- En
- Fr
- عربي
خلف كل بطل... أبطال
حياتنا محفوفة بالقلق...وايضاً بالفخر والاعتزاز
خلف كل بطل في ساحة المعركة عائلة بطلة. عائلة تشارك في أداء الواجب المقدس وصناعة النصر.
بين جنبات كل بيت من بيوتهم زوجة وأولاد، أم وأب، أخوات وأخوة، ينتصرون على قلقهم لكي تستمر الحياة، يتصدون لخوفهم ليظلّ البطل في ساحة المعركة بطلاً. يبتكرون وسائل تجعل الانتظار أمراً ممكناً احتماله بينما ربّ العائلة أو إبنها على خط النار.
في حالات السلم والاستقرار، قد لا يكون حاضراً في أذهان الكثيرين منّا أن حياة العسكريين وعائلاتهم لا تشبه كثيراً حياة سواهم، أمّا عندما يدق نفير الخطر، فالفارق يصبح فاقعاً، جلياً لا يحتاج الى تظهير ولا يحيطه لبس.
نعود الى بيوتنا ويعود أزواجنا وأولادنا وأخوتنا. ولكن، ثمة بيوت أخرى في جوار كل منا، يسيجها الشوق الى الأحباء والخوف عليهم.
مذ يعتمر العسكري واجبه ويمضي الى الخدمة، يدرك أهله أن الوطن بات شريكهم في الإبن الذي أحاطوه برموش عيونهم ليصبح رجلاً. وتدرك زوجة العسكري أنها اختارت لحياتها شريكاً قد لا يكون حاضراً الى جانبها في كثير من الأوقات الصعبة، وأنها مضطرة الى النهوض بمسؤوليات البيت والعائلة. ويلاحظ الأولاد أن والدهم مشغول أكثر من آباء رفاقهم، فتصبح مأذونيته العيد الذي ينتظرونه.
هذا في الأساس وفي الأحوال العادية، أما في أحوال كتلك التي ولّدتها معارك نهر البارد، فقد كان السؤال يلح علينا: تُرى كيف تمرّ الأيام في بيوتهم؟ انطلقنا ومعنا السؤال، دخلنا العديد من المنازل. ولكن كان من الصعب أن نسأل فاكتفينا من الكلام بما يعبّر عن تضامننا ودعمنا وتقديرنا لما تقاسيه كل عائلة في ظل وجود الزوج أو الأب أو الأخ في ساحات البطولة والخطر.
في بيوتهم وجدنا أن عبق البطولة والعنفوان يمتد من ساحات المعركة الى جنبات البيوت بخط متواصل متين لا يقطعه الخوف ولا يوهنه حجم التضحيات.
في بيوتهم التقينا نساء مؤمنات بأن جيشنا يحمي بالعرق والدم بقاء لبنان وكرامته. وفي بيوتهم عاينا الفخر ينتصر على جحيم النيران والخطر، ولمسنا عمق الروابط التي ينسجها كل عسكري بين عائلته وقطعته، بين عائلته وجيشه، وبينها وبين الوطن.
نحزن ونقلق لكننا لا ننهزم
على تلة جميلة منزل العميد الركن نبيل نصر، هدوء تام يلف المكان والمنزل معاً، وكأن السكون من علامات الإنتظار.
تطل السيدة هناء زوجة العميد الركن نصر مرحّبة بإبتسامة كبيرة: أهلاً بكم، يعطيكم العافية، أنتم أيضاً تشاركون العسكريين تعبهم وجهودهم.
نشكرها ونشعر بشيء من الحرج: إنّ أي جهد قد يبذله الواحد منا لا يساوي نقطة عرق على جبين عسكري في المعركة، فما الذي قد يضاهي دمهم الذي سال من أجلنا؟ أو ما الذي قد يخفف من قلق طفلة تسأل: «متى يعود البابا إلى البيت؟».
