- En
- Fr
- عربي
من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة: السياسات التركية تجاه سوريا والسعي للاستقرار والسلام
المقدمة
تُعد دراسة سياسات تركيا في الشرق الأوسط أنموذجًا مثاليًا لمقاربتها وفهمها من خلال نظريات العلاقات الدولية، وتعود أهميته إلى قدرة تركيا المتصاعدة على تأدية أدوار رئيسة ومتنوعة الأدوات في الشرق الأوسط. كما لقدرتها على التأقلم السريع مع المتغيرات التي تحدث في إقليمها، من دون الوقوع أسيرة التعلق بأسلوبٍ واحد في ممارسة السياسة الإقليمية، أو الالتزام بنظريةٍ واحدة وجامدة في العلاقات الدولية.
ليست السياسات الإقليمية لتركيا ثابتة من حيث أسلوبها وممارساتها، إنما لها ثوابت في أهدافها النهائية والغرض منها. إن سياساتها المتعددة الشكل تعود إلى محاولاتها الحثيثة لأقلمتها مع المتغيرات التي تطرأ على الواقع الإقليمي المحيط بها، كما تسير، كذلك الأمر، تبعًا للتغييرات الداخلية فيها، فتبقى بذلك موضوعًا مثيرًا للجدل، والاهتمام والتحليل.
يعود إحياء الدور التركي في المنطقة إلى عدة عوامل. يتعلق العامل الرئيس بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام ٢٠٠٢، وسياساته العامة وأعماله اليومية المتصاعدة في التأثير والأثر، أكان في المجالَين الاقتصادي والعسكري، أو في مجال تعزيز شرعية نظام الحُكم والسلطة من خلال التوفيق بين التأييد الشعبي من ناحية، وربط هوية الدولة والنظام السياسي والسياسات الخارجية الحالية بجذورٍ تجد منبعها في الهوية الوطنية والثقافية العامة والتاريخ من ناحية أخرى. بينما الأهم من ذلك، هو تطبيق سياسات واضحة، راسخة ومتشعبة في مجال العلاقات الخارجية تحقيقًا لدور تركيا المرتجى في بيئتها الإقليمية، والتي ظهرت جليًا في مقاربتها وأفعالها في سوريا أكان قبل اندلاع حربها في العام ٢٠١١ أم بعدها.
قبل اندلاع الحرب لدى جارة تركيا الجنوبية، كانت السياسة الخارجية لأنقرة في سوريا قائمة على نظرية «العمق الاستراتيجي» التي ابتدعها الأكاديمي أحمد داوود أوغلو، ومن ثم طبقها حزب العدالة والتنمية وأشرف عليها أحمد داوود أوغلو بنفسه عندما أصبح وزير خارجية تركيا ولاحقًا رئيس حكومتها.
تندرج نظرية العمق الاستراتيجي ضمن مفهوم القوة الناعمة الواردة في أفكار المنظّر في مجال العلوم السياسية جوزف ناي (Joseph Nye)، ولكن تم تكييفها لتتلاءم مع الموقع الجغرافي لتركيا وتاريخها، كما ومع الحقائق والظروف الإقليمية المحددة في كل دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبلقان، إلخ،..... وهي، كذلك الأمر، نقيض لمفهوم القوة الصلبة التي راحت تركيا تطبّقها لاحقًا عبر الدخول العسكري إلى الميدان السوري، في لحظة تشلُّع العلاقة بين داوود أوغلو ورئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان في العام ٢٠١٦.
استهدفت هذه الاستراتيجية، التي طبّقتها تركيا تجاه سوريا قبل اندلاع الحرب، تصفير المشاكل بينهما، كما زيادة النفوذ التركي فيها من خلال تبنّي الوسائل السلمية، وزيادة التعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي بين أنقرة ودمشق، للوصول إلى تعزيز الأمن القومي لتركيا وتحقيق استقرار طويل الأمد. بدأ تطبيق هذه الاستراتيجية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وحتى عام واحد بعد بداية الحرب في سوريا. لكن، في النهاية، تغيّرت سياسة أنقرة تجاه دمشق عندما تبنّت الأولى مفهوم القوة الصلبة بدخولها شمال سوريا عبر استخدام القوة العسكرية.
حاليًا، تسيطر تركيا على أجزاء واسعة من شمال سوريا، حيث فرضت نفسها لاعبًا أساسيًا في الحرب، كما في التنافس الإقليمي على النفوذ في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى محاولتها تحقيق استقرار في سوريا والشرق الأوسط على حد سواء. إن الوجود التركي في سوريا حاليًا له أغراضًا استراتيجية مفيدة لتركيا، كما يساهم، في الوقت عينه، في السعي لتحقيق سلام في سوريا، وهو سلام مفيد للشعب السوري وللأمن القومي التركي على حد سواء.
تعالج هذه الورقة البحثية التغييرات التي طرأت على سياسة تركيا في سوريا قبل الربيع العربي وبعده، وذلك عبر التركيز على اعتمادها، إلى حدود نهاية العام ٢٠١١، على مفهوم القوة الناعمة حسب نظرية العمق الاستراتيجي، ومفهوم القوة الصلبة بعد ذلك العام. تطرح الورقة البحثية، كذلك الأمر، إشكالية الأمن القومي التركي في سوريا، والأعمال التركية الدافعة نحو تحقيق استقرار وسلام في سوريا، بالإضافة إلى الظروف التي يمكن أن تؤدي إلى ذلك السلام، الاستقرار العام، وانتهاء الحرب السورية، حتى وإن كان ذلك، حتى اليوم، بعيد المنال.
إن أهمية هذا الموضوع تعود إلى أن سوريا هي المكان الأبرز الذي طبقت فيه تركيا سياسات مختلفة لغاياتٍ ثابتة؛ زيادة نفوذها في مجالها الإقليمي وحماية أمنها القومي، والسعي إلى تحقيق استقرار إقليمي. وذلك تحقيقًا لما أراده داوود أوغلو، وهو أن تكون بلاده دولة «مركز» قادرة على الفِعل والتأثير في محيطها الجغرافي وفي الإقليم، لا دولة «طرف» في الإقليم وفي النزاعات الدولية كما كانت قبل العام ٢٠٠٢.
أولًا: القوة الناعمة والقوة الصلبة في العلاقات الدولية
منذ بداية الحرب الباردة بين قطبَي النظام الدولي، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، تبنّى الطرفان، وبخاصةٍ الولايات المتحدة الأميركية، النظرية الواقعية في العلاقات الدولية. ترافق ذلك الأمر مع تحوّل المدرسة الواقعية القائمة على مفهومَي المصلحة والقوة، إلى النظرية الأكثر رواجًا في مجال العلاقات الدولية منذ تلك الفترة وحتى اليوم.
يرى أحد روّاد المدرسة الواقعية هانس مورغنثاو (Hans Morgenthau) أن عامل القوة يحكم العلاقات الدولية منذ القِدم، وإن العلاقات الدولية محكومة بعلاقات الصراع من أجل القوة. كما يعرِّف القوة بأنها «سيطرة الإنسان على عقول الآخرين وأفعالهم»(1)، فيما لا فرق كبير بين تصرفات الإنسان وغايته وبين تصرفات الدول وغايتها(2).
خرجت من تلك المدرسة سلسلة من النظريات والمفاهيم والمناهج الفكرية الأخرى التي لم تغيّر كثيرًا في المنطلقات الأساسية للنظرية الواقعية، إلا أنها راحت تشرحها بشكلٍ مختلف، وتضيف عليها عناصر حديثة، وتنطلق منها إلى استنباط نظريات جديدة. لقد كانت القوة الناعمة هي واحدة من تلك المفاهيم المتأتية من النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، والتي تختلف، بشكلٍ حاسم، عن مفهوم القوة الصلبة.
١- مفهوم القوة الصلبة ووسائلها
لا يختلف المنظِّر في العلاقات الدولية جوزف ناي عن سلفه مورغنثاو عند تعريفه للقوة، إذ يرى «أن القوة هي القدرة على التأثير في تصرفات الآخرين للحصول على المراد منهم»(3). كما يقر ناي، تبعًا لدراسته للسياسات الدولية منذ القِدم، بوجود أسلوبين من القوة التي تستخدمها الدول من أجل تحقيق مصالحها؛ الأول هو القوة الصلبة، فيما الثاني هو القوة الناعمة.
إن استخدام القوة الصلبة هو أمر أكثر رواجًا وأكثر تقليدية، واستُخدم في التاريخ بشكلٍ شبه دائم. هذا وتكون القوة الصلبة أكثر حسمًا من تلك الناعمة، وذلك لأنها سياسة مباشرة عنفية وسريعة، وتهدف إلى الهيمنة وتحقيق المصالح المادية أو الاستراتيجية عبر إجبار الآخر على التصرف بطرقٍ ما كان ليتصرفها(4).
