد الثالث: ثورة على التحديات الخارجية التي بدا أن من علاماتها الكبرى، إحتواء أي إمكانية ومنعها لتحقيق مكانة إيران الجيو- ستراتيجية في المنطقة والعالم.
لقد استطاعت هذه المقاصد التي ستدخل في ما يمكن أن نطلق عليه «الميتا- ستراتيجيا الإيرانية الجديدة» أن تجعل من الملف النووي لحظة احتدام حضارية بامتياز، لا أن يكون مجرد ملف عارض في سياق الصراع الدولي العام، أو كجزء تفصيلي في حركة تشكّل النظام الإقليمي الأمني والاقتصادي السياسي في الشرق الأوسط.
ومن خلال الالتقاء والمصالحة بين مثلث الفكر، والعقيدة، والاستراتيجيات السياسية، أفلح الطور الميتا- ستراتيجي الإيراني الإسلامي الجديد في الجمع بين عوامل القدرة ووحدة القرار، وتحقيق الإجماع القومي. وفي الممارسة السياسية التي أطلقها وسدّدها مثل هذا «الجمع» كان ثمة عاملان يؤسسان لهذه الممارسة:
. العامل الأول: ويقوم على عقلانية توظيف الوقت...
. العامل الثاني: ويقوم في المقابل وبالتوازي - على عقلانية الاعتصام بالمنطقة الوسطى...
وهذان عاملان يرتبطان ويتكاملان معاً في سيرية الممارسة الإجمالية للسياسات الجيو- ستراتيجية بعد احتلال أفغانستان والعراق، وما ترتّب على ذلك من نشوء خطوط تماس مباشرة أمنية وعسكرية وسياسية مع الولايات المتحدة الأميركية.
لعل قراءة داخلية معمقة لمؤديّات العاملين المذكورين سوف تحملنا الى ما يأتي:
- مؤدىّ العامل الأول: إن الميتا- ستراتيجيا الإيرانية الجديدة استطاعت القبض على عامل الزمن قبضاً مرناً، فلم تفصل بين دبلوماسية التفاصيل واستراتيجيات الأمن القومي، بل هي راحت تقيم لكل تفصيل وزناً ما، سواء كان ذلك على خط الهجوم والتقدم، أو كان على خط التراجع والدفاع السلبي. إن وظيفة الفكر، كما يقال، تتضاعف عندما تبلغ الأوضاع حافة الهاوية بين السلام والحرب. وفي النهاية فإن التمييز بين الوسائل المقبولة والممنوعة في الحرب يفترض حكمة متعالية. ذلك أن علم الأخلاق- كما يقول باسكال - يتغير تغيراً كبيراً وفق الإيمان بخلود الروح أو فنائها.
-مؤدىّ العامل الثاني: وهو تمكنها (أي الميتا- ستراتيجيا) من إنشاء منطقة معرفية يمتزج فيها النظر بالتجربة. وخلافًا لما يشاع عن حقبة أحمدي نجاد من أنّها حقبة التطرف الإيراني، فهي في الواقع، قد تكون أكثر أحقاب ما بعد الثورة جمعًا بين روح النص الديني وروح التجربة السياسية اليومية بأدق تفاصيلها. كان الاستراتيجيون يقولون إن أضمن شكل من أشكال العمل والحكمة التي يمكن إدراكها وتصورها، وأكثرها فاعلية للانتصار على المدى الطويل، هو عمل الرجل الذي يقول الحقيقة من دون لفٍ أو دوران أو قيود أو تحفظات، وإن على القائد أن يكون استراتيجياً وفيلسوفاً في الوقت نفسه، ولكن عليه ألا يضحي بالحقيقة على مذبح تسيير الأمور ومن دون فائدة مجدية للمصلحة العامة. ذلك أن كل من اعتاد إخفاء الحقيقة بغية تسهيل العمل الفوري إنتهى إلى فقدان قوة تفكيره وسلامته.