بالنسبة إلى السيدة هناء إنّ ما يخفف عن عائلات العسكريين وطأة الخوف والقلق هو الإيمان بالله والإيمان بأن الجيش يقوم بواجب مقدّس. فواجبه أن يحمي الوطن من الخطر أياً كان مصدره. والمعركة التي يخوضها اليوم هي معركة بقاء لبنان.
تقول: على الرغم من شعورنا بالقلق والخوف وهذا أمر طبيعي، فإننا نشعر بالإعتزاز والفخر بهؤلاء الأبطال الذين يصنعون بقاء لبنان بتضحياتهم ودمائهم، ويواجهون بشجاعة الإرهابيين الذين غدروا بالعسكريين وهدّدوا أمن لبنان واستقراره واستمرارية كيانه.
وتضيف قائلة: ما يريحنا ويجعلنا نتحمّل هذه المرحلة بمعنويات عالية هو دعم الشعب اللبناني للجيش، وإجماعه على تثمين تضحياته واعتباره «خشبة الخلاص»، نشعر بذلك في كل لحظة وفي كل مكان.
تستأذن السيدة هناء للحظات وتعود بضيافة تناسب حرارة الطقس التي كانت مرتفعة جداً ذلك النهار.
ونسألها عن الأولاد الذين لم نشعر أنهم في المنزل. فتقول: عندنا ثلاث بنات، إنّهن عند أهلي، كنت وعدتهن أن نخرج معاً اليوم إذ أعود يوم الجمعة باكراً من عملي، أجّلت المشروع بعد إتصالكم بي، في أي حال لا رغبة لي بالخروج، مع أني أشعر بالتقصير في هذا الموضوع مع الفتيات، من حقّهن أن يتمتّعن بالعطلة وقد حرمن ذلك الصيف الماضي وهذا الصيف أيضاً...
• كيف كان وقع الخبر عليك عندما حصل الاعتداء على الجيش؟
- يومها اتصل بي زوجي في السادسة صباحاً ليبلغني أنه لن يأتي الى المنزل كما كنا نتوقع. شعرت بالخوف وسألته لماذا؟ قال: هناك أمر طارئ... عادة لا يتحدث عن تفاصيل تخص عمله.جلست أمام جهاز التلفزيون ورحت أنتظر خبراً ما. الى أن علمت بالمجزرة التي ارتكبها الإرهابيون. كان الأمر فظيعاً، لا يمكن وصفه. شعرت بالغضب والحزن وايضاً بالخوف، إنهم يستهدفون الوطن. العسكريون تعرضوا لغدر شنيع، حزنت على كل واحد منهم، هؤلاء الشهداء ورفاقهم افتدوا لبنان بدمائهم.
• بحكم مسؤولياته لا يأتي زوجك إلى البيت إلاّ قليلاً، كيف تتعايشون مع الأمر؟
- ندرك أن حياة العسكري لها متطلباتها. وقد سبق أن عشنا ظروفاً مماثلة الصيف الماضي عندما تعرّضت مراكز اللواء لإعتداءات إسرائيل. أنا أقدّر حجم المسؤوليات التي يتحمّلها زوجي، وأقدّر شعوره، كل عسكري هو بمثابة ابن له وقد استشهد منهم كثيرون، أشعر أن من واجبي أن أشاركه كل ذلك.
• حياة العسكري محفوفة دائماً بالخطر، وحياة عائلته محفوفة بالقلق والخوف...
- نعم، وإنما كذلك بالفخر والاعتزاز، تعودنا الانتصار على المشاعر السلبية، نحن نتأثر، نحزن ونقلق، لكننا لا ننهزم. عندما اتصل بزوجي لأطمئن اليه أشعر أن من واجبي تقديم الدعم له، ليس عادلاً أن يكون في موقع المسؤولية على الجبهة ويكون ايضاً مشغول البال على عائلته.
• والفتيات؟
- يشتقن الى والدهن كثيراً. لكنّهن شديدات الفخر به، بالأمس كان عيد الجيش، إبنتي الصغيرة كانت ترندح طوال النهار: «تسلم يا عسكر لبنان».
