- En
- Fr
- عربي
في كل بيت
تركز النظريات التربوية الحديثة على ضرورة الاهتمام بالنمو الخلقي والإنفعالي للطفل، كما تركز على خبرات الطفولة واحتياجاتها، وما تتركه من تأثير في نمو الراشد وتوازنه السلوكي، مؤكدة بما قدمته من بينات، أن للطفولة حقوقاً يجب الأخذ بها، إذا نحن أردنا تحقيق النمو الأمثل للنشء على المستوى الشخصي والإجتماعي والوطني؛ وفي المقابل، أثارت النظريات قضية التطوّر والحاجة الى مجاراته.
وفي مجال علم النفس اتجهت الاجتهادات نحو متابعة نمو الشخصية الإنسانية من جميع جوانبها، وحدث تقدّم كبير في فهم الطرق التي ينمو فيها الأطفال ويتعلمون، واللاّفت أن النظريات توسعت الى حد أنها دخلت في تفاصيل مراحل النمو وتعقيداتها.
أما في مجال علم الاجتماع، فقد جرى التشديد على دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، وقاد ذلك الى اثارة قضية التفاوت الاجتماعي، وإبراز الحاجة الى التدخل لكسر الحلقة المانعة للتعلّم في مرحلة الطفولة، فالمفروض أن تتوفّر لكل طفل فرصة التعلّم، وهذا حق أساسي من حقوق الطفولة؛ فالعلم يعطي الطفل الحوافز التي تمكّنه من تحقيق ذاته كي يكون مسؤولاً عن اختياراته واتجاهاته في المستقبل.
هذه النظريات أدّت الى احداث تغيير في دور الأهل والمعلمين، مما تطلّب إعادة النظر في أساليب التربية التقليدية، في محاولات جادة لإعطاء الطفولة حقها وإشباع احتياجاتها من كافة النواحي.
لقد بدّلت المفاهيم الجديدة التي سوّقها الفكر العلمي لمصلحة الطفولة، مقتضيات كثيرة وأضافت محتوى جديداً تضمن أشكال التعزيز الإيجابي لتحقيق الغاية المرجوة من التربية، التي تبدأ مع ولادة الطفل وتستمر طوال الحياة.. وهذه المفاهيم أدرجت في برامجها المبادئ الأساسية والتي تتمحور حول: الأمن النفسي، الاستقلال الذاتي عند الطفل، النضج الذاتي والوعي الاجتماعي، النمو في الحرية والنمو في المسؤولية، النشاط التعاوني والنشاط الاختياري، خبرات الطفل وقدراته ومهاراته الإبداعية، ونموه العقلي والإنفعالي.
أهمية المعرفة المبكرة
انتقد "جون ديوي" - أبرز أعلام الحركة التجديدية في المجال التربوي، التصلّب الشديد في النظم التربوية القائمة، ودعا الى إعداد مناهج تستند الى اهتمامات الطفل واحتياجاته وقدراته، ودعا الى تنمية المهارات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، والى تزويد الطفل بالخبرات التي تفيده لتحقيق ذاته وانسانيته واستقلاليته، وتثير لديه الشعور بالانتماء والحب، والأمان، والثقة والإستقرار... واستطاع "ديوي" من خلال الممارسات التطبيقية التي اعتمدها في مناهج المدرسة التي كان يشرف على ادارتها، أن يقدم مناهج جديدة تزوّد الطفل بما يحتاجه لتحقيق ذاته والوصول الى أعلى مستوى من التوازن المطلوب في الشخصية السوية. كما ركز على مفهوم المعرفة، مشيراً الى أن نوع المعرفة التي يسوّقها الطفل في طفولته تلازمه في مراحل العمر اللاحقة، لذلك من الخطأ أن نهمل دروس المعرفة المضبوطة في مراحل التعلّم الأولى. ووسم رأيه بضرورة التركيز على صقل معرفة الأطفال وإثرائها بالمفيد لأن الطفولة هي مرحلة أساسية تسبق مرحلة الرشد؛ فإذا أخذت كفايتها حققت اكتفاءً معرفياً على المدى البعيد.
