- En
- Fr
- عربي
مع العولمة ولكن من بوابة العوربة أوّلاً
ثمّة ملاحظات عامة يتعيّن أخذها بعين الاعتبار كإطار عام للتفكير في موضوع العولمة وذلك قبل إعطاء الحكم سلباً أو إيجاباً, عليها وعلى آثارها.
أوّلها, ان العديد من الأوجه الحاضرة للعولمة تعود بجذورها إلى فترات سابقة, وتعتبر كخطوات تمهيدية لها, لأن التحوّلات الستراتيجية الكبرى, التي يبدو فيها العالم متجهاً إلى مرحلة جديدة, لا تحدث في الغالب فجأة أو بلا مقدّمات.
ثانياً, قد تكون بعض مظاهر العولمة من الثورة التكنولوجية الهائلة, وخصوصاً في مجال الاتصالات والمواصلات والمعلومات, وبعض التغيّرات الدراماتيكية التي حصلت في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي, وما حصل قبلاً في حرب الخليج الثانية, قد سرّعت ظهور العولمة قبل نضوجها التام على الأصعدة كافة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية وتكنولوجية.
ثالثاً, ان العولمة بنظري هي قدر محتوم ولا مفرّ منها, ولا تستطيع أي دولة مهما عظمت أن تعزل نفسها, وأن تنأى بنفسها عن آثارها, أو أن تقف في وجهها. ولكن تستطيع الدول إن تضامنت وتكاملت اقتصادياً وسياسياً وتجارياً, أن تحسّن شروط المواجهة وتخفّف بعض الأضرار السلبية الناجمة عنها.
رابعاً, إذا كانت العولمة تعبّر عن مرحلة تاريخية من تطوّر العالم, فإنّ هذه المرحلة لا تزال في بداياتها, والعديد من الظواهر والتطورات المرتبطة بمرحلة العولمة لا تزال تتفاعل, والكثير من نتائجها وتأثيراتها الإيجابية والسلبية لم تتبلور بعد بصورة واضحة. وهذا ما يتطلّب ضرورة إثارة الأسئلة الصحيحة, وإخضاع الظواهر للدراسة والتحليل العلمي([1]).
1 ما هي العولمة؟
<<العولمة << هي إحدى المقابلات العربية لكلمة (Globalization )
الانكليزية. ويؤكد <<رونالد روبرتسون>> في كتاب <<العولمة>> على ان: <<العولمة هي تطور نوعي جديد في التاريخ الإنساني بعد أن أصبح العالم أكثر ترابطاً وأكثر انكماشاً. ويعتقد روبرتسون ان الوعي بهذا الارتباط والانكماش العالمي هو إحدى أهم سمات هذه اللحظة التاريخية([2]).
ويتحدّث <<جون نسبيت>> مؤلّف كتاب <<معضلة العولمة>> عن <<القوى التكنولوجية والتكتلات الاقتصادية الجديدة التي ستلعب الدور الحاسم في تشكيل مستقبل البشرية خلال القرن الـ 21>>([3]
ويرى البعض ان العولمة تشير في جوهرها وحقيقة أمرها إلى أمرَكة العالم (العولمة = الأمركة), في حين يرى بعض آخر أنها تشير إلى الأهمية المتزايدة للسوق العالمي, بيد ان نفراً غير قليل من الباحثين يضفي على المفهوم طابعاً أيديولوجياً صريحاً حينما يصفها بأنها تجسيد لواقع ثقافي وأيديولوجي معين, ألا وهو انتصار قيم السوق والليبرالية السياسية (الديمقراطية = السوق)([4]).
وباعتقادي فإن العولمة يمكن تعريفها: <<باندماج أسواق العالم في حقول الاقتصاد والاستثمارات المباشرة والتجارة وانتقال الأموال والأشخاص والثقافات والتكنولوجيا ضمن اطار من رأسمالية حرية الأسواق, وتالياً خضوع الدول, صغيرها وكبيرها, لقوى السوق العالمية, مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية والى الانحسار الكبير في سيادة الدولة, وأنّ العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة.
اذاً, لا بدّ من أن نعترف بأن الآراء متضاربة حول المفهوم وحول الآفاق المستقبلية, وهو الأمر الذي زرع الريبة والخوف من مآل الظاهرة ونتائجها في البلدان المتطورة والمجتمعات النامية معاً؛ ذلك ان ملامح المستقبل غير جلية كما يؤكد أحد مؤسسي نادي روما <<ألكسندر كينغ>> قائلاً: <<اننا وسط مخاض طويل وشاق سيؤدي بشكل أو بآخر إلى ميلاد مجتمع لا نستطيع أن نتكهن الآن بهيكليته المحتملة>>([5]).
