- En
- Fr
- عربي
هجرة الوظائف كإحدى ظواهر إقتصاد المعرفة تأثير ثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الإتصالات على هجرة العمالة
كان الحديث عن "حركة عوامل الإنتاج" على المستوى الدولي، يعني في علم الإقتصاد تحديدًا، انتقال رؤوس الأموال عبر الحدود من أجل الإستثمار المباشر وغير المباشر والقروض المختلفة وكذلك التحويلات المالية على أنواعها، كما كان يعني أيضًا "حركة العمل"، أي انتقال اليد العاملة أو هجرتها إلى الخارج بحثاً عن فرص العمل. ولقد كانت هذه الهجرة عبر الحدود بحثاً عن العمل منذ القدم، عبارة عن عملية عرض وطلب بين مجتمعات العالم الثالث ومجتمعات العالم المتطور. فمجتمعات البلدان النامية والضعيفة التطور كانت تعرض ما لديها من فائض في اليد العاملة، التي لا تجد لها في بلدانها فرصًا للعمل كافية لتأمين معيشتها على نحو مقبول. أما مجتمعات الدول الغنية فتعاني نقصًا في اليد العاملة الكفيلة بتحقيق مستويات الإنتاج المطلوبة من أجل ضمان استمرار ازدهارها وتقدمها.
وقد اعتُبر أن هذا النوع من التبادل يحقق فائدة مزدوجة للمجتمعات المصدِّرة لليد العاملة التي تتخلَّص من فائض العمالة العاطلة عن العمل وغير المنتجة، وكذلك للمجتمعات مستقبلة تلك العمالة الوافدة التي تساعد بجهودها على المحافظة على الإنتاج[1]. وكانت الأسباب الرئيسة لهجرة العمالة في السابق تتمثَّل في الفقر والبطالة وتدني الأجور والظروف المعيشية المتردية، ثم أضيفت إليها لاحقًا دوافع أخرى بالنسبة إلى أصحاب الكفاءات العلميةً، مثل انعدام مجالات العمل وإمكانات تحقيق الذات، وفرص توظيف هذه الكفاءات بالنسبة إلى هؤلاء في غالبية البلدن الفقيرة والضعيفة التطور. فظهر ما صار يعرف بـ "هجرة الأدمغة".
واليوم، عند الحديث عن "حركة عوامل الإنتاج"، وخصوصًا "هجرة العمل"، لا بد من التوقف عند ظاهرة جديدة برزت في السنوات الأخيرة تحت تأثير العولمة الإقتصادية المتزايدة، والتطورات الهائلة في مجالات تكنولوجيا الإتصالات وثورة الإنترنت وما يسمى "اقتصاد المعرفة"، نعني بها ظاهرة "هجرة الوظائف" ("Offshoring" أو "Offshore Outsourcing")، والمقصود هو هجرة الوظائف من الدول الغنيَّة بالدرجة الأولى، إلى الدول الأقل تطورًا، من دون أن تقترن بهجرة الأشخاص الذين يؤدون تلك الوظائف، أي ما يمكن اعتباره "هجرة معكوسة"، حيث صارت الوظيفة، أو بالأحرى بعض الوظائف المرتبطة بالتطورات المعرفية التي يشهدها الإقتصاد الحديث، "تبحث" عمَّن يستطيع القيام بها أو تأديتها في الخارج، بعدما كان العامل أو الشخص المؤهل ينتقل إلى الخارج بحثًا عن العمل أو الوظيفة التي تتناسب مع قدراته أو مؤهلاته.
سوف نحاول في دراستنا مقاربة هذه الظاهرة الجديدة في الإقتصاد الحديث. وسعيًا إلى تحقيق هذا الغرض، سوف نقسم البحث إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول، سوف يتناول مفهوم تحركات العمل، أي انتقال قوة العمل عبر الحدود، ودوافع الهجرة العمالية ومراحل تطورها.
المبحث الثاني، مكرس لدراسة الآثار الإقتصادية للهجرة العمالية الدولية، مع التوقف عند الأثر الكبير لتحويلات المهاجرين إلى بلدانهم على اقتصادات هذه البلدان، مع الإشارة إلى لبنان بوصفه نموذجًا مميزًا لهذه الظاهرة.
المبحث الثالث، يتوقف بالتفصيل عند ظاهرة "هجرة الوظائف" بوصفها ظاهرة جديدة من ظواهر الإقتصاد الحديث (اقتصاد المعرفة).
المبحث الأول:
تحركات العمل، انتقال قوة العمل عبر الحدود، دوافع الهجرة العمالية ومراحل تطورها
1 - المفهوم
يُقصد بتحركات العمل، أو الهجرة العمالية، انتقال قوة العمل عبر الحدود من أجل الإقامة الدائمة أو المؤقتة، بحثًا عن فرص العمل. فاليد العاملة تنتقل من البلدان التي فيها فائض منها، إلى بلدان تعاني نقصًا في العمالة. ويرفع هذا الإنتقال من دون شك فاعلية الإقتصاد الوطني الذي يستخدم العمال الأجانب. فهذه اليد العاملة الإضافية تزيد من إنتاج السلع للسوق العالمية، وتساهم في الوقت نفسه في إعادة توزيع الدخل، الأمر الذي يمس مصالح فئات معينة من السكان.
في النصف الثاني من القرن العشرين غدت الهجرة العمالية جزءًا أساسيًا ومهمًا من عملية تدويل الحياة الإقتصادية. فقوة العمل، بوصفها عاملاً بالغ الأهمية من عوامل الإنتاج، تبحث عن الإستخدام الأكثر فاعلية، ليس على صعيد الإقتصاد الوطني فحسب، بل وفي نطاق الإقتصاد الدولي أيضًا.
تشمل السوق العالمية لقوة العمل أنواع تدفقات الموارد البشرية شتى التي تخترق الحدود الدولية في مختلف الإتجاهات. وتتألف سوق العمل الدولية من الأسواق الوطنية والإقليمية لليد العاملة. وتقوم جنبًا إلى جنب مع الأسواق العالمية الأخرى: أسواق السلع والخدمات، أسواق رأس المال وأسواق المعلوماتية. فاليد العاملة، حين تنتقل من بلد إلى آخر فإنها تعرض نفسها بوصفها سلعة في السوق العالمية لقوة العمل، أي يحدث ما نسميه هجرة العمل أو الهجرة العمالية الدولية.
وتعتبر الهجرة العمالية الدولية أحد أكثر عناصر العلاقات الإقتصادية الدولية تعقيدًا. وذلك، بالدرجة الأولى، لأن هذه العملية، خلافًا للتبادل السلعي أو لحركة رأس المال على الصعيد الدولي، تشكل مجالاً ينخرط فيه البشر. فوفقًا لمعطيات الأمم المتحدة (تقرير منظمة العمل الدولية للعام 2005) بلغ عدد الذين يعيشون خارج حدود مواطنهم الأصلية في العالم 186 مليون شخص العام 2005، مقابل 175 مليونًا العام 2000. ولو اعتبرنا أن كل مهاجر يعيل ثلاثة أشخاص في المتوسط، فيكون عدد العاملين المهاجرين يفوق 60 مليونًا العام 2005 مقابل أكثر من 35 مليونًا العام 1995، و3.2 مليون العام 1960. وبناء على التقرير نفسه، يتبيَّن أن وتيرة الزيادة السنوية لعدد المهاجرين خلال التسعينيات من القرن الماضي فاقت وتيرة نمو عدد سكان العالم. وكانت النتيجة أن نسبة المهاجرين بين عدد سكان الكوكب، والتي كانت تبلغ 2 % في الفترة بين العامين 1965 و1990، بلغت 2,9 % العام 2000، ثم 3,1 العام 2005[2].
يمكن تحديد خمسة اتجاهات للهجرة العمالية الدولية:
- الهجرة من البلدان النامية إلى البلدان المتطورة
- الهجرة بين البلدان المتطورة
- الهجرة بين البلدان النامية
- الهجرة من البلدان الإشتراكية السابقة (وهي شبيهة بالهجرة من البلدان النامية إلى البلدان المتطورة)
2 - دوافع الهجرة العمالية
ما هي الأسباب والدوافع التي تجعل الناس ينتقلون من بلد إلى آخر؟
لقد عرفت حركات الهجرة السكانية منذ زمن بعيد، وكانت تحدث لأسباب سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو اجتماعية أو دينية، أو لغير ذلك من الأسباب. فهي ظاهرة اجتماعية واقتصادية لها أبعادها التاريخية القديمة، والتي تتعلَّق بشكل مباشر بالرغبة الطبيعية لدى الإنسان في التنقل والتغيير والإكتشاف من ناحية، والبحث عن مستويات أفضل للمعيشة والحياة وتوفير درجة أكبر من الأمن والأمان من ناحية أخرى. أما الهجرة العمالية فأهم ما يميزها أنها تحدث لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. وكانت تتمثل منذ القدم في هجرة الفلاحين بشكل أساسي. أما اليوم فقد تغيَّرت بنية المهاجرين، فقد طغت في القرن التاسع عشر هجرة العمال الصناعيين، وفي الثلث الأخير منه وبداية القرن العشرين موجات الهجرة الفلاحية بسبب تدهور أوضاع الفلاحين في أوروبا. أما بعد الحرب العالمية الثانية، فأصبحت الظاهرة الأبرز في حركة الهجرة العمالية تتمثل في انضمام فئة واسعة من المتعلمين إليها، من علماء ومهندسين وأطباء ومختلف أنواع الإختصاصيين من حملة الشهادات العليا في ما صار يعرف بـ "هجرة الأدمغة". وقد حدث ذلك تحت تأثير الطلب المتزايد على العمالة الماهرة في ظروف الثورة العلمية التكنولوجية.
