- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
بصرف النظر عن استنكارنا تخطي حدود المنطق واللياقة في ما نشرته صحيفة «شارلي ايبدو» الفرنسية من صور مسيئة لكرامة الأنبياء المقدّسين عليهم السلام تحت عنوان حرية التعبير، تأتي حادثة مقتل اثني عشر شخصًا في الهجوم الوحشي على الصحيفة، على أيدي عناصر من منظمة القاعدة الإرهابية، لتشكّل فرصة سانحة للتحريض الصهيوني على المسلمين حول العالم وتلميع صورة اليهود عمومًا والصهاينة الإسرائيليين خصوصًا، تحت عنوان «الإرهاب الإسلامي يهدف إلى إبادة الغرب».
تصوير إسرائيل كضحية!
شكّلت الحادثة فرصة تاريخية أمام القادة الصهاينة وعلى رأسهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لمحاولة تبرئة الإسرائيليين من جرائم الحرب التي تلاحقهم نتيجة قتل الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء وتشريد مئات الآلاف منهم وتجريدهم كليًا من حقوقهم المادية والإنسانية والقانونية.
ومنذ عقود تحاول إسرائيل إقناع العالم بعدم ربط ما يدور في العالم العربي والإسلامي من عنف وحراك اجتماعي بالصراع مع إسرائيل، وهو ما يكثر اليوم نتنياهو من تكراره بالقول أن «لا علاقة للصراع أو الاستيطان بما يحدث في سوريا والعراق والعالم الإسلامي، وإنّ إسرائيل جزء من الحل وليست جزءًا من المشكلة».
لكنّ كبير محرري النسخة الإنكليزية لصحيفة «هآرتس» برادلي بورستون حمّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المسؤولية المباشرة عن حملات المقاطعة التي تتسع حاليًا بحق إسرائيل، مشيرًا إلى أن «إنجاز» حكومة نتنياهو الوحيد يتمثل في توسيع دائرة مقاطعة إسرائيل.
وفي مقال نشره موقع الصحيفة الإلكتروني، أوضح بورستون أن موجات المقاطعة ستتعاظم إذا لم يكفّ نتنياهو عن تصوير إسرائيل كضحية، في الوقت الذي لا تفوّت فيه فرصة من دون استفزاز العالم. وأشار بورستون إلى أن نتنياهو هو المسؤول عن تدهور العلاقة مع هولندا التي تعتبر من أوثق أصدقاء إسرائيل لرفضه طلبها السماح بتصدير منتوجات قطاع غزة إلى الضفة الغربية. كما أشار إلى أن العالم لم يعد ينطلي عليه حديث نتنياهو عن عراقة الديمقراطية الإسرائيلية بينما تتجه حكومته إلى طرد عشرات الآلاف من البدو في النقب من بيوتهم، على الرغم من أنهم يعدّون «مواطنين إسرائيليين»، وبينما تقرر حكومته اعتقال طالبي حق اللجوء من الأفارقة لمدة سنة وبدون محاكمة.
نفاق ودجل وانتهازية
على ضوء ما تقدم يتكشف النفاق والدجل والانتهازية الصهيونية بأبشع صورها، عبر ما نقلته الصحافة الإسرائيلية من تصرّفات وتصريحات لرئيس حكومة العدو في باريس، في مسعى واضح لإقناع الأوروبيين بتأييد الحرب التي تشنّها إسرائيل على المقاومة الفلسطينية، ومحاولة ثني البرلمانات الأوروبية عن مواصلة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة. ففي الأساس لم تتم دعوة نتنياهو للمشاركة في المسيرة الكبيرة، وإنما على العكس طُلب منه عدم الحضور، وهو ما أكّدته مصادر من ديوان رئيس الحكومة نفسه، بأنّ فرنسا تحفّظت على مشاركته، ولكنّه أصرّ على ذلك. فقد صدر خبر رسمي يفيد بأن نتنياهو لن يشارك في المسيرة، ولكن بعد أن جرى الإعلان عن حضور منافسيه من اليمين الإسرائيلي، مثل نفتالي بينيت ووزير الخارجية افيغدور ليبرمان، عدل نتنياهو عن رأيه وقرر المشاركة شخصيًا بشكل مفاجئ في باريس.
ولم تنته القضية عند هذا الحد، وإنما طلب نتنياهو أيضًا أن ينضم إلى الحافلة التي تنقل زعماء العالم، على الرغم من أنه لم يُحجز له مقعد، وذروة الاحراج تمثّلت باللعبة التي لعبها من أجل التسلل إلى الصف الأول، إذ تم ذلك عبر مد يده للسلام بطريقة تبدو كما لو أنها عفوية، مع رئيس جمهورية مالي، الذي كان موجودًا في الصف الأول، وتبادل الكلام معه. وهكذا نجح نتنياهو في عملية التسلل كي يتصدر المسيرة مع الخماسية الأولى التي كانت تقودها، إلى جانب الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية.
لم تنته المسرحية هنا، بل واصل نتنياهو حركاته الكوميدية عندما أخذ يبتسم للكاميرات، ويلوح بيديه للجماهير التي كانت على جانبي الطريق، كما لو أن هذه الجموع مجتمعة من أجله، وأن المسيرة تأتي بمناسبة تحقيق انتصارات وليس على خلفية التعبير عن الحزن والتضامن مع ضحايا. وفي المناسبة نفسها أطلق نتنياهو سلسلة من التصريحات الملفقة التي قال فيها: «إن هدف الإرهاب الإسلامي، ليس إسرائيل، وليس الحدود، فهذا النوع من الإرهاب يهدف الى إبادة مجتمعاتنا ودولنا، وضرب الثقافة القائمة على الإنسانية»!!.
