- En
- Fr
- عربي
تفاهم نيسان في أبعاده القانونيّة والسياسية
1ــ كانت “عناقيد الغضب” التي فجّرها الحقد الإسرائيلي في نيسان 1996 مرتقبة في ضوء ظروف إقليميّة تحضّر لها وتوفّر المبرّر المسبق لحدوثها: من مؤتمر شرم الشيخ الذي عُقد في آذار 1996 وطالب بمكافحة الإرهاب بشتى أشكاله وبواعثه, ولم يميّز بين الإرهاب والمقاومة, إلى دعوة الرئيس الأميركي آنذاك إلى محاصرة “أعداء السلام”, إلى الإصرار الإسرائيلي على “تجفيف مستنقع الإرهاب” في لبنان... الخ.
وكان “تفاهم نيسان” في 26/4/1996 قد أنهى العمليّة العسكرية الإسرائيلية, كما أنهى محاولات بيريز لتوظيفها انتخابياً. فالتفاهم حظي آنذاك بدعم إقليمي ودولي كاملين, بدءاً بموقف الإدارة الأميركية التي التزمته أصلاً ومروراً بموقف قمة الدول السبع التي انعقدت في فرنسا في 27/6/1996 ووصولاً إلى قمّة القاهرة العربية التي انعقدت في الشهر ذاته. وكان الموقف الدولي والعربي يؤكدان على الاستقلال السياسي والوحدة الإقليمية للبنان ويدعمان تفاهم نيسان سبيلاً للتهدئة وتمهيداً لتطبيق القرار 425.
واليوم بعد مرور أربع سنوات تقريباً على صدور هذا التفاهم يتكرّر الموقف ذاته, سواء على المستوى الدولي المتمثّل بالتأييد الكامل لإعادة تفعيل التفاهم أو على المستوى الفرنسي ــ الأميركي المطالب بعودة لجنة المراقبة أو على المستوى العربي الذي أكّدت وفوده إلى لبنان تعاطفها الكامل معه كما حدّدت وعودها في مساعدته.
وبذلك تتكرّر المآسي اللبنانية على يد إسرائيل كما تتكرّر المواقف الواعدة على يد الدول الأخرى. فلا اليد التدميرية تتوقف ولا اليد الواعدة تحسم موقفها.
وكانت ثمّة أسباب إقليمية ساهمت في دفع الجهود باتجاه صدور تفاهم نيسان ومنها:
ــ الباعث الإنساني الذي نقل مجزرة قانا إلى العالم وما رافق ذلك من جهود ديبلوماسية شخصية وعامة وما أسفرت عنه من تعاطف دولي بارز في المحافل الديبلوماسية الدولية وفي الصحافة العالمية وفي المنظمات الإقليمية وسواها.
ــ الباعث الدولي ــ السياسي الذي تحرّك على أكثر من صعيد وجهة, من أجل اختراق الاحتكارية الأميركية في الشرق الأوسط. إلاّ انّ الديبلوماسية الروسية اضطرّت آنذاك إلى الانسحاب وكذلك الاتحاد الأوروبي بعد أن تبيّن لهما مدى الإصرار الأميركي على التفرّد بالقرار الشرق أوسطي. وحدها الديبلوماسية الفرنسية استطاعت حينذاك أن تنتصر في المشاركة بلجنة المراقبة المنبثقة عن تفاهم نيسان. وكان لذلك الاختراق الفرنسي أثر بالغ الأهميةحمل الرئيس شيراك على القول يومذاك: “ان فرنسا استعادت موقعها في شؤون الشرق الأوسط بفضل صلابة الديبلوماسية الفرنسية وثباتها”.
أما الجانب السوري الشريك في هذه اللجنة المنبثقة عن التفاهم فقد كانت مشاركته ضرورية بقدر ما يستطيع استجابة الضمانات المطلوبة على أكثر من صعيد, وبقدر ما يستطيع مدّ الجسور المنشأة أصلاً مع القوى الإقليمية والمحليّة التي تعنى بشأن المقاومة وآلياتها وأطرها العامة.
