سيادة لبنان في عصر العولمة

العدد 96 - نيسان 2016

سيادة لبنان في عصر العولمة
إعداد: د.نبيل شديد
دكتور محاضر في الجامعة اللبنانية رئيس قسم العلاقات العامة والاعلان- الفرع الثاني

المقدّمة

تعمّ عالمنا، اليوم في مستهلّ الألفيّة الثالثة، ثورة هائلة في مجال الاتصالات والمعلومات، فأضحينا في "عصر المعلوماتيّة" عبر الفضاء المفتوح. إنّها ثورة الرقم والحرف المنصهرين في تفاعل مع التلفزيون وفضائيّاته والهاتف الخلويّ وبرامجه والانترنت وتطبيقاتها. ثورة نظام عالميّ جديد لا كوابح تحدّ اندفاعه، ولا حواجز تعيق تسلّله إلى الدول والمجتمعات والأسر.

ولهذا التطوّر المعلوماتيّ انعكاسات على المجتمعات كلّها، خصوصًا في العالم الثالث، طرحت تحدّيات أساسيّة، وخصوصًا في ما يتعلّق بالهويّة القوميّة والثقافيّة، وإن أمّنت فرصًا كبرى للشعوب في اتجاه ترسيخ التواصل، وتنمية التفاهم وتعميق التقارب في ما بينها، مهما تباينت أعراقها وتوجّهاتها. فهي تمثّل بُعدًا محدّدًا لأغلبيّة الظواهر المجتمعيّة في مجتمعات العالم الراهن، سواء كانت ظواهر اقتصاديّة أو سياسيّة أو ثقافيّة أو غيرها. وبالتالي لا بدّ من تغيّر أو تحوّل في مسارات الشعوب.

وهذه الثورة المعلوماتيّة، بانضمامها إلى نظيرتها التكنولوجيّة التي شهدها الربع الأخير من القرن العشرين الفائت، حوّلت العالم إلى "قرية كونيّة" تحت مظلّة واحدة سُمّيت "العولمة". وهذه العولمة أزالت الحواجز والحدود بين البلدان فاتحة الأبواب على مصاريعها للمؤسّسات العالمية والشبكات الكبرى على أنواعها الاقتصاديّة والثقافيّة والإعلاميّة لممارسة نشاطاتها بوسائلها الخاصّة وبحريّة تامّة لا يُعيقها عائق. فالتفوّق التكنولوجيّ المعلوماتيّ للدول الكبرى أتاح لها سُبُل الهيمنة على صناعة المعلومات والاتصالات من خلال الشركات العملاقة والمؤسّسات الدوليّة الكبرى، ما شكّل ميدانًا اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا، تتنافس في ساحاته الأمم والقوميّات والهويّات والثقافات، ولن تصمد في هذا العراك إلاّ الشعوب التي تتسلّح بتراث متين وثقافة عميقة الجذور وشبكة إعلاميّة متطوّرة تقنيًّا ذات أذرع تمتدّ عبر العالم.

وهذه العولمة أضحت قضيّة مصيريّة، أوّلًا لأنّها تهدّد دولًا وشعوبًا وأنظمة في العالم، بعد أن اجتاحت مجالات الحياة فيها كلّها، وصولًا إلى اختراق الهويّات القوميّة والثقافيّة بحيث أضحت الثقافات الفرديّة والمحليّة "المعولمة" ثقافات لا ترتبط بأيّ مكان أو زمان، لأنّ على الناس "الذين يسعون للإفادة من العولمة وجني ثمارها أن يندمجوا في منظومتها الثقافيّة وأن يقوموا بتكييف اتجاهاتهم وأنماط تفكيرهم مع منظومة القيم التي تتطلّبها العولمة^[1]. وثانيًا لأنّ لها تأثيرات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وإيدولوجيّة. فمن الناحية السياسيّة، عمّت الديمقراطية العالم بمعظمه وتقلّصت الديكتاتوريّات والأنظمة الشموليّة بفضل وعي شعوبها وانفتاحها الثقافيّ؛ ومن الناحية الاقتصاديّة، فإنّ عولمة الاقتصاد طالت حاجات الإنسان اليوميّة كلّها إنتاجًا واستهلاكًا وتوزيعًا وتبادلًا تجاريًّا وصناعيًّا وزراعيًّا... ومن الناحية الثقافيّة، هناك ثقافة عالميّة تميل إلى فرض نفسها، لا معاييرها وقيمها، تشكّل مسًّا بخصوصيّات المجتمعات وهويّاتها؛ وأخيرًا، من الناحية الإيديولوجيّة، فالتطوّر المعلوماتيّ الاتصاليّ أثمر أكبر ثورة معرفيّة علميّة في تاريخ الإنسان، وولّد إيديولوجيا بشريّة جديدة تضع أسسها وتنشرها شبكات ومؤسّسات عالميّة بقصد الهيمنة على الفكر والاقتصاد والثقافات.

إذًا، العولمة هي عالم من دون أمّة، ولا وطن، ولا دولة. وإذا كانت الهويّة الثقافيّة والحضاريّة لأمّة من الأمم هي "القدر الثابت والجوهريّ والمشترك من السمات العامّة التي تميّز حضارة هذه الأمّة عن غيرها من الحضارات"^[2]، فهل يمكن المحافظة عليها في ظلّ العولمة الباسطة نفوذها، اليوم، على المجتمع الدوليّ؟ وهل يمكن التوفيق بين مقتضيات السيادة الوطنيّة ومتطلّبات العولمة؟ وليس هذا البحث إلاّ مساهمة في إيجاد أجوبة مقنعة من خلال الإضاءة على مفهوم العولمة وتأثيراتها في مسيرة البشرية.

 

أولًا: مفهوم العولمة

    أطلق مفهوم العولمة الباحث الأميركيّ في علم الإدارة والتسويق تيودور ليفيت (Theodore Levitt)، في مقال نشر العام 1983 في مجلّة Harvard business review بعنوان عولمة الأسواق (The Globalization of markets) حيث ركّز على المنافسة ذات المستوى الكونيّ، والتي اعتبر أنّها تتطلّب استراتيجيّة عالميّة وتخطيطًا للأسواق. وعلى الشركات، يضيف ليفيت، أن تعمل وكأنّ العالم سوق واحدة بغضّ النظر عن أي اختلافات إقليميّة أو عالميّة. وتلت هذا المقال بسنوات قليلة العبارة الشهيرة "القرية الكونيّة" التي أطلقها المفكّر الكندي مارشال ماكلوهان (Marshall Maclohan)، والتي تعكس مدى تأثير العولمة على الكرة الأرضيّة.

