- En
- Fr
- عربي
سياحة في الوطن
عرش ايل يتجسّد بشراً وحجراً
عرسال، بلدة اكتفت باسمها «عرش ايل» فارتفعت قريباً نحو السماء لتبسط ذراعيها واسعة تبتهل الى رب الكون شكراً على نعمته، وتستقبل أبناءً قُدّوا من صخرها رجالاً حوّلوا الوعر بساتين غنّاء وتركوا في كل جزء من لبنان، حجراً عرسالياً ذكرى.
عرسـال، مـارد وقـف في الـزمن الغابر على مفترقٍ حارساً قوافل الخير والبركة تعبر من ساحل الفكر والحضارة الى المقلب الآخر، ويحاول اليوم الخروج من قمقم الإهمال الذي أسرته فيه الأوضاع السائدة ليستمرَّ حارساً قيم المواطنية المؤمنة الصالحة من أجل قيام لبنان العزيز الأبي.
الموقع والتسمية
تقع عرسال في أقصى الشمال الشرقي من محافظة البقاع طي أودية وهضاب سلسلة جبال لبنان الشرقية. يحدّها شمالاً بلدات الفاكهة ورأس بعلبك والقاع، وجنوباً نحلة ويونين، وشرقاً الحدود السورية، وغرباً تجمع بلدات من رسم الحدث حتى اللبوة.
مساحتها البالغة حوالى 316.9 كلم2 تجعلها من كبريات البلدات اللبنانية حيث تشكّل أراضيها 5٪ من مساحة لبنان.
تشمخ عرسال برأسها عالياً حتى ارتفاع 2620 متراً (طلعة موسى جنوباً) ليتكلّل بالثلوج، وتمدّد قدميها على ارتفاع 1400 متر تغسلهما بسيول الخير والبركة تغذي آبارها وتروي بساتينها فتينع فاكهة وخضاراً، وسهولها فتنبت قمحاً ذهبياً، وتُخرج من جوفها، كما الماء والخصب، صخوراً تُقدُّ منها إرادة أبنائها وتنحت حجارة وآيات جمالية تزيّن منازل الوطن الكبير وقصوره. إنها حقاً عرش إيل، كما سماها الآراميون، أو مصطبة الله المشرفة من علُ على ما جاورها من قرى ودساكر. وتشير الخرائب والشواهد الأثرية المنتشرة فيها الى أنها سُكنت منذ العهود القديمة الفينيقية واليونانية والرومانية.
أما مناخها فشبه صحراوي، بارد شتاءً وحارّ وجاف صيفاً. وتتفاوت معدلات الأمطار على امتداد جغرافيتها فتراوح بين 150ملم في شمالها المنخفض، و350ملم في جنوبها وجنوبها الشرقي الشاهق.
تاريخها وآثارها
ما خُطَّ لعرش إيل تاريخ مكتوب لعمره الزمني، أهي مجرد صدفة أم إرادة إيل في نثر آثار في أرجاء عرشه تثبت أنها ما كانت يوماً خواءً، وهل يبقى العرش عرشاً إن خلا؟
ففي عرسال ثمانية وعشرون أثراً دارساً لقرى قديمة وأهمها: خربة الرعيان وحصنان (حصن وادي التون وحصن وادي الحنين) قديمان مهمان يدل موقعهما على أنهما كانا حارسين للقوافل عابرة ممر الزهراني بين القلمون في سوريا وسهل البقاع. ولكن، وللأسف، لم تُجرِ وزارة السياحة الى الآن أي مسحٍ لتلك الآثار التي لم توقظها من سباتها فتنطقها عن ماضيها أي دراسة. أما تاريخها الحديث فعريق مشهود: أهلوها المتمسكون بأهداب الإيمان والمتعلقون بعروبتهم قاوموا الأتراك أواخر العهد العثماني مقدّمين الكثير من أبنائهم شهداء على مذبح الوطن. فشنق أكثر من أربعين منهم في «حي البستان» في البلدة، وأعدم آخرون في بعلبك ودمشق. وتقف جرود البلدة، ذاكرة أهاليها شاهدة على ثورة توفيق هولو حيدر الذي خاض ورجاله معركة شرسة ضد الجيش الفرنسي في محلة «جوار النقّار» قتل بنتيجتها 13 جندياً فرنسياً. ومؤخراً سقط في حرب تموز 2006 ثلاثة شهداء بالقصف الإسرائيلي على جرود البلدة في القاع. وكذلك قدّمت عرسال ثلاثة شهداء من الجيش اللبناني في المواجهة مع تنظيم فتح الإسلام في نهر البارد.