2 ظواهر العولمة:
أ- ان العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة. وهذه الشركات عملاقة بحيث ان قيمة المبيعات السنوية لإحداها تتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لعدد من الدول متوسطة الحجم. ويرى بعض الباحثين انه نظراً لحجم استثماراتها المباشرة وغير المباشرة في الكثير من دول العالم, فإنها قادرة على الحد من سيادة هذه الدول, أو معاقبة الدول المضيفة في حال تجرأت ووقفت في وجهها. ومن الأمثلة, نزوح الاستثمارات غير المباشرة والتوظيفات من بعض الدول, مما يؤدي إلى انخفاض أسعار عملات وأسعار أسهم وسندات الدولة المضيفة لهذه الاستثمارات وانخفاض احتياطات مصرفها المركزي من العملات الأجنبية وحدوث إفلاسات مالية عديدة فيها, مما يضطرها إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي وهو احدى القواعد الرئيسية الثلاث في العلاقات الاقتصادية الدولية, والذي يتولّى الجانب النقدي في العلاقة, بالإضافة إلى البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي يتولى التمويل والاستثمارات ومنظمة التجارة الدولية التي تقوم بالجانب التجاري الدولي في تلك العلاقة الاقتصادية الدولية([6]). والبلبلة النقدية وانعكاساتها الاقتصادية من إفلاسات وتدنّي لسعر العملات كما حدث في المكسيك عام 1994 1995, وفي دول مثل ماليزيا وأندونيسيا وتايلاند وتايوان وكوريا الجنوبية في العام 1997, وفي تركيا في العام 2001.
فالدول عملياً واقعة بين سندان صندوق النقد الدولي ومطرقة الشركات العملاقة. وبالنتيجة فإن الدول المضيفة للإستثمارات غير المباشرة من الشركات الضخمة, أو للقروض المباشرة من صندوق النقد الدولي, تتخلى لهؤلاء عن جزء كبير من سيادتها([7]), جرّاء تدخلهم في كل شاردة وواردة وفي مجرى حياتها الاقتصادية والسياسية.
وقد برزت في الآونة الأخيرة مجموعة من الشركات الصناعية والمصرفية والخدماتية العملاقة والقائمة على دمج الشركات الأوروبية والأميركية واليابانية, تقوم بتحالفات عابرة للقارات ومتنوعة في نشاطاتها, حيث تتسم هذه الشركات, بأنه لم يعد لها هوية أو جنسية محددة, ولا تؤمن بالولاء لأي منطقة جغرافية أو مرجعية دولية. كما انه ليس لهذه الشركات مقر واحد, ولا تتأثر بسياسات دولة من الدول, متجاوزة بذلك القيود التقليدية والحواجز للنشاط التجاري والمالي والصناعي, حيث يكون مقرها الإداري في دولة معينة ومقرها التسويقي في دولة ثانية ومقرها الهندسي في دولة ثالثة ومقرها الانتاجي في دولة رابعة ومقرها الاقليمي في دولة خامسة ومقرها الدعائي والاعلاني في دولة سادسة ومقرها التنفيذي في دولة سابعة.
وتنتقل هذه الشركات بنفوذها وسلطتها وخدماتها وأموالها بحرية كاملة بين جميع الدول, الغنية والفقيرة, الكبيرة والصغيرة. وتعتبر ان هذا العالم هو عالم بلا حدود سياسية أو اقتصادية وان حدود هذه الشركات هو الكون بأسره.
وبالرغم من ان هذه الشركات موجودة بالفعل بنشاطاتها وبعملياتها وبسلعها في كل أرجاء المعمورة, إلاّ ان تمركزها الرئيسي والأهم هو في مناطق اقتصادية رئيسية تتركّز فيها ثروة تقدّر بحوالي 20 تريليون دولار, أي اكثر من (80) بالمائة من إجمالي الناتج القومي العالمي, وبالتالي تستأثر بحوالي 85% من إجمالي التجارة العالمية([8]).
ومن بين هذه المناطق الاقتصادية الرئيسية, أوروبا حيث السوق الأوروبية المشتركة, ومنطقة التجارة الحرة لدول أميركا الشمالية التي تعرف بالـ ((NAFTA
وتضم كل من المكسيك وكندا والولايات المتحدة الأميركية.