 

فما هي العولمة؟ وكيف نشأت ؟وبأيّ أدوات ؟

1- تعريف العولمة

صحيح أن العولمة جديدةٌ كلمةً واصطلاحًا، لكنّها قديمة جدًا مضمونًا.

أ‌- العولمة كلمة

ورد في موسوعة "ويكيبيديا" أنّ العولمة تعني جعل الشيء عالميّ الانتشار في مداه أو تطبيقه. وهي أيضًا العمليّة التي تقوم خلالها المؤسّسات، سواء التجاريّة (وجعل الشيء دوليًا). تكون العولمة عملية اقتصادية في المقام الأوّل، ثم سياسيّة. ويتبع ذلك الجوانب الاجتماعيّة والثقافيّة. بالعودة إلى جذر "العولمة"، نجد كلمة "العالم"، فيفرد محمد أبو بكر الرازي في "مختار الصحاح"^[3]، ومعجم "المنجد": العالم: الخلق كلّه والجمع عوالم وعالمون وعلالم"^[4].

ويحدّدها د. اسماعيل صبري مقلّد^[5] بأنها النظام الذي يعكس نمط العلاقات التي تنشأ في صورة أو في أخرى بين مجموعة الوحدات الفاعلة في السياسة الدوليّة، وتتسع القدرة الاستيعابيّة لهذه العلاقات لتشمل جميع الأهداف التي تسعى تلك الوحدات لبلوغها بمختلف الوسائل والإمكانات المتاحة لها^[6].

وحدّدها السيد محمد الشيرازي^[7] بأنّها "ثلاثيّ مزيد. يقال: عولمة على وزن قولبة. واللفظ مشتقّ من العالم"^[8]. وقال معرّفًا العالميّة: أن تتّحد كل شعوب العالم في جميع أمورها على نحو واحد، هيئة واحدة، فيكونوا كبيت واحد وأسرة واحدة.

لا شكّ في أنّ العولمة ظاهرة إنسانيّة شاملة "لا يمكن التنكّر لها، أو النأي عن تأثيراتها، أو تجنّب تداعياتها، أو التفرّج عليها من الخارج باسم الحياد"^[9].

وجاء في المعجم ويبستر (webster) أن العولمة (globalization) هي "إكساب الشيء طابع العالميّة، وبخاصّة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه، عالميًّا"^[10].

وفي تعريف هادف وأكثر شمولية، أنّها "مشروع حضاريّ غربيّ متكامل البُنيات، أوجده التلاقي بين التطلّعات والحاجات الغربيّة من جانب، والإمكانات الماديّة الهائلة التي أوجدتها الطفرات الكبيرة في تقنيات الاتصال والمعلومات والصناعات المتقدّمة من جانب آخر"^[11].

 

ب‌- العولمة إصطلاحًا

إنّ اختلاف الباحثين في تعريف العولمة لا يعكس تعدّد المدارس الفكريّة التي ينتمون إليها أو اختلاف المناهج التي يتّبعونها في تحليلها فحسب، بل يعود أيضًا إلى أنّ العولمة ظاهرة متنوّعة الأوجه، متشابكة الأبعاد، تطاول الاقتصاد والسياسة والثقافة... فاختلفوا في تحديدها اصطلاحًا أيضًا.

فقد اعتبر الدكتور برهان غليون^[12] أنها تعني خضوع البشريّة لتأريخيّة واحدة، أي إنّها تجري في مكانيّة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة موحّدة في طريقها للتوحيد، ويمكن تلخيصها في كلمتين: كثافة المعلومات وسرعتها إلى درجة نشعر فيها بأنّنا نعيش في عالم واحد موحّد، أي إنّ هناك ميلًا لا رجوع عنه، إلى توحيد الوعي والقيم وطرائق السلوك وأنماط الإنتاج والاستهلاك أي إلى قيام مجتمع إنسانيّ واحد^[13].

فيما يرى الدكتور محمد عابد الجابري^[14] أن العولمة، اصطلاحًا، هي نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد، إنّها نظام عالميّ أو يُراد لها أن تكون كذلك، يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصالات... كما يشمل أيضًا مجال السياسة والفكر والايديولوجيا"^[15].

وثمّة مَن اعتبرها واقعًا "يعبّر عن تطوّرين مهمّين هما: أ- التحديث (modernity) ب- الإعتماد المتبادل(inter-dependence)، ويرتكز مفهوم العولمة على التقدّم الهائل في التكنولوجيا والمعلوماتية، بالإضافة إلى الروابط المتزايدة على الأصعدة كلّها على الساحة الدوليّة المعاصرة"^[16].

كما رأى البعض العولمة نظامًا عالميًّا جديدًا بـ"مضامين سياسيّة بحتة، ولكن في الحقيقة تشمل مضامين سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة واجتماعيّة وتربويّة^[17]، واصطلاح آخر، أخيرًا، أنّها "العلاقة بين مستويات متعدّدة لتحليل الاقتصاد والسياسة والثقافة والإيديولوجيا. وتشمل: إعادة الإنتاج وتداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول، نتيجة الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجتمعات المقيمة^[18].