وجهتنا عرسال وانطلاقتنا ترويقة قروية
«يجب أن ننطلق باكراً فالمسافة الى قبلتنا المقصودة طويلة، زهاء 126 كيلومتراً. يجب أن نغدو قبل أن يشتد حَميُ الشمس»، خاطبنا رئيس القسم مردفاً: «عرسال أفاقت وتنتظرنا رئيس بلدية ومختاراً وشعباً طيباً. ما خالفنا أمراً، ولو على مضض، وانطلقنا، وصدّقنا قولة من اصطحبنا حين سمعنا رنين جهازه الخلوي لا يهدأ وتعليقه «ثمة معاون أول في الجيش اللبناني ينتظرنا في شتوره ليرافقنا دليلاً حتى عرسال حيث ينتظرنا رئيس البلدية باسل الحجيري». إنه الجيش يستقبل «الجيش»، فكم ستكون مهمتنا سهلة وميسّرة.
ووفق المرسوم وقفنا في شتوره لنتعرّف على مرافقنا المعاون الأول أحمد خلف نتبع سيارته ليقودنا الى حديقة منزله حيث كان بانتظارنا رئيس البلدية ومائدة عامرة بما لذّ وطاب من «حواضر البيت» القروي: لبنة، جبنة، زعتر وزيت، زيتون، وخبز عربي ومرقوق، وقصبة وليّة نيّئة وخضار طازجة. كانت مفاجأة فغرت أفواهنا لتفضح لعاباً سال اشتهاءً. لم نقوَ على الاعتراض، فالاعتذار، عند أهل البقاع وبخاصة عرسال، نوع من الإهانة والإساءة الى قيم الكرم والإكرام والتكريم لضيف عزيز، فكيف إن كان الجيش اللبناني.
ومع هذه الترويقة بدأت سياحتنا في أرض الكرم والخير. فأطراف الحديث الذي تجاذبناه حول عرسال مع رئيس البلدية ومضيفنا استكملناه في دار البلدية بعدما ودّعنا أصحاب المنزل الذي استضافنا شاكرين كرم ضيافتهم وحسن ملقاهم.
الواقع البلدي في عرسال
في دار البلدية، احتضنتنا أفياء أشجار باحتها الخارجية الباسقة حيث فضّلنا لقاء «الريّس باسل» (كما ينادونه) فتُنعشنا نُسيمات تمسح وَسَناً بدأ يرخي ثقله علينا فترتخي جُفوننا.
بدأنا حديثنا عن الواقع البلدي في عرسال فأفادنا مستفيضاً: «تأسست البلدية العام 1952، وأولى انتخاباتها أجريت بعد انتهاء أحداث لبنان العام 1998، وبلغ عدد أعضائها آنذاك 18 عضواً. أما اليوم فالعدد 21 عضواً (من الرجال طبعاً) موزّعين على إحدى عشرة لجنة (من بينها الصحية، التربوية، الزراعية، الإعلامية، البيئية، الشراء والمناقصات...)».
أما عن المشاكل التي تعانيها البلدة فيقول: «أهمها مشكلة الصرف الصحي التي تؤرق السكان لما تشكله من تحديات سواء على الصعيد الصحي أو الاقتصادي أو البيئي. وهي تتطلب علاجاً عاجلاً نظراً الى تأثيرها المدمّر على المياه الجوفية ومياه الشفة والصحة العامة. ومن المتوقع أن يسوء الوضع باطراد خصوصاً في ظل الزيادة السكانية المرتفعة (700 حالة ولادة سنوياً)، والتوسع العمراني الأفقي الذي يعني زيادة في الحفر الصحية. وبإمكاناتها المادية المتواضعة نسبياً بالإضافة الى نقص خبرتها في هذا المجال، تعجز بلدية عرسال عن معالجة هذه المشكلة الداهمة والمكلفة والمتطلبة أموالاً باهظة وخبرات».
