- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
عندما تسقط طائرة، أو يحترق مبنى أو تتهدّم أحياء سكنية نتيجة الكوارث الطبيعية أو الحروب، نسمع عن سقوط قتلى وجرحى ونجاة بعض من قدّر لهم الهرب والبقاء أحياء.
لا أحد ينكر الدور الذي يلعبه القدر في ظروف كهذه، ولكن بالمقابل، للسلوك البشري أهميته تحت تأثير الصدمات، خصوصاً إذا كانت النجاة مرتبطة بسرعة بديهة المعنيين أو ردّة فعلهم الفطرية الإيجابية.
إلاّ أن اللاّفت في الموضوع، إختلاف السلوك البشري في مواجهة الخطر، الأمر الذي يدفع البعض الى اتباع سلوكيات سلبية مغايرة للتوقّعات، أو الخط الطبيعي للدفاع عن النفس، بينما يتّبع البعض الآخر سلوكيات إيجابية تؤمن نجاته.
والسؤال المطروح: لماذا تختلف ردّات فعل الناس تجاه المخاطر، وكيف تتجلّى هذه الاختلافات في أثناء المحن، وما هي التوجيهات المقترحة في مجال الإنقاذ؟
ماذا لو؟
أكّدت نتائج التحقيقات التي أجريت مع ناجين من الكوارث، أن بعضاً من الذين لاقوا حتفهم، كان بإمكانه الخروج حيّاً لو أنه تحلّى بالوعي والسرعة المطلوبين للتكيّف مع تأثير الفاجعة والهروب من براثنها. على كلٍ فإن هذا الرأي لا ينفي أن البعض الآخر كان محكوماً بالموت المحتّم بسبب موقعه لحظة حدوث الكارثة، وهذا ما حدث في أثناء انفجار المركز التجاري العالمي في نيويورك في الحادي عشر من شهر أيلول العام 2001، عندما قضى الآلاف ممن اتفق وجودهم ضمن نطاق إرتطام الطائرات.
وبالإشارة الى هذا الحدث الهام، لا بد من استعراض بعض النقاط التي وردت في نتائج التحقيقات مع الناجين وألقت الضوء على الإختلاف اللاّفت في السلوك البشري في أثناء الكوارث.
وقائع وإحصاءات
عُرف من خلال المقابلات التي أجريت مع الناجين من كارثة تفجير المركز التجاري العالمي في نيويورك، أن بعضهم قد انتظر حوالى ست دقائق قبل التوجه الى سلالم الطوارئ، بينما انتظر آخرون حوالى النصف ساعة قبل التفكير بالخروج. وحسب أقوالهم، حاول البعض في تلك الأثناء الإستعانة بالزملاء أو الإتصال هاتفياً بأفراد العائلة أو الهروع الى لملمة بعض الأغراض الخاصة. واللاّفت أن الجميع كان قد شاهد الدخان الأسود المنبعث من البرجين وشعر بهول الصدمة وسمع التوجيهات الملحّة للتوجّه الفوري الى سلالم الطوارئ بانتظام، مع ذلك، بقي حوالى الألف موظّف في الداخل بدون سبب يذكر. وذكر التقرير أن حوالى 135 شخصاً من الذين سنحت لهم فرصة الخروج عبر سلالم الطوارئ، وكانوا على مقربة منها، قد لاقوا حتفهم.
لماذا يتصرف الإنسان على هذا النحو؟
حسب الدراسات التي أجريت في مختبر التدريب النفسي في جامعة ويسكونسين الأميركية، فإن الإشارات التي يصدرها الدماغ البشري لحظة الخطر، تعمل بعدة اشكال ووفق سرعات متفاوتة. وحسب التقارير العلمية، يحتاج دماغ الإنسان الى ما بين 8 و10 ثوان في الأحوال العادية ليتعرف الى معلومة معقدة ويرسل إشارات للتعامل معها. والمعروف أن هذه العملية تتباطأ لدى فئة كبيرة من الناس في اوقات الشدة والضغط النفسي، ما يعني أن أدمغتها تتمهل في إصدار إشارات الدفاع عن النفس عند الشعور بالخوف، بسبب البطء الحاصل في تسلّم المعلومة والتكيف معها.
الدماغ إذن يعمل أحياناً بعكس المتوقع منه في لحظة الخطر، أي أنه لا يتمكن من إصدار القرار بالتحرك بالسرعة المطلوبة، وضمن المهلة المحددة للنجاة، وهذا يفسر الشلل الذي يميز تصرفات الكثيرين في أثناء الكوارث.
على كل، كما سبق وأشرنا يختلف عمل الدماغ في حالات الشدة من شخص الى آخر، وذلك حسب طبيعة تواصل خلايا الدماغ العصبية. وهنا يقسم الباحثون الناس الى مجموعات ثلاث على الشكل الآتي:
تضم المجموعة الأولى من 10 الى 15 بالمئة من الأشخاص الذين يحافظون على هدوئهم وتعقلهم في أثناء تعرضهم للصدمات الكارثية، ويتخذون بالتالي قرارات سريعة لصالح إنقاذ حياتهم وحياة الآخرين. أما المجموعة الثانية فتتألف من حوالى 15? من الذين يستسلمون لهستيريا البكاء والصراخ ويعرقلون خطط الخروج السليمة.