واليوم, بعد مرور إربع سنوات تقريباً على هذه الديناميات الديبلوماسية المتحركة, وبعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة في شباط 2000, تُبعث الأجواء ذاتها والمواقف ذاتها تقريباً وذلك في ضوء الإصرار الأميركي ـ الفرنسي على معاودة نشاطات لجنة التفاهم. كما يتكرر الإقرار بالدور السوري الضامن. وكذلك يتكرر الفشل الإسرائيلي في محاولة تعديل هذا التفاهم أو تبديله. كما يتكرّر الفشل في ممارسة أي ضغط إسرائيلي, على المستويين الإقليمي والدولي, لتحقيق مكاسب إسرائيلية مسبقة سواء على طاولة المفاوضات أو على الأرض في الجنوب والجولان.
والواقع ان التشبّث اللبناني بتفاهم نيسان له مــا يبرره على أكثر من جهة قانونية:
ان تفاهم نيسان يشكّل الاتفاق المكتوب الثاني (بعد اتفاق الهدنة للعام 1949) الذي يلزم اسرائيل ولبنان معاً. فهو يمثّل اتفاقاً دولياً أو التزاماً ثنائياً على الأقل بين لبنان واسرائيل, وذلك:
ــ لأنه نصّ مكتوب, محدّد وملزم: للجانب الأميركي الذي أعلنه, كما ورد في سطره الأول, وللجانبين اللبناني والإسرائيلي بعد أن صدّق مجلسا الوزراء في البلدين على هذا التفاهم. أمّا ما يمكن إثارته من ان هذا التفاهم لم يقترن بإبرام الدولتين وتوقيعهما المباشر عليه, فإنّ العبرة الأساسية هنا تكمن في القبول المعلن والطوعي والرسمي بهذا التفاهم. وقد صدر هذا القبول كما تقدّم.
ــ لأنّ قانون المعاهدات الدولية الصادر في العام 1969 يجيز مثل هذا الالتزام: فالمادة الثالثة من هذا القانون تنصّ على ان كون هذا القانون لا ينطبق (المقصود تقنياً )على بعض المعاهدات بين الدول لا يؤثر في النفاذ القانوني لهذه المعاهدات.
والمادة 11 من القانون ذاته تؤكد ان قبول الدولة أن تلتزم بمعاهدة يمكن أن يُعبّر عنه بالتوقيع أو بتبادل أدوات قانونية أو بقبول أو بموافقة أو بأي وسيلة أخرى يُتفق عليها.
والمادة 13 من القانون ذاته تلحظ إمكانية التزام الدول أدوات قانونية غير المعاهدات, ولكنها تصبح ملزمة كالمعاهدة.
والمعاهدة الدولية تُلزم الدولتين اللتين قبلتا بها بصرف النظر عن تغيير الحكومات فيهما. كما ان أي تعديل في هذه المعاهدة لا يجوز أن يتمّ من طرف واحد ومن دون موافقة الطرف الآخر, وذلك تحت طائلة المسؤولية الدولية التي تترتّب على الطرف المخالف.
وتفاهم نيسان, إلى جانب ذلك, يشكّل معاهدة دولية تشارك في آليتيها (الأمنية والاقتصادية) دول أخرى تلتزم أحكامها وتسعى إلى تطبيق سليم لشروطها. والدول هي الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا. وهي ليست مجرّد شاهد على الالتزام الثنائي اللبناني ــ الإسرائيلي وإنما هي معنيّة بالتنفيذ أيضاً.
أما بالنسبة إلى مضمون تفاهم نيسان فهو يتّسم أولاً بإطار عام حدّده المضمون نفسه حيث اعتبر:
ــ ان الولايات المتحدة “تعتبر انّ لبنان واسرائيل سيطبّقان” مضمون هذا التفاهم. وهذا يعني ان أية مخالفة أو تجاوز لهذا التفاهم من أي من الطرفين سيعرّضه للمسؤولية التعاقدية من جهة وللمسؤولية المعنوية السياسية أمام الولايات المتحدة من جهة ثانية. ويُنتظر في هذه الحالة ان تكون الإدارة الأميركية مكلّفة معنوياً بحسن تطبيق هذا التفاهم.