ويقول ديوي: يجب أن يكون المعلم قادراً على احتواء التلميذ، وعلى رؤية اهتماماته المباشرة التي يستطيع عبرها التقدم في الإتجاه المطلوب... كما ندد بالاستمرار في أساليـب التعـليم التقليدية وطالب بتعديل الموضـوعات الدراسية بشكل يلائم “الخبرة”، وكانت لديوي محاولات جادة لبناء نظام دراسي متكامل، وبشكل متطوّر يمتد من روضـة الأطفال الى المستوى الجامعي، كما طالـب أيضاً بربط خبرات الطفل المباشرة ربطاً متيناً بالمعرفة المنظمة لموضوعات الدراسة، ودعا الى التخلي عن الفكرة القائلة، بأن المواد الدراسية شيء جاهز، ثابت، خارج عن خبرة الطفل، وأن خبرة الطفل شيء عابر، مؤكداً أن الدراسة تصقل الخبرة، وأن الخبرة تعوزها الدراسة لتأتي بثمارها... وفي المقابل، أصرّ ديوي على احترام تطلعات التلميذ، وإفساح المجال أمامه للتعبير عن مهاراته، وتشجيعه على إظهار مواهبه المكبوتة، فالنجاح الحقيقي هو الذي يأتي عن طريق النشاط الذاتي...
التفكير المنطقي
ركّز جان بياجيه، على فائدة الأنشطة التي توجه الطفل نحو التفكير المنطقي، وتحديداً، أنشطة الملاحظة والتعبير التي تشكل خطوة هامة في تطوّر المعرفة عند الأطفال، وتهدف الى تنمية الحواس وصقل الخبرات... والتي يتعلم منها الطفل الإفصاح عن خبراته بصورة مفهومة.. والجدير ذكره، أن بياجيه حصر اهتمامه في "النمو العقلي والمعرفي"، وناقش في برامجه أهمية تنظيم الحياة الفكرية عند الأطفال، في ضوء قيم تؤيّدها الخبرة. ولم يغيّب بياجيه عن برامجه أهمية الحياة النفسية في رفد النمو المعرفي. كما ركز على ضرورة الاهتمام بالفروقات الفردية لدى الأطفال ومراعاة استعداد وكفاية كل تلميذ على حدة، علماً أنه أيضاً ركز اهتمامه على موهبة الطفل، متفقاً في نظرته مع ديوي، ومؤكداً يقول: "... على المعلم أن ينظر في موهبة الطفل على أنها شيء متدفق وحيوي، يتيح للفرد إطلاق طاقاته وكل ما يحمل في داخله من قوى واستعدادات، واستخدامها بشكل مفيد ونافع، والخطأ كل الخطأ أن نحرم الولد من ممارسة هوايته المفضلة )المطالعة، الرسم.. الكتابة .. (لأننا بذلك نكون قد شاركنا في تعزيز مشاعر الإحباط عنده؛ فالأطفال أشخاص، شأنهم في ذلك شأن الراشدين، وحين يكون الطفل متحمساً ومندفعاً لإظهار موهبته، ويجد أمامه موانع تُثبط عزيمته ومحاولته الجادة، المقرونة بثقة بالنفس، والقدرة على تقديم عمل مبدع، يشعر بالاحباط وعدم الرضا.
إن الموهبة نشاط إيجابي، المفروض أن ندعمه ونشجعه لاعتبارات كثيرة، أهمها: أن الطفل يتعامل مع موهبته بصدق وثقة وحماس واندفاع. ومن خلالها يكشف عن أصفى استعداداته الداخلية، وهو أيضاً يجد فيها زاوية محببة يلوذ إليها للترويح عن نفسه والشعور باستقلاليته وأهميته كفرد قادر على إثبات جدارته.
السنوات الأولى
أكد سيغموند فرويد أهمية السنوات الأولى من حياة الإنسان في نمو الشخصية، وتفتحها الكامل، وتحدث عن أهمية الخبرات المبكرة في تحديد نماذج السلوك التي تستمر حتى سنوات لاحقة من عمر الإنسان.