ولتوضيح القدرات المتوفرة للشركات العملاقة وآثارها على الدول الصغيرة والنامية. لا بدّ من القاء نظرة على موازنة تلك الشركات مقارنة مع الناتج الوطني المحلي لبعض الدول الصناعية الكبرى, وذلك كما يلي:
ب- منظمة التجارة الدولية:
منظمة التجارة الدولية هي الهيئة الدولية الوحيدة التي تتعامل مع قواعد التجارة الدولية. وتعتبر اتفاقية المنظمة التي أنشأتها بمثابة القلب والمحرّك لها. وتعتبر الاتفاقية أيضاً الأساس القانوني لقواعد التجارة الدولية.
هذه المنظمة هي ثمرة جهود المفاوضات التجارية متعددة الأطراف منذ العام 1947 حتى العام 1994, حيث توّجت تلك الجهود بالتوقيع على اتفاقية مراكش في 15 نيسان 1994. وتعتمد منظمة التجارة الدولية على مبدأ تحرير التجارة الدولية والخدمات من جميع القيود التي تحول دون سهولة انتقالها عبر الدول الأعضاء.
ولعل قيام منظمة التجارة العالمية هو من قبيل الرغبة الدولية في التحوّل إلى نظام السوق الذي يلعب فيه العرض والطلب والقدرة التنافسية الدور الحاسم في العلاقات الاقتصادية الدولية.
ولكن لكي تتدرج أي دولة من كونها عضواً مراقباً لتصبح عضواً دائماً في منظمة التجارة الدولية, عليها أن تتخذ عدة خطوات وعدة اجراءات لكي تتجانس أنظمتها القانونية والتشريعية والسياسية مع المعايير التي تفرضها اتفاقيتا الـ (TRIPS )
(قانون حماية الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة) والـ (GATT)
(الاتفاقية العامة المتعلقة بالتعريفات والتجارة).
إذاً, الوصول إلى العضوية الدائمة لمنظمة التجارة الدولية يمرّ أولاً بالانضمام إلى اتفاقية الـ (TRIPS)
وعبر تطبيق مضمون تلك الاتفاقية في القوانين الوطنية للدولة التي تودّ الانضمام إلى المنظمة. وهنا تمارس الولايات المتحدة الأميركية ضغوطاً جبارة على الدول وتتدخل في التفاصيل الصغيرة للقوانين المحلية وذلك من أجل حماية صناعاتها وعلاماتها التجارية ومنعاً من الغش التجاري والصناعي.
ابتدأت منظمة التجارة الدولية نشاطها في أوّل كانون الثاني 1995, ولكن النظام التجاري العالمي أقدم من ذلك بخمسين سنة. فمنذ العام 1948 وضعت الـ (GATT)
قواعد النظام التجاري العالمي. وفي حين ان الـ (GATT)
كانت تتعامل أساساً مع تجارة البضائع, فإن منظمة التجارة الدولية تتعاطى اليوم وتغطي بالإضافة إلى تجارة البضائع, تجارة الخدمات وتجارة الاختراعات والملكية الفكرية من إبداع وتصاميم(1).
ج الأمرَكَة:
أنفقت الولايـات المتحدة على التسلّح خـلال القرن العشرين, مـا يقـارب (40) تـريـليون دولار. ويبلغ متوسّط حجم الانفـاق المتوسط السنوي للولايـات المتحدة في مجال التسلّح حوالي 375 مليار دولار, وهي تمتلك اليوم أقوى جيش في العالم. كما تحتكر, وبعد انهيـار الاتحـاد السوفياتي, القرار السياسي الدولي وتعتبر من صنّاع القرار ومنفذته إذا أرادت ذلك, إذ بقدراتها العسكرية وبـإمكانياتها الاقتصادية وبأدواتها المالية, سواء في صندوق النقد الدولي أو في البنك الدولي, يمكنها ممارسة الضغط الاقتصادي والسياسي, على مختلف الدول والأحلاف والتكتلات. علماً ان موازنة الأمم المتحدة والهيئات الأساسية التابعة لها, تحصل على 30 إلى 40% من مواردها المالية من الولايات المتحدة, كما ان مقر الأمم المتحدة الأساسي يقع في نيويورك. من هنا نستطيع أن نقدّر مستوى الضغط السياسي الذي تخضع له المنظمة الدولية من قبل الولايات المتحدة, ويترجم ذلك في قرارات مجلس الأمن وعلى الأصعدة المالية الدولية.