هنا يتمظهر التأسيس السياسي للميتا- ستراتيجيا الإسلامية الإيرانية. ويتحصَّل هذا -كما سنرى- من خلال اجتماع أركان القرار في وعاء واحد: الولي الفقيه، ومجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس الشورى، والحكومة. ولسوف نجد في تنظيرات الفكر الاستراتيجي الإيراني ارتباطاً لا ينفصم بين الشريعة والسياسة. لكن شرط واجبية هذا الارتباط ألا يؤدي في مجال الممارسة إلى الوقوع في داء الماكيافيليّة. فالغاية وفق سَيْريّة هذا الحقل المعرفي السياسي المتحد بالغيب، لا تسوِّغ الوسيلة إذا كانت الوسيلة غير مطابقة لسموِّ الغاية ومشروعيتها. في الميتا-ستراتيجيا الإسلامية الجديدة ثمة مسعى إلى ضربٍ من توازن ومطابقة بين الغاية ووسائل تحقيق هذه الغاية، سواء تعلق الأمر بالسياسات الخارجية وخطوط التواصل والتفاصُل في الجيولوليتيكا الإقليمية والدولية، أو ما يتعلق بوسائل الاحتفاظ بالنظام الإسلامي.
وإذاً، ما هي الخريطة الإجمالية للرؤية التي يمكن تأسيسها بناءً على ما تقدّم؟
ربما وسِعنا القول إن المواجهة الأميركية الإيرانية تنتمي إلى مساحة مواجهة حضارية . ويجوز الكلام أيضًا على أنها مواجهة فكرية وأيديولوجية وثقافية بالمعنى التام للكلمات، بل هي مواجهة يدخل فيها نمو المعرفة بكل أحيازها دخولاً بيِّناً. في ميدان المواجهة هذا تتدخل الأفكار في أبعادها ومقاصدها الثقافية والدينية في قلب المعادلات، ولتقيم واقع الحال الذي كان يقوِّم تلك المعادلات على نصاب آخر. إن عملية الاتصال الوثيق بين العقيدة الدينية والاستراتيجيا هي عملية تنمو وتتجلى وتتكامل في سياق تفعيل حركية المتعالي السياسي والثقافي لدى كل من الجهتين المتواجهتين. ولئن كانت الميتا-ستراتيجيا الأميركية مقيّدة في الغالب بالفلسفة البراغماتية التي توظف المقدس والمتعالي لمصلحة الربح وحركة رأس المال، تظهر الميتا- ستراتيجيا الإسلامية من خلال نموذجها الإيراني في ما يشبه المعادلة المقلوبة. فالمقدس هنا هو محور الميتا- ستراتيجيا ومركزها. ولقد بدا بوضوح أن حضورية ولاية الفقيه في نظم الحراك الإجمالي للدولة والمجتمع لا تني تعيد إنتاج الخمينية بامتداد لافت. سوى أن ما يمنح مزيّة استثنائية للميتا- ستراتيجيا عمومًا، بما هي حاصل عمليات التفعيل هذه، أنها سلاح لا متناه. لكن استخدام هذا السلاح بهذه الصفة لا يدل على أن الحرب التي تخاض بواسطته هي حرب موت أو حياة لا رجعة عنها.
الأهم في هذا السلاح اللاَّمتناهي أنه يستخدم من أجل بلوغ اللامتناهي في المواجهة، أي إلى خلق الوقائع والموازين وخطوط التكافؤ المؤدية إلى تسوية ليس بالضرورة أن تدرك تعيّناتها التفصيلية بصورة مسبقة.
وعلى ما يبيّن المفكرون في الاستراتيجيات العليا، فإن الفكر بشكله المتكامل، لا يأخذ بالاعتبار الأسباب فقط، بل الغايات أيضًا. وهو لا يهتم فقط بالوسائل التي تخاض الحروب أو الثورات بواسطتها، ولكنه يهتم أيضاً بالسبب الذي نخوض الحرب من أجله، لذا فمن الخطأ التفكير بهذه الأمور عن طريق وضع أقواس حول المعضلات النهائية التي تشكل مسائل الغايات. ومن الواضح- كما يلاحظ هؤلاء- أن الحروب والثورات تنشأ في آخر المطاف من تفكير المحاربين، أو الثوار بالمعنى النهائي للإنسان، والحياة والموت، وما بعد الموت، والله، ومن البديهي ألا تكون ردود فعل الشعب المتطبع بالفكر اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي كردود فعل شعب ملحد يهتم بتنظيم الحياة الدنيوية وحسب. وفي النهاية، فإن التمييز بين الوسائل المقبولة والوسائل الممنوعة في الحرب، واستخدام المفاجأة، والخداع وخرق التعهدات، كل هذا يفترض- كما يقول الإستراتيجي الفرنسي جون غيتون- فلسفة لما وراء الطبيعة.(5)
بدت الرؤية الإيرانية في تعاطيها مع الحملة الغربية/الأميركية حيال مشروعها النووي السلمي، متسقة مع الرؤية الإجمالية لموقعية الميتا-ستراتيجيا المفترضة في تنظيرات المشروع الحضاري الإيراني الإسلامي العام.