في العصر الحديث، ارتبطت هجرة اليد العاملة بالدرجة الأولى بتطوُّر الإنتاج الصناعي الكبير، الذي أدى الى التفاوت في التطور الإجتماعي والإقتصادي للبلدان. ففي البلدان ذات النمو المتسارع يحصل نقص في قوة العمل، حيث أن الطلب يفوق العرض. أما في البلدان البطيئة النمو فيحصل العكس، حيث ينشأ فائض في عرض قوة العمل مقابل طلب ضعيف عليها، ما يؤدي إلى تفاقم البطالة. ولمواجهة هذا الوضع، تلجأ البلدان السريعة التطور إلى سد العجز في قوة العمل عن طريق "استيراد" اليد العاملة من الخارج. أما بالنسبة إلى البلدان الضعيفة التطور، حيث مستوى المعيشة متدنٍ والأجور منخفضة، فتصبح الهجرة وسيلة لتخفيض مستوى البطالة، ورفع مستوى المعيشة وتأمين مصادر خارجية للدخل .. إلخ.
لقد أدى التفاوت في مستوى التطور الإقتصادي والإجتماعي إلى ارتفاع مستوى دخل الفرد في الدول الصناعية المتطورة أولاً، ثم في البلدان المنتجة للنفط (وتحديدًا البلدان المصدرة للنفط بكميات كبيرة)، الأمر الذي ولّد تغيرات داخلية قوية في المجتمعات التقليدية، أدت إلى تحديث هذه المجتمعات وخلق فرص عمل جديدة فيها، ما شكل عنصر جذب لمواطني البلدان الأخرى.
وهكذا، فإن "هجرة الأيدي العاملة عبر الحدود بحثاً عن العمل هي في جوهرها عملية عرض وطلب، تقوم فيها مجتمعات العالم الثالث بعرض ما لديها من وفرة في الأيدي التي لا تجد في أوطانها الأصلية فرصاً للعمل تكفي لاستيعابها، في الوقت الذي تعاني مجتمعات العالم المتقدم نقصًا في الأيدي العاملة الكفيلة بتحقيق مستويات الإنتاج المطلوبة، لضمان استمرار الإزدهار الإقتصادي الذي بلغته تلك المجتمعات"[3].
وثمة أسباب أخرى لهجرة قوة العمل، ذات طابع اجتماعي بالدرجة الأولى. فعدم تطور نظام التعليم المحلي وشبكة الرعاية الطبية، وعدم الثقة بالغد، وعدم الرضى عن نمط الحياة البدائي في الكثير من البلدان النامية، تدفع الكثيرين من مواطني هذه البلدان، الشباب منهم بصورة خاصة، إلى الهجرة طلبًا لمستوى حياة أرقى.
ومن بين الأسباب الأخرى لتزايد الهجرة، تقلص عدد سكان العديد من البلدان المتطورة، وانخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع نسبة الشيخوخة فيها. فقد أصبح انخفاض نسبة السكان النشطاء اقتصاديًا في المجتمع مقارنة بمن بلغوا سن التقاعد، ظاهرة مميزة لغالبية هذه البلدان. فمن المتوقع أن ينخفض عدد سكان بلدان الإتحاد الأوروبي خلال السنوات الخمسين القادمة بنسبة 12 %. ونظرًا إلى طول معدل العمر في بلدان الإتحاد الأوروبي، فإن من هم في عمر يزيد على 65 عامًا يشكلون اليوم سدس السكان فيها، ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى الربع (وربما الثلث) بحلول العام 2050، علمًا أن 10 % فقط ممن لهم من العمر ما بين 65 و69 عامًا يبقون في ميدان العمل[4]. ونتيجة لذلك يتقلَّص عدد النشطاء اقتصاديًا بين السكان. وتؤمن الهجرة اليوم نسبة عالية من النمو الديموغرافي في البلدان المتطورة. ولكي تحافظ بلدان الإتحاد الأوروبي على عدد النشطاء اقتصاديًا يتعين عليها، حسب توقعات الأمم الأمم المتحدة، أن تستقبل 1,4 مليون شخص مهاجر سنويًا، وذلك خلال الفترة الممتدة حتى العام 2050. ومن ناحية أخرى، فإن نسبة العمال الأجانب تشكل نسبة عالية من العاملين في العديد من الدول المتقدمة، فهي،على سبيل المثال، تشكل 24,6 % في أستراليا، و21,8 % في سويسرا، و19,9 % في كندا، و15,3 % في الولايات المتحدة[5].
فضلاً عن ذلك، وفي ظل حالات الخلل الحادة، البنيوية والقطاعية والمناطقية، في سوق العمل، تعاني البلدان الغربية نقصًا مزمنًا أحيانًا، وموسميًا في أحيان أخرى، في اليد العاملة غير الماهرة التي يتوجَّب عليها القيام بأنواع العمل الصعبة والقذرة والخطرة والمتدنية الكفاءة، التي يحجم المواطنون المحليون عن القيام بها في الغالب. وتشكل العمالة الأجنبية نسبة عالية من العاملين في بعض الفروع. ففي بلجيكا، مثلاً، يشكل العمال الأجانب نصف عدد عمال المناجم، وفي سويسرا يبلغ الأجانب 40 % من مجموع عمال البناء، وفي الولايات المتحدة يشكل الأجانب 70 % من العاملين في القطاع الزراعي، وفي فرنسا يشكلون 33 % من العاملين في صناعة السيارات.
وفي الوقت نفسه ثمة نقص في عدد من البلدان المتطورة في فئات الإختصاصيين الفنيين من ذوي الكفاءات العالية والعمال المهرة من المستوى المتوسط. ففي أستراليا، مثلاً، قُدر النقص في الإختصاصيين في ميدان تكنولوجيا المعلوماتية في الفترة ما بين العامين 2001 و2006، بما بين 27 و52 ألفًا[6]. إن كل ما سبق يكشف عن مدى احتياج البلدان المتطورة إلى الأيدي العاملة النازحة من الخارج، على الرغم من كل الضجة التي تثار فيها حول "الأغراب".
يشكِّل العمال اليوم، كما في السابق، القسم الأكبر من اليد العاملة المهاجرة، يليهم العاملون في مجال الخدمات. غير أن هجرة أصحاب الكفاءات العالية والعلماء والفنيين تشكل اليوم ظاهرة جديدة نسبيًا، أطلق عليها اسم "هجرة الأدمغة". وتستقطب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية القسم الأكبر من هؤلاء المهاجرين، الذين يسعون إلى استخدام كفاءاتهم العالية في الميادين المناسبة، وتحقيق مستوى حياة أرقى. ويعمل في الولايات المتحدة اليوم حوالى 1,5 مليون عالم ومهندس وفني، أجنبي الأصل. ويبلغ عددهم قرابة المليونين في دول الإتحاد الأوروبي. وتتبع بلدان، كأستراليا وكندا والولايات المتحدة، منذ سنوات طويلة سياسة هادفة بعيدة المدى لاجتذاب أفضل العقول العالمية، من خلال تقديم التسهيلات والإغراءات المادية وغير المادية لهم. فتبلغ نسبة الأجانب بين الإختصاصيين من أصحاب الكفاءات العالية 25 % في أستراليا، و18 % في كندا، و9 % في الولايات المتحدة. ويشكل قبول الطلاب الأجانب أحد أهم الأقنية لتأمين الكوادر البشرية في الميدان العلمي – التقني، فتسعى البلدان المتطورة إلى استبقاء المتفوقين منهم من خلال تقديم التسهيلات في الحصول على فرص العمل الملائمة بعد تخرجهم[7].
تشير المعطيات الآتية إلى أهمية الدور الذي يضطلع به المهاجرون في التطور العلمي – التقني للولايات المتحدة: فبين العامين 1985 و1999، كان فيها 32 % من الحائزين جائزة نوبل في الكيمياء من أصول أجنبية، وأكثر من 18 % من الحائزين براءات الإختراع، وجوائز الإبتكار من المتحدرين من بلدان أجنبية. وثمة اتجاه مماثل في بلدان أوروبا الغربية، إذ تبلغ نسبة الأجانب في مراكز الأبحاث العلمية الرئيسة حوالى 10 % من مجموع العاملين فيها. فيجري اجتذاب العلماء الأجانب للقيام بأعمال البحث العلمي في تلك الميادين التي تمارس تأثيرًا عظيمًا على نوعية الحياة المعاصرة، وبالدرجة الأولى في ميدان تكنولوجيا الإتصالات والمعلوماتية، والزراعة، والصحة[8].
وهكذا، لو أردنا تلخيص الدوافع الإقتصادية لهجرة قوة العمل، لأمكننا القول إن الدافع الرئيس للعامل المهاجر يتمثَّل في السعي إلى تحسين مستوى المعيشة، والإستفادة من فرص العمل المتاحة في الخارج، ومن الفوارق في معدلات الأجور الحقيقية، حيث أن ارتفاع معدل الأجر الحقيقي في الخارج عنه في الداخل يمثل الحافز الرئيس للهجرة. وتكمن الأسباب ذات الطابع الإقتصادي أيضًا في تفاوت مستوى التطور الإقتصادي في البلدان المختلفة. أما العامل الإقتصادي المحدد الذي يحتِّم الهجرة فيتمثَّل في البطالة المزمنة في بعض البلدان، خصوصًا النامية. ويشكل تصدير رأس المال ونشاط الشركات العابرة للقومية عاملاً بالغ الأهمية من عوامل تحفيز حركة اليد العاملة عبر الحدود. فالشركات العابرة للقومية تساهم في جمع قوة العمل ورأس المال، حيث تقوم إما بنقل العامل إلى حيث يوجد رأس المال، وإما بنقل رأس المال إلى حيث توجد اليد العاملة، أي إلى المناطق التي فيها فائض من قوة العمل، المتدنية الأجر خصوصًا. أما بالنسبة إلى أصحاب الكفاءات، فإن عدم توافر الفرص التي تتلاءم مع كفاءاتهم في بلدانهم فتدفعهم إلى الهجرة بحثًا عن فرص عمل يحققون فيها ذواتهم وطموحاتهم.