ويضيف الرئيس الحجيري: «ثمة مشكلة ثانية تضاهي الأولى أهمية، إن لم تبزها، وهي وضع الخدمات الصحية التي تعاني نقصاً شديداً فلا مستشفى في البلدة وإنما مركز صحي ترعاه البلدية ضمن إمكاناتها، وخمسة مستوصفات تابعة لجمعيات ومؤسسات تعاني بدورها نقصاً في التمويل والتجهيزات، ويقتصر دورها على حملات سنوية للتلقيح وبعض النشاطات الإرشادية بالتعاون مع وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية. أما الحالات الطارئة والاستشفاء فتعالج في مستشفيات بعلبك ورأس بعلبك وزحلة وبيروت، واحياناً في مشافي سوريا. ويجدر بالإشارة أن نسبة الإعاقة في عرسال نتيجة حوادث العمل وبخاصة في مناشير الحجارة والمقالع التي تشتهر بها بلدتنا، مرتفعة جداً، بحيث أن أي إصابة بليغة قد تتحوّل إعاقة دائمة، إن لم تعالج أولاً فور حدوثها وثانياً على يد طبيب اختصاصي نطاسي».
وعن الواقع الثقافي والترفيهي يتابع رئيس البلدية ليروي «أن الموقع النائي والإهمال الخدماتي انعكسا على الحياة الاقتصادية والاجتماعية وحدّا من الانطلاقة الثقافية للبلدة. فغياب البنية التحتية الثقافية والترفيهية كان ذا أثر سلبي واضح على تطور الحالة الثقافية والترفيهية. فعرسال تفتقد المكتبة العامة والملاعب الرياضية ودور الثقافة والترفيه، حتى انك تبحث عبثاً عن مركز لبيع الصحف والمجلات، وأكثر تنعدم النشاطات الثقافية أو الرياضية حتى في المدارس باستثناء بعض الحفلات التي تقام بمناسبة عيد المعلم وعيد الأم. وإذا علمنا أن عدد الأطفال التلامذة في مدارس عرسال يقدّر بحوالى 6000 تلميذ محرومين من أي مدينة ترفيهية أو ملاعب رياضية أو حدائق عامة، أدركنا هول الجريمة المرتكبة بحقهم وحق مستقبلهم.
ولكن البلدية، ووعياً منها لهذا الواقع المرير، عمدت وبالتعاون مع منظمة اليونسكو الى إنشاء نواة مركز ثقافي متعدد الأغراض وإنما محدود الإمكانات والقدرات لكنه يشكل مكان لقاء للأولاد والشباب بدلاً من ساحات الضيعة وشوارعها وأزقتها: وهنا اسمحوا لي بالكلام على تحدّي مثقفي بلدتي وهم كثر كثر لواقعهم فأصدروا من خلال البلدية نشرة «آفاق عرسال» التي تتناول المواضيع الثقافية والانمائية وغيرها، ويصدر منها شهرياً حوالى ألف نسخة. في الواقع تطور الوضع الاقتصادي على حساب الوضع الثقافي في عرسال».
مشاريع بلدية إنمائية
يتركّز مجمل المشاريع التي نفّذتها البلدية في مجلسيها السابق والحالي على البنى التحتية (شق الطرق الداخلية وتوسيعها وتعبيدها، إنارة، تلزيم النفايات الصلبة). وقد شقّ المجلس البلدي الحالي طريقاً الى المنطقة الصناعية وعبّدها وآخر زراعياً الى منطقة الجرد الأوسط وما يزال قيد التنفيذ، كما نسّقت بعض الحدائق الصغيرة في الساحات العامة.
أما بالنسبة الى المشاريع الإنمائية فهي، كما يقول رئيس البلدية، «تتم مع جهات مموّلة غير حكومية، بالاضافة الى بعض المساعدات الإنسانية التي قدّمتها البلدية للمحتاجين والدعم لمساجد البلدة».
أما المشاكل التي تعيق عمل المجلس البلدي فلخّصها رئيس البلدية بهذه النقاط:
- ضعف الخبرة في الإدارة والتخطيط ويشمل كل أهالي البلدة.
- ضعف الموارد المالية.
- حداثة البلدية مع حجم المتطلبات الهائل.
- لا مبالاة المواطنين.
- انعكاس الوضع العام في البلاد على دور البلدية وقدرتها على تنفيذ القوانين العامة والسيطرة والتحكم.
وختم السيد باسل الحجيري بأن هذه المشاكل هي وحدة مترابطة تؤثر بشكل سلبي على أداء المجالس البلدية المتعاقبة، لكن يمكن القول إن الوضع العام في تحسّن بطيء.