وهذا التكليف ليس محصوراً بلجنة المراقبة وحدها وإنما بمبدأ التفاهم ذاته. بمعنى ان لجنة المراقبة مسؤولة عن تنفيذ التفاهم و”إجراءات معالجة الشكاوى” الواردة إليها. أما إذا صرّح أحد الطرفين انه رافض للتفاهم أصلاً او انه سيعمل على إلغائه أو انه سيتصرّف بمعزل عنه, فإنّ هذا الطرف يجب أن يكون موضع ملامة ومتابعة من الإدارة الأميركية ذاتها.
ــ ان التفاهم لا يشكّل أي إطار سياسي لإنهاء الصراع اللبناني ـ الإسرائيلي ولا يتعارض مع أية آلية أخرى لضبط هذا الصراع, وإنما هو وسيلة لتوفير الجو المناسب من أجل معاودة المفاوضات الثنائية على المسارين اللبناني والسوري مع إسرائيل. فهو, لذلك ليس “بديلاً من حل دائم”. ذلك لأن الحل الدائم سيتمثّل, كما أورد التفاهم ذاته, في “تحقيق سلام شامل في المنطقة”.
ــ إنّ التفاهم لا يصرّ على وقف كامل ونهائي لإطلاق النار وإنما يهدف إلى توفير سلامة المدنيين. كذلك يسعى التفاهم إلى تجنيب المنشآت المدنية أو “الأهداف المدنية في لبنان” من الضربات والهجمات الإسرائيلية. وبذلك فإنّ ما قامت بع إسرائيل في حزيران 1999 وشباط 2000 من ضرب متعمّد ودقيق التخطيط وواسع النطاق للأهداف المدنية اللبنانية يجعلها مسؤولة دولياً أمام لبنان وأمام الشركاء الثلاثة (أميركا وفرنسا وسوريا) في هذا التفاهم. وقد سبق لمجلس الأمن منذ العام 1968 وبموجب القرار 262 الذي اعتبر أنّ كلّ عمل عدواني ترتكبه إسرائيل ويجمع هذه العناصر الثلاثة (الضرب المتعمّد دقيق التخطيط وواسع النطاق) يجعل إسرائيل مسؤولة دولياً ويمنح لبنان الحق في التعويض عن خسائره المترتبّة عن هذا الضرب الإسرائيلي.
أما بنود تفاهم نيسان الأربعة فإنها تتضمّن ما أتي:
أ ـ “لن تنفّذ المجموعات المسلّحة في لبنان هجمات على إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا أو أي نوع آخر من الأسلحة”. وهذا البند الموضوع لمصلحة إسرائيل مشروط بـ:
ــ ان الهجمات, بالكاتيوشا أو غيره, غير مسموح بها على إسرائيل. وهذا يعني انها (أي الهجمات) واردة على الأرض اللبنانيّة المحتلة ضد الجندي الإسرائيلي, وانها واردة أيضاً ضد جيش لحد على الأرض اللبنانية.
ــ ان هذه الهجمات واردة كذلك على أي مدني لبناني يتعامل مع العدو الإسرائيلي أو مع جيش لحد. وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ الهجمات التي حصلت أو قد تحصل على عناصر جيش لحد أو الجيش الإسرائيلي في لبنان لا تعتبر اختراقاً لتفاهم نيسان.
ب ــ “لن تطلق إسرائيل والذين يتعاونون معها أي نوع من الأسلحة على مدنيين أو أهداف مدنيّة في لبنان”. والواقع ان هذا البند يتفق مع الأحكام الدولية لهذه الجهة. فاتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 التي تتعلّق بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال تنصّ على ضرورة حماية المدنيين بما يؤمّن سلامتهم الشخصية وحماية ممتلكاتهم. وتلتزم القوة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) بعدم تشتيت عائلاتهم وعدم نقلهم إلى أماكن خطرة وعدم تغيير وضعهم الديمغرافي وعدم إلحاق أي من الأرض المحتلة بإقليم الدولة القائمة بالاحتلال.