وفي المجال الاقتصادي تمتلك الولايات المتحدة حقوق تصويت عالية داخل المؤسسات المالية الدولية أمثال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وذلك يعود لارتفاع أسهمها في تمويل المؤسستين, كما تتمتع بنفوذ كبير داخل منظمة التجارة الدولية. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الاقتصاد الأميركي يشكّل 26,5% من حجم الناتج الإجمالي العالمي.
وفي مجال المعلوماتية تسيطر الشركات الأميركية على 65% من تجارة السلع الاعلامية والمعلوماتية والثقافية, كما بلغت قيمة الاستثمارات الأميركية في هذه المجالات نحو (1000) مليار دولار.
من هنا, لم تعد اليوم الولايات المتحدة تلعب دور شرطي العالم فحسب, بل دور المارد المعلوماتي والاقتصادي والمالي, بحيث تستطيع أن تؤثر على الأصعدة الدولية المختلفة, وقد جعلها هذا الدور مركزاً لعلاقات العالم الاقتصادية والسياسية والمالية والثقافية والأمنية, وأصبح لأي دولة مصلحة أكيدة بإقامة علاقات طيبة معها, لا بل مجرد التفكير بقطع هذه العلاقات سيلحق بهذه الدولة الضرر الكبير([9]).
3 مخاطر ظواهر العولمة على الدول العربية:
ظواهر العولمة تحمل معها مخاطر هائلة مصاحبة للثورة العلمية والتكنولوجية حيث انها تتفاوت بين المخاطر السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية.
وترتبط المخاطر السياسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بمحاولات الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى احادية الجانب, أمركة العالم والاستفراد بالشأن العالمي وادارته إدارة احادية الجانب, بما يتناسب مع مصالحها واهدافها.
أما المخاطر الثقافية فإنها تتضمن احتمالات تهميش الثقافة الوطنية وتهديد الخصوصية الحضارية من خلال هيمنة الثقافة الاستهلاكية التي أخذت تنتشر على الصعيد الدولي متسلحة بآخر المستجدات الدعائية والإعلامية.
أما المخاطر الاقتصادية فانها تأخذ شكل التراكم الشديد للثروات وبالتالي زيادة حدّة الفجوة بين الدول الغنية التي تزداد غنىً وتقدماً وسيطرةً, وبين االدول الفقيرة التي تزداد تخلّفاً وفقراً وتبعية للنظام الرأسمالي العالمي. وقد مارست الولايات المتحدة الأميركية ضغوطاً كبيرة على الدول العربية من خلال مؤتمر الدوحة الاقتصادي من اجل تحقيق درجة أعلى من التكامل (كاقتصاد عربي مع النظام الرأسمالي الدولي), ومن أجل إعادة ترتيب أوضاع المنطقة العربية بشكل يخدم أساساً مصلحة اسرائيل. وتتمثل هذه الضغوط على سبيل المثال في مشروع الشرق أوسطية, ومشروع المتوسطية.
إن مشروع الشرق أوسطية هو مشروع أميركي في الأساس, يستهدف ترتيب أوضاع المنطقة كلها, بما فيها البلدان العربية واسرائيل ودولاً آسيوية أخرى ودولاً افريقية. وبديهي ان يجري السعي لتحقيق هذا المشروع في صيغة نظام أو سوق, أي في صيغة تكامل وتعاون بين بلدان متعددة وليس بين مجموعات منها وخصوصاً المجموعة العربية وذلك إتقاءً لتجمّعها الطبيعي والمصيري والقومي وخوفاً من توحّدها.
وطبيعي ان يكون الهدف الدائم من وراء ذلك منع قيام اشكال من التكامل العربي حتى في الحدود الدنيا. وفي مثل هذه الشروط بالذات يكون للولايات المتحدة مباشرة, ومن خلال اسرائيل عند الحاجة, ومن خلال دول شرق أوسطية أخرى, الدور الأساسي المقرر سياسياً واقتصادياً وامنياً وفي كل المجالات([10]).
وهذا المشروع القديم المتجدد هو نسخة متطورة عن حلم (تيودور هيرتسل) الذي سعى إلى قيام (كومنولث شرق أوسطي) يكون لإسرائيل فيه شأن قيادي فاعل ودور اقتصادي رائد.
