- En
- Fr
- عربي
على ضفاف الكلمة
من يراقب القرى اللبنانية في هذه الأيام، يجد أن الكثير منها، قد فقد هويته الأصيلة لمصلحة المدنية المتوحشة، الزاحفة من كلِّ حدبٍ وصوب، وكأن هذه القرى باتت أشبه بحيّ أو مجموعة أحياء، سُلخت من المدينة ونقلت بسحر ساحر إلى بلاد الريف.
في الشكل، سيارات حديثة من كلّ طراز، وعمارات فارهة تنطح برؤوسها السماء، متسابقة نحو إعلان أسماء أصحابها ومكانتهم المرموقة في عالم النفوذ والثراء، وتفوّقهم في مواكبة التقدم العمراني والاجتماعي. ولكلِّ عمارة حديقة عصرية، مجهزة بمختلف وسائل الراحة والترفيه والاستجمام، حتى بات العابر بالقرب منها، يخلط بين عطر الزهور وأنفاس الرفاهية المتصاعدة من جنباتها.
وفي الشكل أيضًا، اندثار معظم معالم القرية، واستحداث طرقات معبّدة بالإسفلت في محيطها، تتوزّع في كلّ اتجاه، فتنهش التلال والسفوح والغابات حتى عرائن الثلوج وشواهق الصخور، مسقطةً بالضربة القاضية، عذريتها التي بقيت مصونة لآلاف السنين.
أمّا لجهة المضمون، فحدِّث ولا حرج، مقيمون هجروا مهنتي الرعي والزرع منذ زمن بعيد، فباعوا مواشيهم أو قسمًا من أراضيهم، ووضعوا غلتها في المصارف ليعتاشوا من مدخولها، بالإضافة إلى ما يتكرّم عليهم به الأبناء والأقارب بطبيعة الحال، ومن بقي من هؤلاء صوريًا على هاتين المهنتين، استقدم عمالًا أجانب ليقوموا بالمهمّة عنه، مكتفيًا بالإشارة والتنظير من بعيد.
ومغتربون عن القرية، سواء في داخل الوطن أو خارجه، يأتون إليها مرّة في السنة أو مرّتين على الأكثر، لا ارتباطًا بأرض آبائهم وأجدادهم، أو استذكارًا لأيام طفولتهم وشبابهم، أو شوقًا لأقاربهم وأصدقائهم، بل بداعي التباهي والافتخار بإنجازاتهم المهنية وثرواتهم المالية أمام أبناء بلدتهم، علّهم وكما يطمحون، يمحون عقدة النقص القديمة التي لا تزال راسخة في نفوسهم، ويحظون بالتشريف والتكريم والتصفيق، فلا يتوانون في سبيل تأكيد ذلك، عن بناء قصور لا يسكنونها، أو القيام ببعض المبادرات الخادعة، والتصدّق على المقيمين بمساعدات زهيدة، تنبعث منها رائحة الجاه والتسلط والعجرفة.
ويحدّثك هؤلاء في مجالسهم حتى الانتشاء عن ميزات القرية، كالهدوء وصيد الطيور والمعاصر والخمّارات القديمة، والأطعمة البلدية اللذيذة، من زعتر وكشك ولبنة وعسل وخبز مرقوق ولحم دجاج وماعز وغيرها من منتجات القرية، التي أصبحت بدورها عرضةً للتزوير والتقليد على أيدي تجار محترفين، ولم تعد موجودة إلاّ في بنات مخيلاتهم الخصبة.
لقد باتت قرى لبنانية كثيرة، صورة مصغّرة عن المدينة بتفاصيلها وحياتها اليومية، تواكبها في مجاراة التطور والاطّلاع على كلّ جديد في مجالات العلم والتكنولوجيا، لا بل تسبقها في كثير من الأحيان، ولا ضير في ذلك على الإطلاق، لأن التطور سنّة الحياة، لكنّ الضير يكمن في أن تتحول ساحات البلدات والقرى إلى حلبات مصارعة بين أبنائها، وبالتالي ابتعاد الناس عن روح البساطة الجميلة، وفضيلة التواضع التي إن فقدت، خسر القرويون أغلى ما في تاريخهم وتراثهم، وتعرّت القرية من ثوبها الأصيل البديع...