ترتبط القوة الصلبة بالوسائل العسكرية والاقتصادية التي تهدف إلى التأثير في سلوك أولئك الذين تُمارس عليهم. يتم ذلك عبر استخدام العنف كالحروب والمواجهات العسكرية، كما الاقتصاد عبر فرض العقوبات والحصار الاقتصادي، وذلك من أجل تطويع الآخر. وغالبًا ما تكون هذه الوسائل قسرية ولها نتائج مباشرة وسريعة إذا كان ميزان القوى بين أولئك الذين يستخدمون القوة الصلبة وأولئك الذين يخضعون لها مختلف للغاية. باستخدام القوة الصلبة، يكاد يكون من الصحيح القول إنه كلما زاد الاختلاف في ميزان القوى، كانت النتائج التي حصل عليها الأقوى أسرع وأكثر حسمًا.
على سبيل المثال، انتهى الغزو العسكري الروسي للمناطق الشمالية لدولة جورجيا الأضعف بكثيرٍ في العام ٢٠٠٨ في بضعة أيام فقط. إن استخدام روسيا للقوة الصلبة، وذلك عبر اللجوء إلى الحرب المباشرة، أدت إلى انتصارها بسبب عدم توازن القوة مقارنة مع الجيش الجورجي الأكثر ضعفًا والأقل تحضيرًا. يصح وصف الحال نفسها على اجتياح روسيا لشبه جزيرة القرم في العام ٢٠١٤، وسيطرتها عليها خلال بضعة أيام بعد مواجهات محدودة مع الجيش الأوكراني. على نفس المنوال، تمكنت أذربيجان بدعمٍ من حليفها التركي، من السيطرة على أراض شاسعة في منطقة «ناغورنو قره باغ» (أو أرستاخ) ضد أرمينيا الأكثر ضعفًا في العام ٢٠٢٠.
بالإضافة إلى استخدام الوسائل العسكرية، يؤدي الاقتصاد دورًا رئيسيا كوسيلةٍ في مفهوم القوة الصلبة. إن استخدام العقوبات الاقتصادية والتجارية، كما فرض حظر وحصار على الدول، تعَد كلها من الوسائل الأكثر شيوعًا في مجال القوة الصلبة الهادفة إلى إضعاف الدول الأخرى، ودفعها لتغيير سلوكها. وعلى الرغم من أن الوسائل الاقتصادية قد تبدو أكثر سلمية من الوسائل العسكرية، إلا أن ضررها يبقى موازيًا، وأحيانًا أكبر من استخدام الحرب المباشرة، وذلك لأن تأثيرها، يكون في كثير من الحالات، مدمرًا لشعوبٍ بأكملها.
لقد ساهمت العقوبات الاقتصادية الأميركية على فنزويلا، خلال السنوات القليلة الماضية، في تدهور اقتصادها، فضلًا عن حصول تضخم وفقر وانخفاض في قيمة عملتها الوطنية بشكلٍ غير مسبوق. لا يعني هذا بالضرورة أن استخدام الوسائل الاقتصادية في القوة الصلبة قد يغيّر حتمًا في سلوكيات الدول، إلا أن إنهاك الدول في عقوبات وحصارات اقتصادية تجعلها أقل قوة وميالة إلى تغيير تصرفاتها لتخفيف الضغوط الدولية عليها.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الوسائل العسكرية والاقتصادية معًا لإخضاع الدول. تقدّم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق، والتي أعقبها غزو عسكري في العام ٢٠٠٣، مثالًا ملموسًا على كيفية تلازم الوسيلتَين الرئيستَين للقوة الصلبة.
إن استخدام القوة الناعمة أو الصلبة ليس ثابتًا في السياسة الخارجية للدول. تميل بعض الدول إلى استخدام إحداها على حساب الأخرى، فيما تميل دول أخرى إلى التركيز على واحدة فقط، بينما استخدمت بعض الدول، مثل تركيا، القوة الناعمة تجاه سوريا ثم عدّلتها لتصبح قوة صلبة من خلال استخدام القوة العسكرية بشكلٍ مباشر والدخول إليها منذ العام ٢٠١٦.
٢- مفهوم القوة الناعمة: الأهداف والوسائل
يختلف مفهوم القوة الناعمة عن القوة الصلبة من حيث الوسائل والأدوات المستخدمة لتحقيقها، إلا أنها لا تختلف من حيث الهدف. تهدف القوة الناعمة كما القوة الصلبة إلى تحقيق نتائج متشابهة، كتغيير سلوكيات الدول أو الكيانات السياسية وإضعافها، كما زيادة تأثير الدولة التي تعتمد القوة الناعمة أم الصلبة أكان في مجالها الإقليمي أم على المستوى الدولي.
لقد ذُكر ودُرس مفهوم القوة الناعمة في العديد من الكتب والأوراق البحثية على مدى بضعة عقود مضت، إلا أن كتابات جوزف ناي تبقى الأكثر تأثيرًا ورسوخًا، وهي التي طورت مفهوم القوة الناعمة، ورفعته ليصبح بمصاف المناهج الجدية في فهم العلاقات الدولية، إذ يرى أن القوة الناعمة هي القدرة على جذب دول أخرى بدلًا من إجبارها. وعلى عكس القوة الصلبة، تسعى القوة الناعمة إلى تشكيل تفضيلات عند الآخرين من خلال استخدام الوسائل السلمية. وبالتالي، فإن السمة غير القسرية ضرورية في أي إجراءات سياسية ليتم اعتبارها جزءًا من مفهوم القوة الناعمة.
حدد ناي ثلاثة مصادر للقوة الناعمة للدولة. فوفقًا له، إن «القوة الناعمة لأي دولة تعتمد على الثقافة عندما تكون جاذبة للآخرين، وعلى قيمها السياسية عندما تمارس السياسة تبعًا لقيمٍ محددة أكان في الداخل أم في الخارج، وسياساتها الخارجية عندما يُنظر إلى هذه السياسات على أنها ذات شرعية ولديها تأثير ذات أبعاد أخلاقية»(5). وبالتالي، فإن مفهوم القوة الناعمة هو أكثر سلمية من القوة الصلبة، ويرتكز على مضامين قيمية ذات مكونات ثقافية، أخلاقية وسياسية.
يمكن أن يقود التاريخ أو الثقافة المشتركة بين دولة قوية ودولة أقل قوة إلى تبنّي الأولى للقوة الناعمة من خلال تعزيز مكانة وسمات التاريخ والثقافة المشتركين، مما يؤدي، بدوره، إلى زيادة تأثير الدولة القوية داخل تلك الأضعف. غالبًا ما تقوم بعض الدول باستخدام القيم الإنسانية العامة كوسائل لتحقيق تغييرات في سلوك الدول الأخرى. إن استخدام الولايات المتحدة الأميركية لقيم الديموقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان في مواجهة الدول التي تفتقر إلى ممارسة سليمة لهذه القيم تهدف إلى تغيير سلوكياتها السياسية، من دون أن يعني ذلك أن الأمر نابع من رغبة سامية في نشر تلك المفاهيم بقدرٍ أكبر من رغبة الولايات المتحدة في تحقيق المزيد من الهيمنة و التأثير في هذه الدول. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الشراكات الاقتصادية كوسيلةٍ من وسائل القوة الناعمة، حيث يكبر نفوذ دولة على أخرى تبعًا لمضمون تلك الشراكة، فتكسب الدول ذات الاقتصاد الأكثر تأثيرًا نفوذًا في الدول الأقل قوة، كما تستطيع، باستخدام الاقتصاد، التغيير من سلوكيات تلك الأضعف.
إن مفهوم القوة الناعمة كما تلك الصلبة يبقيان مستخدمَين في الكثير من الحالات، ولديهما الهدف نفسه حتى وإن اختلفا جذريًا في الوسائل المستخدمة. بعض الدول التزمت بمفهومٍ من دون آخر طوال عقود طويلة، فيما غيرها تختار ما يخدم مصالحها أو يحقق أهدافها بشكلٍ أسرع، أسهل، أو أقل كلفة. أما تركيا، فبنت سياساتها الخارجية على مفهوم القوة الناعمة تبعًا لتأثيرات نظريات العمق الاستراتيجي التي طورها أحمد داوود أوغلو وأقلمها مع واقع تركيا الجغرافي وهويتها التاريخية والثقافية، وبالاتكال على منطلقات ووسائل القوة الناعمة(6).
