- En
- Fr
- عربي
تحقيق عسكري
فلنتخيّل أنّ الموسيقى غير موجودة في هذا العالم، ترى هل تكون الحياة ممكنة؟ على الأرجح لا. لكن في الواقع الموسيقى موجودة في الكون منذ نشأته، كل ما فعله الإنسان هو أنه اكتشفها بإصغائه إلى الطبيعة. فهدير الرياح، موسيقى. ودغدغة النسمات موسيقى. وكذلك خرير المياه، وزقزقة العصافير...
وقد رافقت الموسيقى الإنسان منذ قديم العصور كلغة عالمية تتواصل بواسطتها الثقافات المختلفة. وهي وإن كانت وسيلة للتعبير عن المشاعر، فهي أيضًا تولّد المشاعر... وفي ذلك سبب من أسباب أهميتها في الجيوش منذ قديم الزمان. فهي اضطلعت بدورٍ مهم في شحن النفوس بالحماسة ورفع المعنويات. وكانت شريكة العسكر في صنع النصر، وفي تكريم الأبطال والشهداء...
وجه جيشنا المشرق
للموسيقى في الجيش اللبناني تاريخ عريق يعود إلى بدايات تأسيسه أيام الانتداب الفرنسي. وهذه القطعة التي مرّت بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى ما هي عليه اليوم، تمثل أحد وجوه الجيش الأكثر إشراقًا وحضورًا في المجتمع، من خلال مشاركتها في الاحتفالات الرسمية المدنية والعسكرية، وفي المهرجانات والمناسبات الوطنية والثقافية والرياضية، ففي «كل عرس لها قرص»، وهي أينما حلّت نجحت في إضفاء الرونق الذي يضخّ الروح في الاحتفالية.
وإذ يسجّل لموسيقى الجيش حضورها في المناسبات المختلفة، يسجّل لها أيضًا المستوى العالي من الاحتراف الذي بلغته في الأداء، أيًا كان نوع الموسيقى التي تعزفها، وهذا ما جعلها موضع إشادة وتكريم من كبار الفنانين والاختصاصيين، إضافة إلى كبار زائري لبنان من شخصيات سياسية ودبلوماسية.
عودة إلى البدايات
• كيف تأسّست موسيقى الجيش؟
- عن هذا السؤال يجيبنا العميد الموسيقي جوزف البدوي الذي تسلّم قيادة هذه القطعة منذ العام 2011، فيقول:
شُكِّلت أول نواة لموسيقى الجيش اللبناني مع تأسيس جيش الشرق في العام 1926، وتعاقب على قيادة هذه الفرقة ضباط فرنسيون لفترة طويلة. فتولّى قيادتها في البداية النقيب بريفان Brévane الذي استبدل بعد سنتَين بالنقيب جان فييل Jean Fieul وقد كان موسيقيًا بارعًا بقي في وظيفته حتى العام 1940، ليسيّر أعمال الموسيقى من بعده الرقيب أول سيروي Sereuil.
وفي العام 1942، أمر قائد موقع بيروت المفوّض الكولونيل رافيل Ravel، باستدعاء الرقيب الموسيقي المتقاعد اللبناني خليل نجم الذي تسلّم إمرة الموسيقى، وتدرّج بالترقيات إلى رتبة نقيب. وبعد تسلّم الحكومة اللبنانية الجيش الوطني، أطلق على الموسيقى إسم مفرزة موسيقى الجيش، وكانت يومها جزءًا من سرية الحرس الجمهوري في لفيف المقر العام، ومركزها قرب ثكنة إميل الحلو في مار الياس - بطينا.
في العام 1956، أمر اللواء فؤاد شهاب بالاستعانة بالخبير الفرنسي النقيب الموسيقي كميل هنري بوفور لإعادة تنظيم موسيقى الجيش، وتسلّم إمرتها بالوكالة خلفًا للنقيب خليل نجم، المعاون أول مهران أرسلانيان، إلى أن أسنِدَت إمرتها إلى الرقيب أول الموسيقي لويس المعوشي (1985).
في مطلع السبعينيات، حظيت موسيقى الجيش باهتمام كبير من القيادة، فازدهرت وأرسل بعض عناصرها إلى المعهد الموسيقي الوطني اللبناني للتخصّص في العزف على عدد من الآلات. وفي نقطة تحوّل مهمّة على صعيد البروتوكول والتشريفات، اعتمدت ألحان عسكرية جديدة من تأليف الأخوين فليفل (عزفات التشريفات وتكريم العلم والسلطات...)، وهي ما زالت معتمدة حاليًا.