 

2- نشأتها

إذًا، إنّ مصطلح العولمة، وإن غاب الإجماع حول تفسيره، فقد شاع استخدامه في أواخر القرن الفائت، وخصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتيّ. فإذا كانت العولمة تشمل العلاقات المتبادلة بين الأمم، سواء في حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال أو في انتشار المعلومات والنظريّات، أو في تأثير شعب بأنماط عيش شعب آخر وقيمه وتراثه... فـ"هذه العناصر يعرفها العالم منذ قرون، وعلى الأخصّ منذ الكشوف الجغرافيّة في أواخر القرن الخامس عشر، أي منذ نحو خمسة قرون، ومنذ ذلك الحين والعلاقات الاقتصاديّة تزداد قوّة..."^[19]. ثمّ ولادة المجتمع "القوميّ" في أوروبا حيث "تمّ إضعاف القيود التي كانت سائدة في القرون الوسطى، كما تعمّقت الأفكار الخاصّة بالفرد والإنسانيّة"^[20]، بدءًا من القرن السادس عشر. ثمّ شهدت أوروبا تحوّلًا حادًّا في فكرة الدولة المتجانسة الموحّدة، ونشأ مفهوم أكثر تحديدًا للإنسانيّة، و"زادت الاتفاقات الدوليّة إلى حدّ كبير، وبدأت مشكلة قبول المجتمعات غير الأوروبيّة في "المجتمع الدوليّ" والاهتمام بموضوع القوميّة والعالميّة"^[21] وصولًا إلى القرن الثامن عشر، حيث انطلقت عمليّة الصياغة الدوليّة للأفكار الخاصّة بالإنسانيّة ومحاولة تطبيقها، و"حَدَثَ تطوّر هائل في عدد الأشكال الكونيّة للاتصال وسرعتها، وظهرت المفاهيم المتعلّقة بالهويّات الثقافيّة والفرديّة إلى جانب مفاهيم كونيّة مثل (خطّ التطوّر الصحيح) والمجتمع القويّ المقبول^[22].

ووُلدت في هذه المرحلة المؤسّسات الخاصّة بتنظيم العلاقات والاتصالات بين الدول كصندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ وعصبة الأمم المتّحدة، وذلك من العشرينيات إلى الستينيات من القرن العشرين الفائت والتي شهدت بدء الخلافات والحروب الفكريّة حول المصطلحات الناشئة الخاصّة بعمليّة العولمة والتي بدأت في مرحلة الانطلاق ونشأت صراعات كونيّة حول صور الحياة وأشكالها المختلفة^[23]، وحيث تمّ إدماج العالم الثالث في المجتمع الدولي. وصولاً إلى مرحلة النموّ والتمدّد، وفيها نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين العام 1989، وشيوع الأسلحة النوويّة، وظهور الشركات العابرة للقارات، وبروز مجتمع المعلومات والبرمجيات والتكنولوجيا.

والحدث المهمّ الذي دَفَع "عمليّة" العولمة إلى الأمام أشواطًا جبّارة، في هذه المرحلة، سقوط الاتحاد السوفياتيّ سياسيًّا واقتصاديًّا العام 1991، و"ما أعقبه من انفراد الولايات المتّحدة الأميركيّة بالتربّع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وتفردها بقيادته السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، ومنها: بروز القوّة الاقتصاديّة الفاعلة من قبل المجموعات الماليّة والصناعيّة الحرّة عبر شركات ومؤسّسات اقتصاديّة متعدّدة الجنسيات مدعومة بصورة قويّة وملحوظة من دولها^[24].

لكنّ الأهمّ فيها الذي يعود إليه الفضل الكبير والأساسيّ لرسوخ العولمة هو الثورة العلميّة والتكنولوجيّة التي تجسّدت في صناعة الحواسيب وهندسة البرمجيات كلّها المرتبطة بها من جهة، والتطوّرات النوعيّة في ميادين الاتّصال نتيجة ولادة شبكة الانترنت وانتشار الأقمار الصناعيّة من جهة أخرى.

أخيرًا، وباختصار، إنّ العولمة، وإن بدت ظاهرة حديثة إلاّ أنّها ذات جذور قديمة ترتبط بعصري النهضة والاكتشافات.

 

3 - أدواتها

    ولأن العولمة ظاهرة عالميّة شاملة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وإعلاميًّا وثقافيًّا...، ولأنّ أهدافها تطال الإنسانيّة جمعاء، تعميمًا بريئًا أو هيمنة خبيثة، لا بدّ من أدوات تعتمدها لبلوغ ما تصبو إليه، مؤسّسات وشركات اقتصاديّة وإعلاميّة دوليّة وخاصّة.

أ‌- الشركات المتعدّدة الجنسيّة

من مظاهر العولمة نشاط الشركات المتعددة الجنسيّة وآليّات عملها. أما الشركات بذاتها كمؤسّسات ذات شخصية إعتباريّة، فـ"تُعدّ أهم قوى العولمة وأدواتها الفاعلة التي تتّسم بضخامة الحجم وتنوّع النشاطات والانتشار الجغرافيّ في العالم كلّه والقدرة على تعبئة المدّخرات العالميّة والإقتراض والمقدرة على استقطاب الكفاءات البشريّة العالية المستوى"^[25].

وهذه الشركات تفرض نفسها لاعبًا أساسيًّا في العالم. وإنّ مفاهيمها اختلفت، بحسب أنواعها وأدوارها التي تنوّعت أنماطها، تجاريًّا أو صناعيًّا أو ماليًّا أو إعلاميًّا... وقد ضاعفت الثورة العلميّة والتكنولوجيّة قوّة هذه الشركات وقدرتها على الهيمنة على الأسواق، إنتاجًا وتسويقًا وحتى أبحاثًا علميّة، وبالتالي الإمساك بمسيرة الدول وخصوصًا النامية منها والتأثير في المجتمعات.

وقد تجسّد دور هذه الشركات العالميّة في نشاطاتها على الصعيد الدوليّ في تدويل الاستثمار والانتاج والخدمات والتجارة والقيم المضافة، والمساهمة في تشكيل نظام تجارة دوليّة حرّة. وهي تعدّ من أكثر الأشكال تعبيرًا عن عولمة الاقتصاد "لما تملكه من إمكانيات ماديّة وبشريّة هائلة تمتدّ إلى مختلف دول العالم، وتنوّع نشاطاتها لتشمل قطاعات الإنتاج والتجارة والخدمات والمال والمصارف الدوليّة، بغية توزيع المخاطر وتنويع مصادر الربح"^[26].

وعليه، فإنّ الانتشار الحقيقيّ للشركات المتعدّدة الجنسيّات يعود إلى مطلع القرن الماضي، فـ"في العام 1914 كان مفهوم هذه الشركات قد توطّد بشكل راسخ، وقدر الرصيد العالميّ للاستثمارات الأجنبية المباشرة لهذه الشركات بـ14 مليار دولار، وكانت الشركات البريطانيّة آنذاك المصدر الأكبر للاستثمار، تليها الشركات الأميركيّة والألمانيّة^[27]، فإنّ تطوّر الالكترونيّات خلال الثمانينيات جعل العالم يعيش الثورة الصناعيّة الثانية التي أدت إلى زيادة مثيرة في أرباح الشركات الكبرى نتيجة الاعتماد المتزايد على الآلة على حساب الإنسان. وإذا بها، في بداية القرن الحادي والعشرين الحالي، تصل بـ"حجم مبيعاتها إلى 18500 مليار دولار العام 200، كما بلغت قيمة المبيعات الأكبر 100 شركة متعدّدة الجنسيّات 2509 مليار دولار ممثّلة ما نسبته 16 في المئة من إجمالي مبيعات كلّ الشركات المنتسبة إلى الاقتصاد العالميّ العام 2000 ^[28].