والمعروف انّ إسرائيل أبرمت معاهدة جنيف الرابعة منذ العام 1951. وبذلك فإنّ التزامها بهذا الموجب هو التزام مزدوج:
بمقتضى أحكام اتفاقية جنيف الرابعة وبمقتضى النصّ التعاقدي الوارد في تفاهم نيسان. أما عبارة “الذين يتعاونون معها” الواردة أعلاه فإنها غير مقبولة على الصعيد القانوني. فالتعاون مع إسرائيل يشكّل جريمة بنظر القانون اللبناني. وعلى هذا الأساس صدر عدد من الأحكام القضائية المتعلّقة بهذا الشأن والتي قضت قادة جيش لحد بسبب تعاونهم مع العدو وعمالتهم له.
ج ــ “بصورة أعمّ, يتعهّد الطرفان عدم تعريض المدنيين, أيّاً كانت الظروف,للهجمات وعدم استخدام المناطق المأهولة بالمدنيين والمنشآت الصناعية والكهربائية مركزاً لانطلاق الهجمات”.
ويشتمل هذا البند على عدد من الأمور التي يقتضي توضيحها ومنها:
ــ ان الهجمات, هنا, ليست محظورة في المطلق. وإذا جرت, فيجب أن تكون بمعزل عن المناطق المدنية والمنشآت الصناعية والكهربائية. أما تحديد انطلاق هذه الهجمات فقد حاولت اسرائيل, جاهدة, توسيع تفسير هذه العبارة كي تشمل انطلاق الأشخاص من هذه الأماكن المأهولة. إلاّ انّ التفاهم واضح لهذه الجهة: فالمقصود هو انطلاق الهجمات وليس انطلاق الأشخاص.
ــ ويتضح, في ضوء هذا التفسير, مدى التزام المقاومة الوطنية أحكام هذا البند وعدم إعطاء إسرائيل ذريعة لتعريض المدنيين اللبنانيين لأي هجوم انتقامي من دون أن تكون مسؤولة قانونياً عنه.
ــ وكان يُنتظر, من جهة أخرى, أن تصدر لغة مختلفة عن الدول الكبرى, ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا, بإدانة إسرائيل على العمل العدواني في شباط 2000 ومطالبتها بالتعويضات التي قد تنتج عن ذلك لأنّها تعمّدت ضرب منشآت مدنيّة بعد إعلان متكرّر بذلك, وكان عملها دقيق التخطيط ووسع النطاق.
د ــ “من دون انتهاك التفاهم, ليس فيه ما يمنع أي طرف من ممارسة حقّه المشروع في الدفاع عن النفس”.
والواقع ان حق الدفاع عن النفس معترَف به, للدول وللأشخاص, في كافة أحكام القانون الدولي. وهذا الدفاع لا يشكّل حالة تعاقدية وحسب إنما هو إقرار دولي قائم.
والدفاع المشروع عن النفس يرتدي حلّة قانونية جديدة من دون أن يتنكّر لجذوره الحضارية العامة. وهذا الدفاع الذي استُدرج إلى متاهات الشروط المسبقة وادعاءات القدرة على مقاربة المشاكل ومعالجتها... هذا الدفاع عن النفس يتضمّن اعترافاً اميركياً ــ اسرائيلياً. علماً ان المقاومة الوطنية المسلّحة مشروعة في القانون الدولي.
والواقع ان تفاهم نيسان يؤكّد ما يذهب إليه القانون الدولي لهذه الجهة.
فالقانون الدولي يحظّر الإرهاب بكلّ أشكاله ومصادره سواء كان إرهاب الأفراد أو إرهاب الدولة, ولكنه حريص من جهة ثانية على مشروعية المقاومة الوطنية. وهذه المقاومة مشروعة, في نظر القانون الدولي في حالتين:
ــ عندما يمارسها شعب ما في سبيل تقرير مصيره. والمعروف ان الحق في تقرير المصير بات اليوم من القواعد الآمرة في القانون الدولي.