مغاويرنا
نقصد منزل قائد فوج المغاوير العقيد الركن صالح قيس. تستقبلنا زوجته السيدة دلال وهي تفيض حيوية على الرغم من أنها بالكاد تستطيع السير على قدمها المصابة بشعر استوجب تجبيرها. وإذ تصرّ على القيام بواجب الضيافة بنفسها مهتمة بأدقّ التفاصيل، نرجوها بألاّ تتعب نفسها.
تقول: وما بي أنا؟ قدمي تؤلمني قليلاً، ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى ما يعانيه الشباب... إنّهم يقيمون في الخطر، لا يحظون بدقيقة يرتاحون فيها، بالأمس سقط من شبابنا شهيد، نحن في بيوتنا لا ينقصنا شيء.
• مما لا شك فيه، انكم تعيشون مرحلة قاسية...؟
- في البداية كان وقع الأحداث أليماً جداً، شعرت بكثير من القلق، أمضيت نحو أسبوعين وأنا أسيرة نشرات الأخبار والهاتف، الجيش يخوض معركة شرسة ضد إرهابيين مجرمين لا ضوابط لإجرامهم، إنّها معركة لم يسبق أن خاض الجيش مثيلاً لها.
كنت أفكّر بالشهداء، بالجرحى، بمصير البلد، زوجي الذي يواجه الخطر... في لحظة قلت لنفسي: انهضي يا امرأة، زوجك يشارك في معركة بقاء لبنان، يجب أن تكوني قوية وعلى مستوى المسؤولية، ثمة عائلة أنت مسؤولة عنها في غيابه.. تماسكت، سلّمت أمري للّه وشعرت أنني أختزن من الشجاعة والصلابة قدراً لم أعهده في نفسي.
عندما أحدّثه، أمازحه، أحاول أن أخفف عنه وطأة الضغط الذي يعيشه، أدرك جيداً كم هي قاسية الظروف التي يعيشونها: ضراوة القتال، إستشهاد رفاق، إصابة آخرين، دويّ القصف والإنفجارات، القنص، الغبار... كل ذلك يشعرني بأنني معنية بهذه المعركة بل متورّطة فيها وبكل جوارحي، والوسيلة الوحيدة المتاحة أمامي للمشاركة هي من خلال دعم زوجي وعسكرييه. هذا الشعور يمدّني بالشجاعة.
• ماذا تفعلين إذا استبدّ بك القلق عند إشتداد المعارك؟
- (تضحك) عندي «عميل سرّي» هناك أتصل به (وتسمّي أحد مرافقي زوجها) يخبرني بتفاصيل لا يخبرني بها زوجي، على أي حال أنا أتحاشى الاتصال عندما تكون المعارك حامية، زوجي يتّصل في الوقت الملائم من دون أن يقول الكثير، أحياناً أعرف من نبرة صوته أنّ أحد العسكريين إستشهد أو أصيب.
• ماذا يقول لك إجماع اللبنانيين على تقدير الجيش وإندفاعهم إلى الوقوف بجانبه؟
- يقول لي الكثير، هذا الإجماع هو من أهم مصادر قوة عائلات العسكريين والعسكريين أنفسهم، يكبر قلبنا عندما نعاين مظاهر الدعم ونرى علم الجيش مرتفعاً فوق الشرفات وفي الساحات. هذا يقول إنّ المواطنين يقدّرون فعلاً تضحيات العسكريين ويدركون أهمية هذه المعركة.
وتضيف: جيشنا يستحق كل التقدير، وقفته رائعة، وعلى الرغم من تواضع إمكاناته فهو لم يتردّد لحظة في أداء الواجب. الثمن الباهظ الذي دفعه لم يثنه عن متابعة مهامه، والإنقسامات السياسية في البلد لم تؤثر بأي شكل على أدائه ومناقبيته. جيشنا رائع بشجاعته وتماسكه ووعيه لحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وقد أكد مرّة جديدة أنه أهل لها.