في العام 1973، تولّى قيادة موسيقى الجيش الملازم أول استيفان دونه يان. وبعد عشر سنوات من ذلك، وفي خطوة كانت الأولى من نوعها، طوّعت قيادة الجيش تلميذَين ضابطَين لمصلحة موسيقى الجيش (جوزيف البدوي وجورج حرّو)، وافتتحت مدرسة لرتباء اختصاص في الموسيقى.
منذ مطلع التسعينيات في القرن الماضي، شاركت موسيقى الجيش في احتفالات ومهرجانات ونشاطات ثقافية ورياضية عديدة، فلاقت نجاحًا كبيرًا وكُرِّمَت في عدّة مناسبات، ومنها احتفال أقامته لجنة تخليد عمالقة الشرق بالتعاون مع وزارة الثقافة والتعليم العالي (العام 1999) على مسرح قصر اليونيسكو، حيث كرّم قائدها العميد الموسيقي استيفان دونه يان وضباطها وعناصرها، تقديرًا لعطائها وتطوّرها.
وفي العام 2000، انتقلت إمرة الموسيقى إلى الرائد الموسيقي جورج حرّو، وتوسّعت رقعة مشاركتها في المناسبات المختلفة، وكبر نجاحها. فتلقّت العديد من التهاني والتنويهات. وفي العام 2001، منح الرئيس السلوفاكي قائدها وسامًا تقديرًا لأدائها خلال زيارته إلى لبنان، وإذ أعرب عن إعجابه بعزفها، صرّح قائلاً: «إنّ هذه الفرقة عزفت لحن بلادي وكأنها فرقة سلوفاكية!».
كذلك حظيت موسيقى الجيش بتنويهات وتهانٍ من رئيس الجمهورية وقائد الجيش، في مناسبات عديدة، من بينها زيارات الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك والبابوَين يوحنا بولس الثاني وبندكتس السادس عشر، الذين أعجبوا بأدائها وأشادوا به. وتلقّت موسيقى الجيش العديد من رسائل الشكر من السفراء الأجانب المعتمدين في لبنان، كما قُلِّد ضباطها ورتباؤها وأفرادها، وسام الوحدة الوطنية ووسام فجر الجنوب وأوسمة أخرى تقديرًا لجهودهم.
فنانون وعسكريون
• ما هي المهمات التي تضطلع بها موسيقى الجيش، وهل هي محصورة باختصاصها فقط؟ أم أنها تؤدّي أيضًا مهمات عسكرية؟
- يوضح قائد الموسيقى أنّ عسكرييها يتلقّون التنشئة العسكرية الأساسية التي تؤهّلهم لمهمّتي الدفاع عن الثكنات والمنشآت العامة وحراستها، وأعمال الإنقاذ والإسعاف الأولي. لكن تكليفهم بهذه المهمات يقتصر على حالتي الحرب أو الضرورة، وبقرار من قيادة الجيش، شرط ألاّ يحول ذلك دون حفاظهم على المستوى التقني الذي تطلبه وظيفتهم الأساسية.
وقد شاركت موسيقى الجيش في مهمات قتالية بين العامين 1989 و1990، وقدّمت عدّة شهداء.
قيمة مضافة
عن الوظيفة الأساسية لموسيقى الجيش، يحدّثنا قائد مدرسة الموسيقى المقدّم الموسيقي أبولو سكر وآمر السرية الموسيقية الأولى النقيب الموسيقي نديم الأسطا. المهمات التي تقتضيها هذه الوظيفة يمكن تصنيفها في شقَّين أساسيَّين: تأمين الدعم والخدمات الموسيقيّة لمصلحة قيادة الجيش ومختلف القطع، وتأمين الخدمات الموسيقيّة الضرورية لمصلحة رئاسة الجمهورية والسلطات الرسمية.
فموسيقى الجيش تبث البهجة وتضبط إيقاع الخطوات في الاستعراضات، وتضفي الوقار على المناسبات خلال استقبال قيادة الجيش الرسميّين الأجانب وسواهم من الشخصيات. كما أنها جزء أساسي من احتفالات تخريج الضباط والرتباء والأغرار والمجنّدين، إضافة إلى احتفالات تسليم وتسلّم قيادات المناطق والألوية والقطع، وتكريم الشهداء ورفع العلم...