وفي وقائع المواقف ومفاعيلها، وخلفياتها ما يكشف مغزى المقاصد التي تدفع بقوة نحو تشدد الغرب والولايات المتحدة الأميركية حيال الملف النووي. في هذا الخصوص يقول الخبراء الإيرانيون إن سلوك السياسة الخارجية لأميركا يُظهر أن واشنطن عملت في شكل منفرد في النزاعات السابقة كافة من أجل تأمين التفوق الأميركي. وهناك أمثلة كثيرة ابتداءً من أفغانستان والبوسنة وكوسوفو إلى العراق. ولسوء الحظ، فإن النظرية الأحادية الجانب للولايات المتحدة أضحت ذات صلة بشرعية وأفعال الدول، وقد عبّر وزير خارجية أميركا عن هذه الصلة عندما أشار إلى حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية، غير أن إيران- حسب مدَّعاه- لا تمتلك الشرعية لتنفيذ هذا الحق. إلا أن الموقف الأميركي هذا هو أبرز مثال على سياسة الهيمنة الحديثة. وثمة يقين لدى القيادة الإيرانية أنه في ظل نظام الهيمنة اتبعت الولايات المتحدة سياسة ثابتة بمنع إيران من التحول إلى قوة رئيسة من جهة وإلى قوة إقليمية من جهة أخرى. (6)
من هذا المنظار، فإن أي محاولة من جانب إيران لزيادة قوتها القومية سينجم عنها عواقب سلبية على موقع أميركا السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط. إن مثل هذه المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران تعكس حقيقة أن لدى إيران القدرة لكي تصبح موازناً إقليمياً يمتلك خصائص تزعج التفوق الأميركي. من هنا، تتمسك واشنطن بسياسة منع الدول غير السائرة في ركابها من امتلاك وسائل القوة، تلك الدول التي تختار تحديد مجالاتها السياسية والأمنية الخاصة بها. ويبدو في هذا السياق أن الهدف النهائي في الشرق الأوسط هو التأكد من عدم إمكانية تشكل قوى مماثلة لقوة إسرائيل. ذلك أن تعاظم قوة إيران خارج المظلة الأميركية سيرفع من الأكلاف التي تدفعها واشنطن، كما أن هذا التعاظم سيقوّض هدف أميركا في تطبيق نظرية تغيير النظام في إيران. وفي سياق مساجلته لمنطق التعاطي الأميركي، يقول كبير المفاوضين في الملف النووي وعضو مجلس الأمن القومي د. علي لاريجاني:
إن الجمهورية الإسلامية في إيران لا تُدار طبقاً للرغبات والأولويات الأميركية، أو وفقاً لمنطق الأمركة، حسب تعبير هايدغر، وإنما سعياً نحو منطق جديد للحياة الاجتماعية. كان متوقعاً أن تتجه الوحدانية الأميركية نحو الممارسة فحسب وليس نحو استكشاف الحقيقة، ولكن التفرُّد أصبح اليوم الأساس الأيديولوجي للمحافظين الجدد الأميركيين. بهذا المعنى يمكن فهم حقيقة تفكير الفيلسوف الألماني هايدغر الذي يؤكد وجود ثلاث حيويات سياسية يمكن تصورها كأشكال نهائية للحداثة: الأمركة، والماركسية، والنازية. وحسب رأي هايدغر فإن الأشكال الثلاثة هذه هي تنويعات مختلفة للعدمية، ومن منظار ميتافيزيقي، فإن هذه الأشكال المختلفة هي الشيء ذاته. إنها سلطة الدولة الدكتاتورية على المجال الخاص حيث المظاهر التكنولوجية تسيطر على المظاهر الروحية. علاوة على ذلك، يبين هايدغر أن الأمركة ليست الليبرالية والديمقراطية، وإنما هي شكل من الوضعية المنطقية التي تسيطر على الحياة الإنسانية عبر الإقتصاد والصناعة. ولهذا السبب أصبح الإنسان «متشرداً».