فضلاً عن الأسباب الإقتصادية، ثمة أسباب أخرى للهجرة السكانية من بينها الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة، والحروب الأهلية والنزاعات العرقية والدينية والقومية، وأعمال العنف في بعض الدول والمناطق، وكذلك أنظمة الحكم الإستبدادية وغيرها من الأسباب السياسية، التي تدفع الأفراد والمجموعات إلى الهجرة واللجوء طلبًا للأمان بالدرجة الأولى. وبعدما يستقر بهم الأمر في البلدان التي يلجأون إليها، يتحول هؤلاء المهاجرون وطالبو اللجوء السياسي، إلى جزء من الموارد البشرية العاملة في اقتصادات هذه البلدان، وينطبق عليهم في الغالب ما ينطبق على الهجرة العمالية .
وفي الآونة الأخيرة، يؤدي تطور المنظومة العالمية لشبكة المعلومات والإنترنت وتوسعها، وتعاظم التطورات التكنولوجية وتعزيز اتجاهات التكامل الإقتصادي وحركة العولمة، وكذلك تطور وسائل المواصلات وتدني كلفة الإنتقال والسفر نسبيًا، دورًا كبيرًا في تعريف الناس على ظروف الحياة والعمل في البلدان الأخرى والإمكانات الإقتصادية والإجتماعية الكبيرة المتاحة فيها. ويساهم كل ذلك في حث فئات واسعة من الناس على الإنتقال إلى بلدان أخرى. إن السمة الرئيسة لتحركات العمل على المستوى الدولي اليوم تتمثَّل في الإتساع المستمر لنطاقها، وفي انخراط العاملين من مختلف البلدان والقارات فيها.
3 - تطور حركات الهجرة العمالية الدولية
سنتناول في هذه الفقرة موجات الهجرة العمالية الدولية وخصائصها الأساسية.
تعود موجة الهجرة الأولى، التي عرفت بالموجة القديمة، إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر الذي شهد أكبر ظاهرة في تاريخ الهجرة السكانية المعاصرة. فقد شهدت أربعينياته عملية نزوح واسعة من إيرلندا إلى الولايات المتحدة نتيجة ما عرف بـ "مجاعة البطاطا"[9].
الموجة الثانية حصلت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر بدأت عملية هجرة واسعة النطاق من إيطاليا وبلدان أوروبا الشرقية باتجاه الولايات المتحدة بسبب انخفاض أسعار القمح الأوروبي. ثم تباطأ سيل الهجرة بصورة حادة نتيجة تردي الأوضاع الإقتصادية في الولايات المتحدة، ثم عادت وتسارعت من جديد مع عودة الإنتعاش الإقتصادي. وقد نجمت الهجرة الواسعة لليد العاملة آنذاك عن تضخم عدد السكان في المناطق الزراعية في بعض البلدان الأوروبية وتردي أوضاعهم، وتفشي البطالة، وكذلك لتوافر ظروف عمل أفضل وأكثر جاذبية في الولايات المتحدة.
بدأت الموجة الثالثة من الهجرة عقب الحرب العالمية الثانية، حيث ظهرت مراكز جديدة لاجتذاب اليد العاملة. وقد اضطلعت، ولمَّا تزل، الشركات العابرة للقوميات بفروعها الكثيرة المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، بدور كبير في تطور تدفقات الهجرة العمالية وتشعبها. وشهدت هذه المرحلة، وخصوصًا بعد تفكك المعسكر الإشتراكي حركة هجرة واسعة لقوة العمل من الدول الإشتراكية السابقة (الجمهوريات السوفياتية السابقة ومن ضمنها روسيا وبلدان أوروبا الشرقية) إلى بلدان أوروبا الغربية بحثًا عن فرص العمل. وفضلاً عن الفئات التقليدية من العاملين، تضمَّنت هذه الهجرة شرائح واسعة من أصحاب المهارات العالية والإختصاصيين، حيث أن رأس المال البشري المهاجر، هذه المرة، تميَّز، بقسم كبير منه بالنوعية والكفاءة العالية. ومن جهة أخرى، ظهرت إلى جانب المركزين التقليديين لاجتذاب قوة العمل (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية)، مراكز جديدة لا تقل جاذبية.
المركز الجديد الأول لاجتذاب قوة العمل الأجنبية نشأ بسرعة كبيرة في البلدان المنتجة والمصدرة للنفط في منطقة الخليج والشرق الأوسط. وقد جرى تطور الإقتصادات الوطنية لبلدان هذه المنطقة، بصورة أساسية، بواسطة اليد العاملة الأجنبية الآتية من البلدان العربية والأسيوية المجاورة بالدرجة الأولى. وهنا تكمن السمة المميِّزة لهذه الظاهرة.
المركز الجديد الثاني لاجتذاب قوة العمل الأجنبية ظهر نتيجة تطور نشاط الشركات العابرة للقومية في جنوب أفريقيا العاملة في مناجم الذهب والالماس واليورانيوم وغيرها. ويأتي العاملون بالدرجة الأولى من البلدان الإفريقية الأخرى.
المركز الجديد الثالث لاجتذاب قوة العمل الأجنبية نشأ تحت تأثير نشاط الشركات العابرة للقومية، الأميركية والأوروبية الغربية، العاملة في بلدان أميركا الجنوبية.
المركز الجديد الرابع لاجتذاب قوة العمل الأجنبية نشأ تحت تأثير الشركات العابرة للقومية، اليابانية والأسترالية والأميركية بصورة خاصة، في جنوب شرق آسيا. من بين العمال الأجانب هنا ملايين الفيليبينيين والباكستانيين والكوريين الجنوبيين والأندونيسيين، وغيرهم.
المبحث الثاني: الآثار الإقتصادية لهجرة العمالة الدولية
لقد تبيَّن لنا من خلال البحث بأن هجرة قوة العمل عبر الحدود إنما هي، من حيث الجوهر، عملية عرض وطلب بين مجتمعات لديها فائض من اليد العاملة التي لا تجد لنفسها فرص عمل في بلدانها، ومجتمعات أخرى أكثر تطورًا تعاني، لأسباب عديدة، نقصًا في الأيدي العاملة الضرورية لتحقيق مستويات الإنتاج المطلوبة. وهذه العملية تحقق في الواقع "فائدة مزدوجة للمجتمعات المصدِّرة للأيدي العاملة التي تتخلَّص من فائض العمالة العاطلة أو غير العاملة وغير المنتجة، وللمجتمعات المستقبلة لتلك العمالة الوافدة التي تساعد بجهودها على المحافظة على الإنتاج. فهناك، إذن مصلحة متبادلة بين الطرفين ... "[10] .
وتؤدي الهجرة الدولية دورًا مهمًا في التطور الديموغرافي لبلدان ومناطق معينة. وإذ تساهم العمالة الوافدة في زيادة الموارد البشرية وسد النقص في عرض قوة العمل، الناجم عن تراجع معدلات الخصوبة ومن ثم التراجع الديموغرافي في المجتمعات المتقدمة، ما يفاقم الخلل في سوق العمل فيها، فإن هذه العمالة تضطلع بوظيفة اجتماعية – اقتصادية مهمة في الدول المستوردة للعمالة.
وتمارس الهجرة الدولية تأثيرًا كبيرًا على البنية العمرية والجنسية للسكان، سواء في البلدان المصدرة للعمالة أو المستقبلة لها. فالذين يهاجرون هم بالدرجة الأولى الشباب الذكور النشطاء اقتصاديًا. وينعكس هذا الأمر في حالات كثيرة خللاً جديًا في البنية المجتمعية للبلدان التي يغادرها هؤلاء الشبان، خصوصًا إذ استقروا نهائيًا في البلدان التي يهاجرون إليها.
1 - أثر العمالة المهاجرة على البلدان المستوردة لها
من الناحية النظرية، تؤدي الحركة الحرة لقوة العمل بين البلدان إلى تعادل الأجور وتزيد إجمالي الناتج العالمي. أما في الواقع، فإن البلدان المستوردة لقوة العمل هي التي تجني المنافع الرئيسة من هجرة اليد العاملة إليها. وليس من السهل تقدير حجم هذه المنافع وأبعادها لصعوبة احتساب معظمها كمًا. وهي تتجلَّى في توسيع قاعدة القوة العاملة وملء فجوات النقص في المهارت، والوفر الذي تحقِّقه البلدان التي تستخدم الإختصاصيين المهاجرين في الإنفاق على إعداد هؤلاء الإختصاصيين. كما تتجسَّد في قيمة السلع والخدمات التي ينتجها العاملون الأجانب في البلدان التي تستقبلهم حيث أنهم عندما ينتجون ويستهلكون السلع والخدمات، ويدفعون الضرائب ويدَّخرون الأموال، إلخ ...، يتركون أثرًا اقتصاديًا ملحوظًا على اقتصاد البلد الذي يستقبلهم.
والجدير بالذكر أن مختلف فئات العمالة المهاجرة تمارس تأثيرًا مختلفًا على اقتصادات البلدان المستوردة لها. فهجرة قوة العمل غير الماهرة تساهم بقدر معيَّن في استمرارية نشاط قطاعات الإقتصاد التقليدية (قطاع البناء، المناجم أو القطاع الزراعي، على سبيل المثال)، والمجالات التي يحجم عادة أبناء البلد عن العمل فيها (جمع النفايات، مثلاً)، على الرغم من أنها ضرورية لحسن سير العمل في الإقتصاد والمجتمع عمومًا. فضلاً عن ذلك، فإن العمال الأجانب حين يقومون بهذه الأعمال فإنهم يساهمون في جعل استخدام الكوادر المحلية أكثر فاعلية، الأمر الذي يؤدي إلى رفع إنتاجية العمل. وقد أظهرت دراسات أجريت في ألمانيا بأن انعدام العمالة الأجنبية كان من شأنه لو حصل، أن يجعل النمو الإقتصادي في هذا البلد أكثر بطئًا، ومستوى التضخم أعلى، وأن يدفع المستثمرين إلى نقل إنتاجهم إلى الخارج[11].