وقد أولى الباحثون أهميّة كبرى في تكريس سيطرة الدول الصناعيّة، خصوصاً أنّها تتمركز في مناطق النفوذ، وتمتلك القدرة على التغلغل في مختلف أسواق العالم، ولا يقتصر تأثيرها على الاقتصاد، صناعة وتجارة وزراعة، "بل طاول البنية الثقافيّة والاجتماعيّة من خلال التسويق لسلع إستهلاكيّة ثقافيّة، خصوصًا أنّها تسيطر على الإعلام في العالم الثالث^[29].

ويكمن سرّ تأثيرها الكبير في مسيرة العولمة في ضخامة حجمها وانتشارها الجغرافيّ، وقدراتها الجبّارة على الاستثمار عالميًّا وتشكيل تحالفات استراتيجيّة احتكاريّة، ممّا يحتّم حدوث تغيّرات في النظام العالميّ الجديد بمضامينه وأبعاده الاقتصاديّة والاجتماعيّة والماليّة والثقافيّة والسياسيّة...

أخيرًا، تشير التقديرات إلى أنّ عدد الشركات المتعدّدة الجنسيّة "يناهز 65 ألف شركة، ونحو 850 ألف شركة تابعة لها في أنحاء شتّى من العالم. وتعدّ الدول المتقدّمة صناعيًّا موطنًا لنحو 77 في المئة من إجماليّ الشركات المتعدّدة الجنسيّات في العالم. وتشير إلى أنّ أكبر 50 شركة متعدّدة الجنسيّة في الدول النامية تمثّل في الحجم أصغر شركة من بين 100 شركة في العالم^[30].

 

ب‌-  المنظّمات والمؤسّسات الدوليّة

هذه العولمة الاقتصاديّة التي تجسّدها الشركات المتعدّدة الجنسيّة تواكبها، ميدانيًّا، منظّمات ومؤسّسات دوليّة تشكّل عنصرًا رئيسًا وحاسمًا في نظام العولمة، عبر آليات عملها والقواعد الملزمة التي تفرضها. إذ يساهم صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ للإنشاء والتعمير ومنظّمة التجارة العالميّة ومنظّمة التعاون والتنمية الاجتماعيّة واجتماعات الدول السبع الكبرى ومؤسّسات غير حكوميّة منها ملتقى دافوس ونادي روما... في بلورة العولمة الاقتصاديّة. وتكمن أهميّتها في أنّها، من جهة، سلطة دوليّة للتشاور والتنسيق بين الدول الكبرى، ومن جهة أخرى، سلطة معنويّة رقابيّة ومن خلال آلية عملها "يمكنها أن تفرض القواعد التي ينبغي على الدول الأعضاء تنفيذها في سياساتها الماليّة والاقتصاديّة^[31]، التي تمثّل ممارسة لحماية الأسواق التي تسيطر عليها الاحتكارات الدوليّة وبالذات الشركات المتعدّدة الجنسيّة السالفة الذكر.

أمّا أهم المؤسّسات والمنظّمات الدوليّة فهي:

• صندوق النقد الدوليّ

بعد الحربين العالميّتين الأولى والثانية في القرن العشرين الفائت، اضطربت اقتصاديات معظم دول العالم، فسعت هذه الأخيرة، وخصوصًا الكبرى منها، إلى تنظيم الاقتصاد العالميّ بوضع أسس قادرة على إصلاح الأنظمة التجاريّة والماليّة واستقرارها. وكان صندوق النقد الدوليّ ثمرة هذه المحاولات.

وحُدّد إلى هذا الصندق مجموعة أهداف، أهمّها تأمين مستلزمات تسهيل التعاون الدوليّ والتشاور في المسائل النقديّة الدوليّة؛ وتيسير التوسّع والنموّ المتوازن في التجارة الدوليّة، وبالتالي المساهمة في تحقيق مستويات مرتفعة من العمالة والمحافظة عليها، وفي تنمية الموارد الإنتاجية لجميع الدول الأعضاء، واعتبار كل هذا بمنزلة أهداف رئيسة للسياسة الاقتصاديّة العالميّة؛ والعمل على تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف والمحافظة على ترتيبات صرف منتظمة بين الأعضاء، وتجنّب التنافس لتخفيض قيم المعاملات^[32].

•    البنك المركزي العالميّ

هو ثاني مؤسّسة ذات صفة عالميّة بعد صندوق النقد الدوليّ. يمنح هذا البنك قروضًا طويلة الأجل هدفها دفع تيّار العولمة ونجاحه في الانتشار، و"دوره يتكامل مع دور صندوق النقد الدولي في السهر على ضمان قاعدة الاستقرار النقديّ الدوليّ، وتنمية العلاقات النقدية المتعدّدة الأطراف"^[33].

ويعتبر البنك العالميّ أقوى وكالات التنمية والتمويل الدوليّة حيث "يستعمل أمواله لأغراض شتّى أهمّها : تمويل المشاريع للبنية الأساسيّة، وتشجيع رأس المال الدوليّ الخاصّ، وتسريع وتيرة الخصخصة"^[34].

•    منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة (OCDE)

أُطلق عليها اسم نادي الأقوياء إقتصاديًّا. يتمثّل دورها في اعتمادها على بحث الدراسات ومتابعة التطورات الاقتصاديّة، في كلّ دولة عضو فيها، ووضع خطط لعقودٍ مقبلة، إضافة إلى اقتراح الحلول المناسبة للمشاكل الطارئة، من دون إصدار قرارات ولا تبنّي إجراءات عمليّة.