٣-العمق الاستراتيجي: القوة الناعمة التركية الخاصة
لا تنحرف نظرية العمق الاستراتيجي لداوود أوغلو عن مفهوم القوة الناعمة كثيرًا، حيث تأخذ من منطلقاتها ووسائلها المنطلقات والوسائل الخاصة بها نفسها. في كتابه المعنون العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية (٢٠١٠)، يقترح داوود أوغلو دورًا جديدًا لبلاده استنادًا إلى موقع تركيا الجغرافي وتاريخها وقوتها الاقتصادية المستقبلية(7). ويرى أن تبنّي القوة الناعمة تجاه الدولة المجاورة لتركيا سيؤدي إلى زيادة نفوذ هذه الأخيرة في المنطقة، ويحوّلها إلى دولة مركز معنية بجميع الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية بدلًا من أن تكون دولة طرف ملحقة بغيرها من الأحلاف. هذا الافتراض قائم على حقيقة أن معظم الدول المجاورة لتركيا أضعف منها بكثيرٍ، وبالتالي فإن فرصة تركيا لتأدية دور مهم في جميع الأزمات والقضايا الإقليمية هو أمر كبير الاحتمال.
تبعًا لمفهوم القوة الناعمة كذلك، يقترح داوود أوغلو إعادة إحياء التاريخ، الرمزية والثقافة العثمانية لأنها عناصر مشتركة للعديد من دول الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وشمال أفريقيا(8). من خلال القيام بذلك، يعتقد أن دولًا عربية مثل سوريا ستنجذب إلى تركيا في المجالات الثقافية والاقتصادية والتجارية، ما يؤدي، في النهاية، إلى مزيد من النفوذ التركي في سوريا وتغيير سلوك دمشق بما يتناسب مع مصالح أنقرة.
يضع داوود أوغلو في كتابه الأفكار الأساسية لنظريته الاستراتيجية ويحاول اقتراح دور جديد لتركيا في الإقليم وعلى الساحة الدولية. بعد شرح مكانة تركيا الدولية السابقة وموقعها، ينطلق داوود أوغلو بشرحٍ عام عن علم الاستراتيجيا، وعن أهمية أدوات القوة للدول. يحدد الكتاب الجغرافيا والتاريخ والوعي الجماعي للشعوب كأدواتٍ لهذه القوة، والتي يمكن أن تفيد الشعوب في حال استغلالها بشكلٍ استراتيجي. يؤكد الكتاب، كذلك، الأبعاد الثقافية والنفسية للشعوب التي يمكن للدول، من خلال رؤية نفسها ورؤية غيرها، من حجز مكانة لها في السياسات الإقليمية والدولية.
يحلل داوود أوغلو البيئات المحلية والإقليمية والدولية التي حكمت تركيا وجعلتها ذات موقع طرفي في السياسات الدولية. ثم يشرح الفرص التي يمكن أن تستغلها بلاده لتعزيز مكانتها وهي الجغرافيا، التاريخ، والاقتصاد. وهي، على العموم، وسائل من وسائل كثيرة ذكرها ناي في شرحه لمفهوم القوة الناعمة، وسعي الدول القوية لاستخدام هذه الوسائل لتعزيز قوّتها ودفع الآخرين إلى تغيير سلوكياتهم.
كذلك الأمر، يرى داوود أوغلو أن تطبيق مبدأ صفر مشاكل مع الدول والشعوب المجاورة لتركيا أساسي لتزيد بلاده نفوذها الخارجي ودورها في الإقليم. فيرى ضرورة لحل المشاكل بين تركيا وجيرانها، ودخولها في تسويات ثنائية أو جامعة مع دول وقوى أخرى ليعم الاستقرار في المحيط الإقليمي. هذا الأمر يفيد تركيا بوصفها قادرة على الفِعل والتأثير في تلك الدول المحيطة أكثر من قدرة هذه الدول على التأثير والفِعل فيها، فيفتح ذلك المجال أمامها لتطبيق سياسة ناعمة في محيطها عبر التركيز على الأبعاد التاريخية والمكانة الجغرافية والقوة الاقتصادية الخاصة بها.
بالإضافة إلى ذلك، يرى داوود أوغلو أن انتهاج دبلوماسية استباقية ووقائية ضروري لترقّب الأزمات والحروب ومنع انتشارها. وهو الأمر الذي يتطلب، بحسبه، تنسيقًا رفيعًا مع الدول فرادة وفي داخل المنظمات الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى دبلوماسية تركية حيوية ونشطة تستطيع أن تؤدي دور الوسيط في حل الأزمات والحفاظ على سلامة الإقليم من أزمات قادمة. كما يقترح الكاتب التزام بلاده بسياسةٍ خارجية غير حصرية التوجه، والتركيز على سياسة متعددة الأبعاد، والتنويع بشبك علاقاتها الخارجية.
عدا مضمونه المهم، تبرز أهمية كتاب داوود أوغلو الاستراتيجي أنه تسنّت لكاتبه الفرصة العملية لتطبيق ما دوَّنه نظريًا، وهو الأمر الذي لا يحدث غالبًا. ففي معظم الحالات، يكون الحكّام أناسًا مختلفين عن الكتّاب الاستراتيجيين، ويأخذون ما يقتنعون به منهم ويطبّقونه. يختلف الأمر في حالة داوود أوغلو، إذ إن الاستراتيجي والحاكم هما شخص واحد، الأمر الذي يتيح، في هذه الحالة، فهم نظريته من خلال ما طبقه منها على أرض الواقع.
ثانيًا: الاستراتيجيات التركية المتعددة في سوريا
بعد سنوات قليلة فقط من توليه السلطة في تركيا، سعى حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى تبنّي قوة ناعمة تجاه سوريا. ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة تعيد إحياء الثقافة والتاريخ والرموز العثمانية في الداخل، وتقدّم تركيا كدولةٍ يمكن أن تجتذب الآخرين، تحسنت العلاقات التركية السورية بشكلٍ متصاعد وكبير.
يعود هذا الأمر إلى نيّة حكام تركيا الجدد اعتماد سياسة خارجية مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت قائمة منذ نشأة الجمهورية في العام ١٩٢٣ وحتى العام ٢٠٠٢. فيما مرد ذلك يعود، بشكلٍ أساسي، إلى هوية حزب العدالة والتنمية المختلفة في التوجهات ومعظم السياسات عن النخب الأتاتوركية التي حكمت تركيا طوال العقود الماضية. بالإضافة إلى تبنّي الحكم التركي الجديد منذ وصوله إلى السلطة نظرية العمق الاستراتيجي، والسعي إلى تعزيز مكانة تركيا في إقليمها وفي العالم، وتطبيق هذه النظرية على الكثير من الدول ومنها سوريا.
لم يقتصر الأمر على سوريا فقط، إنما طبقت تركيا سياسة القوة الناعمة في مجمل محيطها الإقليمي، إلا أن التجربة مع سوريا، في مضمونها، هي الأغنى والأكثر شمولًا. هذا بالإضافة طبعًا إلى إعادة تركيا تعديل سياساتها تجاه سوريا واعتماد مفهوم القوة الصلبة لاحقًا.
١- القوة الناعمة التركية في سوريا بين عامَي ٢٠٠٤ و٢٠١٢
منذ العام ٢٠٠٤، افتتحت السياسات التركية الجديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا، طريقة جديدة لتمكين العلاقات بين تركيا وجيرانها. زار رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان سوريا مرتَين وقوبل بترحيبٍ حار. وقّعت سوريا وتركيا اتفاقية تجارة حرّة في نفس العام وتم رفع تأشيرات الدخول بين البلدَين لاحقًا. هذا وزاد الاهتمام بموضوع الأمن على الحدود السورية والتركية، وتمت الإشادة بالعلاقة بين الشعبَين وتعزيز صلات العشائر التي تسكن على جانبَي الحدود(9).
بالإضافة إلى ذلك، تم تنحية الخلاف القديم حول مصير ولاية هاتاي أي الإسكندرونة التي تعتبرها سوريا جزءًا من أراضيها. الأمر نفسه ينطبق على الخلافات المتعلقة بالحركات العسكرية الكردية المدعومة من سوريا، والتي كادت أن تسبب حربًا بين الدولتَين في العام ١٩٩٧ والعام الذي تلاه(10).
وعلى اعتبار أنها وسيلة من وسائل القوة الناعمة، انتشرت الثقافة التركية عبر الفنون، بما في ذلك الأغاني والمسلسلات التلفزيونية والأفلام، على نطاق واسع في سوريا، تمامًا مثلما غزت المنتجات والسلع التركية السوق السوري بين عامَي ٢٠٠٤ و ٢٠١١ (11). بالإضافة إلى ذاك، ازداد اجتذاب تركيا للسوريين لأغراضٍ سياحية، وتجاوز عددهم عدد الأتراك القادمين إلى سوريا لنفس الغرض.
