- En
- Fr
- عربي
متاحف في بلادي
إنه الحنين المقيم أبداً فينا
في بلدة حولا الجنوبية جمع المهندس طارق مزرعاني أدوات زمان مضى...
مفاتيح البيوت القديمة، قناديل الكاز التي كانت وحدها مصدراً للإنارة، أدوات الفلاحة التي نعتبرها اليوم بدائية، جرار المياه التي كانت النسوة يحملها من نبع الى آخر، عدة طبيب الأسنان الخالية من اللايزر وإبر البنج والزرع الاصطناعي، أبواب البيوت العتيقة، وغيرها...
إنه الحنين الى الماضي يقيم في مكان واحد يختزل ذاكرة جنوب لبنان، ويعكس وقائع حياة في هذه المنطقة التي ما تزال على حقيقتها الريفية، على الرغم من غزو الإسمنت حجارتها وتكنولوجيا العصر أدواتها.
مجلة «الجيش» زارت متحف حولا الجنوبي وجالت بين مقتنياته التراثية...
لملمة التراث
لأن الحفاظ على الإرث التراثي هو واجب ثقافي ويشكل عنصراً فعالاً وأساسياً في مواجهة النسيان، جَهِدَ أبناء بلدة حولا (قضاء مرجعيون) منذ ما بعد التحرير العام 2000، وعلى مدى تسعة أشهر في لملمة أدواتهم العتيقة ورموز تراثهم ومعدّاتهم التي كانوا يستخدمونها في حياتهم اليومية، قبل نحو ربع أو نصف قرن. جمع الأهالي ما أتيح لهم الاحتفاظ به والمحافظة عليه على الرغم مما عانته البلدة من تهجير منظم واظب على فرضه جنود العدو الإسرائيلي، وعلى الرغم من التدمير الذي طاول الكثير من مقومات الحياة وأدواتها.
المقتنيات والأدوات جمعت في متحف تراثي استضافه منزل المهندس المعماري وصاحب الفكرة طارق مزرعاني.
هواية تحولت الى قضية
يجمع المهندس طارق مزرعاني في شخصه إجازات في الهندسة المعمارية والفلسفة والآثار ليكملها بهوايات كتابة الشعر والرسم والتصوير، وليتوجها بمتحف تراثي، فالتراث اللبناني أصبح قضية بالنسبة اليه.
حسب رأيه الهندسة فن وفلسفة، والآثار جزء من الفنون. أما الجامع الأكبر بين الفن والفلسفة فهو العودة الى الماضي بوصفه مرجعاً للحاضر وذاكرة للمستقبل.
حبه لبلدته وتعلّقه بتراثها، أعاده بعد التحرير إليها، جمع ما بقي من هذا التراث وحفظه في متحف قلّ نظيره في لبنان. متحف يروي ذاكرة القروي اللبناني والفلاح البسيط المكفي والمزارع الطيب والعائلة المتماسكة وجو القرية حيث التعاون والتآخي والمحبة. جمع القطع المنزلية وأدوات الزراعة القديمة وكل ما هو تراثي ونادر وحفظه تاريخاً للأجيال اللاحقة، وعاملاً يبقيها على اتصال بجذورها.
والأهم، بحسب مزرعاني، التذكير بأن هذه الأدوات كانت وسيلة للتقريب بين الناس، فالجار كان يحتاج الى جاره والأخ إلى أخيه، يستعملون الأدوات نفسها، وهي كانت سبباً مهماً لتعلقهم بالأرض.
زوايا وحرف
في المتحف زوايا عديدة تحمل كل واحدة عنوان حرفة واللوازم المتعلقة بها. نبدأ من الباب العتيق ولوازم تحميص البن وطحنه، محامص قديمة ومطاحن قهوة وركاوى وغلايات... الى الأدوات المتعلقة بزراعة التبغ، وتوضيبه، نير الحراثة وتوابعه، المكبس، الميابر وسواها...
في ركن آخر الجاروشة، السندان، المخل، السلم، عدة الحصاد ومنشار الخشب...
ومن بين الأدوات المنزلية القديمة، الطناجر والصحون النحاسية، الكبكة، الكوارة، العصي الخشبية، صندوق العروس، مكبس دخان، المهباج، أكاليل من القماش كانت النسوة يضعنها على رؤوسهن لحمل الجرة، سرير الطفل القديم، صواني قش، مكاوي على الفحم، مجموعة أجراس معدنية للمواشي، مناجل مختلفة وعدة الحصادين، مواقد من الطين، ميزان عنب، فخ كان يستعمل لصيد الضباع، أجران كبة، مكيال (وزن نصف مد) لكيل الحبوب، نعارة للدبس، مجموعة جرار (واحدة لزيت الغار، وأخرى لخض اللبن، وثالثة للمياه)، مكنسة البلان، مواقد الطين وأدوات أخرى تعجز العين عن إحصائها.
كتب قديمة
في ركن من المتحف، المكتبة التي جمعت كتباً قديمة منوعة: كتاب «عثمانلي» (باللغة التركية وبالحرف العربي) ويعود الى 120 عاماً، كتاب مرشد «المتعلم وترجمان المتكلم» الصادر العام 1872 في بيروت، مخطوطات شعرية، ووثائق البيع والشراء التي كانت معتمدة سابقاً (حجج البيع) ويعود عمرها الى حوالى 60 عاماً.
هذا الإرث القروي عمل المهندس طارق مزرعاني مع أبناء البلدة وشبابها على جمعه وتنسيقه في غرف المتحف.
ومع ان المعروضات أدوات معروفة بالنسبة الى الغالبية إلا ان بعضها يستدعي الشرح: الكبكة مثلاً، والتي كانت تستعمل لحفظ الطعام قبل أن يقتني الناس الثلاجات.
نحو مشروع شامل
عن كيفية تجميع هذه الأدوات يقول مزرعاني: بعضها من منزل جدي ومن البلدة التي ساهم أبناؤها في دعم مبادرتي فأهدوني قسماً منها، إلى أخرى نادرة اشتريتها من القرى المجاورة.
في بعض زوايا المتحف صور تحمل توقيع مزرعاني، وتتمحور حول الطبيعة والمسنين والتراث. وهو يعتبر «ان المتحف المتواضع هو توطئة لمشروع شامل سنحاول تكريسه في البلدة بالتنسيق مع جميع أبنائها ونحن بصدد التفاوض على مكان أفضل له، أي منزل قديم في حولا يتلاءم مع محتوياته».
وأشار مزرعاني الى ان المتحف سيتضمن مكتبة عامة، وسوف تتبعه معارض من وحي ما عاشته البلدة والمنطقة من احتلال ومجازر وصولاً إلى التحرير.
وفي ختام اللقاء، سجل المهندس طارق مزرعاني بعض اللوم على الدولة التي لا تدعم مثل هذه المبادرات الفردية التي تساهم في حفظ إرث ثقافي قيّم، هو من مقومات شخصيتنا الوطنية.