 

ج‌-   الإعلام الدوليّ

ما سَبَقَ من أدوات العولمة، الشركات المتعدّدة الجنسيّة والمنظّمات والمؤسّسات الدوليّة ما كانت لتنجح، بل لتفرض نفسها لاعبًا فاعلًا ومؤثّرًا عالميًّا، لولا ثورة الاتصالات والمعلومات التي تجسّدت في مجموعة إعلاميّة دوليّة كبرى تعتمد على البثّ الفضائيّ لتجاوز الحدود الجغرافيّة التي أضحت بحكم المُلغاة وأهمّ هذه الأدوات الإعلاميّة العالميّة التوجّه هي :

•    المؤسّسات الإعلاميّة الدوليّة الكبرى:

هناك ستّ مجموعات رئيسية كبرى تنشط إعلاميًّا على مستوى العالم، ولها حضور دوليّ كبير متفاوت من مؤسّسة إلى أخرى: أربع منها أميركيّة، واحدة أوروبيّة، وواحدة أستراليّة أميركيّة وهي : تايم ورنز (Time warner)، مجموعة برتلزمان (Bertelsmann)، مجموعة فياكوم (Viacom)، ديزني (Disney)، نيوز كوربوريشن (News corporation) ومجموعة TCT.

•    الوكالات الإعلاميّة العالميّة

تعتبر وكالات الأنباء مصدرًا مهمًّا رئيسًا للأخبار في العمليّة الإعلاميّة. وهي تحتلّ مركز الصدارة في التعاطي مع الأحداث ومتابعتها وتغطية تفاصيل وإرسالها إلى الجمهور عبر شبكاتها ومراسليها في أنحاء شتّى من العالم وخصوصًا المناطق الساخنة منها. ولبعضها أهيمّة عالميّة قصوى ذات تأثير مهيمن على مجرى تدفّق الأخبار. وأهمّها وكالة أسوشييتد برس (Associated press) (أميركية) و اليونايتد برس انترناشيونال (United press international) (أميركية)، ورويترز (Reuters) (بريطانية)، ووكالة الصحافة الفرنسية (Associate france press).

•    القنوات الفضائيّة الكبرى

تكمن أهميّة القنوات الفضائيّة في قدرتها على إلغاء الحدود الجغرافيّة ودخول شتّى بلدان العالم والتسلّل إلى المجتمعات والأسر من دون استئذان، فتلبّي رغبات مختلف الأفراد: الأطفال والشباب والعجائز، والأذواق والميول على اختلافها، في أي زمان ومكان. فهي تؤمّن المتطلّبات والحاجات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والرياضيّة والفنّية التربويّة...

وأهمّ القنوات الفضائيّة هي شوتايم Showtime (أميركيّة)، دويتشيه فيلله الألمانيّة (DW)، وفرنس 24 (فرنسية)، وروسيا اليوم.

 

د‌- الأدوات الثقافيّة

لا تقتصر آليّات العولمة على الشركات المتعدّدة الجنسيّة ذات الأهداف الاقتصاديّة، أو على المنظّمات والمؤسّسات الدوليّة ذات الأهداف السياسيّة، أو على الإعلام الدوليّ المتنوّع الأهداف، بل ثمّة عولمة ثقافيّة بحيث "تعدّ الدعاية الثقافيّة الدوليّة (International Cultural Propaganda) وسيلة بارزة من الوسائل التي تعتمدها الدول الكبرى لنشر ثقافتها في الخارج، نظرًا لما تحدثه من أثرٍ بعيد في المتلقّي، ويدخل في إطار الدعاية الثقافيّة الدوليّة"^[35].

كما يدخل في هذا الإطار الدعاية الثقافيّة الدوليّة كالفنّ والتعليم ووسائل الترفيه والرياضة وتقديم المنح المدرسيّة وإقامة المكتبات في الخارج وتبادل الخبرات والوفود.

 

ثانيًا : تأثير العولمة

إذا كانت العولمة "قفزة حضاريّة تتمثل في تعميم التبادلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة على نحو يجعل العالم واحدًا موحّدًا أكثر من أي يوم مضى من حيث كونه سوقًا للتبادل أو مجالًا للتداول أو أفقًا للتواصل"^[36]، فلا بدّ أن يكون لها تأثير في دول العالم وشعوبها، إيجابًا وسلبًا.

إيجابًا، فإنّ العولمة هي "الخير بأوسع معانيه وأجلى صوره وأشكاله والعزّ بأوسع أبوابه والعيش الرغيد الذي يحقّق أماني وطموحات وأحلام الفرد والحكومات"^[37]. وذلك من خلال إزالة الحواجز والحدود بين الدول وتحرير أسواق التجارة ورأس المال وزيادة الإنتاج المحلّي والعالميّ وتضاعف فرص النموّ، والتنافس في إنتاج السلع والخدمات نحو الأفضل و"حلّ المشكلات الإنسانيّة المشتركة مثل انتشار أسلحة الدمار الشامل والتهديدات النوويّة والبيئيّة وتطوير علاجات الأوبئة والأمراض المعدية^[38]، إضافة إلى "إعطاء الفرصة كاملة لقوى الابتكار والخلق والإبداع والتحسين والتطوير التنمية والانتماء، والانطلاق إلى آفاق واسعة ومجالات غير مسبوقة تضفي قدراً كبيراً من التقدّم والرقيّ والتنمية"^[39].

أمّا سلبًا، فالعولمة تمثّل خطر اختراق القوميّات والقضاء على الهويّة الحضاريّة للمجتمعات فضلًا عن السيطرة الاقتصاديّة والثقافيّة.

1- التأثير الاجتماعيّ

للعولمة تأثير كبير وتداعيات مهمّة، وخصوصًا بأدواتها الإعلاميّة الفضائيّة والمعلوماتيّة، تلفازًا وخلويًّا، في أنماط عيش المجتمعات. ويكون الأثر جذريًّا وحاسمًا في مراحل الطفولة والمراهقة والشباب. فإذا أُحسِن استخدامها، تكون لها فوائد جمّة في تشكيل مجتمع إنسانيّ جيّد. أمّا إذا تمّ الاستسلام لسلبيّاتها، فستكون معول هدم المجتمعات بل الأوطان. فالأطفال والمراهقون والشباب شديدو الحساسيّة والتأثير بما يرون وبما يسمعون. وهم في خضمّ التطورات التكنولوجيّة الحديثة حيث يرزحون تحت وطأة تبدّلات سريعة وجذريّة في القيم والعادات والتقاليد، بسبب ما تنقله القنوات الفضائية من أفكار ومفاهيم "غريبة" عن معتقدات مجتمعاتهم ومفاهيمها وتراثها الحضاريّ.