ء ويضيف لاريجاني عارضاً إلى رؤية هايدغر في هذا الميدان فينقل عنه قوله إن التكنولوجيا جلبت للجنس البشري التشرد وفقدان الإتجاه، وهذه سمة للتكنولوجيا الغربية. وعلى الرغم من أن هايدغر يمتدح التكنولوجيا ويعتبرها قدر الإنسان التاريخي، إلا انه يعتقد بأن تناسب المجتمعات الشرقية مع التكنولوجيا الغربية يكمن في جوهرها الإنساني. أي أن على الشرقيين تبني التكنولوجيا بنظرتهم الإنسانية، وأن يقولوا نعم للتكنولوجيا بعد أن يقولوا لا للتشرد. ينبغي عليهم أن يركزوا على الكرامة الإنسانية أولاً، وأن لا يؤخذوا كثيرًا بجاذبية التكنولوجيا. هذا هو طريق الجمهورية الإسلامية في إيران- كما يبيّن لاريجاني- وهو الطريق الذي يفضي إلى المقاربة التي تسعى لمقاربة الغرب انطلاقاً من انتماء وعاطفة إسلاميتين. (7)
. إيران وإسلام ما بعد الحداثة:
في خريف العام 1978م، سافر ميشيل فوكو إلى إيران لصالح صحيفة «كورير ديلا سيرا» ليكتب عن المظاهرات الشعبية المتزايدة ضد نظام محمد رضا بهلوي. ولم يكن فوكو المعروف بتحليلاته النظرية للإتجاهات الأوروبية نحو الجنون والمستشفيات والسجون يعرف إلا القليل- باعترافه هو- عن التاريخ الفارسي أو الإسلامي، كما أنه لم يعمل كصحفي من قبل، إلا أنه قال عبارته التالية: « لا بدَّ أن تتواجد حينما تولد الأفكار».(8)
وفي إيران حيث بدأ ملايين المتظاهرين كأنما جمعت بين قلوبهم كراهيتهم للشاه الذي تدعمه أميركا وإعجابهم بآية الله الخميني، ذكر فوكو أنه رأى شكلاً جديدًا من أشكال «الروحانية السياسية» فكتب بإعجاب عن كيفية تحريك «آية الله العظمى شعباً بكامله ليخرج إلى الشارع» معبرين عن إرادة شعبية واحدة تماماً، كما ادعى أنه شاهد «أول تمرد كبير ضد النظم العالمية»، واصفاً إياه إنه «أكثر أشكال التمرد حداثة وجنوناً».
استطاع فوكو أن يدرك أيضاً كيف استخدم المسلمون في ظل غياب أي سياسة ديموقراطية مفاهيم الفداء والشهادة الإسلامية لمقاومة الحكام المستبدين والفاسدين الذين حصلوا على الشرعية في الغرب باعتبارهم من دعاة التحديث والعلمانية.
واستطاع أيضاً أن يصل إلى نتيجة مؤداها أنه من غير المحتمل أن تقتصر هذه المقاومة الإسلامية على إيران. كان الغرب ينظر إلى التحديث للمجتمعات الإسلامية منذ بدأ في فرض السيطرة عليها في القرن التاسع عشر. إلا أن هذه العملية التي تقودها الآن النخب المستغربة ما بعد الكولونيالية لاقتلاع الشعوب وإجبارها على العيش في مدن والعمل في وظائف على الطراز الغربي، يحتمل أن تؤدي إلى المزيد من المتحولين إلى الإسلام السياسي. ولهذا السبب رأى فوكو أن «الإسلام- الذي ليس هو مجرد دين بل أسلوب حياة متكامل وولاء لتاريخ وحضارة- يحتمل أن يتحول إلى برميل هائل من البارود على مستوى مئات الملايين من البشر».
هذه القراءة لواحد من أبرز فلاسفة الغرب في القرن العشرين، ليست مجرد توصيف لمشهد عارض في جغرافيا إسلامية شرق أوسطية، إنما هي تفصح عن واحد من أبرز مستويات اشتغال عقل الغرب على رؤية حراك الإسلام وإسهامه في تشكيل نظام القيم العالمي.
في الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم يشهد ميدان تحريك سؤال ما بعد الحداثة نقاشاً واسعاً حول ما يسميه المفكرون بـ « الديموقراطية الدينية». ومنهم من ذهب إلى التساؤل عن الكيفية التي استطاع المشروع الإيراني الإسلامي من خلالها، التأثير في منطق النظام الدولي الآحادي، ووضع التحدّيات أمام الفلسفة السياسية الغربية ونموذجها المهيمن في هذا المجال.