وهكذا، كانت أنقرة تتبنّى القوة الناعمة تجاه جارتها من أجل جذب دمشق إلى فلكها السياسي. يتماشى ذلك مع نظرية داوود أوغلو للعمق الاستراتيجي التي تهدف إلى تصفير المشاكل مع جيران تركيا وتحويلهم إلى دول صديقة، وتعديل سلوكهم من أجل تحقيق استقرار في الإقليم، وخدمة للمصالح التركية ونفوذها المتزايد في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، حاولت تركيا أن تؤدي دورًا رائدًا في مجال التوصل إلى اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل في العام ٢٠٠٧. وعلى الرغم من فشل المحاولة، إلا أنها تبقى محاولة رمزية من جانب تركيا لاستعادة نفسها كدولةٍ مركز قادرة على تأدية أدوار في جميع قضايا الشرق الأوسط الرئيسة.
عندما بدأت الحرب السورية في العام ٢٠١١، كانت العلاقات التركية - السورية في ذروتها. لم تكن تركيا متحمسة - على الأقل في العلن - لدعم الأهداف والمطالب الراديكالية التي تبنّتها المعارضة السورية. لم تؤيد تركيا شعارات تغيير النظام وعزل الرئيس السوري بشار الأسد من منصبه في بداية الحرب أو مجمل المطالب السياسية للمعارضة السورية. بدلًا من ذلك، سعت تركيا، من خلال الوسائل الدبلوماسية، للضغط على سوريا لتبنّي إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية من شأنها تلبية المطالب الشعبية وتخفيف التوتر في الشوارع(12).
خلال السنة الأولى من الحرب، لم تنقطع العلاقات الدبلوماسية التركية السورية تمامًا. وعلى الرغم من تدهورها، واستياء دمشق لما اعتبرته تدخلًا لأنقرة في شؤونها الداخلية، واستياء هذه الأخيرة من دمشق غير المتجاوبة لتطبيق إصلاحات، إلا أنه تم الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات بين الطرفَين.
بعد أشهر من اندلاع الصدامات العسكرية في سوريا، زار وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو دمشق للمرة الأخيرة فيما بدا أنه محاولة أخيرة لثني سوريا عن استخدام العنف المنظَّم كردٍ على مطالب الشعب السوري(13). لكن المحاولة الدبلوماسية التركية باءت بالفشل، فانقطعت العلاقات بين تركيا وسوريا رسميًا، واشتدت الحرب عند مشارف العام ٢٠١٢ والأعوام التي تلته.
٢- القوة الصلبة التركية تجاه سوريا بين عامَي ٢٠١٢ و٢٠٢١
على الرغم من أنها أعطت تركيا قدرة أكبر على التأثير في العديد من الدول العربية ، إلا أن الربيع العربي لم يكن، على المدى الطويل، في صالح سياسات أنقرة المستندة إلى القوة الناعمة والعمق الاستراتيجي. شهدت الحرب السورية انخفاضًا كليًا في التأثير التركي في سلوك النظام السوري عندما انحازت أنقرة، بشكلٍ كامل، إلى قوى المعارضة عند مشارف العام ٢٠١٢.
انهارت سياسة القوة الناعمة التركية تجاه سوريا بسبب الحرب والمواجهات المتصاعدة بين الأخيرة والمعارضة المدعومة من أنقرة. فاستُبدلت التعابير التي ميّزت العلاقات بين الدولتَين بين عامَي ٢٠٠٤ و ٢٠١١، مثل التجارة المتبادلة، والاتفاقيات المشتركة، والتقارب الثقافي، والحفاظ على أمن الحدود، بتعابير أخرى كانتهاك السيادة، قصف القرى الحدودية، إرهاب الدولة، وممارسة الأعمال غير القانونية، إلخ....
وفي نقيض لتوصيات داوود أوغلو في كتابه الاستراتيجي، انحازت أنقرة في الحرب السورية إلى المعارضة بعد فشل العديد من المحاولات الدبلوماسية والسلمية التي هدفت إلى تغيير سلوك دمشق. كما تبنّت، منذ العام ٢٠١٢، مفهوم القوة الصلبة في محاولة لتغيير سلوك دمشق ولو بالقوة.
كان الهدف من القوة الصلبة التركية الجديدة في سوريا هو تغيير النظام الحاكم في دمشق أو، على الأقل، الوصول إلى تسوية مُرضية للأطراف المتحاربة، مما يمنح تركيا تلقائيًا يدًا طولى في التأثير في الداخل السوري، فيما الأهم من ذلك، كان هدف تحقيق استقرار في سوريا يحفظ الأمن القومي التركي. لذلك، دعمت أنقرة بعض قوى المعارضة داخل سوريا وخارجها، كما دعمت قرارات الأمم المتحدة الداعية إلى تغيير سلوك سوريا والكف عن ارتكاب المجازر بحق شعبها، وأيدت أي إعلان يدين الأعمال العسكرية للنظام السوري أو يوحي بعدم شرعيته السياسية، الشعبية أو القانونية.
على الرغم من كل هذه الإجراءات السياسية والدبلوماسية التركية، لم تنجح تركيا في إحداث تغيير حقيقي في سياسات النظام السوري. لذلك، دخلت تركيا شمال سوريا في العام ٢٠١٦ ولاحقًا في عامَي ٢٠١٨ و ٢٠١٩، وسيطرت على أراض شاسعة هناك، لا سيما في المناطق الحدودية ذات الأغلبية الكردية المعادية تقليديًا لتركيا(14).
بررت تركيا استخدام القوة الصلبة ودخولها العسكري إلى شمال سوريا بالتهديدات الأمنية الناتجة عن سيطرة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وبعض القوات الكردية على المناطق القريبة من حدودها، كما بالاستناد إلى المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة وبعض القرارات الدولية(15). على الرغم من صحة ذلك، فإن سببًا آخر للغزو العسكري التركي يحمل في طياته غاية استراتيجية، وهي فرض نفسها كواحدةٍ من اللاعبَين الرئيسيَين في أي حل مستقبلي للصراع السوري، ومحاولة تحقيق استقرار شمال سوريا يعفي الداخل التركي من أزمات أمنية.
عمليًا، إن السيطرة التركية على شمال سوريا مرتبط بمستقبل سوريا وأي حلول قد تنهي الحرب رسميًا. لذلك، إن لم يطرأ تغيير جذري في الميدان السوري، لن يتخلى الوجود العسكري التركي عن المناطق التي سيطر عليها قبل التوصل إلى أي اتفاق قابل للتطبيق ينهي الحرب، يحقق الاستقرار، ويقر ويعترف بالدور التركي في سوريا.
٣- العوامل التركية الداخلية لتبنّي القوة الصلبة
لم تكن الظروف الخاصة بسوريا التي مزقتها الحرب، هي العامل الوحيد الذي دفع تركيا إلى تغيير سياستها الخارجية من قوة ناعمة إلى قوة صلبة. ولا كان الخطر المتأتي من وجود التنظيمات الإرهابية قرب الحدود التركية، هو الدافع الوحيد للدخول العسكري إلى سوريا.
لقد ساهم عامل داخلي آخر في تجاوز سياسة ومفهوم القوة الناعمة السلمية التي هندسها داوود أوغلو تبعًا لنظرية العمق الاستراتيجي وتبنّي سياسات القوة الصلبة في سوريا. يعود هذا الأمر، بشكلٍ أساسي، إلى الخلافات التي اندلعت بين رجب طيب أردوغان وداوود أوغلو، والتي انتهت بخروج الأخير من السلطة في تركيا.
لقد كانت التغييرات في السياسات التركية تجاه سوريا موازية للتغييرات داخل تركيا نفسها. بين عامَي ٢٠١٥ و ٢٠١٦، كانت علاقة أردوغان وداوود أوغلو في أسوأ حالاتها. كان لدى الشخصيتَين الأساسيتَين في الحكم التركي العديد من الاختلافات المتعلقة بمجموعةٍ واسعة من المواضيع، بما في ذلك السياسة الخارجية التي بدا أن داوود أوغلو لا يتفق مع اتجاهاتها الجديدة التي انحرفت عن القوة الناعمة ذات العمق الاستراتيجي.
بالإضافة إلى ذلك، كان العديد من المواضيع الداخلية الأخرى مصدرًا للخلاف بين الرجلَين، بما في ذلك طريقة التعامل مع المجموعات الكردية المسلحة في تركيا ودولة فتح اللـه غولن العميقة وداعميها من الشخصيات رفيعة المستوى داخل الجيش والشرطة والقضاء. بالإضافة إلى نية أردوغان تغيير النظام التركي إلى نظام رئاسي ذي صلاحيات تنفيذية، والذي لم يكن داوود أوغلو يستسيغه بشكلٍ كبير(16).