جاء طرح النظام الشرق أوسطي في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991, لكن التحضير له بدأ قبل ذلك بعدة سنوات وتحديداً بعد إبرام مصر واسرائيل لاتفاقية كمب دايفيد في أواخر الثمانينات, ومن ثم طرح هذا النظام في اطار عملية التسوية التي حملت اسم <<عملية السلام في الشرق الأوسط>>, وبدأت بانعقاد مؤتمر مدريد يوم 30 تشرين الأول 1991.
وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق شيمون بيريز أول من حاول تسويق هذه الفكرة عام 1986, وقد طالب ببناء (شرق أوسط جديد) من خلال انشاء (سوق شرق أوسطية) على أساس من السياحة والمياه, مثلما قامت السوق الأوروبية المشتركة على الفحم والصلب.
ومع انعقاد مؤتمر الدار البيضاء الاقتصادي في 2 كانون الثاني 1994, لدول الشرق الأوسط, خرج الحديث عن النظام الاقتصادي الشرق أوسطي والسوق الشرق أوسطية من الدوائر الضيقة لمراكز الأبحاث ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل, ليجري الترويج له على نطاق أوسع على الصعيدين الفكري والسياسي والتطبيقي, بهدف تسويق تلك المفاهيم والمخطّطات الستراتيجية الجديدة بمشاريع مشتركة.
وقد جاءت الوثيقة الاسرائيلية إلى المؤتمر حاملة (120) مشروعاً, لتشكّل أسس توجّهات الدولة العبرية في التعامل مع الدول العربية في المرحلة المقبلة ([11]).
ويحقّق مشروع الشرق أوسطية المصالح الاقتصادية والستراتيجية للولايات المتحدة, ويثبت السيطرة الاسرائيلية في المنطقة العربية. فهذا المشروع يعني بوضوح الالغاء العملي لفكرة التكامل العربي لأنّ إسرائيل ستصبح العضو الرئيسي فيها, وهي الأكثر تقدّماً صناعياً وتكنولوجياً من البلدان العربية جميعها, وبالتالي سوف تحصد مزايا هذا التقدّم الاقتصادية والستراتيجية ([12]).
أمّا مشروع المتوسّطية فقد ظهر كفكرة في أوروبا الغربية, وهو يصوّر حالة تعاون للدول الواقعة على البحر الأبيض المتوسّط, شماله وجنوبه, وهي فكرة وفقاً للرأي الأوروبي, تجمع الحضارات حول الدائرة المتوسّطية.
وميزة هذه الفكرة من وجهة نظر دعاتها أنها تصرف النظر عن خصوصيّة القومية العربية وتلفتها إلى اتجاه آخر, يستطيع أن يدور حول شواطىء الحضارات القديمة وهي تضمّ سوريا ولبنان وليبيا ومصر وتونس والجزائر والمغرب وإسرائيل وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا.
وتتحقّق للولايات المتحدة من المتوسّطية عدّة أهداف أهمّها:
1 إدخال إسرائيل (بلا حساسية) وسط المحيط الذي تعيش فيه, وتندمج مطمئنة إلى هوية نصف شرق أوسطية ونصف أوروبية متوسطية.
2 ان مثل هذا الترتيب يساعد على ضبط التفاعلات في شرق البحر الأبيض المتوسّط وجنوبه, فهو قادر على أن يستبعد الأزمات ويستوعب الصدمات.
أمّا أوروبا وخصوصاً فرنسا وألمانيا فأهدافها من المتوسّطية هي الرغبة في إضعاف وجود ودور الولايات المتحدة الأميركية في الدول المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط, وفي إبقائها بمنأى عن آثارها الاقتصادية والثقافية والعسكرية وبالتالي السياسية.
أمّا مخاطر منظّمة التجارة الدولية على العالم العربي فهي:
1 ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية والمواد الغذائية وذلك بسبب إلغاء الدعم الزراعي وتحديد التجارة في المنتجات الزراعية.
2 إنحسار المزايا الخاصّة التي تتمتّع بها بعض سلع الصادرات العربية في النفاذ إلى الأسواق المتقدّمة صناعياً.
3 الارتفاع في تكلفة برامج التنمية حيث سترتفع تكلفة استيراد الثقافة والحقوق المادية التي ستترتّب جرائها لصاحب حق الملكية الفكرية عند استخدامها.
4 الآثار التي ستنتج من المنافسة غير المتكافئة بين الدول العربية والدول الصناعية وخصوصاً في مجال الخدمات والصناعات المتقدّمة.