ونسأل السيدة دلال عمّا يعني لأولادهما كون والدهما ضابطاً مغواراً يشارك في هذه المعركة، فتجيب:
إنهما فخوران جداً بوالدهما، عندما يخاطبانه يقولان له «يا بطل»، أكثر من ذلك فهما يشعران أنهما معنيان بالأمر مثل والدهما تماماً. حين يتعذّر عليه القيام بواجب التعزية بأحد الشهداء أو زيارة الجرحى، فإنّ الشباب يتولّون الأمر.
الحديـث عـن الشهداء لا يتوقـف عنـد العموميـات، تذكر السيّدة دلال تفاصيل حول ظروف استشهاد بعضهم، وتخبرنا تفاصيل أخرى متعلّقة بعائلاتهم. من جهتنا نتوقف عند ما تقوله ونستشعر عمق الروابط التي تنشأ بين عائلة العسكري وقطعته. وسرعان ما يأتينا تأكيد جديد، إذ تستعمل عبارة «مغاويرنا» للدلالة على الفوج الذي يقوده زوجها. نسألها إن كان المقصود من العبارة التمييز بينهم وبين مغاوير البحر، فتقول: الأمر أكثر من ذلك، أشعر أن كل واحد منهم جزء من عائلتنا.
وتروي لنا:
منذ أيام سافر ابني، قبل سفره ذهب إلى نهر البارد ليودّع أباه، أمضى معه النهار، في أعماقي قلت: هذا جنون أن يكونا معاً في الخطر، هذا كثير؛ في المقابل شعرت كم من المهم له أن يعيش ما يعيشه والده والعسكريون هناك ولو لساعات، فلم أعترض.
نستودعها على أمل أن نلتقي مجدّداً وقد أنجز الجيش مهمته بالإنتصار. تقول: النصر أكيد، أكيد، لا شك في ذلك، المهم أن يحمي الله الشباب. لقد دفعوا من دمهم أغلى الأثمان.
هذا واجبه
وإلى منزل آخر، حيث يمضي قائد الفوج المجوقل العقيد الركن شربل الفغالي وسط عائلته، فترة من النقاهة إثر إصابة بليغة إستوجبت بقاءه عدة أيام في غرفة العناية الفائقة إلى أن زال عنه الخطر.
زوجة العقيد الفغالي السيّدة فاديا وأولادهما يتحلّقون حوله. لقد عاشت العائلة أياماً من القلق تساوي كل لحظة فيها دهراً. تستذكر السيّدة فاديا الأيام الصعبة وتقول:
الله سبحانه حماه.. كانت إصابته خطرة، لكنّه نجا والحمد للّه... أعرف زوجي جيّداً هو لا يهاب الخطر، كنت أقول له دائماً: إنتبه لنفسك، فيقول: لا تقلقوا سوف نهزمهم.. هو دائماً في المواقع الأمامية إلى جانب عسكرييه أنا فخورة جداً به، لكنني أقلق عليه خصوصاً بعد ما حصل.
يتجه نظرنا إلى العقيد وإلى وجهه الحامل كل علامات الثبات والإيمان، فيقول بهدوء يعيد السكينة إلى نفوس أفراد العائلة:
طبيعي أن أكون إلى جانب رجالي في المعركة أنا مسؤول عنهم، قربي منهم يزوّدهم الإندفاع والثبات ويزوّدني الرضى والإطمئنان، يجب أن أتفقّدهم بإستمرار... في أي حال لم أصب لأنني إستخففت بمبادئ الحيطة والحذر، كنت في وضعية تدرؤ، لكنّها إرادة الّله. الأمر كان سيحصل بطريقة ما، حتى لو كنت في منزلي وسريري... ما يزعجني فقط، هو أن إصابتي جعلتني بعيداً عن رجالي الذين يقاتلون بشجاعة وشراسة وعنفوان على الرغم من كل شيء.
