- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
من المعروف أن معظم حوادث السير يتسبّب بها سائقون متهوّرون، يتخذون من المقود وسيلة للتنفيس عما يختزنون في داخلهم من صراعات وأحقاد. وهؤلاء كما ثبت بالدراسات، يتملكهم الغيظ في أثناء القيادة، ويحوّلهم الى عدائيين، شغلهم الشاغل التركيز على عثرات سواهم، حتى ولو كانت غير مقصودة، ومشاكسة كل من يمر بهم أو يتخطّاهم.
كيف يفسّر الإختصاصيون النفسيون سلوك هذا النوع من السائقين، أو محاربي الشوارع كما يسمّيهم البعض. وما هي الوسائل الكفيلة بتفادي خطرهم ومعالجة انحرافاتهم.
عدائية مكبوتة
من خلال الدراسات التي أجريت في الولايات المتحدة الأميركية، على مجموعات كبيرة من السائقين. تبيّن أن معظمهم يخجل من الإعتراف بعصبيته الزائدة في أثناء القيادة، ويفضّل تأدية دور الضحية، أو شاهد العيان على تهوّر سواه. وهذا يدل على معرفته بنقاط ضعفه، وعجزه عن السيطرة عليها.
وكانت المعالجة النفسانية الأميركية اليزابيث باركر، قد أكدت من خلال أبحاثها في هذا المجال، أن الغضب والعصبية اللذين يميّزان تصرّفات بعض السائقين في الطرقات العامة، هي عدائية مكبوتة نابعة من عدة أسباب، منها المرضية ومنها ظروف البيئة والتربية. وبغض النظر عن أسبابها وظروف تكوينها، فهي تشكّل ظاهرة بالغة الخطورة، وخصوصاً في حال حيازة المعنيين بها السلاح.
من هم السائقون المتهوّرون؟
إنهم رجال ونساء، شبان وطاعنون في السن، فقراء وأغنياء، يعانون اضطرابات المزاج، وسرعة الغضب بنسب متفاوتة. وهي مشاكل عصبية ونفسية تمثلها ردّات فعل مشتركة في مقدمها: قساوة التعابير على الوجوه، وسرعة الإنفعال، ومن ثم الإسراع في إلقاء الشتائم وعبارات التهديد والوعيد، إضافة الى المبالغة في استخدام الزمّور. ولا ننسى سرعة التجاوز، واعتراض السيارات المستهدفة بالعدائية.
مع ذلك، تظهر الإحصاءات عدم وجود قواسم مشتركة تجمع في ما بين السائقين المتهوّرين في حياتهم اليومية. فمنهم من يتّسم بالعدائية في منزله وفي مكان عمله. ومنهم من يعتبر في غاية اللطف والهدوء والرزانة. وهنا يطرح السؤال الآتي:
ما الذي ينبّه ردّات الفعل الغاضبة لدى البعض في أثناء القيادة، ولماذا لا يتحمّل هؤلاء كسواهم، ضغوط الطرقات بهدوء ورويّة؟
الإستعداد الوراثي
هنالك من يؤكد وجود استعداد وراثي لهذا النوع من السلوك. الى ذلك فإن الدراسات الجارية حالياً والتي تتناول هذا الموضوع بالكثير من الجدّية، تلصق التهم باضطرابات الشخصية المتفاوتة الحدة، وببعض المشاكل النفسية غير الظاهرة للعيان.
من هذا المنطلق، تكوّنت فكرة عامة عن بعض مقوّمات الشخصية التي تميّز معظم السائقين المتهوّرين، منها على سبيل المثال، الشعور الدائم بالنقص، والتعويض عنه بالتحكم بالمقود، وبالتالي تحدّي الغير من خلال سلوكيات القيادة المنحرفة.
الى ذلك، تبيّن أن معظم هؤلاء يتميّز بالحساسية الزائدة تجاه الغير، وبعدم المقدرة على التأقلم مع الظروف، هذا بالإضافة الى رفض المجتمع والميل الى العزلة. لهذه ولغيرها من الأسباب تتفاقم ردّات فعلهم تجاه هفوات بعض السائقين، كونهم يعتبرونها إهانات مقصودة الهدف منها المساس بكرامتهم. وعُرف أن أكثرية الأشخاص المعنيين بهذه الصفات، قد تبالغ أحياناً في احتساء الكحول قبل قيادة سياراتها، لأنها لا تقدّر نتائج أفعالها.
كيف نتجنبهم وما هي الوسائل المتبعة لعلاجهم؟
من المعروف أن تعميم أصول الوقاية من خطر السائقين المتهوّرين، وإصدار العقوبات القانونية الصارمة بحقهم، قد شكّلا حتى الآن الحلين الأكثر شيوعاً في معظم دول العالم. مع ذلك، فإن الدراسات الحديثة مكّنت المسؤولين في بعض الدول، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، من الأخذ بالاعتبار الوضع النفساني للسائقين المتهمين بالتهور، وإخضاعهم للعلاج بعد توقيفهم.
وكانت التجارب التي أجريت على بعض السائقين المحتجزين في مراكز الشرطة الأميركية قد أثبتت فعالية التدريبات التي خضعوا لها، ومكّنتهم من تغيير نظرتهم الى أنفسهم، وبالتالي انتفاء شعورهم بالنقص الأمر الذي أتاح لهم السيطرة لاحقاً على انفعالاتهم السلبية في أثناء القيادة. وعُرف أن التدريبات المشار اليها تضمّنت تقنيات التركيز والاسترخاء، وتعلّم مبادئ تقييم الذات والغير.
الى ذلك تمكّن المسؤولون في هذا المجال من تطوير قوانين جديدة الهدف منها كبح جماح التهور في أثناء القيادة، إضافة الى تعميم مراكز التأهيل النفسي للسائقين المتسببين بحوادث الطرقات، وذلك بعد إخضاعهم للعقوبات القانونية ومنها، سحب رخص السير.
ويتم حالياً تعميم برامج تلفزيونية مهمتها التوعية الى خطورة حوادث السير، وإحاطة السائقين بالثقافة النفسية التي من شأنها تعميق معرفتهم بذواتهم واستيعاب معاني ردّات فعلهم السلبية من أجل تصحيحها.
الى حين بلوغ الهدف الذي من أجله تُعمّم المعطيات المشار اليها، يأمل المسؤولون في الدول الحضارية الاستمرار في معالجة مسبّبات المشاكل الاجتماعية، وفي مقدّمها مسبّبات القيادة العدائية. وهذا يتم برأيهم عبر متابعة تأهيل الأجيال الطالعة بالطرق المتاحة.
فالتأهيل النفساني المبكر، يسهم في تنمية أطر الشخصية بشكل يحد من نمو آليات الدفاع السلبية، ومنها الإستقواء بالمقود. وهو يسهم مع الوقت في تخفيض حدة العقوبات المفروضة على مخالفات السير، والتي ترفع من يتحداها من السائقين المتهوّرين الى مستوى البطولة.