يقول كثيرون من المثقفين الإيرانيين إن فكرة « الديموقراطية الدينية»، أو ما يصطلح عليها بـ « الديموقراطية الإسلامية» ومسألة التوفيق بين «الجمهورية» و«الإسلامية» شكلتا معاً مشروعاً جديداً يساهم في خلط الأوراق ضمن دائرة التصنيف التقليدي المتّبع في عالم الفلسفة السياسية.
الجانب المهمّ في الفلسفة السياسية المعاصرة للمشروع الإسلامي الحديث الذي طرحه الإمام الخميني، هو تفكيك مفهوم المشروعية من خلال تقسيم حق الحاكمية إلى قسمين: مساوٍ وغير مساوٍ، بين الله والشعب. وبعبارة أخرى، الحيلولة دون وضع مفهومي «الجمهورية»
و «الإسلامية» في موازاة بعضهما، حتى لا يتم اللجوء بعد ذلك إلى عقد نوع من المصالحة الاضطرارية والبراغماتية أو الواقعية بينهما، بل ينبغي اعتبار أن حق الشعب هو فرع منبثق عن حق الله، وأنّ الجمهورية قالب وإطار لإعمال حاكمية الله وتنجيزها، على نحو لا يمكن معه تفريغ مفهومي الجمهورية والديموقراطية من مضامينهما وأهدافهما الإسلامية، أو فصلهما عن المشروعية الدينية، حتى لا يصار بعد ذلك إلى تصوير الأمر وكأنّ ثمّة مواجهة بين هذين المفهومين وبين الدين.
ومن التنظيرات البارزة في هذا المجال يقول: « إنّنا إذا وضعنا حاكمية الشعب في ترتيب عمودي بعد حاكمية الله، ففي هذه الحالة سنقف على مزايا الديموقراطية والثيوقراطية في آن معاً. وسيتيسّر الكشف حينذاك عن نقاط الضعف في هذين النموذجين التقليديّين للغرب، لنقوم في نهاية المطاف بتداركهما وتجنّبهما، دون أن نُستدرج إلى خلق تركيب اصطناعي هجين من الديموقراطية والثيوقراطية».
إنّ الديموقراطية الإسلامية - بحسب هذا التنظير - تنطوي على المزايا الإيجابية التي تحملها الديموقراطية دون أن تبتلى بالأمراض التي ابتليت بها الديموقراطية الغربية، وهذه المزايا هي: حقّ الانتخاب للشعب، الرقابة على الحكّام، الأخذ بنظر الاعتبار رضا العامة، القبول بمبدأ الانتقال السلمي غير العنيف للسلطة. (9)
في المقابل الغربي هناك من لا ينفك يرى إلى التجربة الإسلامية الإيرانية بوصف كونها تنتمي إلى الوجه السلبي للظاهرة الأصولية الإسلامية المعاصرة. لكن كثيرين من المفكرين الغربيين المعاصرين لا يُنظر إلى أصولية العالم الإسلامي، والتي تندرج الثورة ودولة الثورة في إيران في طليعتها، على أنها مجرد تقليد موروث من الماضي، وإنما هي حالة متحركة وفاعلة في صميم الزمن العالمي الجديد. وهي بهذه المنزلة ظاهرة تنتمي إلى ما بعد الحداثة كما يقول المفكر الإنكليزي كورتز، ذلك أنها رد الفعل الأيديولوجي الحتمي على إخفاق عملية التحديث الغربية. (10)
ثمة في الغرب اليوم من يخالف ما يذهب إليه التوظيف الأيديولوجي الذي يحكم على الإسلام السياسي بأصنافه المختلفة «الأصولي، والسلفي، والاعتدالي»، بأنه إسلام معادٍ للحداثة والعصر والمستقبل.