عرسال والقمح السلموني
«كانت بلدة عرسال حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي مشهورة بإنتاج الحبوب البلدية (قمح، شعير، حمص، عدس...)، وكان قمحها «السلموني» ذائع الصيت في منطقة بعلبك - الهرمل، ناهيك عن العنب «العبيدي» العرسالي الذي كان يجفف قسم منه ليحوّل زبيباً، أو ليصنع منه الدبس المميّز، وما زالت معصرة البلدة الوحيدة شاهدة على ذلك». هكذا استهلّ السيد عبد الحميد عز الدين، أحد مخاتير عرسال الثمانية، حديثه الى مجلة «الجيش» ليتابع قائلاً: «إن إنتاج الحبوب الحالي لم يعد يكفي إلا جزءاً يسيراً من الاستهلاك المحلي. أما كروم العنب فقد غزاها البنيان السكني ومناشير الحجر لينخفض الانتاج الى مستوى نصف الاستهلاك المحلي بعدما كانت كميات كبيرة منه تُصدَّر. أما أشجار الإجاص والزعرور فهي تكاد تنقرض لتفسح المجال أمام أشجار الكرز والمشمش والتفاح. ويشتهر الكرز العرسالي بجودته وفرادة مذاقه كون السماء تسقيه لا الينابيع، ولا تقرب منه المبيدات الزراعية سوى مرة واحدة فقط إذ أن المناخ القاسي في عرسال يبيد الحشرات وبيوضها ويقلّل من الأمراض والآفات الزراعية. أما الإنتاج السنوي لهذه الأشجار المثمرة المنتشرة على حوالى 99 كلم2 فيبلغ أكثر من عشرين ألف طن يشتريها تجار محليون وينقلونها الى الأسواق المحلية في جميع المدن اللبنانية، والى المشاغل الكبيرة في طرابلس والبقاع الغربي حيث توضّب وتصدّر الى الخارج».
ويسترسل المختار الذي حرقته شمس عرسال في بساتينها في شرح معالجة الانتاج العرسالي فيقول: «مردود الانتاج يبقى متواضعاً للمنتج. ومن أجل تحسينه تشكّل إئتلاف من ثلاث جمعيات محلية للعمل على رفع المستوى المادي للمزارع وتحسين محاصيله. وبالتعاون مع الاتحاد الأوروبي عبر مجلس الإنماء والإعمار تمّ إنشاء مركز للتوضيب الحديث والآلي والتزوّد براداً نقّالاً لإيصال الانتاج الى مراكز البيع والتصدير طازجاً. وكانت البداية مشجّعة الموسم الماضي. واستكمالاً للمشروع يُكِبُّ الإئتلاف حالياً على تشييد مبنى براد ثابت لحفظ الفاكهة على مساحة 400 متر مربع، ويسعى جاهداً لإنشاء مركز للإرشاد الزراعي وحفر آبار ارتوازية للري التكميلي غير الدائم».
يفاخر المختار، مدرّس اللغة العربية في مدرسة «المقاصد الخيرية الإسلامية» في عرسال منذ العام 1981، وأحد أوائل المزارعين الذين أدخلوا زراعة الدرّاق الى عرسال بإنتاج مميّز، بأن والده حسن عبد الحميد عز الدين (مواليد 1923) ما زال يمارس حرفة تراثية منذ العام 1942 وهي صناعة المحراث أو آلة الفلاحة القديمة (الصمد) وتوابعها (معاول، فؤوس...).
عرسال على لسان شيبها
استكمالاً لاستقراء تاريخ عرسال وعاداتها وتقاليدها، تحتّم على فريق «الجيش» العودة الى الينابيع، الى حرّاس الزمن العتيق، فكان لقاء مع أحد معمّري البلدة الحاج ديب حسن عز الدين الذي لم تجرؤ السنوات الخمس والثمانون أن تخطّ على وجنتيه المورّدتين وجبينه الشامخ سوى محاولات يائسة فتترك غضوناً خجولة.