ونعود إلى السيدة فاديا التي تسلّم بما يقوله زوجها من دون أن تستطيع إخفاء ما تشعر به فتقول:
لقد إعتدوا على جيشنا، إعتدوا على وطننا، عسكريونا وقعوا ضحية غدر شنيع وكان من الطبيعي أن يهب الجيش للدفاع عن كرامته لكي لا يسقط الوطن. ولكي يردع الإرهابيين ويستأصل خلاياهم.
• عندما يتعافى العقيد ويعود إلى الجبهة ماذا ستقولين له؟
- أقول له اللّه يحميك ويحمي الجيش، إنتبه لنفسك، ماذا أفعل؟ هل يمكنني أن أتمسك به وأقول له لا تذهب مجدّداً! هذا عمله وهذا واجبه. تصمت قليلاً لتعود وتقول: عندما بدأت المعارك كان مركز زوجي في بيروت، إلتحق الفوج بنهر البارد ولم يخبرني. طوال أسبوع كامل كنت أتصل به وأسأله يومياً أين أنتم فيجيبني: ما زلنا في بيروت، لم أكن أصدّقه، بعد ذلك عرفت من الأخبار أن الفوج إلتحق بالمعركة. سلّمت أمري وأمره للّه وانصرفت إلى شؤون عائلتي وعملي. أتابع الأخبار، أصلّي، وأنتظر أن يتّصل بي لأطمئن إلى أنه بخير... في أي حال هذه ليست التجربة الأولى بالنسبة إليَّ، منذ تزوّجنا أدركت أنّ الخطر له حصة كبيرة في حياتنا. أيام معارك ضهر الوحش عانينا الكثير، كان الأولاد صغاراً. إستشهد وجرح الكثير من رفاقه، وظللت أيّاماً لا أعرف مصيره... في أي حال نحن نستمر في احتمال التجارب والقلق بالإيمان، وبما نلمسه من تعاطف المواطنين معنا. عندما كنا في المستشفى أتى كبار الأطبّاء يعلنون رغبتهم في الإلتحاق بمراكز طبية قريبة من المخيم لتقديم العناية السريعة للحالات الخطرة بدلاً من نقلهم إلى بيروت، يكبر قلبنا إزاء ما نلمسه من تعاطف، ويكبر إيماننا بقدسية المهمة التي يؤدّيها الجيش.
أبي رفع العلم وأنا رأيت الصور
أولاد العقيد الفغالي، يعربون جميعهم عن فخرهم الكبير بالوالد البطل. لكنّهم لا يخفون خوفهم عليه خصوصاً بعد أن تعرّض للإصابة. وإذ نسأل إحدى الصبايا، هل تشعرين أنّك ظلمت لأن والدك ضابط مقاتل معرّض للخطر؟ تقول: لماذا أشعر بالظلم. إنّني أشعر بالفخر والإعتزاز، أنا فخورة جداً بأبي، أحبّه جدّاً وأتمنّى أن ينتبه لنفسه. أمّا الابن الأصغر (9 سنوات) فيخبرنا بحماسة أن والده رفع العلم في أحد المراكز المهمة يقول: شاهدت الصور، حنا (أحد العسكريين) صوّره بالخليوي. ونسأله: هل تعلم ماذا يعني أن يرفع العلم على موقع ما؟ يقول: يعني أن الجيش إحتلّه... وهل تخاف على والدك؟ «أبي يقول لي أنا أقوى منهم لا تخف، إنّه بطل، لكنّني خفت عندما أصيب».
وإذ يقترب من والده أكثر، نودّع العائلة الفخورة ببطلها، متمنّين له الشفاء التام والسلامة والنصر القريب للجيش وللبنان.
واليوم أيضاً...
وقبل المغادرة نذكّر العقيد الفغالي أنه حين سألناه عن أحوال العسكر إثر إنتشارهم على المعابر الحدودية حيث لا مراكز تأويهم، قال: «عسكرنا ما في منو بالدني. أطلب من العسكريين أن يجهّزوا أنفسهم لمهمة في بيروت، خلال دقائق يكونون جاهزين. تأتي أوامر أخرى للتوجه إلى الجرد، وأيضاً خلال دقائق يكونون جاهزين. لا شكوى، لا تأفّف، لا تذمّر، ولا تخلّف، بل جهوزية دائمة في كل الظروف والأحوال».