وتؤمّن الموسيقى النشاطات ذات الطابع الرسمي على صعيد الدولة، خصوصًا في الأعياد الوطنية كعيدَي الجيش والاستقلال. وتشارك في استقبال رؤساء الدول الذين يزورون لبنان، وفي احتفالات تسلّم أوراق اعتماد السفراء الأجانب...
في موازاة هذه المهمات ذات الطابع الرسمي، تضطلع موسيقى الجيش بدور كبير على صعيد نسج شبكات التواصل بين الجيش والمجتمع المدني. فهي تشارك في المهرجانات والأعياد، وتلبّي الدعوات الكثيرة التي تردها من الجامعات والمعاهد والمدارس... حيث يشكّل حضورها قيمة مضافة في أي احتفال أو مناسبة.
مدرسة الموسيقى
بلوغ موسيقى الجيش مستوى عاليًا من الاحتراف كان نتيجة التدريب والالتزام والإصرار على صقل المهارات وتطويرها. وفي هذا المجال تبرز أهمية مدرسة الموسيقى التي تضمّ مدرّبين يشرفون على التدريب في المكاتب الدراسية - القسم النوعي في الاختصاص، وفي الدورات الروتينية، إضافةً إلى التدريب اليومي، وقد خُصِّص مدرّب لكل آلة من الآلات المعتمدة. وتتولّى المدرسة حاليًا تأسيس نواة موسيقى الأمن العام من خلال تدريب عدد من عناصره.
كذلك، تستقبل المدرسة عسكريين من مختلف قطع الجيش يتابعون دورات مقتضبة على آلات محدّدة، تؤهّلهم القيام بمهمات موسيقيّة محدّدة (كالتشريفات ورفع العلم).
جسر تواصل
تتعاون موسيقى الجيش مع «الجمعية اللبنانية لنشر الموسيقى الأوركسترالية» LeBam التي أسّسها النائب غسان مخيبر في أواخر العام 2007، والتي تهدف إلى نشر الموسيقى في مختلف المناطق اللبنانية عبر تعليم الموسيقى مجانًا للتلامذة من سنّ 12 إلى 18 سنة، وتنظيمهم في إطار أوركسترات للآلات الهوائية والإيقاعية، وإحياء الحفلات العامة. وفي إطار هذا التعاون، يتابع موسيقيّو الجيش دورات تنظمها هذه الجمعية، كما يتولّون التدريب في المخيمات الموسيقية الصيفيّة، ويشاركون في المهرجانات التي تنظّمها.
أيضًا في إطار التخصّص وصقل المهارات، يتابع عدد من موسيقيّي الجيش دراساتهم في المعهد الوطني العالي للموسيقى- الكونسرفاتوار، بالمقابل يستفيد هذا الأخير من مهارات موسيقيي الجيش فيستعين بهم في المناسبات، وكذلك الأمر في ما يخصّ الجامعات والمعاهد الموسيقيّة في لبنان.
تعيد موسيقى الجيش إحياء آلة القربة، وفي هذا الإطار نفّذت ورشة عمل لمدّة أسبوعَين بالتعاون مع فريق تدريب بريطاني، اختتمت بحفل في نادي الضباط في جونية حضره ممثل عن السفارة البريطانية في لبنان والملحق العسكري البريطاني. وقد عزفت موسيقى الجيش مطبّقةً كل التدريبات التي تابعتها بشكلٍ مميّز، ما دفع الفريق البريطاني إلى الإشادة بالمستوى الرفيع الذي بلغته، سواء في ما يتعلّق بإدارة الأوركسترا أو بأداء العناصر وأسلوب العزف.
إنّ تدريب عناصر موسيقى الجيش لا يقتصر على ما يتابعونه داخل البلاد، فقد تابع بعضهم دورات في الأردن (مع الجيش والكونسرفاتوار)، كما تمّ تدريب عددٍ منهم في رومانيا حيث شاركوا في حفلتَين هناك. ويتابع عدد من التقنيّين الموسيقيّين دورة في اليابان (في شركة Yamaha) لتصليح آلات النفخ الموسيقيّة.
• كيف يتمّ تعهّد الآلات الموسيقيّة؟ وهل تضمّ موسيقى الجيش اختصاصيين تقنيين؟
- إدارة الآلات الموسيقيّة وتعهّدها هما من ضمن مهمات موسيقى الجيش، إذ يُصار إلى صيانتها وتنظيفها يوميًا لحفظها من التلف. وقد أنشئ مشغل خاص يُعنى بتصليح الآلات التي تطرأ عليها أعطال، بما في ذلك تلك الموجودة مع الموسيقيّين في مختلف وحدات الجيش. ويشير قائد الموسيقى في هذا الإطار، إلى الحاجة إلى عديد أكبر من التقنيين المتخصّصين في هذا المجال.