5 إلغاء نظام الحصص في مجال الأنسجة والملبوسات ممّا يؤثّر سلباً على صادرات البلدان العربية ([13]).
4 تحدّي العولمة والخيارات العربية الموجودة
يتمثّل التحدّي الأساسي الذي يواجه العالم في كيفية تحويل العولمة إلى قوّة إيجابية يستفيد منها العالم بدلاً من ترك مليارات البشر يعانون نتائجها السلبية ([14]).
ويرى المحلّلون السياسيون والاقتصاديون أن للعولمة أثاراً إيجابية إذ أن هناك مشكلات إنسانية مشتركة لا يمكن حلّها من منظور السيادة الوطنية المطلقة للدولة التي يقوم عليها النظام الدولي القائم حالياً, ومنها انتشار أسلحة الدمار الشامل والتهديدات النووية والبيئية وتطوّر انتشار الأوبئة والأمراض المعدية وانتشار الجريمة المنظّمة والمخدّرات. ويرى بعضهم أنه بإمكان الأنظمة الوطنية المبدعة أن تندمج في الاقتصاد العالمي من دون التضحية بشخصيّتها ([15]).
ان التجاوب مع متطلّبات العولمة بالنسبة للعالم العربي أمر يواجه الكثير من الصعوبات, لكنه ضرورة بسبب ما يواجه العرب من مشكلات اقتصادية تقتضي المعالجة, إذ يعاني العالم العربي من هبوط في نسبة النمو وفشل في إيجاد المهارات اللازمة لأسواق اليوم, وارتفاع نسبة النمو السكاني. ويتطلّب التكيف مع العولمة أيضاً إيجاد نظام وطني للعلم والتكنولوجيا والمعلوماتية لأنه الأداة الحاسمة لتمكين أي بلد من أن يصبح منتجاً اقتصادياً, وبالتالي متقدّماً.
أمّا وجهة النظر الثانية فترى أن العالم العربي, بوصفه من الدول النامية ويخضع لضغوطات إقتصادية داخلية وخارجية كبرى, لا يمكنه التجاوب مع العولمة التي تتطلّب مستويات فائقة من التطوّر والكفاءة والقدرة, الأمر الذي تفتقده الاقتصادات العربية, وبذلك قد تزيد العولمة من اختراق هذه الاقتصادات وتفكيكها.
فالاستجابة للعولمة إذن ليست بهذه الدرجة من البساطة لأن ذلك قد يزيد من حصار وعزلة الأقطار العربية التي تعاني من جملة مشكلات تتعلّق بالسياسة وبالاقتصاد من كلّ جوانبه الزراعية والصناعية والتجارية. وعلى النقيض من ذلك فإنّ عدم الاستجابة للعولمة قد يترك جملة من الآثار السلبية على العالم العربي منها تهميش التنمية المتطوّرة وعدم الحصول على المساعدات الاقتصادية. إضافة إلى ذلك فقد أصبح من غير الممكن التعويل على الموارد النفطية في كسب رهان المستقبل, بسبب التناقص في قيمة الموارد الأولية ولا سيما النفط ([16]).
ولكن من إيجابيات رفض الاستجابة للعولمة هو أن الرفض ربما يكون حافزاً أكبر لتشجيع الأقطار العربية على القيام بتحوّلات اقتصادية جذرية والعمل على تفعيل العمل العربي المشترك ([17]).
من هنا, وبعد أن أصبحت العولمة, وبأهمّ أشكالها الاقتصادية والمالية والعسكرية, قد أصبحت كأمر واقع, أرى أن على الدولة التعامل معها على هذا الأساس, وولوج مرحلة دراسة الخيارات المتوفّرة وذلك من أجل التخفيف من آثارها والسلبية, والتحضير للدخول في آليات العولمة وما تحمل من تدابير غير جماهرية وغير شعبية, وربّما تلحق أشدّ الضرر بالفقراء وبالطبقة الوسطى وحتى بالدول الفقيرة والمتوسّطة.
ولكن ليس هناك من خيار آخر؛ فالانعزال والتقوقع لبعض الدول التي ترفض الدخول في العولمة, لا يعني أنها تستطيع العيش وحيدة في العالم, كما أنها لا تستطيع التعامل مع الدول (المعولمة) ولا تستطيع تلك الدول التعامل معها, فستجد تلك الدول المنعزلة نفسها عاجلاً أم آجلاً في موقف المسافر الذي فاته القطار, ولا ينفع الندم بعد ذلك.