هزّ برأسه وقال: واليوم أيضاً، وبعد أن سقط من سقط من الشهداء والجرحى، وبعد كل التعب، أقول: «عسكرنا ما في منّو بالدني». يقاتلون اليوم وكأن المعركة بدأت للتو... يستمرّون شجعاناً لا يضاهيهم عسكر صلابة وتماسكاً وبسالة.
عدوى البطولة
تبدو السيّدة رامونا شريم زوجة قائد فوج مغاوير البحر كتلة من الحماسة، كلامها، إشاراتها وكل ما فيها يجسّد مدى إندفاعها وإنخراطها في المعركة التي يخوضها الجيش. وعلى الرغم من أن ملامح القلق تظل حاضرة في عينيها، فليس من الصعب أن نكتشف كيف تنتشر عدوى البطولة في بيت ضابط مغوار، وزوجة شجاعة أمام مسؤولياتها، خصوصاً أنها ترعرعت منذ الصغر في بيئة عسكرية بامتياز:
والدها عسكري متقاعد، شقيقها ضابط شهيد، وشقيقها الآخر ضابط يشارك في العمليات في معركة نهر البارد. تشعر بعمق الروابط التي تشدّها إلى الجيش ومن خلاله بعمق الإنتماء إلى الوطن.
• زوجك في الجبهة وأيضاً شقيقك، هذا أمر صعب كيف تواجهينه؟
- ليست المرّة الأولى التي نعيش خلالها ما نعيشه اليوم. مررنا بالكثير من التجارب، أيّام معركة الضنية كنت أقول في نفسي: كل ما أريده أن يعود زوجي، أريد أن أمسك بيده وأتأكد أنه ما زال هنا.
مرّت علينا ظروف أخرى صعبة. الآن نعيش التجربة بشكل أقسى. إنها معركة لا سابق لها، معركة مصيرية. كل ما أفكّر فيه الآن هو أنّ من واجبي أن أدعم زوجي بأي وسيلة، وأن أشعره بمدى تقديرنا لتضحياته وتضحيات عسكرييه من أجلنا، ومن أجل لبنان. أمّا قلقنا عليه، وغيابه عن البيت وشوقنا إليه فأمور نحتملها بالإتكال على اللّه. إنه ضابط وهو يقوم بواجبه، هذا عمله وهذه حياته وأنا إخترت أن أكون شريكته. على أي حال في ظروف كهذه لو أتى إلى المنزل فإنّ عقله وقلبه سيكونان مع الشباب في المعركة، أعرفه جيّداً، لا يستطيع الإبتعاد ولا يرتاح إلاّ إذا كان قرب رجاله. بالنهاية عندما يتعرّض الوطن للخطر من واجب الجيش أن يحميه ويتصدّى للخطر. وهذا ما يفعله العسكريون اليوم، إنّهم يؤدّون واجبهم المقدّس.
• هل تحبّين أن توجّهي كلمة لزوجك؟
- أحبّ أن أقول له وبصوت عالٍ كم أنا فخورة به وكم أحبّه.. إنّه بطل وهو أب بكل ما للكلمة من معنى، أبوّته لا تشمل فقط أولاده وإنما كل عسكرييه. حرصه على كل واحد منهم يوازي حرصه علينا، وهم يبادلونه أعمق مشاعر الحب والإحترام. وهذا ما يشعرني بالإطمئنان. لقد إتّكلت على اللّه منذ البداية وإيماني يستمر قوياً. سينتصر الجيش وينتصر معه لبنان.
• لديكم أربعة أولاد، كيف يتصرّفون حيال شوقهم إلى والدهم وقلقهم عليه؟
- إنّهم فخورون به، يقدّرون تضحياته، ونحن نذهب بإستمرار إلى الشمال لنمضي معه بعض الوقت، ولو ساعة.
