- En
- Fr
- عربي
وقفة وفاء
شهادة حارة على تخوم البارد
مرة أخرى يؤدون الواجب ممهوراً بالدم. مسعفو الصليب الأحمر اللبناني أقاموا في قلب الخطر طوال ثلاثة أشهر ونيف ملتزمين روح العطاء بأبهى معانيها، وفي معركة نهر البارد كان لهما شهيدان.
بولس معماري رئيس مركز حلبا، وهيثم سليمان هرعا لينقذا ضحايا قذيفة أطلقها الإرهابيون، فسقطا بدورهما ضحية قذيفة غادرة.
هذه الصفحات تحية وفاء لمسعفي الصليب الأحمر وخصوصاً للشهيدين اللذين هما من خيرة شبابنا شجاعة ونبلاً واندفاعاً. وقد شارك في صياغتها رفاقهما الذين تابعوا مهامهم حتى آخر لحظة، معتبرين عملهم خير تحية لبولس وهيثم.
جولة على المراكز
رئيس منطقة الشمال بولس بطرس رافقنا في جولة على مراكز الصليب الأحمر حول المخيم، حيث تعرفنا الى الأجواء التي تسود عمل المسعفين الشجعان.
بطرس استعاد المهمة من بدايتها فقال:
في الثالثة فجراً يوم العشرين من أيار الماضي تمركزنا قرب مداخل المخيم؛ بداية اعتقدنا أن المهمة ستنتهي بسرعة حتى أننا لم نفتح «سجلاً خاصاً بالعملية». لكن مع تدهور الوضع اضطررنا الى استحداث عدة مراكز على مداخل المخيم. أما اليوم وبعد مرور حوالى 70 يوماً على بدء المعارك فقد امتلأت سجلاتنا بالحوادث والتواريخ والاخلاءات.
وأضاف:
نحن نعمل كجهاز طبي مساند للجيش، حيث تقضي مهمتنا بإخلاء الجرحى العسكريين والمدنيين من أرض المعركة وتقديم الإسعافات الأولية لهم ومن ثم إيصالهم الى أقرب مستشفى، وهذه المهمة شملت ايضاً مواكبة الجرحى الذين ينقلون في الطوافات، الى نقل جثث الشهداء والقتلى.
وقد ساهمنا في توزيع المواد الحياتية للمدنيين في المخيم، ومن ثم إخلاء هؤلاء.
• مهامكم دوماً محفوفة بالخطر وقد مرّ وقت طويل وأنتم هنا، هل تؤثر الصعوبات على عملكم؟
- لقد بتنا نتكيف بشكل أفضل مع ظروف العمل بعد أن مرت فترة طويلة على وجودنا هنا، أما جهوزيتنا فكاملة 24/24. ونحن نؤمن من 5 الى 8 سيارات إسعاف، ومن 25 الى 50 مسعفاً عندما تقتضي الضرورة وفي الحالات الطارئة، أما الصعوبات فتزيدنا إصراراً على متابعة واجبنا.
في أحيان كثيرة نعمل تحت وطأة ضغط كبير، لكننا نؤمن كل المستلزمات والعتاد والعدد في أية مهمة.. لم يطرأ أي نقص أبداً فقد وفرنا عتاداً وعديداً من مراكز الشمال الثمانية. أما المركز الأول الذي تواصلنا معه باستمرار فكان في حلبا، وكل عديد مراكز المخيم منه.
• أنتم متطوعون لا تتقاضون أجراً، كيف توفقون بين عملكم التطوعي وبين مقتضيات حياتكم العملية أو الدراسية؟
- نحن متطوعون منذ زمن بعيد ووظائفنا الأخرى تؤمن معيشتنا. لكننا نخصص دوماً، وعلى حسابنا، وقتاً لعملنا التطوعي في الصليب الأحمر.
ويقوم الشبان والشابات بتأمين الدوامات مداورة في ما بينهم، وذلك من خلال برنامج منظّم نحدده لأوقات فراغ كل متطوع. لكن الوضع على الأرض يختلف عند الضرورة حيث يتم استدعاء غالبية المتطوعين حين يحدث أمر طارئ، عندها لا يتوانى أي منّا عن تلبية النداء أياً كانت انشغالاتنا. كما أن أرباب العمل والأهالي يأخذون بعين الاعتبار هذه المهمة - الرسالة، فيسهّلون أمور المتطوعين ويؤمنون لنا دوامات عمل مرنة، نظراً الى تقديرهم لهذه الرسالة الانسانية.