يبيِّن تحليل الوضع في الإقتصاد الأميركي أن تدفق المهاجرين لا يقترن باحتدام المنافسة في سوق العمل، أو بنمو البطالة بين السكان المحليين، بل أنه يساهم في إيجاد فرص عمل جديدة، وذلك بصورة ضمنية من خلال توسيع الطلب، وبصورة مباشرة من خلال نمو الإستثمار الجديد. كما أن الهجرة لا تمارس تأثيرًا جوهريًا على مستوى الأجور وعلى تمايز الدخول. ففي بعض الحالات فحسب يؤدي اشتداد المنافسة في أوساط معيَّنة من أصحاب الكفاءات إلى انخفاض محدود في الأجور. فالعمالة الأجنبية تُستخدم عادة في ما يسمى "الدائرة الثانية" من سوق العمل، التي تتميَّز بظروف العمل الصعبة وتدني الأجور وانعدام فرص النمو المهني. هذا الوضع يقيِّد قدرة العمال الأجانب على الحراك الإجتماعي، ويخلق الظروف لممارسة التمييز بحقهم. أما في " الدائرة الأولى" من سوق العمل، فينخرط فحسب المهاجرون من أصحاب الكفاءات العلمية والفنية والذين يندمجون في مجتمعات الدول التي يهاجرون إليها بيسر نسبي عادة. غير أن تردي الوضع الإقتصادي يؤدي عادة إلى احتدام التناقض بين السكان المحليين والمهاجرين.
كما ذكرنا سابقًا، تشكِّل العمالة الأجنبية نسبة عالية في بعض الفروع. وكثيرًا ما يؤدي استخدام العمال الأجانب لفترة طويلة في بعض الفروع (البناء، المناجم، الخدمات وما شابه) إلى اشتداد تبعية هذه الفروع للعمالة الأجنبية، بحيث يصبح العمل فيها غير متيسِّر من دون استقدام عمال جدد باستمرار.
إن استخدام الدول الصناعية المتطوِّرة العمال الأجانب في فترات النمو الإقتصادي العالي، يتيح لها القيام، بأقل قدر من الكلفة، بعملية إصلاح الخلل في توزيع الموارد البشرية، وإعادة توزيعها على نحو أمثل بين الفروع والقطاعات التي تتعرَّض لتغيرات بنيوية كبيرة في ظروف الثورة العلمية التكنولوجية، أو عملية التكامل الإقتصادي بين البلدان. فانتقال قوة العمل الوطنية إلى قطاعات الإقتصاد الأكثر طليعية ودينامية يؤدي إلى نمو كفاءتها.
ونتيجة لتطور عمليات هجرة العمالة، تنشأ في العديد من الدول الصناعية المتطوِّرة سوق عمل مزدوجة: واحدة لليد العاملة المحليَّة، وأخرى لليد العاملة الأجنبية. فتقوم قوة العمل الوطنية بالأعمال ذات الكفاءة في الصناعة وقطاع الخدمات، بينما تقوم قوة العمل الأجنبية بالأعمال المرهقة والمضرَّة بالصحة، مع أسبوع عمل أطول، وأجر أدنى مقارنة بالعمال المحليين.
يستفيد أرباب العمل من استيراد اليد العاملة الأجنبية في تقليص حجم الإنفاق على الأجور، وكذلك في إمكان لجم وتيرة نمو أجور العمال المحليين. فمن جهة، يعزِّز وجود العمالة الأجنبية مواقع أرباب العمل في المفاوضات مع النقابات، ومن أخرى، يضطر أرباب العمل في حال عدم وجود يد عاملة أجنبية رخيصة، إلى رفع مستوى الأجور بنسبة كبيرة في فروع الإنتاج ذات الكثافة العمالية وغير المرغوبة من قبل العمال المحليين.
إذا كان أثر استخدام اليد العاملة الأجنبية غير الماهرة على اقتصاد البلد المستورد للعمالة قد يخضع أحيانًا لشيء من التأويل، ما يولِّد بعض التباين في تقييمه، فإن تدفق الإختصاصيين من ذوي المهارات العالية والعلماء والطلاب يؤدي من دون شك دورًا عظيماً في التطور العلمي الإبداعي والمعرفي وفي النمو الإقتصادي في البلدان المتطورة. وقد سبق وأشرنا أعلاه إلى دور "هجرة الأدمغة" في اقتصادات بلدان كالولايات المتحدة وأستراليا وكندا وبلدان الإتحاد الأوروبي. ونكتفي هنا بإضافة أن تطور هجرة العمالة يتيح للبلدان المستوردة لها توفير موارد هائلة تقدر بمليارات الدولارات في إعداد الكوادر. فتعمل الولايات المتحدة مثلاً على "اجتذاب الأدمغة" من جميع أنحاء العالم، ويتلقَّى فيها العلم آلاف الطلاب من بلدان آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، الذين يستقر العديد منهم، لا سيما المتفوقون، فيها بعد انتهاء دراستهم.
وهكذا، إذا أردنا تلخيص تأثير العمالة الأجنبية على البلدان المستوردة لها، فيمكن التوقف عند الأمور الآتية:
- يساهم العمال الأجانب في حفز نمو الإنتاج والتوظيف الإضافي، وذلك من خلال زيادة الطلب على السلع والخدمات في البلدان التي تستقبلهم
- عند استقدام قوة العمل الماهرة وذات الكفاءات العالية، فإن البلد يوفِّر في الإنفاق على إعداد الكوادر وأصحاب الكفاءات
- غالباً ما يُنظر إلى العمال الأجانب بوصفهم نوعًا من "متلقِّي الصدمات"، أو المخفِّف حدَّة الأزمات والبطالة، فيكونون هم عادة أول من يتعرَّض للتسريح عند وقوع الأزمة
- غالبًا ما يُحرم العمال الأجانب من تقديمات الضمان الإجتماعي والصحي والتقاعد وغيرها من مخصَّصات البرامج الإجتماعية، في حين تكون أجورهم ورواتبهم عادة أدنى من أجور أقرانهم المحليين ورواتبهم. كل ذلك يحقِّق وفرًا كبيرًا لأرباب العمل الذين يفضِّلون في العديد من القطاعات استخدام قوة العمل الأجنبية، وللإقتصاد الوطني عمومًا، كون ذلك يخفض كلفة الإنتاج ويعزز القدرة التنافسية للسلع في السوقين المحلية والخارجية.
2 - أثر الهجرة على البلدان المصدرة للعمالة
أما بالنسبة إلى البلدان المصدِّرة للعمالة، فإن لهذه الظاهرة تأثيراتها المتناقضة. فمن البدهي أن هجرة قوة العمل تؤدي دورًا كبيرًا في تخليص بلدانها من فائض العمالة العاطلة أو غير العاملة وغير المنتجة، وفي توفير فرص العمل وتخفيض مستوى البطالة وتخفيف حدة الفقر في البلدان المصدرة لليد العاملة. كما أن الهجرة تساهم في رفع معدل الأجور والدخل لدى مختلف فئات المجتمع، ومن بينها الفئات الأكثر فقرًا. وتشكل تحويلات المهاجرين إلى بلدانهم مصدرًا بالغ الأهمية لرفع مستوى الدخل، ومن ثم الإستهلاك، الأمر الذي يعزِّز الدورة الإقتصادية في هذه البلدان، كما أنه يساهم في تعزيز موازين المدفوعات والإحتياطيات الأجنبية لهذه البلدان.
من المنافع التي تحقِّقها البلدان المصدرة العمالة اكتساب العمال المهاجرين الخبرات والكفاءات من خلال احتكاكهم بالتكنولوجيا الحديثة وأساليب العمل الأكثر تطورًا، وطرق الإنتاج والإنضباط وأخلاقيات العمل ..إلخ، الأكثر تقدمًا في البلدان الوافدين إليها، أي أن الهجرة تساهم في اكتساب مهارات جديدة وتطوير رأس المال البشري. كما أن العمال المهاجرين يقومون في أثناء وجودهم في الإغتراب بمراكمة مدَّخرات يسعى بعضهم عند عودته إلى الوطن إلى تحويلها إلى استثمارات جديدة في بلدانهم، يطبقون فيها ما تعلموه في أثناء عملهم في الخارج، "ويمكن لهاتين القناتين أن توفرا مدخلات حيوية لمباشرة مشروعات تجارية أو لتحسين مستوى الدخل عند العودة إلى الوطن .. إن عودة المهاجرين تمثِّل تدفقًا للموارد المالية والبشرية، حيث أن المهاجرين العائدين يشكلون مصدرًا كامنًا لرأس المال والتقنية ومهارة إدارة الأعمال، أي عوامل من شأنها المساهمة في التنمية الإقتصادية في البلد الأم"[12].
في المقابل، تلحق هجرة العمالة، خصوصًا عندما يتعلَّق الأمر بهجرة الكفاءات وأصحاب الإختصاص و"نخبة" اليد العاملة، أي كل ما نسميه "هجرة الأدمغة"، خسارة كبيرة باقتصاد البلد مصدِّر العمالة. فتسرُّب رأس المال البشري الكفي الذي أنفق المجتمع مبالغ طائلة على تكوينه، يؤدي إلى حلول عناصر أقل كفاءة في قطاعات الإقتصاد الوطني وميادينه التي تغادرها قوة العمل المهاجرة، الأمر الذي يؤدي إلى تدني الإنتاجية وتردي نوعية السلع والخدمات المنتجة، ما يُفقد هذا المجتمع الكثير من مقوِّمات النمو والتطوُّر.
ومن النتائج السلبية لهجرة قوة العمل، خصوصًا من البلدان النامية، تردِّي الإنتاج الزراعي. فكثيرًا ما تؤدي هجرة أبناء القرى والأرياف عمومًا إلى إهمال الأراضي الزراعية، حتى من قبل ذويهم الذين يدفع تحسن مستوى معيشتهم بعضهم، إما إلى الإنتقال إلى المدينة وإما إلى مزاولة أعمال لا علاقة لها بالزراعة. هذا باستثناء الحالات القليلة التي يعود فيها المهاجر الناجح لاستثمار مدخراته التي جناها في الإغتراب في مشروع زراعي حديث على أسس عصرية، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الإنتاجية. غير أن حقيقة استخدام القسم الأكبر من التحويلات المالية للمهاجرين على الإنفاق غير المنتج والإستهلاكي، كشراء منزل أو سيارة أو غير ذلك من الإنفاق الإستهلاكي الرامي إلى رفع مستوى المعيشة، يدفع إلى الإستنتاج بأن التأثير الإيجابي للتحويلات المالية على الإقتصاد الوطني يبقى محدودًا نسبيًا.