بحلول العام ٢٠١٦، كان داوود أوغلو خارج دائرة صنع القرار في تركيا، حيث قدَّم استقالته من منصب رئيس حزب العدالة والتنمية ورئاسة الوزراء، وعمد إلى تأسيس حزب سياسي جديد للتنافس على السلطة ومعارضة أردوغان وحزبه(17). منذ ذلك الوقت، شدد أردوغان قبضته على السلطة أكثر من أي وقت مضى بينما كانت سياسته الخارجية تجاه سوريا تميل إلى الاعتماد بشكلٍ شبه حصري على سياسات القوة الصلبة.
إن مجموع العوامل الداخلية والخارجية ساهمت كلها في تغيير السياسة التركية الخارجية تجاه سوريا، فانتقلت من الاعتماد الكلي على وسائل القوة الناعمة إلى الاعتماد شبه الحصري على وسائل القوة الصلبة. تعدلت بعض الأهداف الظرفية بين المرحلتَين، إلا أن الهدف المركزي بقي نفسه، وهو تحقيق استقرار في سوريا لتعزيز الأمن القومي التركي على الحدود الجنوبية.
ثالثًا: التحفيز التركي للسلام والاستقرار في سوريا
على الرغم من اختلاف السياسات التركية تجاه سوريا بين مرحلة وأخرى، كما تعدد الوسائل وتعارضها، إلا أن الأهداف التركية بقيت نفسها. هدفت تركيا، بشكلٍ عام، إلى تعزيز أمنها القومي عبر التعاون مع سوريا قبل العام ٢٠١٢، والتقليل من مخاطر الأزمة الأمنية جنوب بلادها بعد ذلك التاريخ، من خلال التخلص من خطر الجماعات الإرهابية، والتقليل من عبء أزمة اللاجئين على أراضيها.
بالإضافة إلى ذلك، سعت ولا تزال تسعى إلى تحقيق استقرار في سوريا عبر وسائل متعددة، والبحث عن حلول سياسية، وإقليمية ودولية، من أجل لجم تصرفات النظام السوري، كما تحقيق تسوية تنهي الحرب.
قد لا يكون هدف تركيا السيطرة الدائمة على الأراضي السورية، أو جعل هذه الأراضي جزءًا من تركيا، وبخاصةٍ وأنها لم تسعَ إلى اعتراف دولي بهذه السيطرة، إلا أن المخاطر المرتفعة الكلفة على أمنها القومي دفعتها إلى التدخل المباشر شمال سوريا. إذ لا يمكن لدولةٍ تسعى إلى تعزيز مكانتها في الشرق الأوسط، وتقديم نفسها كدولةٍ مركزية في الإقليم، الاكتفاء بالتفرج على حرب تدور قرب حدودها من دون المبادرة والفِعل.
على العموم، يبقى أن سعي تركيا للاستقرار في سوريا وفي الشرق الأوسط بشكلٍ عام يحمل غايتَين متوازيتَين: الأولى هي تحقيق المصلحة التركية الخاصة بتعزيز أمنها القومي ومصلحتها في زيادة نفوذها الإقليمي، فيما الثانية هي تحقيق نهاية للحرب السورية وإنجاز تسوية مرضية تنهي سفك الدماء، وتحقق الاستقرار للشعب السوري ولسوريا ككل. عمومًا، من الجائز القول إن الغايتَين مرتبطتان بشكلٍ حتمي، ولا يمكن تحقيق أي منهما بالقدر الكبير من دون تحقيق الأخرى.
١- تعزيز الأمن القومي التركي: الاستقرار الاجتماعي-الاقتصادي للسوريين
تولي تركيا أهمية ملحوظة للذود عن أمنها الداخلي والخارجي، كما تعزيز أمنها القومي وحمايته. فعلى الرغم من المخاطر الجمّة التي تهددها في الداخل والخارج، إلا أن تركيا تبدو سريعة وحازمة في التصرف عندما يتعلق الأمر بالرد على الأخطار التي تترصدها في منطقة كثيرة التقلبات والتشعبات والمشاكل.
إن اندلاع الحرب في سوريا طرح أسئلة أساسية واجهت السياسة الخارجية التركية، وأسئلة أساسية أخرى عن معنى الأمن القومي التركي وحدوده ومصلحته في سوريا. بشكلٍ عام، يحدد بروفسور العلاقات الدولية ليونور مارتن (Leonore Martin) خمسة مواضيع أساسية تطفو على سطح الاهتمامات التركية لارتباطها بموضوع الأمن القومي التركي، وهي: شرعية النظام السياسي، الهوية الوطنية والتعايش بين الجماعات التركية المختلفة، المصادر الطبيعية من نفط وغاز ومياه، إمكانات الدولة الاقتصادية، وإمكاناتها العسكرية والمخاطر الأمنية المتأتية من جماعات ودول أخرى(18).
إن التعامل التركي مع هذه المواضيع الشاملة الخمس يبدو أكثر حزمًا وأقل مرونة من التعامل مع مواضيع أخرى. من هنا يمكن فهم، على سبيل المثال، عدم التهاون التركي مع محاولة الانقلاب في العام ٢٠١٦، وما تلاها من ملاحقات، لأنها شكلت خطرًا على شرعية النظام السياسي، وعدم التهاون في التعامل مع اليونان في الخلافات على الحقوق البحرية لأنها تشكل خطرًا على المصادر الطبيعية، كما عدم التهاون مع سوريا لأن شمالها، الذي تحوّل يومًا إلى مركز للجماعات الإرهابية، بات مصدر خطر على الأمن القومي التركي.
ردًا على هذا التحوّل الأخير، والذي كان مؤشرًا على تضعضع الأمن القومي التركي، دخلت أنقرة إلى الشمال السوري، وذلك كردٍ مباشر على تحوّل المناطق قرب حدودها إلى مراكز عسكرية للميليشيات التي تصنفها أنقرة بالإرهابية؛ وتحديدًا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وحزب الاتحاد الديموقراطي ذو الهوية الكردية الطاغية والميليشيات الصغيرة الأخرى المرتبطة به.
على الرغم من الانتصار التركي العسكري السهل نسبيًا على هذه الجماعات، إلا أن المعضلة الأساسية التي واجهت تركيا هي محاولة بناء الاستقرار ما بعد السيطرة على الأراضي السورية. وتحديدًا عبر تأمين الاستقرار الاجتماعي فيما خص السكان من ناحية، وتأمين أمن اللاجئين واستقرارهم عبر عودتهم إلى بلادهم، وهي أمور مفيدة وإيجابية، على حد سواء، لتركيا وأمنها القومي كما للسوريين بشكلٍ عام.
تسعى تركيا بشكلٍ دؤوب إلى الرد على نتائج الحرب في شمال سوريا، وفي المناطق الموجودة فيها، وذلك عبر تحسين الخدمات الاجتماعية، الصحية، التعليمية، الغذائية، والظروف الاقتصادية والبنى التحتية، بغية تحقيق استقرار اجتماعي في تلك المناطق. إن متابعة عدد مشاريع الإعمار في تلك المناطق وكثافتها، كما كمية المساعدات الغذائية وتحسين البرامج التعليمية والصحية، المقدمة من الدولة التركية كما من قطاعاتها الخاصة(19)، تعطي فكرة عن النية التركية في تحقيق الاستقرار في تلك المناطق، أكان من أجل مصلحة السوريين أم من أجل مصلحة الأمن القومي التركي الذي يتحقق باستقرار المناطق القريبة من حدودها الجغرافية. بالإضافة إلى ذلك، تعمل تركيا على التعاون مع المنظمات الدولية، وبخاصةٍ مع الأمم المتحدة ووكالاتها لتسهيل عبور المساعدات المباشرة إلى السوريين، والتي لولاها لكان الوضع الاجتماعي والاقتصادي السوري في حالة أسوأ بكثير.
من ناحية أخرى، تبرز المساعدات للاجئين السوريين في تركيا بشكلٍ واضح، حيث يبقى وضعهم القانوني والاجتماعي والاقتصادي أفضل من اللاجئين السوريين في كل من الأردن، لبنان والعراق وغيرها من الدول. بداية، لا تصنف تركيا قانونيًا الهاربين من الحرب السورية باللاجئين، إنما بالباحثين عن الحماية المؤقتة، وهي الصفة التي تتجانس مع سياسة الحدود المفتوحة التي اعتمدتها تركيا، كما تُؤمّن للاجئين الحماية القانونية التي تحول دون إجبارهم على العودة إلى ديارهم، بالإضافة إلى تقديم الخدمات الأساسية لهم(20). بالإضافة إلى ذلك، تسمح تركيا للراغبين بالعودة إلى المناطق الآمنة شمال سوريا بتحقيق مرادهم، وذلك ضمن سياسة تهدف إلى تحسين ظروف السوريين، كما تخفيف الأعباء التركية من قبول الباحثين عن الحماية المؤقتة على اقتصادها الداخلي واستقرارها الاجتماعي.