إذاً، لا شكّ في أنّ عصر العولمة بتأثيراته قد ينعكس سلبًا على الخصائص التقليديّة لمقوّمات المجتمع التي قد يُعاد تشكيلها بواسطة وسائل لا تقاوَم من حيث قدرتها على التحكّم بالمسافات والقفز فوق العوائق الجغرافيّة وتخطّي الحدود والدخول إلى جميع المنازل و"العقول" حيثما وأينما تشاء. فيبرز خطر متمثّل في ضعف ولاءات الشعوب لانتماءاتها. وبذلك أضحت المجتمعات تواجه أزمة هوية اجتماعيّة وخصوصًا في دول العالم الثالث، وإن كانت الدول الكبرى ليست بمنأى عن ذلك، فـ"حتى المجتمعات القوميّة نفسها أضحت متأزّمة وصارت الجماعات داخلها تبحث عن هويّة خاصّة لها لمواجهة التيّار السريع للعولمة، ويكفي أن نتذكّر في هذا الخصوص أنّ فرنسا من بين أكثر الدول التي تسعى بجهد ونشاط لوضع حدّ لظاهرة العولمة التي أحدثت خللًا واضحًا في طبيعة البنيان الاجتماعيّ والنظام القيمي حتّى إنّها عبّرت، وبشكل رسميّ، عن قلقها حيال ظاهرة العولمة"^[40].

فيبرز هنا مدى الأهميّة الحيويّة للتنمية الاجتماعيّة الضامنة لصمود المجتمعات ولارتقاء حياة الإنسان. وقد أضحت – التنمية الاجتماعيّة "حاجة ماسّة وملحّة وعمليّة حيويّة، بعد أن أدّت العولمة إلى تهاوي حدود الزمان والمكان، مكتسحة الحدود الوطنيّة ومقوّماتها التقليديّة، في عصر انفجار الانفتاح على الدنيا"^[41]. فلم يسبق في تاريخ البشريّة "أن احتاجت المجتمعات إلى درجة عالية من الحصانة والمناعة الذاتيّتين حتّى تحتفظ بقدراتها على التعامل الفاعل مع انفجار الانفتاح من الفرص، ومن المستجدات والأخطار، والتحوّلات على الصعد المختلفة، وفي السلب والإيجاب، كما هي الحال الآن"^[42].

2- التأثير الثقافيّ

ولا شكّ أيضًا، وتحت وطأة هذه التطوّرات الثورويّة التي تقضّ مضاجع المجتمعات على أنواعها، أنّ ثمّة تحوّلات ثقافيّة جذريّة تحصل، من ناحية الإنتاج السلعي للثقافة الذي يطغى، اليوم، في عالم الشركات والصناعات الثقافيّة عبر العالم. ورأى البعض أنّ هذه "الشركات عبر القوميّة تُخضع أو تستبعد الثقافات القوميّة تحت ستار نشر الثقافة العالميّة واضعة في اعتبارها الحاجات الخاصّة بكلّ مرحلة وبكلّ فئة اجتماعيّة داخل كلّ دولة من دول العالم الثالث، كما تفرض سيطرتها على جميع الهوامش والفراغات الثقافيّة والإعلاميّة سواء في دول المركز أم الأطراف، دول العالم الثالث، وذلك لضمان تحقيق أهدافها على المستوى العالميّ والمحلّي"^[43].

وثمّة مَن يتّهم أميركا وأوروبا – ما يسمّى بالغرب – بعولمة الثقافة، مخترقتين، تدريجيًّا، وبواسطة الشركات المتعدّدة الجنسيّة المذكورة آنفًا وبفضل مؤسّساتها الإعلاميّة الفضائيّة العابرة للقارّات، والتمايزات والاختلافات والهويّات الثقافيّة. فإنّ "التكنولوجيا الحديثة قد وظّفت بما يساعد على الاختراق الثقافيّ والإعلاميّ يهدف إلى تغيير البنى الثقافيّة التقليديّة، وتبديد أي تنمية مستقبليّة لا تتّفق وأهداف الاستراتيجيّة العولميّة"^[44].

وثمّة مَن يُصرّ على مواكبة التطوّر، فالجمود موت حتميّ، ولكن من دون الانجراف إلى درجة الذوبان الثقافيّ، فيميّز بين عالميّة الثقافة وعولمة الثقافة "حيث إنّ هناك فرقًا شاسعًا بين مجرّد الانفتاح الثقافيّ العالميّ وبين فرض الهيمنة على العقليّة الاجتماعيّة البشريّة. ففاعليّة الثقافة تجسّدها تكنولوجيا الاتصالات والحواسيب والتشابك الاقتصاديّ بينما تشكّل العولمة الثقافيّة فرض نهج بذاته ومصالح وقيم ثقافيّة بذاتها"^[45].

ومهما يكن، فمن الثابت أنّ العولمة طالت بنتائجها مجال الثقافة والقيم، وكان لها آثار بالغة فيه، "بل إنّ هذا المجال تحوّل إلى ساحة من ساحات فعلها المباشر، فاشتغلت السياسات العولميّة على قيمه وحوّلتها إلى موضوع مباشر للاستثمار"^[46]، والسيطرة على المادّة الثقافيّة صناعةً وتسويقًا، في جملة أهداف السياسات العولميّة الكبرى. و"ما الإنفاق الخياليّ على برامج الإعلام الفضائي في الغرب، منذ ميلاد الـ CNN قبل نحو عشرين عاماً إلاّ المثال الأكثر جلاءً عمّا عنَتْه المادّة الثقافيّة في استراتيجيات العولمة من رهان ربحيّ ومصلحيّ بعيد الأثر والفائدة"^[47].

وما يقال عن الإعلام الفضائيّ ينطبق على مجال شبكة المعلومات الدوليّة وبرامج إنتاجها والتحكّم في مادّتها ومضمونها.

3- التأثير الاقتصادي

أورد صندوق النقد الدوليّ في تقريره السنويّ الصادر العام 1977 أنّ العولمة هي "التعاون الاقتصاديّ المتنامي لمجموع دول العالم، والذي يحتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوّعها عبر الحدود، إضافة إلى تدفّق رؤوس الأموال الدوليّة والانتشار المتسارع للتقنيّة في أرجاء العالم"^[48].