وعن طبيعة العلاقات التي تربطهم بالجيش اللبناني، قال: إن الثقة بيننا وبينه راسخة. في أحيان كثيرة كان يطلب منا الجهوزية التامة، من دون أن يعرف المكان أو طبيعة المهمة إلا أشخاص قليلون جداً. فالمهمات تكون أحياناً سرية، لكن الثقة المتبادلة جعلت الجيش يطلعنا عليها، فنؤمن المطلوب مع المحافظة التامة على المعلومات الخاصة الأخرى.
الرسالة فوق كل اعتبار
• ماذا عن يوم استشهاد المسعفين، كيف كان وقع الصدمة عليكم، وهل يعني الانتقام لكم شيئاً؟
- كان يوماً أسود بالنسبة الينا والانسانية جمعاء. لقد انهرنا جميعاً للحظة، ولم نقوَ على احتمال هذه الصدمة المؤلمة. لكن واجبنا الانساني كمتطوعين يتغلّب على مشاعرنا الخاصة، فهبّينا كلنا لمتابعة عملنا، ولإسعاف من يحتاج الى مساعدتنا.
كان الأمر جللاً لكن رسالتنا الانسانية أقوى من أي انتقام أو حقد. لقد نفّذ الإرهابيون جريمة كبيرة، إلا أن واجبنا ألاّ نفرّق بين إنسان وآخر في المساعدة، وحتى ولو وقفت في أحد الأيام أمام جريح من الإرهابيين، فلن أتوانى لحظة واحدة عن إسعافه وإنقاذ حياته.
تابعنا جولتنا على المراكز حيث التقينا في أحدها الطالب الجامعي المسعف عبدالله فرح الذي انخرط في الصليب الأحمر «لخدمة الانسان في لبنان، ولأن الصليب الأحمر تغلغل في دمه حتى أصبح جزءاً منه. لم يعد يستطيع أن يبتعد عن هذا الجو».
فرح هو واحد من رفاق الشهيدين بولس وهيثم. يتذكرهما قائلاً: «كانت البسمة لا تفارق وجهيهما. مع بدء المعركة كان همّ بولس الأول سلامة الشباب، ينبهنا: البسوا الخوذة، انتبهوا على بعضكن»، لكنه لم يعلم ربما أن الموت سيختاره مع هيثم على الرغم من الانتباه».
ويروي فرح تلك اللحظات: «كنت في غرفتي وفجأة «غلا قلبي» ولم أعرف السبب، فنزلت الى المركز حيث سمعت بهذا الخبر المفجع، وكان شعوري بالحزن لا يوصف، ورحت أبكي كالطفل الصغير. وبقيت ورفاقي مذهولين غير مصدقين، نبكي ولا نستطيع استيعاب فكرة أن هيثم وبولس لن يكونا معنا بعد اليوم.
وختم المسعف فرح بالقول: «كان بكير علين» فهما لم يعطيا بعد كل ما أراداه، ومهمتنا اليوم إكمال المسيرة والقيام بواجبنا بإسعاف الجرحى وتخفيف آلام شعبنا وأهلنا، وخصوصاً أفراد جيشنا البطل.
في أثناء حديثنا مع المسعفين وصلت ملالة مسرعة، ركض شباب الصليب الأحمر وبسرعة قياسية أنزلوا جرحى الجيش ووضعوهم في سيارة الإسعاف لنقلهم الى أقرب مستشفى، فلم أشعر إلا والمركز قد خلا من الحياة مع مغادرة الشباب باستثناء عدد قليل منهم.
وما هي إلاّ دقائق معدودة حتى عادت الحياة تنبض في المركز، وعدنا لنكمل حديثنا مع أصدقاء الشهيدين، فكان الدور لرشاد عبود ابن الواحد والعشرين عاماً والذي يدرس التمريض في الجامعة، يخبرنا أن الصليب الأحمر كان بنظره بداية وسيلة «حلوة» للمساعدة، لكن الوضع يختلف عندما نمارسها ونرى ونلمس مقدار التعب والضغط والمعاناة مع المصابين.. لكن ما من مجال للتراجع «فڤيروس» الصليب الأحمر يصيبنا على غفلة ويعشش في قلوبنا من دون أن نستطيع التحكّم به أو التخلص منه.
ويشرح المسعف عبود قائلاً: هذا ما أصاب هيثم ابن بلدتي فهو أكثر إنسان اعتدت عليه منذ تطوعي في الصليب الأحمر، كان لولب المركز ويُضحك الجميع ولا يعرف الحزن أبداً. أما بولس فكان رئيس مركز مثالياً، مسؤولياته كبيرة لكنه يساوي نفسه بالجميع ويندفع قبلنا الى كل مهمة ويعمل على الأرض بشكل دائم.