التدريب والالتزام
خلف الأداء المحترف والمؤثّر لأي مقطوعة موسيقيّة، معرفة ومهارة وإحساس مرهف يعيش النوطة قبل أن يترجمها إلى نغمة. وقد برع موسيقيّو الجيش في عزف الأناشيد الوطنية لمختلف الدول التي يزور مسؤولوها ودبلوماسيوها لبنان، وذلك بفضل المثابرة والتدريب والفهم الوافي للخلفيات الثقافية الخاصة بكل بلد أو مناسبة. وتركيز موسيقى الجيش على هذه الناحية جعلها مميّزة بأدائها ومحطّ تقدير الدول والشخصيات والفنّانين. وكلنا يذكر أنّ الشحرورة صباح، طلبت في وصيّتها أن تعزف موسيقى الجيش في تشييعها وهذا ما حصل.
وعملت موسيقى الجيش جاهدةً لرفع مستواها الفنّي عن طريق تكثيف التمارين اليومية، الفردية والجماعية، وتحسين خطة التطويع وتطويرها بما يتيح تطويع اختصاصيين فنيين لمصلحتها. أمّا من يتطوّعون بصفة جنود، فيخضعون لفحص أذن وسمع موسيقي، ومن يمتلك المؤهلات الأساسية يتمّ تدريبه لصقل مهاراته، حتى وإن لم يكن قد درس الموسيقى.
في إطار التطوير أيضًا، شهدت مكتبة الموسيقى ازديادًا في عدد المؤلفات والمعزوفات والألحان من وحي التراث اللبناني والعربي والعالمي، وأعيد كتابتها وتوزيعها بما يتلاءم مع الفرقة الموسيقية العسكرية وآلاتها النحاسية والخشبية والقرعية. وأضيف إلى الألحان والمعزوفات العسكرية العالمية، ألحان لبنانية وعربية تُعزف في الاستعراضات العسكرية وخلال التدريب على النظام المرصوص في قطع الجيش ووحداته.
وتواصل الموسيقى بذل الجهود للبقاء على مستوى متقدّم من الاحتراف والجهوزية الموسيقيّة حتى تحافظ على صورتها المميّزة أمام المجتمع اللبناني وأمام الزائرين الأجانب، ولتبقى وجهًا حضاريًا لجيشنا، وحضنًا لأصحاب المواهب من العسكريين.
شعار الموسيقى
يتألّف شعار موسيقى الجيش من:
- آلة القيثارة الرومانية في الوسط وهي باللون البرونزي دلالة على أن الآلات المعتمدة قديمًا في موسيقى الجيوش كانت مصنوعة من النحاس.
- في خلفية الشعار اللون الخمري، لون رداء الملوك والأمراء دلالة على الثراء، لأن الموسيقى كانت تعزف قديمًا في القصور والبلاط الملكي.
- على طرفَي الشعار سنابل قمح خضراء زمرّدية اللون، رمزًا للموهبة والعطاء.
محطات
مرّت موسيقى الجيش بعدّة محطات تنظيمية وإدارية بين العامين 1970 و1996. ففي العام 1976 تحوّلت تسميتها من سرية الموسيقى إلى موسيقى الجيش، واعتبارًا من العام 1995 اعتبرت قطعة مستقلّة من الفئة الأولى، مرتبطة مباشرةً بقيادة الجيش بعد أن كانت على مدى سنوات غير مستقلّة إداريًا تتأرجح تبعيّتها بين كتيبة مقرّ عام الجيش والحرس الجمهوري ولواء القيادة والدعم، وكذلك موقع تمركزها الذي استقرّ منذ سنوات في ثكنة الكرنتينا.
أمّا عديد الموسيقى فعُدِّل عدّة مرّات إلى أن وصل إلى صيغة نهائية نظرية تقتضي أن تتألف من حوالى 450 عنصرًا من بينهم 27 ضابطًا، ولكن هذا العديد لم يُحقَّق فعليًا بعد. وبالنسبة للهيكلية، تتألّف موسيقى الجيش من: قيادة الموسيقى (قائد الموسيقى ومساعده وأمانة السرّ)، الفروع الأربعة، فرع التأليل، مدرسة الموسيقى، ثلاث سرايا موسيقيّة، وسرية القيادة والخدمة التي تضمّ فصيلتَي التموين والنقل والعتاد.