أما المجموعة الثالثة والتي تشكل الأكثرية الساحقة، فتصاب بشلل وجمود وذهول، وتتسمر في أمكنة وجودها عاجزة عن اتخاذ أي قرار، وقد يعمد بعض من أفرادها الى الاستعانة بالغير واستشارتهم.
في هذا السياق يشير الباحث النفسي البريطاني جون ليتش في أحد مقالاته العلمية، الى أن تصرفات الناس قد تختلف ايضاً بحسب اختلاف الكوارث، ما يعني ان السلوكيات التي يفرضها غرق سفينة او تحطم طائرة، تختلف عن تلك الناجمة عن التعرض لزلزال او اعصار او غارة جوية. مع ذلك فهو يعترف كسواه من الباحثين بأن الأكثرية الساحقة تصاب بشلل التفكير والحركة تحت وطأة الصدمات الكارثية. وهنا تُطرح الأسئلة المحيرة الآتية:
أليس من المفترض أن يتحول مطلق إنسان يواجه المخاطر الى حيوان هارب مدفوع بسرعة تدفق هرمون الأدرينالين الذي يحفزه شعور الخوف الطبيعي؟.. ولماذا تحتمي الأكثرية الساحقة بالشلل والجمود، وهل لهذا السلوك علاقة فطرية بحب البقاء؟
في خلال السبعينيات، عندما كان الباحث النفسي الأميركي دانيال جونسون يعمل في مجال الإنقاذ والسلامة العامة، أدرك بوضوح من خلال دراسته للسلوك البشري في الكوارث والحروب، أن شيئاً خفياً ما يعيق حصول ردة الفعل الطبيعية المتمثلة بالهروب عند نسبة كبيرة من الناس.
ومن خلال الأبحاث التي أجراها على الحيوانات، تبين له أنّ حالة الشلل التي تطغى على البعض في حالات الخوف الشديد، هي سلوك بدائي غير متطور يميز بعض الحيوانات ويساعدها على التكيف مع ظروف معينة.
فبعض الحيوانات الصغيرة يصاب كما ثبت بالمراقبة، بفقدان مؤقت للوعي لدى مواجهة خطر الحيوانات المفترسة الأقوى منها، وبهذا تحظى بفرصة النجاة ومصارعة الموت. والسبب أن الشلل اللاإرادي الذي يسيطر عليها لحظة الشعور بالخطر، يجعلها تبدو فاقدة الحياة، الأمر الذي يبعد عنها الحيوانات المفترسة، والتي لا تهاجم الكائنات الميتة. ومن هنا الإعتقاد أن هذا السلوك الفطري الذي يميز بعض الحيوانات قد طغى في الماضي السحيق على سلوك نسبة كبيرة من البشر، وهو كما يبدو ما يزال يهيمن على الأكثرية التي تحتفظ أدمغتها بذاكرة بدائية أمنت بقاءها عبر العصور.
من ناحية ثانية، لاحظ الباحث النفسي الأميركي غوردون غالوب أن هذا السلوك البدائي يطغى عموماً على ضحايا الاغتصاب، وخصوصاً النساء اللواتي يستسلمن بمعظمهن الى المغتصب بدلاً من مقاومته. وهذا يعني أن حالة الجمود وغياب سلطة العقل، في أثناء الكوارث، هي ردة فعل غريزية ميزت الإنسان البدائي في ظروف معينة، لكنها اصبحت تشكل خطراً عليه في مجتمعنا المعاصر.
ما هو الحل؟
حسب نتائج الأبحاث التي أجراها غوردون على هذا الصعيد، هنالك أدلة ثابتة على أن حالة الذهول او الشلل الفكري والحركي تطغى عموماً على الأشخاص غير المتأهبين لمواجهة الخطر، او الذين يشعرون ضمناً أن الكوارث تستثنيهم وتصيب سواهم. وهذا يعني أن أدمغة هؤلاء تكون غير متأهبة لاستقبال المعلومات الطارئة وإصدار الرد العقلاني للتكيف معها. وتجدر الإشارة الى أن هذه الفئة بالذات قد تتميز أحياناً بسلوكيات التهور أو ردات الفعل الفطرية التي تطغى عليها سرعة الانفعال والصراخ ومحاولات الهروب غير المدروسة، الأمر الذي يتسبب بهلاك أفرادها. بالمقابل فقد ثبت أن العقلانيين الذين لا يعتبرون أنفسهم بمنأى عن الخطر، يتمكنون عموماً من النجاة في اثناء الكوارث، إذا ما أتيحت أمامهم الفرص. ويرد الباحثون سبب ذلك الى أن التحضير النفسي يرفع العقل الى مستوى مجاراة إيقاع الحدث، وبالتالي التعامل مع مجرياته بالسرعة المطلوبة.
الحل إذن يكمن بالتأهيل الإجتماعي السلوكي منذ الصغر في تصويب ردات الفعل البشرية الفطرية وتسليحها بوسائل الحماية العقلانية السليمة. وهذا التأهيل جزء لا يتجزأ من دور العائلة والمربين والمؤسسات الخاصة والعامة التي تعنى بالحماية والسلامة والإنقاذ.
المهم إعطاء هذه الثغرة اللافتة في السلوك البشري المزيد من الاهتمام من قبل المعنيين لتدريب الناس تدريجاً على الانفصال عن السلوكيات البدائية غير المتناسبة مع الحدث، واعتناق سلوكيات حضارية بديلة منسجمة مع فرص الإنقاذ.