قلبهما كان دائماً على الشباب.. توقفا على حين غفلة، استشهدا من أجل هدف سام وقضية أسمى؛ نرغب كلنا في إكمال رسالتهما التي بدآها جنباً الى جنب مع الجيش الذي يناضل في هذه الأيام على عدة جبهات.
«الله يحمي الكل»، رفاقنا وباقي الشهداء رحلوا فداء عن لبنان، لكن الحق سينتصر في النهاية ليبقى وطننا الذي يستحق كل شهادة.
في مركز حلبا التقينا صبية كانت مع المسعفين عند حصول الحادث، المسعفة كاتي الياس وجهها ينبض حزناً: «حتى اليوم لم أستطع تقبّل ما حصل، لقد كان فظيعاً، ففي لحظة طلب مني بولس أن أبقى مكاني وفي اللحظة الثانية لم يعد موجوداً».
وتتابع كاتي قائلة: «أنا أعمل منذ خمس سنوات، وكنت قبل معركة نهر البارد سأبدأ عملاً جديداً لكن الظروف عاكستني، فكان عملي التطوعي أقوى من مصلحتي الشخصية. لكن المؤسسة التي أعمل فيها احترمت قراري واحتفظت لي بالوظيفة حتى انتهاء هذه المهمة».
وعند سؤالها عن ذكرياتها مع المسعفين الشهيدين، اغرورقت عينا كاتي بالدموع: «بولس وهيثم كانا بمنزلة اخوين لي، كنا نعمل كفريق واحد، وكان بولس رئيس مركز حلبا، كان قوي الشخصية لكنه في الوقت نفسه صاحب قلب كبير يعامل الجميع بكل اخلاق ومحبة، فيما هيثم له جو خاص: دائم المرح، يعمل بكل جوارحه ويعطي الكثير من وقته لعمله التطوعي، في الفترة الأخيرة كان يأخذ أحياناً دوامي بالاضافة الى دوامه».
وتضيف كاتي: «ما بيستاهلوا يموتو»، كانا يساعدان الجميع فلمَ كانت مكافأتهما الغدر والقتل؟ في ذلك اليوم وعندما صرخ ذاك العسكري «الشباب بالأرض دوّري الإسعاف تنروح نخلصن»، وقعت أرضاً ولم أعد أعي شيئاً.. وبعد فترة غضبت ولم أعد أريد المساعدة، ولكن الأمر لم يكن بيدي لأن «الصليب الأحمر» ومهماته كانا أقوى من قراري، خصوصاً وأن بولس وهيثم علماني التضحية بلا حدود ومهما كان الثمن... أرجو أن يكونا راضيين عني وعن الجميع لأن ما فعلناه كان أقصى إمكاناتنا.
وتختم كاتي:
أرجو أن تنتهي هذه المعركة على خير ومعها كل الأحداث الأليمة في لبنان والله «يحمي الجيش ويرد عن شباب الصليب الأحمر وين ما كان».
نقفل راجعين، وعلى امتداد اللحظات في وجداننا شجاعتهم وحزنهم ونبل رسالتهم.
بكلمات
• بولس معماري:
نجح «Chemine» كما يسميه رفاقه في المركز، منذ اليوم الأول لاندلاع المواجهات في مخيم نهر البارد بتأمين كل متطلبات الإسعاف للجيش اللبناني. وتخطى المركز بقيادته كل الصعاب التي اعترضته. وتحول اندفاعه وتحمله المسؤولية حتى لحظة استشهاده ظهر الاثنين 11/6/2007 الى نموذج يحتذى وسط زملائه، وسيكون اندفاعه رمزاً وعبرة لهم في المستقبل.
• هيثم سليمان:
تميز باندفاعه لمساعدة الناس وتنظيم النشاطات التي تقرب شباب الصليب الأحمر من أهل مجتمعهم. كان يقضي معظم قته في مركز الصليب الأحمر حيث أحب الزملاء شخصيته المرحة، ونكاته الجاهزة دوماً للتخفيف عنهم. دأب خلال تنفيذ عمليات نهر البارد على رفع معنويات زملائه، والتأكيد لهم أنهم سيتحولون الى رموز في مجتمعهم مع انتهاء المعركة وانتصار الجيش.
لكن وقبل انتهاء المعركة، تحول سليمان، ظهر 11/6/2007 رمزاً سيبقى في ذاكرة زملائه، يحثهم على الاندفاع وبذل الذات في سبيل خير المجتمع.