تصمت قليلاً وتتابع:
إنّهم يتغلّبون على قلقهم، عندما يكلّمهم يشعرون بالإطمئنان، وهم بدورهم يحاولون دعمه خصوصاً عندما يشعرون أنه حزين، نمرّ بأوقات عصيبة حين يستشهد أحد عسكريينا. هذا الأمر هو أصعب ما نواجهه على الإطلاق، فزوجي يحسّ أنّ جزءاً من عمره راح، ونحن نشاركه الإحساس ذاته ونحاول أن ندعمه. مرّة سمعت إبني يكلّم والده، كان يقول له: أنت علّمتنا أنه يجب أن نكون أقوياء في مواجهة الصعاب، ونحن نريدك أن تظل قوياً على الرغم من كل شيء، وأن تنتصر على الإرهابيين.
تحبس السيّدة رامونا دمعة قبل أن تشرح: كان ذلك بعد إستشهاد أربعة من خيرة رجال الفوج، سائق زوجي إتّصل بطوني وقال له: والدك لم يذق طعاماً منذ يومين، كلّمه وخفّف عنه... كم شعرت بالفخر، إبني أصبح رجلاً مثل أبيه.
بابا انتبه عَ حالك وعَ عسكرك
تشعر إبنة الأربع سنوات بمدى تأثّر والدتها، تقترب منها وكذلك تفعل شقيقتها التي تبدو عيناها خزّاناً من الحنان.
• نسأل الصغيرة: قدّيش مشتاقة للبابا؟
- «كتير، كتير».
• هل تكلّمينه كل يوم؟
- «لا، أوقات بس، فأبي مشغول كتير، عم يحارب لأنّو في أشرار قتلوا العسكر وبدن يخرّبو لبنان».
• عندما تنتهي الحرب ويعود إلى البيت ماذا ستقولين له؟
- «بدّي بوسو كتير كتير، وقللو أنت بطل وأنا بحبّك».
• والآن ماذا تقولين له:
- «إنتبه عَ حالك وعَ عسكرك».
قبل أن نودّع عائلة العقيد الركن شريم ونتمنّى لها جمع الشمل، تحملنا السيّدة رامونا كلمة أخيرة:
جلّ ما نتمنّاه أن تقدّر تضحيات هذا الجيش البطل وأن تحترم دماء شهدائه، فيصار إلى إيجاد حلّ للأزمة التي يعيشها لبنان. حرام أن يستشهد العسكريون دفاعاً عن وطنهم بينما لا يستطيع السياسيّون إيجاد حل للأزمة.
اخترت هذه الحياة بحلوها ومرّها
موعدنا مع السيّدة جومانا زوجة النقيب محمد ضاهر من فوج المغاوير، كان في منزلهما قرب بيروت، وإذ التبس علينا العنوان، اضطر السائق العسكري إلى السؤال اكثر من مرّة.
عسكري في سيارة عسكرية يسأل عن منزل ضابط! الأمر أثار في نفوس من سألناهم القلق والتخوّف.
إحدى السيّدات تطوّعت لمرافقتنا وفي الطريق أفصحت وقالت: «خير؟ إنشالله ما في شي مكروه على النقيب..؟»، طمأنّاها، النقيب بألف خير يقوم بواجبه، وما نحن بصدده ليس إلاّ زيارة للعائلة، تقول: الحمد للّه، وتدلّنا إلى المنزل.
زوجة النقيب ضاهر وشقيقته ترحّبان بنا بحرارة لكن وطأة القلق والإنتظار تبدو جلية في العيون وفي جنبات البيت.
النقيب المغوار يؤدّي واجبه في ساحة المعركة، ولداه (7 سنوات ونصف و6 سنوات) ذهبا إلى بيت جدّهما في بنت جبيل.
بنت جبيل... البلدة التي كانت في مثل هذا الوقت من العام الماضي كتلة من النار والدمار، أرض البطولة والنضال...