يعود الحاج ديب، أحد معلمي عرسال، بالذاكرة الى ما كان يرويه له أجداده فيقول: «عمر عرسال ثلاثماية سنة وكانت عبارة عن خربة مجموعة آبار لتجميع مياه الشتاء والثلوج. وعندما كانت هذه تفيض كان الأهالي يستقون من عيون بعيدة أهمها عين الشُعُب. ثم تحوّل العرساليون، متشبثين بأرضهم، الى بناء بيوتهم وفق ما يتيسّر لهم. فيجبلون التراب والقش بالماء ويصبّون «الوحل الناتج» في قوالب ليحصلوا على «اللِبن» يشقعونه جدراناً «يطيّنونها» بالمزيج نفسه لتتماسك. ثم يقطعون جذع شجرة لزّاب يستخدمونه جسراً طويلاً يركّزونه على جدارين متقابلين ليكون ركيزة السقف. ومن ثم يرصفون استناداً عليه وبين الجدارين الآخرين المتواجهين جذوعاً أخرى صغيرة يسمّونها «شمط» أو «أوطة»، وعند الانتهاء يضعون البلاّن فوق السقف المرصوف الجديد، ومن ثم يمرحونه بالطين. ولما كان مثل هكذا عمل جبار ومضنٍ لا يقوى عليه أهل البيت الناشئ، كان أهل الضيعة يتنادون الى «عونة» مقدّسة لا يتخلّف عنها أحد فيوماً ما سيأتي دوره. وما كانت العونة تنتهي مع الفراغ من بناء البيت وإنما تستمر مع كل مطرة وثلج إذ كان يسارع شباب الضيعة يجرفون الثلوج عن السطوح والطرقات أمام المنازل بـ«زُحف» هي عبارة عن عصا طويلة تنتهي بقطعة خشب عريضة معترضة معقوفة قليلاً، ويعمدون بعدها الى حدل سطوح البيوت الطينية ليعيدوا تماسك طينها فلا تتسرّب منها المياه الى الداخل.
ولما انبرت إحدى الزميلات تسأله بكياسة وظرف عن أعراس تلك الأيام. افترّ الشيخ الجليل وقد اشتعلت حواسه كلها وكأن الذكرى خطفته إلى ذاك اليوم المشهود، يوم عرسه، وراح يروي بصوت جذلٍ: «سقى الله الأيام الخوالي. فالعرس العرسالي كان قصة كبيرة، فقد كان يحتل سبعة أيام من عمر القرية كما من عمر العروسين ويتحوّل فيها العريس شيخاً للشباب ومحور اهتمام الجميع. وهكذا كانت العونة تجمع أهالي القرية يهبّون لمساعدة أهالي العروسين في التحضير ليوم العرس. كان الرجال يحضرون الحطب للنساء فتلقاهم الزفة لترافقهم الى منزلي العروسين. وفي اليوم المنتظر تجتمع الفتيات في منزل العروس الذي يقف حراس أمام بابه يمنعون الشباب من الدخول، وحتى من الاقتراب».
وأسف الحاج ديب للحياة الاجتماعية اليوم: «ضاعت العونة وكأنما الرجال تلدهم أمهاتهم عديمي النخوة. لقد باتت العلاقات اليوم قائمة على المصالح الشخصية». ولما كان شيخنا الفاضل معلماً في مدارس البلدة سألناه عن التعليم عصرذاك فأجاب: «كنا نقصد، نحن أولاد عرسال، منازل المشايخ لتعلّم الكتابة والحساب وعلوم الدين. وكان أجر الشيخ - الأستاذ ليرتين في الشهر، ومَن كان عاجزاً عن توفير المبلغ كان يحمل الى أستاذه ما يعادل الليرتين قمحاً».
دهمنا الوقت ونحن مأخوذون بحديث مضيفنا فاستأذناه خارجين على وقع دعائه الى الله تعالى بحماية الجيش والازدهار لمجلتنا. وانطلقنا في شوارع البلدة نسجّل مشاهداتنا.
كتّاب المشايخ تحوّلت مدارس
قصدنا مدرسة عرسال الابتدائية الرسمية حيث كنا على موعد مع مديرها الأستاذ قاسم خلف، فوجدنا تلامذتها الأطفال بمراويلهم الزرقاء يلوحون لنا بأياديهم الصغيرة عند بوابة المدرسة الخارجية، وكأنهم خرجوا لملاقاتنا، ولكن انطلاق زمور أحد الباصات يستعجل هؤلاء الشاردة عيونهم بين بزات عسكرية يحلمون بها زيّّهم المثالي، وآلة تصوير تنقل دقائق تلك اللحظة، ذكّرنا بأننا تأخرنا عن موعدنا فخففنا اليه. واستقبلنا مدير المدرسة بكل حفاوة ويخبرنا أن هذه المدرسة هي الأقدم في القرية، فقد شُيّدت العام 1960 وكانت غرفها سبعاً أضاف اليها العرساليون غرفاً أخرى العام 1980 لاستيعاب العدد المتزايد للتلامذة. وما يزال أهالي البلدة يشيدون المدارس الجديدة تأميناً لتعليم أولادهم». ويكلمنا على مدرسته خلال جولتنا في صفوفها فيقول: «تضم الابتدائية صفوف الروضة والتعليم الابتدائي، وتلاميذها حوالى 310 تلاميذ أساتذتهم سبعة عشر متعاقداً وتسع عشرة أستاذ ملاك».