وقال: كل إنسان يمر بعدة مراحل نفسية من الولادة وحتى سن الرشد. وبقدر ما ينجح الفرد في اجتياز هذه المراحل، وفي مواجهة الأزمات التي ترتبط بها، بقدر ما يكون مستعداً للتكيّف الإيجابي مع حاضره ومستقبلاً. وينتقل فرويد ليشير الى نقطة هامة برأيه، وهي "الصلة" بين الطفل والراشدين من حوله، وموضحاً يقول: إن فهمنا للطفل يمرّ مروراً محتماً بإدراك العلاقات، التي تربطه بعالمه وبالوسط الخارجي.. ثم ان النمو الفكري والمعرفي عند الأطفال يرتبط مباشرة بالعلاقات التي يعقدها مع البيئة العائلية، ثم المدرسية؛ وعليها تُبنى معارفه الأولية ومنها يُصاغ سلوكه، وتتهيأ استعداداته.. والدعم المعنوي للطفل يؤدي الى رفع معنوياته والنظر الى العالم من حوله على أنه آمن يمكن الركون إليه؛ بينما غياب الدعم يقوده الى المخاوف والشك والرفض ويجعله مهملاً وإنطوائياً.
لكل ذلك يجب توفيـر مناخ أسري ومدرسـي يتلاءم مع احتياجات الطفل، وأيضاً، يجب توفير الفرص التي تسمح له بالمشاركة الإيجابية، وتمكنه من اختبار قدراته معتمداً على كفاءته، فالطفل يحتاج الى بناء ذاته ولديه استعداد دائم لخوض التجربة، وهو إذا لم يحظ بدعم من أبويه ومعلميه يفقد اندفاعه، ويحاصره القلق والتشاؤم.
أما أن يكتسب الطفل الشعور بالثقة، ويتحلى بروح الجد والمثابرة والمبادرة، فتلك لا شك مسؤولية الأهل والمدرسة.
إن كل عبور في نظر فرويد يصاحبه أزمات ونزاعات، وكل فرد يواجه مشكلات في مراحل نموّه وحتى ما بعد سن الرشد، ومسؤولية الأهل كبيرة في هذا الإطار، لأنهم في طليعة المعنيين في تهيئة الصغار تهيئة مثالية تضعهم أمام نقطة الإنطلاق الصحيحة ليسيروا سيراً مستقيماً.
الطفل والتربية الأسرية
يحتاج الأطفال الى الدعم والقبول، مهما كان مستوى قدراتهم عالياً، وفي كل فترة من فترات نموّهم.. وتربية الطفل تتطلب وعياً وحكمة وصبراً ونضجاً وجهوداً كبيرة، فالطفل له نظرته الخاصة الى العالم من حوله، ولديه فهمه الخاص، الحدسي - غير المنطقي، المتمركز حول ذاته. وما يجب أن نفعله هو أن نقود الطفل تدريجياً في الاتجاهات الصحيحة وبالسرعة التي يكون مستعداً للسير بها، وهذا يتوقف على معرفتنا به معرفة حقيقية من حيث مستوى النمو والأداء؛ والمفروض أيضاً وهو الأهم، أن نسمح لأولادنا بالمناقشة ونمنحهم فرصة الحوار، لأن مثل هذا التفاعل ينمي التفكير المنطقي ويعلم الطفل أن يعرف كيف يُصغي وكيف يفهم، وما هو الخطأ وما هو الصواب.
التربية الأسرية، هي عملية تنشئة اجتماعية تتجه من الحاضر الى المستقبل، ولها انعكاساتها العميقة على نمو المهارات عند الأولاد، ومن الضروري مراعاة القواعد والضوابط التي قدّمها الفكر التربوي الحديث للتوصل الى بناء جيل صالح.
وباختصار، المفروض ألا نهمل أولادنا أياً كانت المصاعب التي نعاني منها، وأن نشـاركهـم اهتـماماتهـم وأحلامهم، وأن نتفـهم مشـكلاتهم ونناقشها معهم بأسلوب ودي، وأن نجـيب على أسئلتهم بصدق، وألا نضـغط عليهم، أو نشـعرهـم بأنهم لا يُعـتمد عليهم أو أنـهم فاشـلون.. فالنـقد والإهمال لهما تأثـير سلـبي على النـمو الإنفـعالي عـند الأبـناء، أما التـواصل الجـيد فلـه إيجابياته وفـوائـده الكثـيرة على نمـوّهم وتطـوّرهم...