ها هو أحـد أبنائهـا يقـوم بواجبـه في الشمال...
وها هم أولاده في أحضان البلدة والأهل يقتنصون أياماً من اللّهو والفرح بإنتظار عودة الوالد.
تقول السيّدة جومانا: الطقس حار. ما ذنب الأولاد ليحرموا اللعب والطبيعة والهواء النظيف، أرسلتهما إلى بيت جدّهما، يمضيان هناك بضعة أيّام، هنا ضجر وحرّ. لا طاقة لي على مرافقتهما إلى البحر وأماكن اللهو، وزوجي يواجه الخطر كل لحظة. لماذا لا تذهب هذه السيّدة مع ولديها إلى الجنوب؟ هناك أهل زوجها وأهلها...
من دون كلام نفهم أنّ القلق والترقّب لا يتيحان لها مجالاً للإبتعاد عن المنزل.
هـي هنـا تتابـع التطـوّرات والأخـبـار، قـد يحظـى بمأذونية، قد تنتـهي المعركة قريباً ويجب أن تكون في المنزل.
ريما شقيقته تبدو رفيقة إنتظارها، الواحدة منهما تدعم الأخرى وتشدّ عزيمتها.
«إتّكالنــا على الله» تقول الأولى وتؤكّد الثانية، «هذه حياة العسكري».
• كيف يفهم الولدان غياب والدهما وكيف يتقبّلانه؟
- يشتاقان إليه ويكلّمانه، الصبي متأثّر جدّاً بأبيه «البطل». بدأت المعركة قبل أن ينتهي العام الدراسي. كان يخبّر المعلّمة عن أبيه، ويؤلّف قصصاً من وحي ما يسمعه، المعلّمة أرسلت بطلبي ظنّت أن ثمّة مشكلة ما، لم تكن تعلم أن والده في نهر البارد.
وتصف لنا ريما كيف يتحسّس الصبي الصغير جسم والده عندما يعود إلى البيت ليتأكّد فعلاً أنه بخير ولم يصب بأي أذى. أمّا البنت فتسأل عن والدها وعندما يكون في المنزل لا تفارقه.
والأهل؟ تجيب ريما: «بالهم مشغول كتير» لكنّهم يتّكلون على الله ويسألونه حماية أخي وجميع العسكريين.
نحاول أن نجد شيئاً نقوله، لكنّنا نكتشف صعوبة ولوج خصوصية المشاعر التي تعيشها عائلة في ظروف مثل هذه، وصعوبة إيجاد كلمات مطمئنة ومشجّعة. تأتي القهوة، ويرسو هامش من الوقت بين جنبات الكلام.
• عندمـا تزوّجـت ضابطاً هل فكّرت بالأوقات العصيبة التي قد تواجهينها في ظروف كالّتي أنتِ فيها اليوم؟
- إخترت زوجي واخترت معه هذه الحياة بكل ما فيها، حلوها ومرّها. كان صريحاً معي منذ أوّل الطريق، قال لي، قد تأتي أيّام تحتاجين أن أكون بجانبك وقد لا أكون هنا. أنا إخترت أن أشاركه حياته، صعوبة الحياة العسكرية تجعلني أقدّره أكثر، على الرغم من القلق والخوف أنا فخورة بزوجي، والإتّكال على الله.. في النهاية زوجي يقوم بواجبه تجاه وطنه. هذا واجب الجيش. أحياناً أفكّر بعد كل ما تكشف حول هذا التنظيم الإرهابي وما يملكه من سلاح. لو لم يردّ الجيش بسرعة ويلاحق الإرهابيين ماذا كان سيحلّ بلبنان؟ «الله يقوّي الجيش وينصره على جميع أعدائنا».
مع هذه العبارة وضعنا النقطة على السطر الأخير لجولتنا. عدنا إلى مكاتبنا منتظرين أن يكتب جيشنا البطل السطر الأخير في معركته ضد الإرهاب.
تصوير: راشيل تابت