بلى فلسفة
أقول لنفسي بعد كلّ واحدة من حصص العمر: "لقد استقرّ رأيي هنا بشأن ما يحيط بي من أمور، وإن هذه المرحلة ومرحلة النضوج والبلوغ، ووضوح التفسير واستقرار الموقف...". إلاّ أنني أعود في مرّة تالية وأبدّل ذلك كلّه، أو بعضاً منه، ليس بفعل التلاعب والتكاذب والتمايل والتحايل وسحب اليد وتغيير الكلام، إنما بفعل تغيّر واضح في قياس الأشياء عندي، وفي تبدّل أسبابها واختلاف نتائجها. فإن عدت الى الرّأي السابق متجاهلاً ما طرأ على قناعتي من تعديل، فإنّما أنا عنيد متعصّب لرأيي كائناً ما كان، وإن أنا عدلت عنه انسجاماً مع الحقائق الجديدة، فإنّما أنا متقلّب متغيّر لا يؤمَن جانبي، تعوزني الموضوعية، وتنقصني المنهجية، مخالف للحقيقة وبعيد عنها. من ذلك، موقفي من تشييد المباني الكبيرة التي تتسع للقاصي والدّاني، والخيّر والشرّير، والصّامت والصّارخ... صحيح أنني لا أزال أتجنّب تلك "المآوي" المتداخلة المعقّدة، وأسعى للابتعاد عنها وأرفض نورها وظلّهاعلى السواء، وإننّي أحفظ الى الأبد، وبدون جواب، السؤال التاريخي الذي طرحه عليّ أحد أنصاري من أبناء الرّيف الجميل حين رآني واقفاً موقوفاً بين جدرانها: كيف تسكنون هنا الواحد فوق الآخر، ترقصون فوق بعضكم وتبكون وتلعبون وتأكلون وتشربون و...؟
ومرّت بي سنوات وسنوات دعوت خلالها، كائناً ما كان حجم دعوتي، الى الإقلاع عن نصب تلك الجدران الشاهقة ورصف تلك السطوح المتوازية المتتالية المتلاحقة، الى أن وصلت الى وقت أقلعت فيه عن ذلك كلّه، وصرت أدعو الى الاستمرار في ما كنت أرفضه لأن تلك الحجرات، التي طالما تمنيّت تهديمها، تيسّر للشعب الاختباء والسهر والنّوم، ونشر الثياب وذر رماد السجائر وإطلاق النظرات للمراقبة والتسلية، وإقفال الأبواب والانتظار في الداخل كائناتٍ حيةً محفوظةً في علبٍ ملوّنةٍ تنتشر فيها الثقوب والمنافذ... والستائر.
والسبب في ذلك التغيّر مقبول ومقنع، أقنعني أنا، وقد يقنع غيري: إنه باختصار الحفاظ على التراب، وحماية الجمال في الطبيعة زهراً وطيراً، ونهاراً تحلو ظلاله، وليلاً لا يحجب نجومه حاجب. فلو توزّعت البيوت الصغيرة هنا وهناك، ولو بنى كل مخلوق جديد بيتاً جديداً في الوادي وعلى السّفح وفوق الجبل، في وسع السّهل وعلى مدى الشاطئ، ولو أن أخواننا في الانسانية انتشروا في كل مكان فقطعوا الأشجار وضربوا الأوكار وهدموا المغاور وخرّبوا السّواقي، كيف سيكون المصير يا ترى؟ أليس في الصروح الكبيرة خلاص للمساحات الخضراء، وفي إسمنتها إنقاذ للتراب الغالي الذي لا يقدّر بذهب، والذي من أجله يتعب الفلاح، وفي سبيله يستبسل الجندي، وفي وصفه يصحّ الكلام وتحلو الفنون؟ إن البشر في ازدياد. بطون تستدير مربعاتها، وهي "تنزُّ" المخلوق تلو المخلوق، ويصبّ فيها السحر مصبّه. أمّا مساحة الأرض فثابتة، ينحسر ترابها وتنخفض رؤوس أشجارها وتختنق جذورها، كلّما أنبتت برعماً، سحقته الأقدام السميكة قبل أن تراه شمس أو يباركه صباح. الإنسان في بدايته، وقبل أن يتعلّم القراءة والكتابة ويصبح عالماً وفنّاناً وشاعراً... كان صديقاً ودوداً للأرض يتبختر فيها كما يتمنّى، ويختار من مساحاتها ما يشاء.