ــ وعندما يمارسها الشعب في سبيل التحرّر من الاحتلال. فالقانون الدولي يفرض على القوة القائمة بالاحتلال شروطاً يقتضي تنفيذها من أجل حماية السكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال وبانتظار زوال هذا الاحتلال المخالف أصلاً للقانون الدولي, فإنّ على القوة القائمة بالاحتلال واجبات تجاه هؤلاء السكان. أما إذا رفضت هذه القوة القيام بالموجبات الملقاة عليها فإنه يصبح من حق الشعب المحتلة أرضه أن يقوم بعصيان ضد هذه القوة القائمة بالاحتلال, ومن ثم بمقاومتها عسكرياً. وله (أي الشعب) في هذه الحالة أن يواصل مقاومته لطرد هذا المحتل. وله, من أجل ذلك أيضاً, أن يطلب العون من الدول الأخرى المتعاطفة.
أما مسألة الحق المشروع في الدفاع عن النفس فإنّها تشكّل تأكيداً لمشروعية المقاومة الوطنية من جهة واعترافاً أميركياً وإسرائيلياً بوجودها وحقوقها (بما في ذلك الحق في الدفاع عن النفس) طالما بقي الاحتلال جاثماً على الأرض اللبنانية, من جهة ثانية.
ولعلّ التساوي بين إسرائيل والعناصر اللبنانية المسلّحة هو الذي أقلق إسرائيل ذاتها. وهي لا تنفكّ تطالب بإنكار هذا الحق وما قد يلحق به من خلاصات واستنتاجات أخرى بهذا الصدد.
ويتّضح, في ضوء ما تقدّم, مدى الأهمية التي يكتسبها تفاهم نيسان بقدر ما يعكس من أحكام للقانون الدولي, من جهة, ومن اعتراف أميركي ــ إسرائيلي بحق المقاومة الوطنية في الدفاع المشروع عن النفس, من جهة ثانية, ومن حماية المدنيين والمنشآت المدنية اللبنانية, من جهة ثالثة... الخ.
والمهمّ بالنسبة لنا ان آلية تفاهم نيسان لا تتعارض إطلاقاً مع الوثائق الأخرى الأساسية التي تشكّل هيكلية الموقف اللبناني بدءاً باتفاق الهدنة للعام 1949 ووصولاً إلى القرار 425 وآخر قرارات تمديد لمهام اليونيفيل (رقم 1288) لغاية آخر تموز من هذا العام.
والمهم أيضاً ان هذا التفاهم يحظى اليوم بإجماع دولي. وهو على كلّ حال يشكّل مأزقاً للجانب الإسرائيلي كما يشكّل له الحل الوحيد المتاح على الأرض مهما تعدّدت السيناريوهات المقبلة:
أ ــ فإذا كان أحد هذه السيناريوهات ميّالاً إلى انسحاب إسرائيلي من لبنان بموجب اتفاق, فإنّ هذا الاتفاق سيكون مزدوجاً, أي انه سيكون اتفاقاً اسرائيلياً ــ سورياً واسرائيلياً ــ لبنانياً, وسيتضمن:
ــ تقديم الانسحاب الاسرائيلي الكامل إلى الحدود المعترف بها دولياً بين لبنان وفلسطين كما نصّ على ذلك اتفاق الهدنة والقرار 425 والقرار 426.
ــ ضمانة سلامة العسكري والمدني الإسرائيلي بعد هذا الانسحاب. وهذه الضمانة ستكون سورية ــ لبنانية لاحقة بعد قيام قوات الأمم المتحدة بدورها وفقاً للقرار 426.
ــ الآلية المناسبة لهذه الضمانات وللتحقق من عدم ضرب المدنيين ستبقى آلية لجنة المراقبة لتفاهم نيسان.
ــ يمكن في هذه المرحلة, أي بعد الانتهاء من الانسحاب الإسرائيلي الكامل, أن يُصار إلى تنسيق عملاني بين هذه الآلية وبين لجنة مراقبي الهدنة. وسواء تمّ ذلك أم لا فإنّ التفاهم ذاته (وبحضور أميركي وفرنسي) يبقى دليلاً موازِناً لهذا الموضوع.