وانتقلنا الى سؤال المدير عن واقع التعليم في عرسال فتنهّد عميقاً وصمت محاولاً إبعاد كأس الجواب المرّة عن شفتيه ولكن صمت المستمعين اليه كسر صمته فاسترسل: «في البدء هناك لمحة عن المدارس في عرسال، هناك سبع مدارس خاصة (ابتدائي ومتوسط) تضم 3063 تلميذاً، واربع مدارس رسمية (متوسط) فيها 1341 تلميذاً، وثانوية رسمية واحدة طلابها 390، ومهنية واحدة ينتسب اليها 368 تلميذاً، أما أساتذة هذه المدارس فعددهم 350 في المدارس و114 في المهنية.
أما الواقع التربوي في قريتي فيعاني أموراً كثيرة أبرزها: أبنية جيدة نسبياً، نقص حاد في التجهيزات والمختبرات، والموادر التربوية، إغفال تام للرياضة والترفيه والثقافة، ضعف شديد على مستوى اللغات الأجنبية. هذا بالإضافة الى بُعد البلدة عن مركز الجامعات ما يكبّد ابن عرسال الراغب متابعة دروسه الجامعية عناء قطع مسافة 75 كلم يومياً ذهاباً وإياباً الى الفرع الرابع للجامعة اللبنانية في البقاع. وأخيراً أشد ما تعانيه عرسال، القرية الزراعية بامتياز، غياب التعليم المهني الزراعي والبيطري. وسكت الأستاذ قاسم عن الكلام المباح.
جمعية التنمية الريفية:
مواكبة التطور
على الرغـم من أن بلـدة عرسـال ما زالـت تحتفـظ بطابعها القــروي التقليـدي غير أنها تسعى الى مواكبـة التطـور الحاصل في المجـالات شتى. وتحقيقاً لهذه الغايـة قامت جمعيات عديدة تهتم بتنمية البلدة، أبرزها جمعية التنمية الريفية وهي هيئة عمل أهلية تطوعية مستقلة تتوخى النفع العام.
في مقر هذه الجمعية، التقينا رئيسها السيد يوسف بريدي ونائبه السيد أحمد الفليطي الذي استأذن الرئيس ليجيب عن أسئلتنا.
تأسست الجمعية العام 1990 بهدف تحسين مستوى الحياة عند أهالي عرسال على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وعن أهم إنجازات الجمعية يخبرنا السيد الفليطي أن «الجمعية أنشأت من أجل الحفاظ على إنتاج الصوف وصناعة السجاد مشغلاً حرفياً للسجاد اليدوي التقليدي تعمل فيه حوالى 12 فتاة خضعن لدورات تدريبية نظمتها الجمعية.
كما ساهمت بقيام تعاونيتين الأولى هي «الجمعية التعاونية للمونة الريفية» وتُعنى بتصنيع المونة الريفية كالمربيات والمكدوس، وغيرها، والثانية تُعنى بمربي المواشي وتحسين ظروفهم. من ناحية ثانية، تمّ تنظيم دورات في اللغة الانكليزية لأعضاء الجمعيات الأهلية المحلية في عرسال بهدف مساعدتهم على التواصل مع المنظمات والجهات المانحة وبخاصة الأجنبية منها، بالاضافة الى دورات في الحاسوب والانترنت والمحاسبة والمهن كالكهرباء و«التبليط» وتجفيف المشمش.
ومن أبرز المشاريع التنموية الزراعية التي تهتم بها الجمعية بالاضافة الى ورش العمل الحقلي في مجالات البستنة وصيانة التربة والتسميد وتلقيح المواشي، بمشروع تسويق الكرز العرسالي بالتعاون مع مجلس الإنماء والإعمار وجمعية الإنماء الريفي وتعاونية المونة الريفية، فقامت لذلك بتجهيز المصنع بآلات لتوضيب الكرز، وتجهيز آليات مبرّدة لنقل الكرز من الحقل الى المصنع الى الأسواق.