كما أن حالات صراعه مع أهله حول ملكيتها كانت محصورة، الى أن وفّقه اللّه في الانجاب والتكاثر، فصارت القسمة ضرورية وظهرت المساحات المحددة التي سمّيت في ما بعد عقارات. ولا يزال الناس عندنا يسمّون نقل الملكية "تطويباً"، ويعود ذلك الى الكلمة القانونية العقارية الـ"طابو" التي كانت تطلق على عملية تسجيل العقارات في ايام الحكم العثماني. ويعيد الباحثون المراحل الأولى لمسح الأراضي الى أواسط القرن السادس عشر مستندين الى أوراق اسطمبولية محفوظة في المتاحف. وكان تحديد المساحة يتم بالنّظر أحياناً، كما أنّه كان يتمّ بالحبل أو الخطوة أو الذراع، وهي وسائل قابلة بالتأكيد للأخذ والرّد، لكن اتفاق المالكين هو الذي كان يعطيها الشرعية ويخفّف من المنازعات حولها، ويمنع الغبن والغلط. وقد كانت الأرض قديماً واحدة من الآلهة في أساطير اليونان كالبحر والشمس والنار، كما أن ترابها لا يزال واحداً من العناصر الأساسية للحياة الى جانب الحرارة والماء والهواء. وقد ضعفت ألوهتها بعد أن عرف الانسان الكثير من أسرارها حجماً ومساحة وعمقاً وإطاراً ومحيطاً وحركة وسرعة وموقعاً بين الكائنات... لكن ملكيتها ما زالت مهمة وأساسية ومقدّسة، يتمّ الاستبسال في الدفاع عنها من قبل الأفراد والجماعات على السواء، كما أنّ خسارتها هي الطريق الى الاستعباد في الكثير من الأحيان. والملكية تلك هي من ناحية أخرى طريق الى الصّراع والشرور، ويعتبر البعض أن باختفائها (وهذا مستحيل) سيختفي الكثير من الجرائم. لكن زوال المجتمعات المشاعية الى غير رجعة حتّم حصول الملكيات الفردية مع ما تحمله من صراعات ومنافسات، ويعيد التاريخ ذلك الى ثمانية آلاف سنة من عمر البشرية. وتعود الذاكرة بأبناء الأدب الى ما رواه أديب الانسانية تولستوي عن الفلاّح الذي حصل على وعد بامتلاك قطعة من الأرض تحدد طولها قدرته على الجري فوق حصانه على مدى نهار كامل، على أن يعود عند المساء الى النقطة التي انطلق منها. لكن الطمع (وهو ما يسمّى الطموح) انتهى بصاحبنا الى الإنهاك التام مع حصانه، فلفظا الأنفاس ولم يكن أي منهما بحاجة الى أكثر من ذراع مربع يدفن فيه.
والمعروف عن تولستوي أنّه كان واحداً من كبار ملاّكي الأراضي في روسيا، وقد سار به أدبه الى توزيعها على الفلاحين بكلّ بساطة، وكأنّه يمر بإحدى يديه على لحيته الطويلة البيضاء.
من جهتها كانت جدّتي تحسب قطعة الأرض التي تملكها في الضيعة جمهورية قائمة بذاتها (بعد أن بدأت الأنظمة الأمبراطورية والملكية في عصرها تهوي الواحد تلو الآخر) وسيعة خيّرة كافية شافية من الجوع والهجير، تمتد حدودها في كل اتجاه من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب ومن الأعلى الى الأسفل أيضاً. لقد كانت ضربات المِعْوَل في التراب عنصراً مهمّاً في التحديد، وهكذا كانت برك الماء المخبّأة في الأعماق، وجذور الأشجار وركائز الصّخور. أمّا الغيوم المكدّسة في الفضاء فلجدتي حصة فيها هي الأخرى، وفي المطر أيضاً حصّة، وفي نور الشمس الذي "يلوّح" حبات الكرز ويلوّن أزهار النرجس والأقحوان. وفي الحدود الفضائية لأرض جدّتي هناك الريح التي تقترب وتبتعد وفقاً لهوى الطبيعة. أما الحدود الأرضية غير الثابتة فقد أثبتها أصحاب الشأن في العصور الجميلة على الشكل التّالي: قطعة أرض مراح الراعي، يحدّها من الشمال معبور لطيفة أرملة غنطوس، من الجنوب عفصة الوقف، من الشرق بلاطة الحمّص، ومن الغرب وكر الحيّة البرشاء. ذيّلت بإمضائنا نحن المأمور أمين الحريص الدّاعي بغضب الله على كلّ من يزوّر مضمونها، أو يرفـض الاعتـراف بها. وتواجه هذه الورقة القانونية خطر التلف يوماً بعـد يوم لفرط ما تتعرّض له من البسط والطي، كما أن قسماً من حروفها قد محاه الزّمن، إلا أن هيبة التاريخ تردّ إليها الوضوح المفقود في كل مرة، وتعيدها مقرؤة مفيدة ثابتة، كما أن مسقط رأس شجرة العفص باق لا يزول، رغم وحشية الحـطّابين، ووكر الحيّة مرسـوم في الأذهـان، ما أن تمحـو مشـهداً منه حتّى تكرّ المشاهد واضحة مقلقة تلغي النّوم من العيون.