ب ــ وإذا كان السيناريو قاصراً عن تحقيق أي اتفاق بسبب التعنّت الإسرائيلي المعروف, فإنّ الانسحاب قد يتمّ من جانب واحد أي من دون اتفاق, وهو انسحاب متدرّج قد لا يصل إلى خط الحدود الدولية وقد ينقل معه أكياس الرمل اللحدية الواقية وقد يفتعل إشكالات وربما يفجّر مشكلات في الأماكن التي ينسحب منها (وهذا النوع من الانسحاب إنسحاب شاروني ــ نسبة إلى شارون).
وفي هذه الحالة أيضاً يبقى الضامن الوحيد ليس للجانب اللبناني وحده وإنما للجانب الإسرائيلي أىضاً, هو تفاهم نيسان ذاته بقدر ما يحرص على تحييد المدنيين عن الهجمات العسكرية. وإذا رفضت اسرائيل استمرارية هذا التفاهم فستعرّض الجانب المدني من أمنها لشتى الاحتمالات أيضاً.
أما أن تفكّر القيادة الإسرائيلية ان مثل هذا الانسحاب الآحادي من دون اتفاق قد يستدرج لبنان إلى اتفاق ثنائي منعزل عن سوريا أو سابق لها, فهذا الأمر غير وارد على الإطلاق بقدر ما يدرك المسؤولون اللبنانيون من مخاطر هذا الاستفراد الاسرائيلي ومن عواقبه الوخيمة أيضاً.
والواقع ان الاسرائيليين أنفسهم يحذّرون من عواقب مثل هذا الانسحاب على سلامة العسكريين والمدنيين معاً وعلى علاقاتهم المقبلة مع الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية ذاتها وعلى علاقاتهم الإقليمية والدولية كذلك.
ج ــ وهكذا يتضح ان تفاهم نيسان يبقى الآلية الوحيدة المتاحة لهذه المرحلة, وبهذا القدر من السقف الأمني ــ الاحترازي الفاعل. والمعروف ان تفاهم نيسان يتضمن آليتين بالإضافة إلى البنود الأربعة التي تقدّم ذكرها:
ــ الآلية الأمنية المتمثّلة بلجنة المراقبة وبوجود الجانب السوري وبرئاسة الجانب الفرنسي أو الأميركي فيها, في إطار مناوبتهما لترؤس اللجنة وفي إطار قرارات اللجنة التي أصدرت إدانات كثيرة لإسرائيل بسبب خرقها التفاهم. وهذه ظاهرة كان يقتضي توظيفها من قِبَل الديبلوماسية اللبنانية: ان الولايات المتحدة التي ترفض إدانة إسرائيل في مجلس الأمن وترفض أحياناً تقديم شكوى بحقها إليه, لا تتردد إطلاقاً في إعلان مسؤولية إسرائيل في خرق هذا التفاهم وفي دعوتها إلى التزام بنوده.
ــ الآلية الاقتصادية المتمثّلة بالمجموعة الاستشارية التي سترأسها الولايات المتحدة المتحدة (على نطاق دولي) والتي تهدف إلى “تلبية حاجات إعادة الإعمار في لبنان”. وقد سبق لهذه المجموعة ان تحرّكت جزئياً تحت عنوان “أصدقاء لبنان” واقترحت بعض الأرقام اللازمة لإنجاز المرحلة الأولى من نشاطها. إلاّ ان الأمور توقّفت عند هذه الوعود لعدّة أسباب, منها مجيء نتنياهو إلى الحكم, ومنها الإصرار على ان المساعدات لن تكون سلفة على التسوية وإنما تأتي مكافأة بعد عقدها, ومنها تردد بعض الدول المانحة القريبة والبعيدة معاً... الخ.
وهذا الأمر يشكّل حافزاً أساسياً ثانياً لتشبّث لبنان بتفاهم نيسان حتى بعد الانسحاب الاسرائيلي من أراضيه, وذلك من أجل تفعيل الشق الاقتصادي منه بعد طول انتظار.