من هنا فالأجدى لنا كعرب أن نكون مع العولمة ولكن بشرط <<العَوْرَبة>> أوّلاً, أي الدخول فوراً في آليات العوربة والتحضير في ذات الوقت للدخول في آليات العولمة. وهذا يعني الدخول في العولمة من بوابة العوربة. وينبغي للعوربة أن تكون رؤية عربية مشتركة للمستقبل, وصوغ آليات محدّدة في كلّ من الاقتصاد والمال والسياسة والتجارة, للوصول إلى درجة كافية من التكامل العربي, تستطيع من خلاله الدول العربية مجتمعة, الكلام بلغة مصلحية واحدة, والقراءة في كتاب التنمية العربية بلغة واضحة وجيّدة, والعمل على محاكاة الأسواق والتكتلات الاقتصادية والمالية الأخرى بلغة تفاوضية عربية واحدة.
لا شك أنه وأمام هذا التحدّي علينا أن نرجع إلى ما اتفقنا عليه في الماضي كعرب وما صدّقت عليه الدول العربية من مواثيق واتفاقيات في المجال الاقتصادي, وصولاً إلى تكامل اقتصادي عربي, وفي مقدّمته اتفاقية السوق العربية المشتركة؛ فالشروع في تنفيذ هذه الاتفاقية هو أمر مُلحّ ويكاد يكون ملزماً ولا مفرّ منه لمن وقّع عليها, لكي تتبوّأ هذه الأمّة المكانة اللائقة بها كأمّة يبلغ تعدادها أكثر من 260 مليون نسمة, وخصوصاً في ظل المتغيّرات الدولية المعاصرة وأهمّها العولمة وقيام منظّمة التجارة الدولية.
فالدول العربية تملك مقوّمات جغرافية وتاريخية وثقافية وفكرية ومالية لإقامة السوق العربية المشتركة, أكبر من تلك التي تمتلكها التكتلات الاقتصادية الأخرى, ومنها دول الاتحاد الأوروبي, وأهميّة السوق العربية المشتركة تستند إلى حقائق مهمّة وهي:
1 الهويّة العربية والإنتماء العربي لأنّنا نشكّل أمّة عربية واحدة.
2 ضرورة دعم الأمن العربي بغض النظر عن فائدة بعض الأقطار أكثر من غيرها من هذه السوق.
3 المصلحة الاقتصادية المشتركة لأنّ تعزيز الأمن الاقتصادي العربي هو تعزيز للأمن العربي.
ومن المنافع الاقتصادية للسوق تدعيم الاستقلالية العربية وذلك بإقامة صناعات ثقيلة والتخفيف من حدّة التبعية للخارج وتحقيق درجة أفضل من استقلالية القرار العربي, ثمّ دعم المركز التفاوضي العربي في الاقتصاد الدولي الراهن والمؤلّف من التكتلات الاقتصادية الكبرى وتحسين مركزنا التفاوضي تجاه منظّمة التجارة الدولية([18]).
أمّا مزايا التكامل الاقتصادي العربي في تنمية الاقتصاد الوطني فهي:
أ خلق التجارة للدولة العضو في التجمّع الاقتصادي, وذلك بتحوّل التجارة من الدول خارج التجمّع إلى تلك الأعضاء فيه.
ب اقتصاديات الحجم من خلال الدخول في ذلك التجمّع, ومن خلال فتح الأسواق في الدول الأعضاء على بعضها بعضاً, فتصبح الصناعات التي لا جدوى منها في السوق الوطنية, مشاريع ذات جدوى اقتصادية بحكم سعة السوق وكبر حجمه الجغرافي, نظير انفتاح الدول الأعضاء وأسواقها, في عالم عربي بلغ عدد سكانه أكثر من 260 مليون نسمة.
ج نمو الدخل القومي نتيجة لحرية انتقال رؤوس الأموال والأيدي العاملة الوطنية إلى الدول الأعضاء.
د زيادة القوّة التفاوضية للدول الأعضاء تجاه الدول الأخرى والأسواق الاقتصادية الأخرى, ممّا يعني فتح الأسواق العالمية أمام المنتجات الوطنية للدول الأعضاء.
هـ ارتفاع الكفاءة الانتاجية للصناعات الوطنية وذلك من خلال المنافسة وفتح الأسواق المحلية للدول الأعضاء.