ويتم حالياً العمل على إعداد غرفة تبريد ومركز توضيب للكرز بتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
أما بالنسبة الى مناشير الحجر العرسالي الذي تشتهر به عرسال فالجمعية بالتعاون مع البلدية والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عملت على مشروع تطوير هذه المعامل من خلال إقامة «جواريش» (كسّارات) تحوّل نفايات مصانع الحجر الى مادة البحص، ويتم البحث حالياً عن إمكان تحويل «الكمخة» (المياه الممزوجة مع غبار الحجر المنشور) الى كلس أو طلاء.
وأخيراً ترعى الجمعية مشتلاً لإنتاج الأشجار الحرجية والبرية والمثمرة وقد وزّع قسم من هذه الشتول على أبناء البلدة. كما أننا ننظم حملات تحريج بالاشتراك مع العديد من المؤسسات اللبنانية والجيش اللبناني لمكافحة التصحر الذي يزحف على المنطقة.
وبعد هذا الحديث المفرح عن نشاطات هذه الجمعية في قرية مترامية الأطراف انتقلنا الى مشغل السجاد، فأخبرنا السيد الفليطي بعد شرح مسهب عن حياكة السجاد العرسالي ومميزاته أن التسويق هو العائق الرئيس أمام هذه الحرفة التراثية.
الحجر العرسالي:
هل تبتلعه البساتين الخضراء؟
بعد زيارة جمعية التنمية شئنا أن تكون خاتمة سياحتنا حجراً نرى كيف يعمل فيه المنشار قصّاً والإزميل نحتاً ليخرج آية تزيّن منازل وقصور كثيرة في لبنان والعالم. ويمّمنا ششطر تلك المعامل نتبع سيارة رئيس البلدية الذي أخبرنا أن في عرسال حالياً حوالى 60 كسّارة صغيرة، و100 مقلع تؤمن مدخولاً لنحو مئة عائلة، أما المناشير فيصل عددها الى زهاء المئة والخمسة وعشرين. ما لفت نظرنا في الطريق حياة تتحدّى الموت، خصب يتمرّد على الجدب، بساتين خضراء وارفة، جنائن غنّاء تنتشر بين معمل وآخر تقريباً لتثبت أن العرسالي مؤمن، محب للحياة، متمرّد، يطوّع الصخر حجراً يزين مساجد قريته السبعة، والمقلع واحة خضراء تحجبه التصحر فتُسحِرُ.
زرنا أحد المعامل، حديد يأكل حجراً ويعبُّ الماء، يُزبد لعابه سيّالاً أبيض يترقرق ويعبر المخرج ليستنقع في بركة. وهكذا يتحوّل الجلمد أشكالاً هندسية رائعة اختلفت أحجامها وأبعادها، وبتراكبها مشقوعة يسمق البنيان فيعم العمران.
كانت الساعة تقارب الخامسة عندما خرجنا وكلمات الوداع على شفاهنا تنتظر لقاء رئيس البلدية لتودعها أسماعه، إلا أن «الريّس» «تغدّانا قبل أن نتعشاه» كما يقول مثلنا اللبناني الشائع، فدعانا الى استطلاع الجرد العالي في عرسال عبر طريق يفتخر أنه على رأس مجلس البلدية قد سعى في شقه وتزفيته. وسبقنا الى سيارته مطصحباً رئيس القسم ربما كرهينة، «هي دقائق قليلة ولكنها الأكثر متعة في سياحتكم، صدّقوني، سوف تشبعون نظركم، وتشنّفون آذانكم، وتزكم أنوفكم، اتبعوني» قال ما قاله وانطلق السيد فتبعناه.
طريق أفعواني يتسلّل بين حدائق، وبساتين توزّعت فيها مئات ألوف الأشجار المثمرة وأبرزها الكرز والمشمش، اجتزناه ونحن مأخوذون بروعة الكرز وقد أزهر وبالعصافير، كما الفراشات، تنتقل من فنن الى فنن، ولكن زقزقة عصافير بطوننا علت على زقزقتها. وعند أحد البساتين انحرف دليلنا يميناً ليلج حرم ربّة الخصب ويقودنا تحت قوس نصبته الطبيعة الى ساحة أعدت كما لمأدبة في الهواء الطلق.