وحين يجري النقاش داخل مراكز أبحاث المستقبليات في أميركا وأوروبا، غالباً ما يُقال أنه لا يجوز فهم الأشكال الراهنة للأصولية الإسلامية على أنها نوع من العودة إلى صيغ وقيم اجتماعية غابرة، حتى من منظور الممارسين، أي من الأصوليين أنفسهم. ولا يتأخر نقادٌ كُثُر من العاملين في حقل إنتاج الأفكار في الغرب عن نقد وسائل الإعلام التي تخطئ حين تجعل من عبارة «الأصولية» مادة تختزل مختلف التشكيلات الإجتماعية المنضوية تحت ذلك الاسم، وتشير حصراً إلى الأصولية الإسلامية، التي يجري اختزال تعقيدها، هي الأخرى، إلى تعصّب ديني إرهابي متشدد لا يعرف معنى التسامح. لكن المسألة لا تتوقف عند وسائل الإعلام التي هي أداة تعبير لسلطة القرار الأيديولوجي والإستراتيجي في الغرب . فهذه السلطة تواصل إنتاج وصناعة مناخات ثقافية ترى إلى كل ظاهرة إسلامية ممانعة، أياً كانت خلفياتها وممارستها ومواقعها، بوصفها تجسيداً لمعاداة الحداثة، وبوصفها قوى ساعية بدأب نحو قلب مسار عملية التحديث الاجتماعي رأساً على عقب . وكذلك بما هي قوة إرجاعية تعمل على تحقيق الانفصال عن تيارات الحداثة العالمية المتدفقة على إعادة تركيب عالم ينتمي إلى زمن ما قبل الحداثة . ومن هذا المنظور بالذات تنظر الأيديو- ستراتيجيا الحاكمة في الغرب إلى الثورة والدولة في إيران على أنها ثورة مضادة تبعث الروح في نظام قديم. (11)
في مقابل هذا التوصيف السلبي للثورة الإسلامية في إيران وللإسلام عمومًا، أو لما يمكن تسميته بـ «إسلام الميدان»(12). ثمة من النخب في الغرب من يرى إلى الصورة بطريقة مغايرة. وتبلغ هذه النظرة مستوى من النظر يفضي إلى أن من غير الممكن أن يتم فهم مشروع الأصوليات، بوصفه مشروعاً ينتمي إلى ما قبل الحداثة، بل باعتباره مشروعاً عائداً لما بعد الحداثة. ويلاحظ أصحاب هذه الرؤية أنه لا بد من رؤية «ما بعد حداثية الأصولية» بالدرجة الأولى من خلال رفضها للحداثة في كونها سلاحاً ضد الهيمنة اليورو- أميركية. ففي سياق التقاليد الإسلامية تعتبر الأصولية حالة«ما بعد حداثية» بمقدار ما ترفض تراث الحداثة الإسلامية الذي كانت الحداثة بالنسبة إليه ذوباناً مبالغاً به في البوتقة اليورو - أميركية أو خضوعاً كاملاً لها.
بل إن ثمة من يقول كلاماً تبدو معادلته مثيرة للإشكال والتأمل حين يقرر، أنه إذا كانت الحداثة تعني السعي لاكتساب تعليم الغرب وتكنولوجيته في خلال الإندفاعة الأولى من مرحلة ما بعد الكولونيالية(الاستعمار التقليدي)، فإن من شأن ما بعد الحداثة أن يعني عودة إلى القيم الإسلامية التقليدية ورفضاً للحداثة (13).
وهكذا فمن المؤكد أن شرائح قوية من المسلمين كانت «معادية للغرب» بمعنى من المعاني منذ بدايات الإستعمار، غير أن ما هو جديد في صحوة الأصولية الراهنة ليس في الحقيقة إلا رفض القوى المنبثقة في ظل النظام الإمبراطوري الجديد. ونستطيع وفقًا لهذا المنظور، أن نعتبر الثورة الإيرانية - كما يقول ناقدو ليبرالية ما بعد الحداثة - بمقدار ما، كانت أولى ثورات ما بعد الحداثة (14) .تعمل النخب الإيرانية على مختلف إجتهاداتها الفكرية والأيديولوجية والسياسية على قاعده أن العالم اليورو - أميركي يتعامل مع المنجز النووي لبلادهم بوصف كونه مضارعًا حضاريًا بامتياز. لذا يتعامل هذا العالم مع القضية النووية الإيرانية بما يتعدى الإطار التقليدي في أسلوب مواجهة مع دولة ذات طموح سيادي وتنتمي إلى دول العالم الثالث. إنه تعامل ينطلق من ثابتة ميتا- ستراتيجية تسعى، على ما يفصح الإيرانيون، إلى إحباط احتمال حضاري قد يعيد قلب وتبديل صورة التقسيم الحضاري العالمي، الذي أرست الحداثة الغربية الإستعمارية قواعده منذ أواخر القرن التاسع عشر.
