- En
- Fr
- عربي
العوافي يا وطن
يتقدّم للتطوع في الكلية الحربية الكثيرون من حملة الشهادات العليا، ويتطوع كجنودٍ أيضًا حملة إجازات وشهادات عليا. لكن حاملي الشهادات العليا كما الآتي إلى الجيش برصيدٍ متواضع من العلم والثقافة، يعودون جميعهم إلى مقاعد الدراسة في المؤسسة العسكرية، ليس فقط لمتابعة العلوم العسكرية ويتمرسوا في اختصاصاتها، وإنما أيضًا لينمّوا معارفهم العامة ويكونوا قادرين على مواكبة التطورات السريعة بعقولٍ منفتحة.
والجيوش المعاصرة في إعدادها للمقاتلين الأكفاء، تولي القدرات الفكرية من الاهتمام ما توليه للقدرات البدنية وربما أكثر. فالأمر يرتبط بعدة عوامل على صعيد القطع المختلفة في الجيش الواحد، كما على صعيد الرتب والاختصاصات. لكن في النهاية وأيًا كانت وجهة التعليم ونوعيته، فإنه لا يتوصل إلى بناء القدرات وتنميتها، إذا لم يكن عملية تراكمية مستمرة تستوعب المستجدات وتتيح مجابهة التحديات. ولذلك تعمل المؤسسة العسكرية على تعزيز العلم والمعرفة في صفوف عسكرييها كل يوم، كما تكثّف التدريبات العملية التي يطبّق من خلالها العسكريون ما تعلموه. فالتعليم لا يكون ذا معنى إذا لم يوائم بين المعرفة النظرية والخبرات المكتسبة من التطبيق والتمرين.
وهكذا يتابع العسكريون عملية تعلّم لا تنتهي إلا بإحالتهم على التقاعد. وحتى في التقاعد قد يكون عليهم أن يتعلموا دروسًا جديدة بمعنى ما. فالحياة مدرسة لا تقفل أبوابها إلا في وجه من يختارون الكسل والتقوقع والتحجر حيث هم.
والتعليم في الجيش عملية مستمرة في موازاة المهمات الكثيرة. عسكريونا تلامذة دائمون في ميادين المعرفة وجنود متأهبون في ميادين الخدمة. الفارق بينهم وبين تلامذة المدارس أنهم لا يحظون بعطلة صيف أو ربيع... عامهم الدراسي يمتد على مدى ١١ شهرًا، أما أيام الخدمة فلا أرقام تحددها، ما يحددها هو المهمات والأوضاع والظروف.
لكن الحديث عن استمرارية التعليم في الجيش وتنوّعه لا يفي الأمور حقها. وإنما لا بد من نظرة أكثر عمقًا ترصد المناهج وطرق التدريس والوسائل المعتمدة فيها. وهذه النظرة التي أتاحها ملف خاص في هذا العدد تشعرنا بكثيرٍ من الفرح والفخر في آن. فمع استقبالنا تباعًا ما وردنا من الكليات والمعاهد والمدارس والقطع اكتشفنا كيف تخضع مناهج التعليم إلى التعديل سنويًا، وكيف تستند طرق التدريس والوسائل المعتمدة فيها إلى التيارات المعاصرة في التعليم والتربية. فهي تستخدم الطرق الناشطة في شرح الدروس، والوسائل والتجهيزات الحديثة مركّزة على التفاعل بين المعلمين والمتعلمين والمدربين والمتدربين.
هوذا جيشنا المثقل بمهماته، المحاصر بقلة إمكاناته، يواكب الحداثة في التعليم والتدريب بينما قسم كبير من مدارسنا ما زال أسير الطرق التقليدية التي تعتمد على التلقين والحفظ. هو ذا جيشنا يعدّل مناهجه دوريًا لمواكبة كل جديد، بينما منهاجنا التي عُدّلت مطلع التسعينيات ما زالت تنتظر تحديًّا يُحكى عنه ولا يأتي.
إنّ طبيعة الجيوش تفرض عليها ليس فقط مواكبة العصر، وإنما التقدم لتشكّل قاطرة تدفع التطور في مجتمعاتها إلى الأمام وفي عدة مجالات. فتلبية الحاجات العسكرية دفعت قدمًا التطور التكنولوجي في أميركا وأوروبا وسواها...صحيح أنّ جيشنا ليس في موقع إنتاج الأسلحة والتكنولوجيا، المعقدة. وصحيح أن لا ميزانيات لديه يسخّرها في الأبحاث العلمية، لكن جيشنا أثبت قدرته على التعامل مع التكنولوجيا المتطورة بكفاءةٍ فائقة. بل استطاع تطويعها أحيانًا وجعلها ملائمة لحاجاته. وهو تمكّن من ذلك بفضل التعليم والتدريب الدائمَين والقدرة على الابتكار في إحياء سلاح قديم، فتضيف إليه ميزات لم يلحظها الصانعون، أو تعديل عتاد خرج من الخدمة فتعيده إليها مكتسبًا فعالية مضافة.
تُبنى القدرات بالتعلم المستمر والمعرفة الواسعة والعقول المنفتحة والتدريب الدؤوب. ضباطنا وجنودنا طلاب علم ومعرفة، وجيشنا مؤسسة تدفع بهم إلى اكتساب المزيد، الذي لا يقتصر على العلوم والمعارف العسكرية فقط بل يتجاوزها إلى ميادين المعرفة العامة. أما طرق التحصيل وفرصه فكثيرة، بدءًا من المناهج المعتمدة في الجيش وهي متشعّبة بتشعّب الاختصاصات والقطع، وصولًا إلى الدورات الدراسية في الخارج، ومرورًا بمتابعة الدراسات العليا في الجامعات الوطنية التي عقدت قيادة الجيش معها اتفاقيات وبروتوكولات تسهّل للراغبين تطوير مستواهم العلمي.
جنود الشهادة هم جنود المعرفة أيضًا. فبوركت العقول المفتوحة لآفاق التقدم الدائم، وبوركت مؤسسة تدهشنا كل يوم بما تبنيه من قدرات.
في لبنان مفارقات كثيرة، أن يواكب النظام المرصوص الحداثة في التعليم بينما تتخلف عنه مؤسسات مختصة بمواكبة الحداثة.
العوافي يا جيشنا
العوافي يا وطن