أبى المجلس البلدي وعلى رأسه السيد باسل الحجيري أن نغادر عرسال إلا ومذاق الكرم على لساننا. لقد أعدوا لنا ذبيحة توزّعت نيئة ومشوية على نار مرتجلة من حطب يابس، أو «صاجية» أي مقلية مع الليئة والبندورة والباذنجان والفليفلة الخضراء والبصل.
ومع ميل الشمس الى الغروب، غربت آخر «شفة» قهوة في أفواهنا واستعجلنا النهوض والوداع مع كل عبارات الشكر.
وتركنا عرش ايل لنعود الى واقع الأرض، الى حقيقة العودة الى بيروت تحت جنح الظلام.
في تكريم شهداء الجيش
في احتفال تكريم شهداء عرسال من الجيش اللبناني الذين سقطوا في معارك نهر البارد العام الماضي، ألقى رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري في سياق كلمته أبياتاً شعرية لافتة نقتطع منها الآتي:
بيضُ الصفائح خضرٌ بيارقهم شدوا على الزاد بعزمٍ معتزمٍ دربُ الشهادة مسلكهم ما تاهوا ولا ندموا صادقوا الموتَ فكان الموت رفيقهم لا المال طلبهم ولا شارة على كتفِ
|
سُمر السواعد آسادٌ من الهممِ قالوا لبّيك وهزّوا الأرض بالقدمِ دربُ الخالدين أنارها الرحمن من قِدَمِ وموتُ عزٍ تاجٌ على هامِ الأممِ جلَّ ما طلبوا أن تبقى خافقاً يا علمي
|
عائلات عرسال
يبلغ عدد سكان عرسال حوالى 35 ألف نسمة، يقيم معظمهم في البلدة، ولا تتجاوز نسبة النزوح 15٪ من السكان. أبرز العائلات: الحجيري، زيدان، قاسم، بحلق، فليطي، وهبة، الحسن، عز الدين، ملوك، خلف، بريدي، سلطان، الشب، عوده، الأطرش، كرنبي، الداجي، الدوسالي، حمود، أبو فارس، زعرور، حميد، عويشي، صميلي، نوح، جباوي، رعد، الخاروف، الرفاعي، غداده، الددّه، رايد، شاهين، أسون، مقصود، السكريه.أما نسبة الاغتراب في عرسال فضئيلة جداً حيث يقدّر عدد الأسر المغتربة بثلاثين أسرة موزعة على دول أوروبا وكندا ودول الخليج العربي وليبيا.
المناطق البيئية في عرسال
تقسم عرسال الى ست مناطق بيئية: ثلاث منها في المناطق الجردية العالية. تعرف المنطقة الأولى بالجرد العالي (1950 - 2400م) وهي بعيدة ووعرة وتمتد الى أعالي الجبال حتى الحدود مع سوريا. وتزرع هذه المنطقة تقليدياً بالحمّص لرطوبتها الناشئة عن ذوبان الثلوج. أما الجرد الأوسط (1550 - 1950م) فيتميز بالأراضي الواسعة ذات المنحدرات الخفيفة التي شكّلت في ما مضى المراعي التقليدية للبلدة والتي تحوّلت لاحقاً الى زراعة الكرز ثم تمركزت فيها الكسّارات.
ويعتبر الجرد الأدنى (1300 - 1500م) بطبيعته الصخرية وتربته المتدهورة منطقة غير صالحة للزراعة. وتقع منطقة الوديان على سفوح المناطق الجردية وقد تمّ استصلاحها وزرعها بالكرمة وأشجار التين وامتد اليها العمران الزاحف من البلدة.
والى الشرق تمتد الوديان القاحلة المعروفة بالمنطقة الشرقية التي تشكّل المدخل الى البادية السورية. وكانت تزرع بالشعير وتحوّلت اليوم الى مراعٍ مفتوحة ومشتى للقطعان الكبيرة. وتتميّز منطقة الوديان، كما المنطقة الشرقية، بالأوهاد العميقة التي حفرتها السيول على مدى السنين. كما يلاحظ وجود الآبار الارتوازية المحفورة لتجميع مياه الأمطار والتي يُطلق عليها إسم الآبار الرومانية.
أما المنطقة السادسة التي يعرّفها أهل عرسال بالمنطقة الغربية فهي تمتد غرباً نحو سهل البقاع وتزرع بالحبوب والكرمة والأشجار المثمرة وحديثاً بالزيتون. وتستخدم كذلك كمشتى لقطعان البلدة الصغيرة.
تصوير:
الجندي الأول
بلال عرب