3 - تأثير التحويلات المالية للمهاجرين (لبنان نموذجًا)
إن تقييم جدوى التحويلات المالية من الخارج ليس بالأمر السهل. وقد صار مألوفًا اعتبار تحويلات المهاجرين وسيلة هامة للحد من الفقر. ويقدر البنك الدولي أن زيادة التحويلات بمقدار 10 نقاط من الناتج المحلي يقلِّص الفقر بحدود 1,2 %. غير أن الدراسة المتأنية لأوضاع اقتصاد، كالإقتصاد اللبناني مثلاً، تبيِّن أن التحويلات تساهم، إلى جانب التدفقات الريعية الأخرى في تشويه الهيكل العام للأسعار. إذ تُستعمل أموال المهاجرين في الدول النامية، ومنها لبنان، وفق دراسة للبنك الأوروبي للإستثمار، على الشكل الآتي: 51 % للإستهلاك، 18,2 % للتربية والصحة،14 % للسكن. أما الباقي فيذهب معظمه إلى تغطية تكاليف التحويل الباهظة. ونحن نرى كيف يؤثر هذا النمط من الإستهلاك على السوق العقارية في بلد صغير كلبنان حيث تشكل أموال المغتربين التي تصب في السوق العقارية أحد الأسباب الرئيسة للإرتفاع غير العقلاني في أسعار الأراضي والمنازل فيه. وتؤدي الأموال الوافدة إلى تفاقم ظاهرة عدم المساواة في توزيع الدخول والموارد. وتمثِّل منطقة البقاع مثالاً معبِّرًا على ذلك، نظرًا إلى تدنِّي نسبة المهاجرين من أبنائها. ويغذِّي هذا التفاوت الميل إلى تضخيم الإستهلاك حتى لدى العائلات غير الميسورة، أو التي لا تتلقى أموالاًَ من الخارج. ويشيع هذا الأمر سلوكًا إنفاقيًا غير رشيد يزيد من مديونية الأسر ويقلِّل الميل العام إلى الإدخار.
ثم أن التدفقات المنتظمة أفضت في لبنان إلى أمرين: الأول، زيادة ذلك الجزء من الدخل غير المرتبط بالإنتاج ما أدى إلى جمود وتقهقر في الإنتاجية يمكن رصده على مدى حقبة زمنية طويلة. والثاني، تقليل مسؤولية الحكومة تجاه الفئات الأكثر فقرًا والمناطق الأقل نموًا. وعلى الرغم من أن تحويلات المغتربين هي الأكثر استقرارًا وثباتًا بين أنواع التدفقات الأخرى، وشكلت صمام أمان في أوقات الأزمات، إلا أنها أوجدت حلقة مالية رديئة لا يمكن كسرها إلا بإيجاد آليات مصرفية ومالية تسمح بتحويل أموال المغتربين إلى تدفقات رأسمالية بحيث تُستخدم في خلق تيار نمو دائم، وتزيد من العرض الداخلي، وتوسِّع من فرص التوظيف.
إن الإقتصاد اللبناني يتحوَّل إلى اقتصاد ترتكز توازناته الكليَّة على التدفقات النقديَّة الآتية من الخارج لا على أنشطة الإنتاج. ويصبح تصدير الكفاءات إلى الخارج أكثر سهولة من السعي إلى استثمارها في الداخل والإستفادة من المزايا التي يوفرها رأس المال البشري والمعرفي المتوافر في لبنان. إن نزف الموارد البشرية في لبنان ينصب على الكفاءات النادرة إذ تبلغ نسبة الجامعيين من بين المهاجرين ثلاثة أضعاف نسبتهم من المقيمين. وإذا علمنا أن اللبنانيين ينفقون ما يقارب 10% من مداخيلهم على التعليم، يتبيَّن لنا أن الخسارة الناتجة من الهجرة هي خسائر فعلية ومباشرة وليست افتراضية[13].
تحويلات العمالة المهاجرة
تشكِّل التحويلات المالية للعمالة المهاجرة مصدرًا بالغ الأهمية لرفد الإقتصاد الوطني لعدد كبير من البلدان النامية بالموارد المالية، ولرفع مستوى معيشة فئات واسعة من المواطنين. وقد أظهر كتاب "حقائق عن الهجرة والتحويلات في 2008" الذي أصدره البنك الدولي في أواخر شهر آذار 2008، أن قيمة التحويلات المالية الشرعية والخاضعة للمراقبة من المهاجرين إلى بلدانهم النامية بلغت 240 مليار دولار خلال العام 2007، فيما لم يتعدَّ حجمها عالمًيً 318 مليارًا. ويشير واضعو الكتاب إلى أن حجم التحويلات هذا استرعى اهتمام كبار واضعي السياسات، وخصوصًا أن هذا الرقم لا يشمل التدفقات عبر القنوات غير الرسمية أو الأموال المهرَّبة، التي من الصعب جدًا رصدها، ويقدر أن تكون كبيرة جدًا.
أما بالنسبة إلى البلدان المتلقيَّة تحويلات المهاجرين فتحتل الهند المرتبة الأولى بقيمة بلغت 27 مليار دولار، تليها الصين (25,7 مليار دولار)، ثم المكسيك (25 مليارًا)، ثم الفيليبين (17 مليارًا). وكان لافتًا أن فرنسا حلَّت في المرتبة الخامسة بقيمة 12,5 مليار دولار، خصوصًا أنها من البلدان المستقطبة للمهاجرين لا العكس. فالكتاب يظهر أن البلدان الغنيَّة تمثِّل المصدر الرئيس للتحويلات، ولكن هذه لا تشكِّل أكثر من 0,5 % من الناتج المحلي. ويشير الكتاب إلى أن غالبية التحويلات إلى البلدان الغنية تأتي من بلدان غنية أخرى. وأظهرت الأرقام أن الولايات المتحدة تأتي في طليعة البلدان المصدِّرة للتحويلات، حيث بلغت تدفقات التحويلات الخارجة المسجلة 42 مليار دولار العام 2006، تليها السعودية، ثم سويسرا، ثم ألمانيا.
واحتلت مصر المركز الأول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث حجم تحويلات المهاجرين (5,9 مليار دولار)، تلاها المغرب (5,7 مليار دولار)، ثم لبنان (5,5 مليار دولار)، ثم الأردن (2,9 مليار دولار) .. إلخ.
في حال اعتماد حجم التحويلات كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، فإن بلدانًا أصغر حجمًا تحل في مصاف الدول الأكثر استقطابًا للتحويلات، كطاجكستان التي بلغت فيها نسبة التحويلات 36% من الناتج المحلي، وكذلك مولدافيا، وقيرغيزستان(27 %)، ويأتي لبنان في المرتبة الثامنة من حيث هذا المؤشر، حيث تشكل التحويلات 22,8% من إجمالي ناتجه المحلي (ترتفع هذه النسبة حسب تقديرات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى 25,8%، وتصل قيمة التحويلات حسب تقديره إلى حوالى 6 مليارات دولار. في حين أن التقديرات التي تأخذ في الحسبان أيضًا التحويلات التي لا تمر عبر الطرق الشرعية، فتتوقَّع ألا يقل حجم التحويلات عن 8 مليارات دولار، أي حوالى 30% من إجمالي الناتج المحلي).
ويرى خبراء البنك الدولي الذين أعدوا الكتاب المذكور أنه في ظل الهبوط الحاد في الموارد التمويلية والإستثمارية الناجم عن الأزمة المالية العالمية، يزداد النظر إلى تحويلات المهاجرين بوصفها مصدرًا بالغ الأهمية للتنمية. وحسب رأيهم، يمكن أن تكون التحويلات أكثر مرونة من التدفقات الرأسمالية، أو حتى المعونات الرسمية، فحجم التحويلات يفوق إلى حد كبير حجم الإعانات الرسمية التي يبلغ متوسطها 100 مليار دولار سنويًا.
ويخلص خبراء البنك الدولي إلى أن التحويلات تؤدي بشكل عام إلى تخفيض مستوى الفقر وشدته. وهي كثيرًا ما تؤدي إلى زيادة في تراكم رأس المال البشري، والإستثمار وتنظيم مشروعات العمل الحر. كما أنه يمكن للمهاجرين أن يشكِّلوا مصدرًا رئيسًا للتجارة ورأس المال والتكنولوجيا والمعرفة بالنسبة إلى بلدانهم.
من هنا يستخلص الخبراء أن الهجرة تشكل جزءًا لا يتجزأ من التنمية في البلدان المتقدمة والبلدان النامية على حد سواء. فالهجرة الدولية حسب رأيهم تعزز مستويات الدخل في العالم، إذ أنه بالسماح للعاملين بالإنتقال إلى حيث يكونون أكثر إنتاجية، فإن الهجرة تؤدي إلى حدوث زيادة في إجمالي الناتج والدخل.
المصدر: WWW. Worldbank.org /prospect/ migrationandremittances
4 - تأثير هجرة العمالةعلى الأجور
تمارس هجرة العمل الدولية تأثيرًا محددًا على الأجور سواء في البلدان المصدرة أو المستوردة اليد العاملة. وبدهي أنه كلما كان حجم العمالة المهاجرة أكبر، كلما كان تأثيرها على الأجور أكبر.
ففي البلدان المستوردة العمالة الأجنبية، حين يوافق العمال الأجانب على أجر أدنى من الأجر الذي يتقاضاه العمال المحليون العاملون في المجال نفسه، أو عندما يشغلون فرص العمل الشاغرة ذات الأجر المتدني، فإنهم يعيقون بذلك ميل الأجور إلى الإرتفاع في البلد الذي يفدون إليه. وهذا الأمر ملائم جدًا لأرباب العمل، غير أنه يواجه باعتراضات النقابات والعمال المحليين والأحزاب والتنظيمات السياسية والإجتماعية التي تدعمهم.
