- En
- Fr
- عربي
قضايا ساخنة
الضبط الكامل للحدود من أكثر المسائل إلحاحًا، وفي الوقت نفسه من أكثرها تعقيدًا، حتى بالنسبة إلى البلدان ذات الإمكانات الهائلة عسكريًا وأمنيًا وتكنولوجيًا. في الأسابيع الأخيرة، وفي ظل الحديث عن مفاعيل قانون قيصر الأميركي، تصاعدت وتيرة الحديث عن التهريب عبر الحدود اللبنانية - السورية. وجرى التركيز بشكل خاص على تهريب مادتي المازوت والطحين المدعومتين من الدولة إلى سوريا، فضلًا عن تهريب مواد غذائية وسلع أخرى من سوريا إلى لبنان، مع ما يرتبه ذلك من خسائر على الاقتصاد اللبناني.
ما هو الواقع على حدودنا الشرقية والشمالية الشرقية، وهل هي مشرّعة للتهريب كما توحي تصريحات البعض؟
في البداية لا بد من الإشارة إلى أنّ طول هذه الحدود يبلغ نحو ٣٦٥ كلم، توجد عليها ٥ معابر شرعية هي: العريضة والعبودية والبقيعة في عكار، وجوسيه في البقاع، والمصنع في مجدل عنجر. تؤمّن مراقبة هذه المعابر أفواج الحدود البرية الأربعة. وهذا العديد إذا استُثنيَ منه عدد العناصر الإدارية واللوجستية، من الصعب أن يؤمن السيطرة الكاملة على الحدود في ظل تعقيدات التاريخ والجغرافيا الطبيعية والبشرية والسياسية.
المشكلة المزمنة
يعود التهريب عبر الحدود اللبنانية – السورية إلى ما قبل الاستقلال، إذ يستفيد المهربون من الواقع الجغرافي للمناطق الحدودية التي تتيح استحداث معابر ومسالك للمرور. وعلى مرّ السنوات التي لم توضع خلالها أي خطة للحدود علمًا أنّ ثمة نقاطًا عديدة فيها من دون ترسيم، أو هي موضوع نزاع، نمت على جانبي الحدود عشرات القرى التي تسكنها عائلات لبنانية امتهنت التهريب.
إنّ النظرة الواقعية إلى الموضوع ينبغي أن تأخذ في الاعتبار الجهود الجبارة التي بذلها الجيش وأسهم فيها المجتمع الدولي اعتبارًا من العام ٢٠٠٦، وعززها انتشار الوحدات العسكرية على حدودنا الشرقية والشمالية بعد معركة «فجر الجرود» في العام ٢٠١٧، ما أدى إلى السيطرة عليها بشكل شبه كامل.
اليوم غير الأمس
في المنطقة التي تشمل جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، تمركز الجيش في نقاط تمّ اختيارها بعناية ودقة لضبط الحدود باستخدام وسائل متطورة من ضمنها كاميرات المراقبة الحديثة التي رُكّزت في أبراج أُنشئت لهذه الغاية، وشكّلت المدماك الأساسي للإمساك بالحدود. هذه المنطقة مضبوطة إلى حد كبير، خلافًا لما كان يحصل في الماضي، إذ كان أهالي بعض البلدات السورية يدخلون إلى الأراضي اللبنانية ويخرجون منها بسهولة.
ما المشكلة؟
أما في المنطقة الشمالية الشرقية التي تمتد من مشاريع القاع والرويمة إلى حروف السماقة (عكار) فضبط الحدود نسبي. يمكن القول إنّ السيطرة في هذه المناطق هي بحدود ٨٠ في المئة. فما المشكلة هناك وما الذي يمنع السيطرة الكاملة؟
تتداخل في هذه المنطقة الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية مع السياسة وعوامل أخرى. تداخل الأراضي ووجود مناطق متنازع عليها إضافة إلى وجود قرى لبنانية على الجانب السوري من الحدود (وبالتالي لا يمكن منع أهاليها من العبور إلى الأراضي اللبنانية)، كلها عوامل تؤدي إلى وجود ثغرات من الصعب إقفالها. وفي حين يعمل الجيش يوميًا على تعهّد السواتر الترابية والعوائق التي تمنع العبور غير الشرعي، يمكن أن «ينبت» معبر في أي لحظة، لذلك تسيّر الدوريات بشكل مستمر لمعالجة الوضع. أمّا السيطرة التامة فتقضي بوجود فوج بكامله في منطقة طولها نحو ٣٠ كلم، وهذا غير ممكن في ظل المهمات التي يتولاها الجيش في الداخل، والتي يُرتقب أن تزداد وتيرتها على وقع الاحتجاجات والتظاهرات، وقد أضيف إليها في الآونة الأخيرة توزيع المساعدات الاجتماعية.