ما كانت العولمة لتضطلع بهذا الدور الكبير في الوقت الذي يعتبره البعض خطرًا لولا بُعدها الاقتصاديّ الذي تمتاز به. فالعولمة الاقتصاديّة هي الأداة الرئيسة الأكثر فعاليّة وتأثيرًا. وتجلياتها واضحة وأكثر حضورًا حيث تبرز زيادة في الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصادات القوميّة إلى جانب ظهور وحدة الأسواق الماليّة وزيادة المبادلات التجاريّة في إطار نزعت عنه قواعد الحماية التجاريّة تطبيقاً لاتفاقات التجارة الحرّة.

وهذه العولمة الاقتصاديّة، وبموجب ما وصلت إليها التطورات التكنولوجية "الثورويّة" وانعكاساتها على الأوضاع الماليّة والمصرفيّة والتجاريّة والصناعيّة...، صارت أمرًا واقعًا وضرورة، وأصبحت مكسبًا حضاريًّا للإنسانيّة جمعاء لدى البعض من جهة، وشرًّا لا بدّ منه من جهة أخرى.

في المقابل، يرى الأوّلون في العولمة الاقتصاديّة حسنات جلّى. فهي تؤدّي إلى زيادة رفاهية الأفراد حيث تمنحهم فرص شراء منتجات أكثر تنوّعًا وجودة وأقل كلفةً في السوق "العالميّة"، وإلى زيادة فرص النموّ للشركات من حيث اتساع أسواق الصادرات والحصول على موادّ خام عمالة بسعر أقل^[49].

فيما الآخرون يوردون سيئات العولمة بكونها تؤمّن تجارة تزيد الأغنياء غنىً والفقراء فقرًا، وتضاعف هيمنة الشركات المتعدّدة الجنسيّة على حساب حرّية الأفراد بحيث تعتبر عولمة الشركات هي النافذة بينما عولمة البشر غير مسموح بها^[50].

 

الـخاتـمة

إذاً، إنّ العولمة تفرض نفسها قضيّة مصيريّة تقضّ مضاجع الشعوب والدول والأوطان جميعًا. فهي في صلب حياة الإنسان، اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، تشكّل خطرًا حقيقيًّا على هويّته وثقافته لمصلحة هويّة وثقافة لا ترتبطان بأي مكان أو زمان، فهما خليط حقيقيّ من عناصر متناقضة ومجهولة الأصل والجذور^[51] لأنّ الاندماج في العولمة لا يقتصر على اكتساب مهارات وقدرات جيّدة مثل إجادة استخدام الحاسوب وتصميم البرامج والعمل على شبكة الإنترنت، بل "على الأفراد الذين يسعون إلى الاستفادة من العولمة وجني ثمارها أن يندمجوا في منظومتها الثقافيّة وأن يقوموا بتكييف اتجاهاتهم وأنماط تفكيرهم مع منظومة القيم التي تتطلّبها تفاعلات العولمة".

كما يلفتنا عدم وجود أي شكّ في تأثير العولمة الخطير على مفهومَي سيادة الدولة وحدودها الإقليميّة، إذ إنّها بأدواتها الإعلاميّة "ستمارس دور الدولة إن لم تكن قد حلّت محلّه تمامًا، حيث تمارس عبر محرّكاتها الأوليّة عمليّة تقليص سيادة الدولة وتهميش دورها، لتصبح أمور إدارة الدولة شأنًا تتقاسمه الحكومات مع المنظّمات الدوليّة والمنظّمات غير الحكوميّة والشركات المتعدّدة الجنسيّة بشكل مباشر أو غير مباشر"^[52].

هذه الشركات والمنظّمات استغلّت العولمة لرفع الحواجز من أمامها كي تمارس، بواسطة شبكاتها وأجهزتها وقنواتها الإعلاميّة الكبرى أنشطتها الثقافيّة والاقتصاديّة. والتفوّق التكنولوجي أتاح لها، وجميعها تابع للدول الكبرى، إمكان التحكّم في صناعة المعلومات والاتصالات من خلال الشركات العملاقة، ممّا شَكَّلَ حلبة إعلاميّة ثقافيّة، لن تصمد فيها إلاّ الأمم والشعوب التي تتمتّع بتراث غنيّ ومتين وثقافة عميقة الجذور، وإعلام حديث قادر على المنافسة وجذب الاهتمام وإقناع الناس.

وثمّة رأيان يتجاذبان العولمة: الرأي الأوّل يرى أنّ ما تشهده البشريّة من تبدّلات جذريّة نتيجة الثورة التكنولوجيّة هو "بلا شكّ يأتي لبناء مجتمع جديد بهيكليّة جديدة تنشر الخير وتحقّق الرفاهيّة"^[53]. أما الرأي الآخر فيعتبر العولمة "محاولة خارجيّة تتبنّاها الدول الاستعماريّة حيث تهدف بالدرجة الأساس إلى تسييد مفاهيم وقيم جديدة وإحلالها محلّ تلك التي تسود المجتمعات القوميّة على مرّ العصور، وهي بالتالي تحمل تحت ستارها مفاهيم مختلفة مثل الاستعباد والسيطرة وتشويه الهويّة القوميّة".

مهما يكن من أمر، لا بدّ من عولمة ذات بعد اجتماعيّ ثقافيّ منصف لجميع الشعوب والمجتمعات، عولمة منصفة يستظلّها الجميع بمساواة. ولتحقيق ذلك في رأينا يجب التركيز على الإنسان، أوّلاً باحترام حقوقه وهويّته الثقافيّة وتوفير العمل اللائق له وعدم المسّ باستقلاليّة المجتمعات، في دولة ديمقراطيّة قادرة على إدارة اقتصادها في ظلّ العولمة الاقتصاديّة بفعاليّة وعلى توفير الفرص لجميع مواطنيها بالسعي لتنمية مستدامة. وعلى الصعيد العالميّ يجب وضع قواعد عادلة للاقتصاد العالميّ تؤمّن فرصًا متساوية لجميع البلدان. وثمّة مسؤوليّة مشتركة للدول الكبرى لمساعدة الشعوب النامية والفقيرة.

 

المراجع

- عبد العزيز التويجري، الهويّة والعولمة من منظور حقّ التنوّع الثقافيّ، المنظّمة الإسلاميّة للتربية والثقافة، 1998.