٢- تعزيز الأمن القومي التركي: البحث عن السلام
إن كان موضوع تأمين الاستقرار الشعبي في سوريا ولدى السوريين قد أخذ أبعادًا اجتماعية واقتصادية، يأخذ مشروع تحقيق السلام في سوريا، لدى تركيا، أبعادًا سياسية وعسكرية. وللحالتَين؛ هدف تأمين الاستقرار وهدف تأمين السلام، غاية واحدة، وهي تعزيز الأمن القومي التركي عبر الحد من المخاطر الأمنية والاجتماعية المتأتية من الحرب السورية.
حاولت تركيا، لعشرات المرات، ممارسة شتى أنواع الضغوطات على النظام السوري ليغيّر في سلوكه، كما دَفْعه إلى تقديم التنازلات أو الحد من العنف، إلا أن محاولات أنقرة لم تُفد في الكثير من الأحيان، وذلك بسبب اتكال دمشق على الدعم العسكري والدبلوماسي الذي تتلقاه من موسكو وطهران. لقد حاولت تركيا دفع النظام السوري إلى طاولة المفاوضات مع المعارضة منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة والحرب، أكان عبر الضغط عليه بالوسائل الدبلوماسية والقوة الناعمة أم باستخدام الضغط الاقتصادي والعسكري والقوة الصلبة.
مما لا شك فيه أن قوة النظام السوري في التمنع عن تلبية الطلبات التركية غير نابعة من قوته الخاصة، إنما من قوة حليفيه. إلا أنه من الجائز القول، كذلك، إن أعمال أنقرة العسكرية في سوريا بعد العام ٢٠١٦، ومن ثم خلال التدخل العسكري عامَي ٢٠١٨ و ٢٠١٩، قد أدت، في المحصلة النهائية، إلى الحد من حماوة الحرب في سوريا بشكلٍ عام، حيث باتت كل القوى المشاركة في الميدان السوري مسيطرة على أراضٍ يَصعب انتزاعها منها. فيما لا مصلحة حقيقية لأي من الطرفَين، السوري والتركي، أو حتى الأطراف الأخرى المعنية مباشرة بالحرب، كالروسي والإيراني والأميركي، من تسعير الحرب مجددًا، أو الوصول إلى اصطدام مباشر بين دمشق وأنقرة.
لقد ساهم الدخول العسكري التركي، بقدرٍ مقبول، بالتخفيف من حدّة الحرب في سوريا، حيث خفّت حدّة الاشتباكات في الميدان، وبات كل طرف على بيّنة من سيطرة الآخر على بقع جغرافية محددة، من دون استعداد أي طرف مؤثر الدخول في نزاعات وحروب جديدة غير محسومة النتائج. هذا ولا يعود التوازن في القوى بين الأطراف الأساسية المتقاتلة في الحرب إلى خوف أمني من تجدد الحرب على نطاق واسع بشكلٍ حصري، إنما بسبب شبكة العلاقات الإقليمية والدولية التي تشارك فيها أنقرة للحؤول دون استيعار الحرب من جديد، ومحاولة لجم المغامرات العسكرية غير المحسوبة.
لقد دخلت تركيا في سلسلة من التجمعات الدولية المعنية بالحرب السورية، كما ساهمت في شبك علاقة مع عدد لا يستهان به من الجماعات المتقاتلة. تهدف تركيا من ذلك إلى ضبط إيقاع الحرب، كما البقاء كلاعبٍ أساسي في مسارها، ولاحقًا نهايتها. هذا بالإضافة إلى دعم البيانات ومحاولة إصدار القرارات الدولية المعنية بالحرب، حتى وإن فشلت الأسرة الدولية في أخذ قرارات في مجلس الأمن نتيجة للفيتو الروسي بشكلٍ أساسي.
إن تركيا عنصر أساسي في مؤتمر الأستانة على سبيل المثال، والذي يضم كلًا من روسيا وإيران إليها، وهو تجمّع يهدف إلى إحياء المسار السياسي للحل السوري. يساهم هذا الانضواء التركي في هكذا تجمعات دولية إلى الحد من تمدد الحرب، كما في البحث عن مخارج لإنهاء النزاعات غير المفيدة لمجمل الأطراف.
وعليه، يبقى النشاط العسكري والدبلوماسي التركي ذا أثر يتلاقى مع العمل الاجتماعي والاقتصادي، ويهدفون، كلهم، إلى تحقيق المزيد من الاستقرار والسلام في سوريا، وذلك تعزيزًا للأمن القومي التركي بشكلٍ أساسي. إن تحقيق هذه الغاية التركية المنشودة قائم على أربعة ركائز أساسية تمارسها السياسة الخارجية العامة التركية، وهي: الدعم الاقتصادي والاجتماعي للسوريين القاطنين شمال سوريا، كما للاجئين، العمل العسكري الهادف إلى لجم النظام السوري، والعمل الدبلوماسي الهادف للحد من الحرب. فيما لها، كلها، غاية واحدة، وهي تعزيز الأمن القومي التركي عبر الحد من العنف وتحسين ظروف السوريين في آن.
٣- مستقبل الدور التركي في سوريا
لقد كانت تركيا، ولا تزال، واحدة من اللاعبين الأساسيين في الأزمة السورية. وعلى الرغم من تطوّر أشكال التدخل والمواقف التركية من الحرب، أكان عبر محاولة منعها في العام ٢٠١١، أم في الدخول طرفًا فيها بشكلٍ مباشر في العام ٢٠١٦ والأعوام التي تلته، يبقى أن موقع تركيا الاستراتيجي والتفاوضي، في سوريا، في تحسّن مطّرد. لا يعني ذلك أنها اللاعب الأول في الحرب السورية، ولها الكلمة الفصل في مسارها أو نهايتها، إلا أن لأنقرة قدرة على ضبطها، الحدّ منها، أو التأثير في نتائجها النهائية.
بالإضافة إلى الحدّ من المخاطر المتأتية من الحرب السورية على الأمن القومي التركي، يبقى أن لتركيا سلسلة من الأهداف الفرعية الأساسية الأخرى التي تسعى لتحقيقها. من هذه الأهداف، منع القوى الكردية المعادية لها من تحقيق انتصارات كبيرة أو وجود عسكري ذات تأثير مهم في حدودها. كما منع الجماعات الإرهابية من استعادة قوتها في سوريا، خوفًا من الفوضى التي يمكن أن تسببها في سوريا والداخل التركي على حد سواء(21). بالإضافة إلى تنسيق الجهود مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى في محاولة ضبط الحرب السورية وتأمين مصالح تركيا فيها.
على الرغم من رهان القيادة السياسية التركية على قوى المعارضة السورية، إلا أن الرهان هذا لم يؤتِ ثماره حتى الساعة، فيما يعود هذا الأمر إلى ضعف تلك القوى من ناحية، أكان انتشارًا، تدريبًا أو بسبب خلافاتها الكثيرة، أم أكان بسبب الحماية العسكرية والدبلوماسية التي لا يزال النظام السوري يتمتع بها من ناحية أخرى. إلا أن هذه الحقائق لا تنفي تحقيق تركيا لعددٍ من أهدافها المباشرة المذكورة أعلاه، والتي لم تكن لتتحقق لولا الدخول العسكري المباشر إلى الشمال السوري.
وعليه، يمكن تعزيز الفكرة القائلة بأن أنقرة قد حققت انتصارات في المجال التكتي، من دون أن تحقق الأمر نفسه في المجال الاستراتيجي. بمعنى أن أهداف تركيا قد تحققت أو هي في طور التحقق، كتعزيز الأمن القومي التركي، ومنع الجماعات الكردية والإرهابية من السيطرة على الحدود الجنوبية، ولجم سلوكيات النظام السوري، والحيلولة دون تمدد واستعار الحرب. إلا أنها لم تنجح في تحقيق انتصارات مهمة ومؤثرة تغيّر في مسار الحرب لصالحها، نتيجة عدم تحقيق المعارضة السورية الموالية لتركيا لنتائج مهمة في الميدان.