تعقيدات الواقع
ولتوضيح الصورة أكثر، ينبغي الإشارة إلى الواقع السكاني في البلدات الحدودية، حيث تفصل قناة مياه بين الأراضي اللبنانية والأراضي السورية، علمًا أنّ هذه القناة لا تشكل الحدود الرسمية. ففي منطقة المشرفة مثلًا يمكن أن يوضع في أي لحظة جسر خشبي (لعبور الأشخاص) أو حديدي (لعبور الآليات)، السكان هناك شيّدوا منازلهم على القناة مباشرة ما يعيق تحرّك الجيش ودورياته. حوش السيد علي بلدة سكانها لبنانيون، ثلاثة أرباعهم في لبنان والربع الباقي في الأراضي السورية، وثمة حاجز للجيش على القناة باتجاه الأراضي اللبنانية يفتش العابرين. يُسمح لهؤلاء بنقل كميات ونوعيات محددة من المنتوجات والسلع وفق كل حالة، علمًا أنّه لا وجود لمعبر شرعي قريب من المنطقة. في نقطة القصر الأمور صعبة، هناك نحو ٣٠ ضيعة لبنانية موجودة في سورية. لذلك اعتمد الجيش ترتيبات معيّنة لدخول أهالي هذه الضيع الأراضي اللبنانية والخروج منها، بانتظار وجود حل نهائي يتيح لهم العبور بشكل شرعي.
هذا التداخل يتيح بالطبع حصول تهريب. كيف لحاجز الجيش مثلًا أن يجزم بأنّ كمية الدجاج والبيض أو الخضار والفواكه التي تعبر الحدود باتجاه لبنان هي مهربة، إذا كان صاحبها يبرز مستندات تفيد بأنّه لبناني ويملك مزرعة على أرض لبنانية على الجانب السوري من الحدود؟ هل نحاكم على النوايا؟ يقول أحد الضباط، ويضيف: «أحيانًا نضبط بضائع مهربة، قانونيًا علينا تحويلها إلى الجمارك التي قد تفرج عنها على أساس أنَها قانونية». هنا تجدر الإشارة إلى أنّ عديد الجمارك متواضع جدًا ما يجعل ضبط التهريب أصعب.
ماذا عن المازوت؟ لا تستطيع الشاحنات الكبيرة المرور عبر الممرات والمعابر الضيّقة. بعض لقطات الفيديو التي انتشرت منذ فترة لشاحنات قيل إنّها تهرّب إلى سوريا، هي قديمة وشرعية إذ كانت الدولة السورية تستورد المازوت عبر المرافئ اللبنانية وتنقله برًا. في أي حال للمهربين أساليبهم، فقد يصل المازوت إلى المنطقة في آليات تنقل خزانات صغيرة وعندما تصل إلى الأماكن المجاورة للحدود يتم تهريبها بواسطة خراطيم إلى الداخل السوري.
المعالجة من المصدر
لذلك، لا بد من اعتماد إجراءات لمنع تهريب المازوت كما الطحين من المصدر. حاجة المنطقة من المادتين معروفة، إذًا ينبغي التدقيق في طلبات التجار ومنعهم من الحصول على ما يفوق هذه الحاجة، ومنع البعض من الاستئثار بكميات كبيرة واحتكارها، وحرمان البعض الآخر من الحصول عليها. إنّ ضبط الحدود ووقف التهريب لا يقع على عاتق الجيش دون سواه، فللقوى الأمنية الأخرى وبعض الإدارات مسؤولية في تجفيف المنابع التي يتغذى منها العدد الأكبر من المهربين. ضبط المسالك التي تتبعها الشاحنات المهربة من مسؤولية الجمارك وقوى الأمن السيّارة والأمن العام ووزارتي الاقتصاد والطاقة. كما أنّه لا بد من تشديد الإجراءات القانونية الرادعة بحق المهربين. فالتهريب في القانون اللبناني يُعتبر جنحة لا جناية، وبالتالي عقوبته لا ترتقي إلى مستوى الردع. أحيانًا يوقف الجيش أشخاصًا بتهمة التهريب، لكن هؤلاء سرعان ما يستعيدون حريتهم بعد تسليمهم إلى المراجع المختصة.