من هنا وبفضل تلك الشروط تستطيع الدول العربية مجتمعة الاستفادة من المزايا الإيجابية للانضمام إلى العولمة عبر بوّابة منظّمة التجارة الدولية.
أمّا الآثار الإيجابية للانضمام فهي:
1 تتيح فرصاً أوسع للدول العربية لتصدير منتجاتها التي تملك مزايا نسبية.
2 تحمي الضوابط التي أقرّت في نطاق المنظّمة من سياسات الإغراق من جانب الدول الأخرى.
3 تكفل للدول العربية وللدول النامية معاملة تفضيلية مؤقّتة لغاية عام 2005, وذلك لحماية صناعاتها الوليدة, واعطائها مدّة خمس سنوات لتطبيق بنود اتفاقية الـ(TRIPS).
4 زيادة الاستثمارات الأجنبية عبر دخولها الدول العربية عند تطبيق اتفاق الخدمات والاستثمار, ممّا سيؤدّي إلى تدفّق الاستثمارات الأجنبية بعد رفع القيود التي تحول دون ذلك.
5 رفع الكفاءة الإنتاجية عبر المنافسة العالمية في الأسواق ([19]).
إن انضمام الدول العربية إلى منظّمة التجارة الدولية, وهي إحدى مظاهر العولمة, لا يعني بأيّ حال نهاية المطاف للمفاوضات التجارية العالمية, بل ستتبعها دورات متعدّدة للتفاوض لفتح أسواق مختلفة مثل التجارة في الخدمات والبنوك والتأمين والصرافة والوساطة. وكلّ هذه الأمور بحاجة إلى مزيد من المفاوضات والاجتماعات. والدول العربية ستكون في موقع تفاوضي أفضل وأقوى في حالة دخولها في مفاوضات جماعية كتكتّل اقتصادي مشترك على شاكلة دول الاتحاد الأوروبي وال(NAFTA) .
[1] د. حسنين توفيق ابراهيم, العولمة: الابعاد والانعكاسات السياسية, عالم الفكر, صفحة 187.
[2] Ronald Robertson, Globalisation, London, 1992.
[3] John Naisbitt, Global paradox, New York, 1994.
[4] حمدي حسن, العولمة وآثارها السياسية في النظام الاقليمي العربي: رؤية عربية, المستقبل العربي, عدد 258, تاريخ 8/2000, صفحة 4 5.
[5] د. الحبيب الجنحاني, ظاهرة العولمة, الواقع والآفاق, عالم الفكر, المجلّد 28, العدد 2, تاريخ اكتوبر ديسمبر 1999, صفحة 11.
[6] د. كمال حمّاد, آثار انضمام لبنان والعالم العربي إلى منظّمة التجارة الدولية, المستقبل عدد 546, تاريخ 4/2/2001.
[7] محمد الأطرش, العرب والعولمة, ما العمل؟, المستقبل العربي, العدد 249 تاريخ تشرين الثاني 1999, صفحة 101 102.
[8] مجلّة عالم الفكر, المجلّد 28, أكتوبر 1999, صفحة 69 70.
[9] كمال حمّاد, انتقال لبنان إلى عضوية منظّمة التجارة لدولية, المستقبل, عدد 513, تاريخ 31/12/2000.
[10] انظر د. سمير الشيخ علي, العولمة والأمركة..., جريدة المستقبل تاريخ 20/12/2000.
[11] كريم مروة, جدل الصراع مع اسرائيل وجدل السلام معها, بيروت, 1994 صفحة 77.
[12] حسن السبع, مجلّة معلومات, العدد 14, صفحة 2.
[13] صقر أبو فخر, مجلّة المعلومات, العدد 14, صفحة 67.
[14] كمال حمّاد, آثار انضمام لبنان والعالم العربي إلى منظّمة التجارة الدولية, مرجع سبق ذكره.
[15] إيمان الأحمد, الحصار الاقتصادي والعولمة, مجلّة معلومات دولية, العدد 66, خريف 2000, ص 55 56.
[16] مجلّة شؤون عربية, حزيران 1999 عدد 98 صفحة 37.
[17] إيمان الأحمد, مرجع سبق ذكره, صفحة 56.
[18] مجلّة عالم الفكر, العدد الثاني, المجلّد 28 تشرين الأوّل 1999, صفحة 195.
[19] سيف بن علي الجروان, العولمة والسوق العربية المشتركة, المستقبل العربي, العدد 249 تاريخ 11/1999, صفحة 144.