أما في البلدان المصدِّرة اليد العاملة، فالصورة معاكسة تمامًا. فالمهاجرون هم في الأساس "نخبة" قوة العمل في بلادهم الأصلية، أي أنهم القسم الأكثر تعليمًا وحيوية وكفاءة والأكثر فتوة، وهم يهاجرون عادة بحثًا عن فرص العمل الأكثر فائدة والأعلى أجرًا، مقارنة بما يمكن أن يحصلوا عليه في بلدانهم. وبالتالي، فإن مغادرتهم بلدانهم تؤدي إلى نقص في أصحاب الكفاءات فيها، ما يعزِّز عمومًا الميل إلى رفع مستوى الأجور في البلدان المصدرة العمالة.
تمارس تحويلات المهاجرين بصورة غير مباشرة تأثيرًا إيجابيًا على هذه المسألة، إذ يفيد بعض الدراسات أن التحويلات تؤدي إلى تعاظم الإستهلاك، ومن ثم إلى انتعاش الدورة الإقتصادية في البلد المصدِّر اليد العاملة، حيث أن المهاجر الذي يحوِّل الأموال بانتظام إلى أسرته في الوطن، يساهم، حسب تلك الدراسات، بصورة غير مباشرة في تأمين فرص العمل لسبعة أشخاص. وهذا بدوره يزيد الطلب على اليد العاملة ما يؤدي بدوره إلى دفع مستوى الأجور نحو الإرتفاع.
المبحث الثالث: هجرة الوظائف، سمة
من سمات إقتصاد المعرفة
عند الحديث عن "حركة عوامل الإنتاج"، وخصوصًا "هجرة العمل"، لا بد من التوقف عند ظاهرة جديدة برزت في السنوات الأخيرة تحت تأثير العولمة الإقتصادية المتزايدة، والتطورات الهائلة في مجالات تكنولوجيا الإتصالات وثورة الإنترنت والمعلوماتية وما يسمى "اقتصاد المعرفة"، نعني بها ظاهرة "هجرة الوظائف" ("Offshoring" أو "Offshore Outsourcing"، أي "الهجرة إلى ما وراء الشاطئ الآخر")، والمقصود هو هجرة الوظائف من الدول الغنيَّة بالدرجة الأولى، إلى الدول الأقل تطورًا، من دون أن تقترن بهجرة الأشخاص الذين يؤدون تلك الوظائف. ويعتبر بعض الإقتصاديين، من أمثال غريغوري مانكيو، الأستاذ في جامعة هارفارد، أن هذه الظاهرة هي "أحدث مثال على مكاسب التجارة التي تحدَّث عنها علماء الإقتصاد منذ آدم سميث... وذلك لأن مزيدًا من الأشياء أصبحت قابلة للإتجار بها (Tradable) أكثر مما كان عليه الأمر في الماضي، وهذا شيء جيد"[14].
بدوره، تناول الإقتصادي الياباني كينيشي أوهمي في كتابه "الإقتصاد العالمي، المرحلة التالية، تحديات وفرص في عالم بلا حدود"، الصادر باللغة الإنكليزية العام 2005، ومن ثم باللغة العربية العام 2006 عن الدار العربية للعلوم في بيروت، هذه الظاهرة بالدراسة مستخدمًا مصطلح "القيام بأعمال خارج الحدود" (أو "إرسال الأعمال إلى خارج الحدود") للدلالة على إرسال العمل، أو بالأحرى الوظيفة إلى الخارج من دون أن يغادر القائم بها مكان إقامته في بلده الأصلي. وهو يعتبر "عملية القيام بالأعمال خارج البلاد بهدف تقليص كلفة الإنتاج، الحدث الأبرز خلال العقد الماضي ... من دون أن يؤثر ذلك على جودة المنتج"[15].
أما بيتر كابيلي فيسمِّي هذه الظاهرة "التعاقد مع جهات خارجية"، ويقول إنها أشبه بالعمل الطارئ، لأنه ينقل إلى الخارج الوظائف التي قد يؤديها عاملون محليُّون ثابتون. ويقول إنه تجري في هذه الحالة عملية الإستثمار في مهارات العاملين ومعرفتهم من دون أن يتمتَّع هؤلاء العاملون في الغالب بشروط قانون معايير العمل العادلة، حيث أن العلاقات بين هؤلاء العاملين والمنظمة التي يعملون لمصلحتها تكون في معظم الأحيان غير رسمية، وغير مثبتة في عقود قانونية[16].
ظاهرة "هجرة الوظائف"، أو "القيام بأعمال خارج البلاد"، هي ظاهرة جديدة نسبيًا في اقتصاد الدول الصناعية المتقدِّمة، حيث يعهد بعض منظمات الأعمال (الشركات والمؤسسات المختلفة) بجزء من نشاطها (خصوصًا في مجال الخدمات) إلى منظمات أو أفراد في الدول الأقل تطورًا، حيث الأجور أكثر انخفاضًا، بهدف تخفيض التكلفة، كأن تعهد شركة برمجيات أميركية، مثلاً، لمبرمج هندي بوضع برنامج جديد، أو شركة ملبوسات عالمية لمصمم لبناني بإعداد تصاميم أزياء جديدة لمصلحة الشركة، إلخ ...، فيقوم هذا المصمِّم أو ذاك المبرمج بإنجاز المهمة المكلَّف بها على كمبيوتره الخاص من دون أن يغادر منزله في نيودلهي أو بيروت، ومن ثم يرسل ثمرة عمله إلى الشركة عبر البريد الإلكتروني، ويتلقى أجره على حسابه المصرفي عبر البريد الإلكتروني أيضًا، من دون أي تماس مباشر مع الشركة التي كلفته بالمهمة.
تنتقل الوظائف الجديدة عادة بوسيلة من ثلاث: إذا أدركت الشركات الكبرى العابرة للقوميات صاحبة مشروعات الأعمال في مختلف أنحاء العالم، خلال بحثها عن عملاء جدد في البلدان ذات الأجور المنخفضة، كالهند أوالصين مثلاً، أن بالإمكان خفض تكاليفها عن طريق فتح مكاتب عبر البحار ونقل قدر كبير من الأعمال الفنيَّة التي يؤديها ذوو الياقات البيضاء إلى بلدان هؤلاء الفنيين، أو ان تستأجر لحسابها مؤسسات كبرى في بلد، كالهند مثلاً، تعهد إليها القيام بأعمالها، أو أن تعهد الشركة المعنية بأعمالها إلى شركة أميركية كبرى، مثل آي بي أم، التي تقوم بدورها بتكليف فروعها في الخارج بالعمل فينتهي الأمر بانتقال الوظائف إلى ما وراء البحار، مثلما حدث مع 43 ألف عامل من العاملين لحساب شركة آي بي أم في الهند[17]. وعلى هذا النحو فإن الملايين من وظائف ذوي الياقات البيضاء في الصناعة الخدمية "هاجرت" بالفعل إلى الهند.
تؤدي تكنولوجيا الإتصالات والكمبيوتر دورًا أساسيًا في نشوء هذه الظاهرة وتناميها، بل يمكن القول إنه ما كان من الممكن إرسال الأعمال أو نقل الوظائف إلى خارج البلاد من دون وجود تكنولوجيا الإتصالات المتطوِّرة. وتعتبر الهند من أكثر دول العالم استفادة من هذه الظاهرة، وقد شهدت تحسنًا كبيرًا في مستوى البنية التحتية للإتصالات. ويعمل الهنود في خدمة الشركات الأجنبية في مجالات الرد على النداءات الهاتفية وكتابة مدونات الكمبيوتر، فضلاً عن تزايد أعداد من يتولُّون مهمات أكثر تقدمًا وتعقيدًا، ابتداء من المحاسبة إلى الإستثمار المصرفي. ولما كان جوهر هذه الظاهرة يتمثَّل، بصورة أساسية، في قيام أفراد من دول فقيرة أو أقل تطورًا (حيث الأجور أدنى) بأعمال لحساب مؤسسات وشركات في دول غنية، ليحلوا مكان مواطني هذه الدول الغنية (حيث الأجور أعلى)، الذين كانوا يقومون بهذه الأعمال من قبل، فإن ذلك يؤدي إلى حرمان سوق العمل في الدول الغنية من قسم من هذه الوظائف.
وبذلك، كإنما تجري في هذه الحالة عملية "هجرة الوظائف" بحثًا عن العامل، بدلاً من هجرة اليد العاملة أو "هجرة الأدمغة" بحثًا عن فرص العمل في بلدان أخرى. ويحصل في هذه الحالة ما يسمى "نزيف الأدمغة عن بعد"، حيث يتم عبر الإنترنت اجتذاب عمالة الدول النامية، وهم في أوطانهم من دون حاجة إلى هجرة، دائمة أو مؤقتة، ومن دون كلفة تأمين إقامتهم أو تقديم الضمانات الإجتماعية والصحية وضمانات نهاية الخدمة لهم. فتشارك العمالة المحلية عبر الإنترنت مع فريق العمل الجماعي للشركات الأجنبية مقابل أجر متدنٍ نسبيًا لا يتناسب مع أجر العاملين من مواطني الدول المتقدمة[18].
ويجدر بالإشارة في هذا السياق أن بعض مناطق الهند والصين يقدم أعلى المهارات مقابل أدنى أجور. وبدلاً من شعور أصحاب هذه المهارات بأن الشركات الغربية تستغلهم، فإنهم يعتبرون عملهم هذا مهنة تؤمن لهم وظيفة مربحة وتطورًا على المستوى الشخصي وارتقاء في مستوى المعيشة، وتبدلاً جوهريًا في المكانة الإجتماعية.
لقد غدت عملية "إرسال الأعمال إلى الخارج" بهدف تقليص كلفة الإنتاج أمرًا حتميًا. ونحن نشهد هجرة واسعة النطاق للوظائف على مستوى قطاع الخدمات من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى الهند أو الصين أو أي بلد آخر تنخفض فيه كلفة الإنتاج. وثمة دراسات تفيد بأن مليون وظيفة في قطاع الخدمات في الولايات المتحدة قد فقدت بسبب هجرة الوظائف، في حين تفيد دراسات أخرى بأن صناعة الكمبيوتر الأميركية قد فقدت بسبب هذه الظاهرة جزءًا لا يستهان به من عمالتها المحلية يصل إلى حوالى 30%. كما تشير دراسات أميركية إلى أن قرابة 3,3 مليون وظيفة خدمات أميركية سوف تنتقل إلى خارج البلاد بحلول العام 2015، بمعدل حوالى 300 ألف وظيفة كل سنة[19]. وتشير تقديرات معهد ماكينزي، وهو مؤسسة الفكر الإقتصادي لشركة ماكينزي آند كومباني، إلى أن الرقم الإجمالي يمكن أن يصل إلى 9 ملايين وظيفة على مدى الأعوام الثلاثين القادمة[20].