ما الحل؟
الحل لا يمكن أن يقتصر على المعالجات الأمنية بل يقتضي نظرة شاملة إلى الواقع تحيط بجوانبه كافة. ثمة خطوات ينبغي تنفيذها بسرعة، وثمة ما يحتاج إلى وقت أطول، فليبدأ العمل بالممكن، من إقامة معبر شرعي على الجهة الشرقية الشمالية، إلى تفعيل عمل جميع الأجهزة المولجة ضبط الحدود، وإقرار تشريعات رادعة، وصولًا إلى الإقرار بالواقع المأسوي للمناطق الحدودية النائية التي ما زالت أسيرة الحرمان منذ الإستقلال، وأيضًا وصولًا إلى يوم تُرسَم فيه حدودنا بوضوح.
أخيرًا، إنّ ما تمّ تحقيقه على صعيد الإمساك بالحدود الشرقية والشمالية ليس بقليل، المهم أن يبنى على الإيجابيات وأن يستمر التقدم، وأن يتوقف البعض عن توظيف قضية المعابر الحدودية سياسيًا.
أرقام ووقائع
عقدت لجنة الإدارة والعدل اجتماعًا (في ٣ حزيران ٢٠٢٠) في حضور وزيرة الدفاع الوطني وضباط من قيادة الجيش. وأفادت المعلومات التي قدمها الضباط بأنّه بين منتصف كانون الأول ٢٠١٩ ومطلع حزيران ٢٠٢٠ أوقف الجيش اللبناني ٩٦١ شخصًا بجرم التهريب على جميع الأراضي اللبنانية، وأنّ هناك لائحة بالمضبوطات التي تم تسليمها إلى المديرية العامة للجمارك، مع الإشارة إلى أنّ الحوادث التي واجهها الجيش مع المهربين خلال هذه الفترة كلفته ٤ شهداء و٧ جرحى من بينهم ضابط.
يُذكر أنّ العمل على الحدود هو عمل متواصل يوميًا ولا يمكن القول إنّها أقفلت في يوم محدد. وفي بعض المناطق تشهد الحدود عمليات كر وفر، فالجيش يغلق المعابر ليتبين بعد ساعات أنّه تم العبث بالسواتر الترابية والعوائق التي وضعها، ما يضطره إلى تعهدها باستمرار فضلًا عن تكثيف الدوريات حيث لا يمكن وضع ما يكفي من المراكز الثابتة.
مزيد من التشدّد
خلال اجتماع مجلس الدفاع الأعلى في ١٣ أيار المنصرم، طالب رئيس الجمهورية بعدم التهاون مع المهرّبين، وعرض رئيس الحكومة الانعكاسات المالية والاقتصادية للتهريب متطرّقًا إلى المعوقات اللوجستية. ومن جهته، عرض قائد الجيش الواقع الميداني للحدود البرية والصعوبات التي تحول دون ضبطها بالكامل.
وفي اليوم التالي أصدر مجلس الوزراء قرارًا يقضي بمصادرة كل المواد التي يتم إدخالها إلى لبنان أو إخراجها منه بطريقة غير شرعية وبأي وسيلة كانت. كما قضى بمصادرة السيارات والآليات المستخدمة لهذه الغاية.
تفاصيل
• في بعض المناطق تقع المنازل في الأراضي اللبنانية بينما الحدائق التابعة لها في الأراضي السورية.
• عزز الجيش قواه وتمركزه في النقاط الحدودية لكن الأجهزة الأخرى لم تقم بالخطوة نفسها. في منطقة الهرمل مثلًا ينبغي وجود مفرزة للجمارك وهذا غير متوافر نظرًا للنقص في العديد.
• يقوم الجيش بإيقاف المهربين وضبط البضائع المهرّبة ثم يحيل الأشخاص والمضبوطات إلى الأجهزة وفق الصلاحية. الأشخاص السوريون يسلمون إلى المخابرات للتحقيق معهم، ثم يحالون إلى الأمن العام. أما الأشخاص اللبنانيون والبضائع فيسلّمون إلى الجمارك لاتخاذ الإجراءات اللازمة.