- محمد عابد الجابري، قضايا من الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 1997.

- السيّد محمّد الشيرازي، "فقه العولمة: دراسة إسلاميّة معاصرة"، مؤسسة الفكر الإسلامي للنشر، بيروت، 2002.

- د. أحمد عثمان التويجري، مقال "الدين والعولمة"، المجلّة العربية، العدد 232، فبراير 2000.

- د. برهان غليون، "ثقافة العولمة وعولمة الثقافة"، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1999.

- باسيل يوسف، حقوق الإنسان من العالميّة الإنسانيّة والعولمة السياسيّة، مجلّة الموقف الثقافي، العدد 1997.

- محمد سعيد أبو زعرور، العولمة، دار البيارق، الأردن، 1998.

- نعيمة شوفان، العولمة بين النظم التكنولوجيّة الحديثة، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1998.

- د. مؤيّد عبد الجبار الحديثي، "العولمة الإعلاميّة"، الأهليّة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 2002.

- د. مجد الهاشميّ، "الإعلام الدبلوماسيّ والسياسيّ"، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 2011.

- محمد سعيد أبو زعرور، "العولمة"، دار البيارق، عمّان، الأردن، 1998.

- د. رواء زكي الطويل، محاضرات في الاقتصاد السياسيّ، دار زهران للنشر والتوزيع، الأردن، 2013.

- د. حيدر أحمد القطبي، "الدبلوماسيّة الشعبيّة بين الإعلام والدعاية والحرب النفسيّة"، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، 2013.

- د. علي حرب، حديث النهايات – فتوحات العولمة ومأزق الهويّة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000.

- د. عبد الناصر جرادات و د. محمد الطاهات وقدري الشكري، بحث في المؤتمر العلميّ الدوليّ (15-17 كانون الأوّل 2012) في جامعة الجنان، طرابلس، لبنان.

- د. مصطفى حجازي، "علم النفس والعولمة رؤى مستقبليّة في التربية والتنمية"، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، 2001.

-  أمل فؤاد عبيد، آليات العولمة آثارها وتجلّياتها، موقع "الحوار المتمدّن"، العدد 1782، 1/1/ 2007.

- د. عبد الاله بلقزيز، مقال بعنوان "في العولمة الثقافيّة وآثارها"، موقع "انفوبلقزيز" الالكتروني، 29 آذار 2010.

 

تقارير

- تقرير صندوق النقد الدولي لعام 1977، وثائق الأمم المتحدة.

- تقرير بعنوان العولمة الاقتصاديّة : فرص أم تحديات، دائرة الماليّة في حكومة دبي، 2007.

 

معاجم

- المنجد ، فؤاد افرام البستاني، دار المشرق، بيروت، طبعة 23، 1979.

- ويبستر، New collegiate dictionnary، 1991.

- ويكيبيديا.

Lebanon’s sovereignty in the time of globalization

A massive revolution in communication and information is taking our world by storm nowadays and we became now living in the “time of globalization”. It is the revolution of numbers and letters, the revolution of a new world system with no restraints to limit its motivation, nor obstacles to block its infiltration to states, communities and families.
This computerized evolution has repercussions on all communities, particularly in the 3rd world. Repercussions that have exposed main challenges, particularly regarding national and cultural identity, even though it has provided major opportunities for people to strengthen communication, develop understanding and deepen close relations, regardless of the ethnicities and orientations.
There are 2 opinions regarding globalization: the 1st opinion considers that the radical changes that the Humanity is witnessing as a result of the technological revolution “undoubtedly aim to build a new community with a new structure that spreads welfare and achieves luxury”. As for the other opinion, it considers that globalization is an “external attempt adopted by colonial sates, as it aims in the first place to spread new values and concepts to replace those that have been controlling national communities over the ages and that hold different concepts such as slavery, domination and tainting the national identity”.
Regardless of the situation, a globalization with a social and cultural dimension that shades everyone is inevitable. In our opinion, in order to accomplish this goal, we should focus on the human being, mainly by respecting his rights and cultural identity, providing him with proper jobs and not targeting the independence of communities. At the global scale, fair rules for the world economy should be put forth, rules that provide equal opportunities for all countries.

La souveraineté du Liban à l’ère de la mondialisation
Notre monde témoigne actuellement une énorme révolution dans les domaines de communication et d’information, fait qui nous a rendu dans «l’ère de l’informatique», c’est la révolution des chiffres et des lettres, la révolution d’un nouveau régime mondial  ne possédant aucun obstacle limitant son empressement et nulle barricade qui pourrait empêcher son infiltration au sein des divers pays, sociétés et familles.
Cependant, ce développement informatique a des répercussions sur toutes les sociétés, notamment celles du troisième monde, qui imposent des défis principaux, surtout en ce qui concerne l’identité nationale et intellectuelle, nonobstant les chances que ces répercussions ont fourni aux peuples allant au raffermissement de la communication, à l’amplification de l’entente, et au renforcement de la convergence entre elles, peu importe qu’étaient ses différentes races et orientations.
En ce qui concerne la mondialisation en tant que telle, deux points de vue se manifestent: Le premier considère les changements drastiques qui ont eu lieu suite à la révolution technologique «viennent sans doute pour former une nouvelle société ayant une nouvelle hiérarchie qui propage le bien et assure le confort ». Alors que le deuxième considère la mondialisation comme une «tentative de l’extérieur adoptée par les pays colonisant et ayant comme objectif primordial de faire imposer de nouveaux concepts et de nouvelles valeurs, tout en remplaçant ceux qui régnaient les sociétés nationalistes tout au long des siècles par ces concepts et valeurs, c’est ainsi une tentative voilant divers concepts tel que l’asservissement, le pouvoir et l’altération de l’identité nationaliste».
Peu importe qu’était le cas, Une mondialisation à étendue sociale et intellectuelle et de laquelle bénéficieront tous à titre égal. Pour y accéder, l’indispensable à notre avis est de se concentrer sur l’Homme en tant que telle et ce, en respectant ses droits et son identité intellectuelle, en lui fournissant l’emploi convenable, ainsi qu’en ne touchant point à l’indépendance des sociétés. Or au niveau mondial, il faut mettre des règles justes équitables vis-à-vis de l’économie mondiale qui fournissent des chances égales à tous les pays.