يبقى أن مستقبل الدور التركي المؤثر في الحرب السورية قائم على ضرورة البقاء فيها واحتلال جزء من أراضيها، هذا إن أرادت الحفاظ على الأهداف التي حققتها، والبقاء شريكة رئيسة في أي حل نهائي للحرب. أما هذا الحل، فلا يمكن لأنقرة إلا أن تسعى لتأمين من خلاله حماية أمنها القومي مقابل أي تسهيلات لإنهاء الحرب أو الخروج العسكري من سوريا. إن هذا الأمر، وإن كان بعيد المنال وغير مطروح بشكلٍ جدي في الوقت الراهن، إلا أنه شبه حتمي الحدوث في المستقبل نتيجة لتوازن القوى المائل للنظام السوري وحلفائه في الميدان السوري.
إن مستقبل الوجود السوري في تركيا مرتبط، بشكلٍ مباشر، بمستقبل الحرب فيها، كما في وجود مخاطر على الأمن القومي التركي كنتيجةٍ مباشرة لها. فيما بقاء الجيش التركي محتلًا للأراضي السورية، فهو مرتبط بما يمكن أن تحصده تركيا في نهاية الحرب، فتخرج من سوريا إن حققت أهدافها الأساسية لانتفاء حاجتها للبقاء فيها، أو تبقى فيها حتى تضمن دوام تحقيق أمنها القومي بنفسها.
الخاتمة
بين عامَي ٢٠٠٤ و٢٠١٩ ، اتبعت تركيا سياستَين مختلفتَين تجاه سوريا. الأولى كانت سياسة قائمة على مفهوم القوة الناعمة التي عمل تبعًا لمبادئها أحمد داوود أوغلو في نظريته حول العمق الاستراتيجي. هدفت سياسات تركيا إلى زيادة نفوذها في سوريا من خلال استخدام الوسائل السلمية، مثل تعزيز التجارة والسياحة والثقافة والتاريخ المشترك بين الدولتَين. لم تحقق هذه السياسة الكثير لتركيا على المدى الطويل، لكنها ساهمت، بين عامَي ٢٠٠٤ و٢٠١١، في جعل تركيا قوة إقليمية لها دور مؤثر في معظم شؤون الشرق الأوسط وقضاياه.
عندما بدأت الحرب السورية في العام ٢٠١١، تدهورت القوة الناعمة التركية. وعلى الرغم من الجهود السلمية العديدة لمحاولة حث سوريا على تغيير سلوكها، إلا أن أنقرة فشلت في الوصول إلى حل للحرب، مما أدى، في النهاية، إلى تغيير سياسات أنقرة تجاه دمشق. لم يكن هذا التغيير بسبب الحرب السورية حصريًا، أو نتيجة لتزايد المخاطر على أمنها القومي فقط، بل ترافق مع تغييرات في الداخل التركي بين عامَي ٢٠١٥ و٢٠١٦.
تحولت القوة الناعمة التركية إلى قوة صلبة استخدمت فيها الجيش للسيطرة على جزء من شمال سوريا، ودعم المعارضة من أجل تغيير النظام السوري. فشلت تركيا في تحقيق هذا الهدف الأخير، إلا أنها حجزت مكانًا لها على طاولة مفاوضات أي تسوية نهائية تنهي الحرب وترسي السلام.
على الرغم من اختلاف الوسائل التركية في التعامل مع سوريا، إلا أن الغاية الأساسية التركية بقيت هي نفسها، وهي حماية الأمن القومي التركي وتعزيزه، من خلال التخفيف من المخاطر المتأتية من الحرب السورية. وعليه، كان الدخول العسكري لأنقرة في العام ٢٠١٦، وفي الأعوام التالية، يهدف للتخفيف من تلك المخاطر، أكان عبر لجم تصرفات النظام السوري من ناحية، أم عبر إضعاف الجماعات الإرهابية التي كانت تسيطر على مناطق قرب الحدود التركية.
في التوازي مع الحرب، عملت أنقرة على تعزيز الأمن والاستقرار في مجالَين أساسيَين، الأول كان عبر تنمية المناطق التي سيطرت عليها في المجالات التربوية، الغذائية، الاقتصادية والاجتماعية، ودعم الهاربين من الحرب إلى أراضيها. أما الثاني فكان السعي إلى تحقيق سلام بشكلٍ ما، أكان عبر الضغط على النظام السوري من ناحية للتخفيف من عنفه، أم عبر دخول تركيا كطرفٍ أساسي في التجمعات الإقليمية والدولية للحد من أخطار الحرب السورية والتخفيف من انتشارها من ناحية أخرى.
يبقى أن مستقبل الوجود العسكري التركي في سوريا قائم على مدى تحقيق غايتها النهائية من هذا الوجود هناك، ومرتبط بمدى تحقيق الاتفاق النهائي، الذي يُنهي الحرب، لأهداف تركيا المباشرة والفرعية.
قائمة المصادر والمراجع
• داوود أوغلو، أحمد. العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية. ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل. بيروت: الدار العربية للعلوم، ٢٠١١.
• عمر، يوسف حسين، تركيا: التاريخ السياسي الحديث والمعاصر (١٩٢٣-٢٠١٨)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠٢١.
- Aslan, Murat. “Turkey’s Reconstruction Model in Syria”. SETA. No. 193, (2019).
- Brahim, Hadji, Soft Power of Turkey’s Foreign Policy towards the Middle East Countries (2002-2011). Malaysia: Islamic Revealed Knowledge and Human Sciences, 2013.
- Çandar, Cengiz. Turkey’s Mission Impossible: War and Peace with the Kurds. London: Lexington Books, 2020.
- Fawcett, Louise. International Relations of the Middle East. United Kingdom: Oxford University Press, 2013.
- Hosli, Madeleine. Selleslaghs, Joren. The Changing Global Order: Challenges and Prospects, Switzerland: Springer, 2020.
- Martin, Leonore. “Turkey’s national security in the Middle East”. Turkish Studies. Vol. 1, No. 1, (2007).
- Mirachian, Laura. Syria and its Neighborhood. Milano: I.S.U. Universita Cattolica, 2005.
- Morgenthau, Hans. Politics among Nations: the Struggle for Power and Peace. New York: McGraw-Hill, 1985.
- Murinson, Alexander. “The Strategic Depth Doctrine of Turkish Foreign Policy”. Middle Eastern Studies. Vol. 42, No. 6 (2006).
- Nye, Joseph. “Public Diplomacy and Soft Power”. The Annals of the American Academy of Political and Social Science. Vol. 616, No. 1, (2008).
- Orhan, Oytun. “The Situation of Syrian Refuges in the Neighboring Countries: Findings, Conclusions and Recommendations”. ORSAM. No. 189, (2014).
- Parmar, Inderjeet. Cox, Michael. Soft Power and US Foreign Policy: Theoretical, Historical and Contemporary Perspectives. London: Routledge, 2010.
- Stein, Aaron. Turkey’s New Foreign Policy: Davutoglu, the AKP and the Pursuit of Regional Order. Abingdon: RUSI – Whitehall, 2014.
- Şenbaş, Demet. Post-Cold War Relations between Turkey and Syria. London: Transnational Press, 2018.
- Oldemeinen, Mareike, “The Political Realism of Thucydides and Thomas Hobbes”, E-International Relations, February 15, 2010. Available on: https://www.e-ir.info/2010/02/15/the-political-realism-of-thucydides-and-thomas-hobbes/
- Talmon, Stefan, “Difficulties in assessing the illegality of the Turkish intervention in Syria”, GPIL, January 26, 2018. Available on: https://gpil.jura.uni-bonn.de/2018/01/difficulties-assessing-illegality-turkish-intervention-syria/
- Hurriyet Daily News, “Former Turkish PM Davutoğlu launches ‘Future Party’”, December 13, 2019. Available on: https://www.hurriyetdailynews.com/former-turkish-pm-davutoglu-launches-future-party-149816
الهوامش
1- (Hans Morgenthau, Politics among Nations: the Struggle for Power and Peace, (New York: McGraw-Hill
.(1985), p. 127
2- Mareike Oldemeinen, “The Political Realism of Thucydides and Thomas Hobbes”, E-International Relations, February 15, 2010. https://www.e-ir.info/2010/02/15/the-political-realism-of-thucydides-and-thomas-hobbes
3- Joseph S. Nye, “Public Diplomacy and Soft Power”, The Annals of the American Academy of Political and Social Science, Vol. 616, No. 1 (2008), p. 94.4
4- Madeleine O. Hosli & Joren Selleslaghs, The Changing Global Order: Challenges and Prospects, (Switzerland.Springer, 2020), p. 253.3
5- Inderjeet Parmar & Michael Cox, Soft Power and US Foreign Policy: Theoretical, Historical and Contemporary
.Perspectives, (London: Routledge, 2010), p. 18
6- Stein, Aaron. Turkey’s New Foreign Policy: Davutoglu, the AKP and the Pursuit of Regional Order
.Abingdon: RUSI – Whitehall, 2014), pp. 11-12
7- Alexander Murinson, “The Strategic Depth Doctrine of Turkish Foreign Policy”, Middle Eastern Studies
.Vol. 42, No.6, (2006), pp. 947-948
8- أحمد داوود أوغلو، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، (بيروت: الدار العربية للعلوم، ٢٠١١)، ص. ١١٦-١١٧.