وفي المجال النووي على وجه خاص، يدرك الغرب مثلما تدرك إيران أن تطور هذا النوع من التكنولوجيا، وتمركزه في المجال اليورو- أميركي أدى إلى تقييد سيادة أكثرية بلدان العالم، بمقدار ما أفضى إلى حرمانها من اتخاذ قرارات الحرب والسلم. وهي عناصر التحديد الكلاسيكي لمعنى السيادة، أضف إلى ذلك أن وضعية التهديد النهائي المتمثل بالقنبلة التي امتلكتها إمبراطوريات الغرب أدت إلى اختزال جميع الحروب وحوّلتها إلى منازعات محدودة ومضبوطة بإحكام، وفقًا لمصالحها، وكذلك إلى حروب أهلية وعرقية مفتوحة.
ثمة إذاً، ما يتعدى السجال اليومي التقليدي حول ملف راهن كالملف النووي الإيراني. جوهر القضية يمكث في الطبقات الأكثر عمقاً من الصدام بين الثقافات والحضارات. انه يمكث فعليًا في حقل الإحتدام والتفاعل التي يرفدها تكامل وتمازج واتحاد السياسة بالغيب، والغيب بالسياسة. إنّه بمعنى ما احتدامٌ تحلّ فيه ''الميتافيزيقا'' حلولاً وازناً في حقل الصراعات.
إذا كانت فلسفة ما وراء الطبيعة «الميتافيزيقا» هي الجزء العلوي من الفكر، فإن ما يقابلها في مجال العمل هو الإستراتيجية. وفي هذا المعنى فإن كل القضايا الإستراتيجية سوف تفضي إلى الميتافيزيقا- على ما يبين فيلسوف الحرب الفرنسي جون غيتون - ذلك لأن الفعل النووي يتوقف على فعالية مفهوم ميتافيزيقي وليس على مؤثرات مفهوم سياسي (...) ومن هنا أمكن الكلام على امتزاج اللحظة النووية باللحظة الحضارية. وعلى أن الاحتدام بين إيران الإسلامية والغرب المستظل باللاهوتين اليهودي- المسيحي هو احتدام بين احتمال حضاري نهضوي مفتوح على النجاح وبين سعي هائل الجبروت لمنعه وإحباطه.
يجمع المفكرون والخبراء الإيرانيون على أن بلادهم الآن أمام منعطف حضاري كبير ويقولون: ''إننا في مستهل اللحظة التي تحتدم فيها طموحاتنا الحضارية مع طموحات الغرب''. لذا فإن السعي إلى خرق جدار التأخر، يشكل أحد العناوين الكبرى لصدام الحضارات. وهو صدام لم يعد مجرد أطروحة نظرية قدمها المفكر الأميركي صمويل هانتنغتون على سبيل النقاش المجرد، وإنّما هي مقولة واقعية تروح تحفر مسارها الفعلي في تضاعيف العقود المقبلة من القرن العالمي الجديد.
هوامش و مراجع:
1- من خطاب الإعلامي الأميركي بل مويرز بعد تسلمه الجائزة السنوية في كلية هارفرد للطب في 1/12/2004 .أنظر موقع: 3(www.commondreams.com)
-2 مصطلح أطلقه المفكر والإستراتيجي الفرنسي جون غيتون وقصدَ به مرتبة عليا من الإستراتيجية يكون فيها للعامل والتفكير الميتافيزيقي حضور فعال في تقرير اتجاهات الأحداث السياسية الكبرى. وقد تبلور هذا المصطلح في كتاب جون غيتون الشهير''الفكر والحرب'' عندما كان يتحدث حصرًا عن الخيار النووي واللحظة التي تلجأ فيها الدول الى التهديد بالسلاح اللامتناهي.(الكاتب)
3-بريجنسكي، بين عصرين - أميركا والعصر التكنوتروني، ترجمة محجوب عمر، دار الطليعة، بيروت ص: 133 .
4-راجع: محمود حيدر- أميركا المسحورة بنفسها- «مدارات غربية» العدد السابع-صيف .2005
5-راجع: جون غيتون ـ الفكر والحرب ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1988 ـ ص:. 11 .
6-علي لاريجاني- محاضرة ألقيت في 27 تشرين الأول /أكتوبر 2005 في مركز الدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط في طهران- أنظر ''شؤون الأوسط'' العدد 121 شتاء 2006- نقله عن الإنكليزية جبور سمعان.
7-لاريجاني- المصدر نفسه.