من الواضح أن التطورات الهائلة والمتواصلة في تكنولوجيا الإتصالات العالمية سوف تؤدي في المستقبل إلى تفاقم ظاهرة "هجرة الوظائف"، خصوصًا في مجال ما يسمَّى "الخدمات غير الشخصية"، أي تلك الخدمات التي يمكن أن تُقدَّم إلكترونيًا عبر مسافات طويلة، من دون التأثير السلبي على جودتها (أو ربما يكون هذا التأثير السلبي محدودًا جدًا). ولا بد هنا من توضيح مفهومي "الخدمات الشخصية" و"الخدمات غير الشخصية".
1 - ما بين مفهومي"الخدمات الشخصية" و"الخدمات غير الشخصية"
تتضمَّن مقالة آلان بلندر المذكورة أنفًا محاولة مميَّزة لتوضيح هذين المفهومين. فالخدمات التي لا يمكن تقديمها عبر الوسائط الإلكترونية، أو التي يتدنَّى مستواها إلى حدٍّ كبير في حال تم تقديمها إلكترونيًا، يمكن أن توصف بأنها "خدمات شخصية"، أي أن التعامل بها يتمُّ مباشرة، وجهًا لوجه، بصرف النظر عن مدى الكثافة العلمية لهذه الوظيفة أو تلك، أو عن التمييز التقليدي بين العمل المرتفع المهارة والعمل المتدني المهارة. المثال على ذلك، وظيفة الطبيب الذي يقوم بفحص المريض مباشرة، أو النادل الذي يقدِّم الطعام في المطعم، أو المعلم في المدرسة، أو عامل الإستقبال في فندق ... إلخ. هذا النوع من الخدمات هو عبارة عن "خدمات تُقدَّم بصورة شخصية مباشرة"، أو هي ببساطة "خدمات شخصية".
في المقابل ثمة خدمات من نوع آخر يتزايد عددها باطراد، وتتعاظم إمكانات تقديمها بصورة غير مباشرة بواسطة الوسائط الإلكترونية، خصوصًا مع تطوُّر هذه الوسائط وشبكة الأنترنت العالمية، كخدمة عامل الهاتف مثلاً، أو الخدمات المالية التي يقدِّمها المصرف، أو وظيفة الحجز في الفندق أو في شركة الطيران، أو وضع برامج الكمبيوتر، أو وضع التصاميم على مختلف أنواعها ... إلخ، وكلها مهمات يمكن أن تتم عبر الكمبيوتر الشخصي للعامل الذي بإمكانه تأدية المهمة الموكلة إليه من دون أن يغادر منزله، وربما غرفة نومه!."وتشكِّل هذه العودة غير الصناعية إلى البيئة المحليَّة الإختلاف الأهم بين عصر الصناعة وعصر الإنترنت"[21]، أي أنها عودة إلى ما يشبه العمل المنزلي الذي كان سائدًا في حقبة ما قبل الثورة الصناعية، عندما كان الحرفي يعمل في منزله في الغالب، ولكن على درجة أعلى بما لا يقاس من التطور هذه المرة. هذا النوع من الخدمات يمكن تسميته "الخدمات غير الشخصية"، أي أنها تتم من دون تماس مباشر بين مؤدي الخدمة وذاك الذي يحصل عليها.
هذا النوع من الوظائف هو الأكثر عرضة لخطر "هجرة الوظائف". ويجدر بالإشارة في هذا السياق أنه مع تطور تكنولوجيا المعلومات والإتصالات، يتحوَّل عدد متزايد من الخدمات الشخصية إلى خدمات غير شخصية. فبعض الفحوصات والتحاليل الطبية يتمُّ اليوم عبر الإنترنت، كما أنه حصلت تجارب (محدودة حتى الآن) للقيام بعمليات جراحية معقَّدة عن بعد، عبر وصلات من الألياف البصرية. وفي مجال التعليم ثمة تطور متزايد لظاهرة التعليم عن بعد مع انتشار ظاهرة الجامعات المفتوحة، حيث تتحوَّل وظيفة المعلم (الأستاذ الجامعي خصوصًا) تدريجًا إلى"خدمة غير شخصية"، أي أنها تتم من دون تماس مباشر بين المعلم والطالب، وإنما بواسطة الإنترنت والبريد الإلكتروني وتكنولوجيا الصوت والصورة الفائقة التطور. وبالتالي يصبح بوسع الأول القيام بمهمته من بيته من دون الهجرة إلى الخارج بحثًا عن فرصة العمل.
أما في المجال التجاري فإن تجارة التجزئة تبقى في معظمها حتى الآن ضمن "الخدمات الشخصية"، أي أنها تتطلَّب الوجود الشخصي لطرفي الصفقة، على الرغم من أن تطوُّر التجارة الإلكترونية يحولها تدريجًا إلى "خدمة غير شخصية". أما تجارة الجملة والصفقات التجارية الكبيرة والتبادل التجاري على المستوى الدولي والخدمات المالية، فقد أصبحت في الغالب تتمُّ عبر الإتصال غير المباشر عبر شبكة الإنترنت وغيرها من الوسائل الإلكترونية، أي أن وظائف العاملين فيها هي بدورها عرضة لخطر "هجرة الوظائف"، أو "إرسال العمل إلى خارج الحدود". وهذا يفترض انخفاض كلفة هذه الأعمال نتيجة انخفاض الأجور الحقيقية لهذه الوظائف.
إن الأنماط المتغيِّرة والمتطوِّرة للتجارة في ظل الإقتصاد الجديد المبني على المعرفة وثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الإتصالات، سوف تُبقي على غالبية وظائف الخدمات الشخصية داخل حدود الدول المتطوِّرة، حيث أن قسمًا كبيرًا منها يتحقَّق بواسطة عاملين مهاجرين من دول أخرى، أي أننا هنا أمام "هجرة العمل" التقليدية المعروفة تاريخيًا، في حين أن العديد من وظائف إنتاج السلع ووظائف الخدمات غير الشخصية سوف تهاجر إلى البلدان النامية، وبالدرجة الأولى إلى الدول ذات الإقتصادات الناشئة.
هنا تصبح القيود الحمائية التي يمكن أن تلجأ إليها الحكومات غير ذات معنى. فإذا كان من الممكن إقامة الحواجز شتى (الجمركية وغير الجمركية) في وجه التجارة التقليدية – على الرغم من أن الإتجاه العالمي الغالب اليوم هو نحو تحرير التبادل التجاري الدولي والتدفقات السلعية والمالية والخدماتية – فإنه من الصعب، لا بل من المستحيل إقامة مثل هذه العوائق في وجه التجارة الإلكترونية على مختلف مستوياتها وأوجهها، فما من هيئة حكومية أو جهاز رسمي قادر على منع انتقال الخدمات والأعمال عبر الأقنية الإلكترونية، فشبكة الإنترنت تبقى عمومًا عصيَّةً على الرقابة الحكومية.
2 - تحديث مفهوم "الميزات النسبية"
من الواضح أيضًا أن الدول المتقدمة يمكن أن تواجه مشكلات فعلية وتحديَّات كبيرة ناجمة عن "هجرة الوظائف". وهذه الظاهرة لا بد من أن تستدعي تناول مفهوم "الميزات النسبية" من منظور جديد.
وفقًا لنظرية "الميزات النسبية" التي وضعها ديفيد ريكاردو، وقامت على أساسها المدرسة الإقتصادية الكلاسيكية حول التجارة الدولية، نعلم أن التبادل التجاري الدولي يقوم على أساس الأكلاف المقارنة، أو الأفضليات النسبية بين الدول. تكمن في أساس "نظرية الميزات النسبية" الكلاسيكية فكرة الفوارق الطبيعية بين اقتصادات البلدان، الواقعة في بيئات جغرافية وطبيعية مختلفة، فيتعيَّن على بلدان تطوير الصناعة، في حين تتخصَّص بلدان أخرى بالإنتاج الزراعي أو في قطاع الخدمات. ويؤكِّد ريكاردو واتباع المدرسة الكلاسيكية أن تبادل المنتجات والخدمات يؤدي عمومًا إلى رفع مستوى الرخاء العام.
هكذا، فإن الدول تتاجر في ما بينها للإستفادة من الميزات النسبية التي تتوافر نتيجة تفوق بعضها في إنتاج سلع معينة، خصوصًا بسبب وفرة عوامل الإنتاج الموجودة لديها، من أرض ومواد أولية ونفط ورؤوس أموال ويد عاملة ومهارات وخبرات .. إلخ. غير أن الكثير من الميزات النسبية ينشأ اليوم بالدرجة الأولى بفضل الجهد البشري، أو ما يسمى رأس المال البشري، وبالدرجة الأولى رأس المال المعرفي، الذي يحوِّل المعرفة إلى عامل الإنتاج الرئيس الأكثر أهمية في ظل اقتصاد المعرفة، وذلك أكثر مما توفره الظروف والثروات الطبيعية.
تمركز شركات الكمبيوتر حول وادي السليكون لا علاقة له بالأرصدة الطبيعية الضخمة من السيليكون، ولكن له علاقة بمركز أبحاث بالو ألتوPalo Alto Research Center الشهير التابع لشركة زيروكس Xerox، وبالقرب من جامعة ستانفورد، وبوصول شابين يدعيان هيوليت وباكارد، وهي من أكبر شركات إنتاج الحاسبات الشخصية وأجهزة الإتصالات والطابعات والكاميرات الرقمية والأجهزة الطبية والبرمجيات في العالم.