حرب على الهوية!
بدوره، كتب المحلل الاقتصادي في صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية سيفير بلوتسكر: «الحرب ليست كما يتصور البعض، لم تكن يومًا من أجل إخافة الإعلاميين، وردعهم من رسم الكاريكاتور، إنها حرب على هوية فرنسا وثقافتها». وزعم أن الحرب القائمة في فرنسا «تندرج في إطار إثبات القوة على الأرض بين طرفين؛ الليبرالية الغربية، والإسلام المتعصب»، فهي حرب حضارات، كما يزعم، «وليست حملة تخويف تشنّها تنظيمات». وبالتالي استخلص أنه يتحتم على الدول الأوروبية المواجهة بفرض البديل وهو فرض نظام القيم الليبرالية، وعدم الاستسلام والخضوع من أجل الحفاظ على مستقبلها».
وكتب الإعلامي الإسرائيلي إيتان هابر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» مقالًا تحت عنوان «الإرهاب الإسلامي»، دعا فيه صراحة إلى إيجاد حل للمسلمين في أوروبا بطردهم والخلاص منهم، وذلك في مقابل اعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن طاقمًا وزاريًا إسرائيليًا خاصًا سيعمل «من أجل دفع الخطوات التي تهدف إلى زيادة الهجرة لتل ابيب من فرنسا ومن سائر الدول الأوروبية التي تواجه المظاهر الفظيعة لمعاداة السامية»، على حد تعبيره. وقال نتنياهو، «أقول لجميع اليهود في أوروبا إن إسرائيل هي بيتكم أيضًا... وأي يهودي يريد الهجرة إلى تل ابيب سيستقبل هنا بقلب دافئ وبأذرع مفتوحة. سنساعدكم على الاستيعاب هنا في دولتنا التي هي دولتكم أيضًا».
موجة هائجة من الإرهاب!
في إشارة إلى الهجمات الأخيرة في باريس التي نفّذها أشخاص ينتمون إلى منظمات إرهابية تتلقى الدعم المباشر وغير المباشر من عدّة أطراف من بينها إسرائيل، قال نتنياهو: «هذه الاعتداءات في باريس تشكل استمرارًا مباشرًا للحرب التي يشنّها الإسلام المتطرف على حضارة الحرية الغربية وعلى العالم المعاصر، ولكنّها تشن أيضًا على الدول العربية المعتدلة وعلى جماهير كاملة في العالم الإسلامي».
وأضاف: «هذه هي موجة هائجة من الإرهاب الذي يرسل أذرعه إلى كل أنحاء العالم، وإذا لم يصحُ العالم سريعًا، فسنجد هذا الإرهاب يزداد قوة ويوجّه ضربات أكثر قسوة أيضًا في مراكز العالم الحر وفي أماكن أخرى».
وقد حاول نتنياهو إضفاء قيمة استثنائية على مشاركته في مسيرة باريس التي رمى من خلالها إلى تحقيق هدفين: الأول ذرّ الرماد في العيون لصرف الانتباه الغربي عمّا ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الإنسانية في توسّعها الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، والثاني محاولة استرضاء الرأي العام الأوروبي من طريق الخداع والتدليس والكذب عبر المشاركة المفتعلة في مسيرة التضامن مع الضحايا.
في الوقت نفسه رأى نتنياهو، خلال لقائه قادة الجاليات اليهودية في باريس، أن «هناك أهمية كبيرة بأن يرى العالم رئيس حكومة إسرائيل يسير جنبًا إلى جنب مع كل قادة العالم في جهد واحد لمحاربة الإرهاب». وأشار إلى أنه «إذا لم يتوحد العالم الآن ضدّ الإرهاب؛ فإن الضربات التي جربناها هنا ستزداد بينما الناس لا يدركون ذلك، ولذلك أنا أتمنى أن تتوحد أوروبا».
ربّ ضارّة... نافعة!
لم ينس نتنياهو استغلال المناسبة وتسخيرها إلى أبعد الحدود من طريق الاصطياد في الماء العكر، خصوصًا على ضوء ما تعانيه إسرائيل من أزمة ديموغرافية مع تراجع أعداد المهاجرين من دول الرفاه وتزايد أعداد النازحين إلى الخارج، هربًا من الأجواء اللاأخلاقية واللاإنسانية والفساد المستشري والعنصرية المنفلتة من عقالها في كل مفاصل الدولة والجيش على حد سواء.
وفي الختــام يـتـبـين أن عمليــة القاعــدة في باريس قد خدمت أهداف الصهيونية الاستراتيجية على كل الصعد، الأمر الذي عبّرت عنه صحيفة «هآرتس» العبرية بتقديرها أنّ عدد اليهود الذين يهاجرون من أوروبا إلى تل ابيب سيرتفع على ضوء أحداث باريس إلى نحو 10 آلاف شخص، علمًا بأنّ تقديرات الوكالة اليهودية (غير الحكومية) على موقعها الالكتروني تفيد بأنّ أعداد اليهود في أوروبا تصل إلى نحو مليون ونصف المليون شخص من بينهم نحو 600 ألف يعيشون في فرنسا، التي تضم الجالية الثالثة في حجمها بعد الانتشار اليهودي في كل من إسرائيل والولايات المتحدة.