8-بانكاج ميشرا- لماذا لا يفهموننا؟! ''وجهات نظر''- العدد الرابع والثمانون- كانون الثاني/ يناير 2006- ترجمة علاء الدين محمود.
9- رحيم بور أزغدي- أطروحات الديموقراطية الدينية في فكر الإمام الخميني. محاضرة ألقيت في المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في بيروت في 12/6/.2006
10- Life primordiallism in modernity at.Large minneaposi 1996 - pp.139 - 157
11-انظر: مايكل هاردت وانطونيو نيغري: الإمبراطورية ـ منشورات مكتبة العبيكان 2004 -الرياض -ص.227
12-مايكل هاردت وانطونيو نيغري ـ المصدر نفسه، ص: 228 .
31 13-Akbar Ahmad, postmodernism andIslam (New York): Routedge, 1992, P136.
14-راجع: انطونيو نيغري ومايكل هاردت، الإمبراطورية ـ ص: 229.
Transformation of the nuclear issue between the United States and Iran :The clash of higher strategies
Article written by the researcher attempts at first to shed light on what he calls “the higher strategies of Iran from one side and the United States and the west from the opposite side wondering about the backgrounds of the United States’ rejection concerning the Iranian peaceful project.
The researcher attributes the causes of what he calls “the divinity of supremacy” adopted by Washington.
The researcher recalls the theory of Fokoyama concerning the “end of times” and considers that it is being proven once again from the fact of the recent war between the United States’ modernity and Europe’s democracy from one part and Iran’s Islamic radicalism from the other part and considers that the ideological opponent of the United States after the end of the cold war is what he calls “Islamic Fascism”.
The researcher resumes his analysis and says: the Americans have defined the Islamic Republic of Iran as being the first wall (after the wall of Berlin) that they should destroy.
But the Americans faced the dilemma that all the elements of the Iranian decision whether religious or political have gathered in one pot.
Based on this fact the decision makers in the west persisted in generating cultural climates that consider every Islamic opposing phenomenon as a living embodiment of hostility against modernity and democracy.
Based on this the Americans consider Iran as an anti revolution and seek to confront and oppose its nuclear desires, although peaceful, because Iran’s possession of the nuclear capability will abolish in their opinion their supremacy over the world.
The researcher summarizes his analysis by saying that the world today is facing the vehemence of the Islamic endeavor to break the wall of underdevelopment and the western endeavor to eternalize and perpetuate this underdevelopment.
Les changements de la question nucléaire entre les Etats-Unis et l’Iran: Collision des stratégies suprêmes
Le chercheur évoque au début ce qu’il appelle la stratégie suprême de l’Iran d’une part, et celle des Etats-Unis et de l’Ouest d’autre part, en se demandant sur l’arrière-plan du rejet américain du projet nucléaire pacifique iranien. Selon le chercheur, la cause de ce rejet remonte à ce qu’il appelle «la théologie de l’hégémonie» adoptée par Washington.
Le chercheur reprend alors la théorie de la fin de l’histoire de «Fokoyama» et remarque qu’elle est confirmée de nouveau à travers la guerre existante aujourd’hui entre les Etats-Unis de la modernisation et l’Europe – démocrate d’une part, et le radicalisme islamique en Iran d’autre part.
Il remarque que l’ennemi idéologique des Etats-Unis après la guerre froide se représente par ce qu’il nomme le «fascisme islamique».
Il continue en citant que les américains ont désigné la République islamique Iranienne comme étant le second mur (après le mur de Berlin) qui doit être détruit. Mais ils ont envisagé un problème : toutes les composantes de la décision iranienne, qu’elles soient religieuses et politiques, se sont toutes réunies dans un seul récipient. C’est alors que les autorités prenant la décision en Ouest ont poursuivi la production d’un climat culturel qui considère tout phénomène islamique résistant comme étant l’incarnation vitale de l’hostilité contre la modernisation et la démocratie. Elles considèrent donc que l’Iran représente une capacité opposante, et oeuvrent à affronter ses volontés nucléaires, même si elles sont pacifiques, car selon elles, si l’Iran possèdera le potentiel nucléaire, leur souveraineté sur le monde sera annulée.
Le chercheur conclut en disant que le monde entier témoigne aujourd’hui le moment du paroxysme entre l’opiniâtreté islamique visant à percer le mur du retard, et l’opiniâtreté de l’ouest pour rendre ce retard éternel.