9- . Laura Mirachian, Syria and its Neighborhood, (Milano: I.S.U. Universita Cattolica, 2005), pp. 34-35
10- .Demet Şenbaş, Post-Cold War Relations between Turkey and Syria, (London: Transnational Press, 2018), p. 74
11- Hadji Brahim, Soft Power of Turkey’s Foreign Policy towards the Middle East Countries (2002-2011)
.(Malaysia: Islamic Revealed Knowledge and Human Sciences, 2013), pp. 112-118
12- 2013 Louise Fawcett, International Relations of the Middle East, United Kingdom: Oxford University Press
.p. 239
13- .Aaron Stein, op. cit., pp. 63-64
14- Cengiz Çandar, Turkey’s Mission Impossible: War and Peace with the Kurds, (London: Lexington Books, 2020), p. 221.1
15- لقد اعتبرت تركيا على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان، كما في مجمل بياناتها الأساسية التي تحمل تبريرًا لدخولها العسكري إلى سوريا أن فعلها هذا يأتي تحت عنوان الحق بالدفاع عن النفس الذي يسمح به ميثاق الأمم المتحدة، كما بواجب الدول مكافحة الإرهاب. في رسالة وجهتها تركيا إلى مجلس الأمن، كما في بيان الإعلان الرسمي للدخول العسكري المباشر إلى سوريا في العام ٢٠١٦، اعتبرت تركيا أن «الدخول العسكري ضروريًا لضمان أمن حدود تركيا وأمننا القومي على أساس حقنا في الدفاع عن النفس، كما هو محدد في المادة ٥١ من الميثاق، ولكن أيضًا في سياق المسؤولية المنسوبة إلى الدول الأعضاء في القتال ضد الإرهاب والمنظمات الإرهابية، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن أرقام: ١٣٧٣ (٢٠٠١) - ١٦٢٤ (٢٠٠٥) - ٢١٧٠ (٢٠١٤) - ٢١٧٨ (٢٠١٤).
مراجعة: Stefan Talmon, “Difficulties in assessing the illegality of the Turkish intervention in Syria”, GPIL January 26,2018:https://gpil.jura.uni-bonn.de/2018/01/difficulties-assessing-illegality-turkish-intervention-syria/
16- يوسف حسين عمر، تركيا: التاريخ السياسي الحديث والمعاصر (١٩٢٣-٢٠١٨)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠٢١، ص. ٥٥٤-٥٥٦.
17- Hurriyet Daily News, “Former Turkish PM Davutoğlu launches ‘Future Party’”, December 13, 2019. Available on: https://www.hurriyetdailynews.com/former-turkish-pm-davutoglu-launches-future-party-149816
18- Leonore Martin, “Turkey’s national security in the Middle East”, Turkish Studies, Vol. 1, No. 1, (2007), pp. 83-106.
19- . Murat Aslan, Turkey’s Reconstruction Model in Syria”, SETA, No. 193, (2019), pp. 37-58
20- Oytun Orhan, “The Situation of Syrian Refuges in the Neighboring Countries: Findings, Conclusions and Recommendations”, ORSAM, No. 189, (2014), p. 11.1
21- Nick Paton Walsh, “Understanding Turkey’s endgame in Syria”, CNN, January 23, 2018. Retrieved in 04/06/2021, available on: https://edition.cnn.com/2018/01/23/middleeast/turkey-syria-endgame-analysis-npw-intl/index.html
“From ‘Soft’ to ‘Hard Power’: Turkey’s Policies towards Syria and the Pursuit of Stability and Peace”
Researcher Joe Hammoura
The research paper entitled “From ‘Soft’ to ‘Hard Power’: Turkey’s Policies towards Syria and the Pursuit of Stability and Peace” seeks to draw a temporal map on the actual Turkish role in Syria, its theoretical background as viewed by the Turkish state, and the International Relations’ studies.
This highly arguable role stretches from 2002; the date of the ‘Justice and Development’ party’s victory and raise to power in Turkey, and up until 2019; the date of the third Turkish invasion of Syria’s northern territories, without neglecting the important events that occurred between these two dates, especially the changes that occurred within the Turkish leadership views of itself and the region, the internal Turkish conflicts, the expansion of the Syrian war, and the international role in it.
Delving into the Turkish strategies and policies towards Syria - in both theoretical and practical levels - will be carried out on the basis of the division of these strategies and policies into two chronological phases. The first phase, starting in 2002 up until 2012, was applied according to the “strategic depth” theory advocated and practiced by the Minister of Foreign Affairs, and later the Turkish Prime Minister; Ahmet Davutoglu. The latter’s theory is based on the concept of soft power which was replaced, after one year of the start of the Syrian War, by others “ways and practices” based on the concept of hard power. These two concepts will be presented after exploring their intellectual origins and initial foundations by relying on Joseph Nay’s writings on “the many concepts of power”.
This research paper aims to identify the two above-mentioned concepts and compare their actual applications, whether in Turkish foreign policy or in the Syrian field; i.e., in peace and war. It also raises the issue of Turkish national security and Turkey’s endeavor to strengthen it by taking practical steps to achieve stability in Syria, as well as to reach a peace deal that secures the rights of the Syrian people and Turkey’s major national and regional interests at the same time. These Turkish steps and practices inside Syria will be viewed from the Turkish interests’ lenses as well as the Syrian interests, specifically those related to the Syrian people in general and their fundamental rights to live in peace, security and stability.
Additionally, the research paper discusses the future of the Turkish military presence in Syria and the contents of the possible final settlement of the war there, “only” accepted from the point of view of the highest Turkish national interests.
Du "soft power" au "hard power": La politique Turque envers la Syrie et la poursuite de la stabilité et du paix
Chercheur Joe Hammoura
Le document de recherche intitulé Du "soft power" au "hard power": La politique Turque envers la Syrie et la poursuite de la stabilité et du paix cherche à tracer une carte temporelle du rôle réel de la Turquie en Syrie, son contexte théorique tel que perçu par l'État turc et les études des relations internationales.
Ce rôle très discutable remonte à 2002; la date de la victoire du parti «Justice et Développement» en Turquie et son accession au pouvoir, et jusqu'en 2019; la date de la troisième invasion turque des territoires du nord de la Syrie, sans négliger les événements importants survenus entre ces deux dates, en particulier les changements qui se sont produits au sein de la vision que la direction turque avait d’elle-même, de la région, des conflits internes turcs, de l'expansion de la guerre syrienne et du rôle international dans celle-ci.
L'approfondissement des stratégies et politiques turques envers la Syrie - tant au niveau théorique que pratique - sera effectué sur la base de la division de ces stratégies et politiques en deux phases chronologiques. La première phase allant de 2002 à 2012, a été appliquée selon la théorie de la «profondeur stratégique» préconisée et pratiquée par le ministre des Affaires étrangères, puis le Premier ministre turc, Ahmet Davutoglu. La théorie de ce dernier repose sur le concept de soft power qui a été remplacé, un an suivant le début de la guerre en Syrie, par d'autres «voies et pratiques» basées sur le concept de hard power. Ces deux concepts seront présentés après avoir exploré leurs origines intellectuelles et leurs fondements initiaux en s'appuyant sur les écrits de Joseph Nay sur «les nombreux concepts du pouvoir».
Ce document de recherche vise à identifier les deux concepts précités et à comparer leurs applications concrètes, que ce soit dans la politique étrangère turque ou dans le domaine syrien; c'est-à-dire en paix ou en guerre. Cela soulève également la question de la sécurité nationale turque et des efforts de la Turquie pour la renforcer en prenant des mesures concrètes pour rétablir la stabilité en Syrie, ainsi que conclure un accord de paix qui garantisse les droits du peuple syrien et les principaux intérêts nationaux et régionaux de la Turquie en même temps. Ces étapes et pratiques turques à l'intérieur de la Syrie seront considérées du point de vue des intérêts turcs ainsi que des intérêts syriens, en particulier ceux liés au peuple syrien en général et à leur droit fondamental à vivre en paix, en sécurité et stabilité.
De plus, le document de recherche aborde l'avenir de la présence militaire turque en Syrie et le contenu de l'éventuel règlement de la guerre, accepté "seulement" du point de vue des intérêts nationaux turcs les plus élevés.