هكذا فإن وادي السيليكون كان يمكن أن يزدهر في أي مكان آخر. ويمكننا القول إن هناك أنماطًا من الميزات النسبية هي من صنع الطبيعة (كالثروة النفطية، مثلاً)، في حين أن هناك ميزات نسبية تكون من صنع الإنسان (رأس المال البشري والمعرفي)، ويمكن أن تتغيَّر مع الزمن. وتسمَّى هذه الظاهرة "الميزات النسبية السريعة التغير". هذا الأمر مهم جداً لفهم ظاهرة "هجرة الوظائف"[22].
الميزة النسبية القائمة على المعرفة والمهارة والقدرة على الإبتكار تتيح لمن يمتلكها "الإتجار بها" عبر الحدود، بواسطة وسائل الإتصال الإلكترونية الحديثة التي توفرها ثورة تكنولوجيا الإتصالات أي أنها خدمات يمكن تقديمها إلكترونيًا. وتزداد هذه الميزة النسبية إذا ما اقترنت بتدنٍ نسبي في الأجور، التي يقبل بها حاملو هذه الميزة. ومن البدهي أن البلدان المرشحة أكثر من غيرها لاستقطاب هذا النوع من الخدمات، أي التي يمكن أن تهاجر إليها هذه الوظائف، إنما هي تلك البلدان التي تتطوَّر فيها البنية التحتية لقطاع الإتصالات، والتي تنجح في تعليم قوتها العاملة وتأهيلها وتطويرها، كالهند والصين على سبيل المثال.
3 - الوظائف الأكثر عرضة لخطر الهجرة
ما هي أنواع الوظائف التي تواجه خطرالهجرة إلى الخارج (من الدول المتقدمة)؟ أشرنا، أعلاه، إلى بعض هذه الوظائف، ونقدِّم في ما يأتي بعض الأمثلة الإضافية على المهن والوظائف التي تتعرَّض أكثر من غيرها لخطر النقل إلى الخارج، إلى البلدان النامية، بحثًا عن العاملين الأكفياء الذين يرتضون أجورًا أدنى مما يطلبه أقرانهم في الدول الغنية.
تعتبر وظيفة البرمجة، أي وضع برامج الكمبيوتر على أنواعها والتي تشمل أنواع النشاطات والأعمال شتى، إحدى الوظائف الأكثر عرضة لخطر الهجرة، حيث أنها الأكثر التصاقًا بتكنولوجيا الإتصالات الحديثة ومنظومتها. فعلى سبيل المثال، تواجه شركات الطيران مشكلات عديدة حول توزيع المقاعد على متن الطائرة، وغالباً ما تتكبَّد الشركة خسائر كبيرة نتيجة سوء التوزيع والخلط بين المقاعد الخالية والمشغولة. وكانت الوسائل التقليدية لحل مسألة العلاقة بين العرض والطلب على المقاعد على الرحلة وإعادة تنظيم المقاعد تتم إما يدويًا أو بواسطة معادلة كمبيوتر خطية. وكان هذا العمل عبارة عن عملية معقَّدة ومتكرِّرة، ولا تجذب العاملين في الدول الأوروبية، فتعاقدت شركة لوفتهانزا، مثلاً، مع مهندسين ومبرمجين هنود عملوا على إعداد برامج خصيصًا لتوزيع المقاعد على متن الرحلة والتي كانت أنظمة الكمبيوتر التقليدية تظهرها مشغولة بالكامل.
ويُعتبر تصنيف الفهارس والمعطيات التجريدية مثالاً عن العمل المعقد والمتكررالذي يرتفع فيه الطلب على العاملين الماهرين. ويختص هذا العمل بالعلماء والباحثين الذين يقومون بأبحاث ودراسات علمية، إذ يحتاج هؤلاء إلى أن يبرمجوا بسرعة العمل الجاري ضمن نطاق تحقيقهم، قبل أن يتمكنوا من إنجاز أبحاثهم واختباراتهم. وكانت دور النشر الهولندية في الماضي تتخصَّص في إنتاج فهارس علمية تجريدية، وكان التصنيف يتم في أوروبا. أما اليوم فإن قسمًا كبيرًا من هذا العمل يجري في الهند حيث يقوم به اختصاصيون هنود يتمتعون بدرجة عالية من المهارة والمعرفة في نطاق اختصاصهم، وبأجر أدنى.
المجال الآخر لانتقال الوظائف إلى الخارج هو ميدان التصاميم الهندسية والفنية. فالعديد من الشركات الهندسية في البلدان المتقدمة يعهد اليوم إلى مهندسين من بلدان أخرى، في بلدان ذات اقتصادات ناشئة في الغالب، بوضع التصاميم والخرائط لمشاريع ومبان تعتزم تنفيذها، بناء على شروط ومواصفات تحددها سلفًا. كما أن الكثير من المصممين الفنيين في مختلف البلدان يضعون تصاميم فنية لسلع وكتب ومجلات وبطاقات ولوحات إعلانات وغيرها الكثير الكثير، وهم في منازلهم، بناء على طلبيات من شركات في بلدان أخرى.
كذلك الأمر في مجال الترجمة، حيث تتعاقد دور النشر العالمية مع مترجمين يتقنون اللغات الأجنبية من دول أخرى، نامية بالدرجة الأولى، لإنجاز ترجمات كتب ومؤلفات مختلفة. أما في ميدان الإعلام فصار أمرًا طبيعيًا أن يعمل مراسلون ومصوِّرون ومحقِّقون لحساب وكالات الإعلام وشركات التلفزة والصحف الغربية وهم في غالبيتهم الساحقة متعاقدون يعملون بالقطعة بأجور متدنية نسبيًا، ومن دون الضمانات الإلزامية والضرورية التي كان يمكن أن تدفعها تلك الوكالات والشركات في ما لو أوفدت مراسليها والعاملين لديها من مواطني الدول الغربية للقيام بتلك المهمات في الخارج.
كما أنه يتم اللجوء إلى نقل العمل إلى الخارج من أجل تصنيف مواد أبحاث المنظمة أو الشركة المعنية. فقد لجأت استثمارات المصارف في الولايات المتحدة لبعض الوقت إلى عمليات مكاتب الدعم الهندية لتزويدها الدراسات والتحاليل. ولم يكتف المحللون الهنود بوضع الدراسات والتحاليل وإرسالها، بل قاموا بإجراء المعالجة والمقارنة اللازمتين قبل إرسالها إلى زبائن المصارف.
أما على صعيد الطب فيلجأ بعض المستشارين في المستشفيات الأميركية اليوم إلى خدمات مكاتب متخصصة هندية، فيستطيعون عبر تقنية انتقال الصوت عبر بروتوكول الإنترنت إملاء الوصفات الطبية على المرضى، ثم يتم إعادة هذه الوصفات إلى الطبيب المعالج أو قسم صيدلية المستشفى. ويتمتَّع العاملون في الهند المشرفون على عملية كتابة الوصفات الطبية بالمؤهلات اللازمة للسكرتير الطبي.
تمتد إمكانات نقل الوظائف إلى الخارج إلى صناعة الأدوية. فالدواء الجديد يمر عبر إجراءات طويلة وصارمة ومكلفة قبل أن توافق عليه الدول الغربية. وقد يتطلَّب الأمر سنوات عديدة ما يضاعف من كلفة مركز الأبحاث والتطوير في شركة تصنيع الأدوية. وهنا تؤمن المختبرات الهندية الخبرة الطبية والمعدات اللازمة للقيام بهذه الإختبارات اللازمة للقيام بهذه الإختبارت بكلفة أقل بكثير.
في مجال آخر تنتشر على نطاق واسع وظيفة تقديم خدمات المحاسبة في كل من الهند والفيليبين التي تعتبر مصدرًا للمصممين والمهندسين. أما روسيا فقد ساهمت بعد انهيار الإتحاد السوفياتي في تقديم معارف مهندسي الفضاء الروس، الذين وظَّفوا خبراتهم الفريدة ومهاراتهم العالية في هذا المجال للزبائن العالميين خارج روسيا.
كانت تلك بعض الأمثلة على انتشار ظاهرة "هجرة الوظائف"، أو "نقل الأعمال إلى الخارج"، وهي ظاهرة تزداد انتشارًا، سواء من حيث شمولها ميادين جديدة ومتنوعة أكثر فأكثر، أو لبلدان عديدة، خصوصًا تلك التي تتميَّز باقتصاداتها الناشئة والصاعدة، حيث تتوأفر الكفاءات والمهارات العلمية والمتخصصة وتتطوَّر البنى التحتية اللازمة لتكنولوجيا المعلوماتية وشبكة الإتصالات العصرية.
يرى بعض الباحثين والمتابعين لظاهرة "هجرة الوظائف" ونقل الأعمال إلى البلدان الأخرى، أنها يمكن أن تساهم في تحويل اقتصادات ناشئة لبلدان كالهند والصين والفيليبين وغيرها، إلى اقتصادات تنتمي إلى العالم الأول. وإذا كان هذا الرأي يتسم بقدر كبير من التفاؤل، إلا أن مما لا شك فيه أن انتشار وتوسع هذه الظاهرة التي تقترن بنقل التكنولوجيا وتطور الأعمال وتعزيز فرص العمل، يساهم في تحسن الأوضاع المعيشية وفي رفع مستوى دخل قطاع واسع من مواطني البلدان التي تهاجر إليها تلك الوظائف.
يمكن لعملية إرسال الأعمال إلى الخارج (أو "هجرة الوظائف") أن تساهم في إعادة توزيع الثروة وانتشارها في العالم، بطريقة أكثر فاعلية من المساعدات التي تقدمها البلدان الغنية والمنظمات الدولية المتخصِّصة لدعم اقتصادات البلدان الأقل تطورًا. فإن المال في هذه الحالة يذهب مباشرة إلى الأفراد الذين تتوافر لهم فرص عمل جديدة وبأجور أعلى من مستوى الأجور في بلدانهم (وإن كانت أدنى مما في البلدان الغنية) من خلال عملهم لحساب شركات أجنبية، بدلاً من أن يتم اختلاس قسم لا يستهان به من قبل أصحاب النفوذ وعبر المنظمات والهيئات الحكومية في البلدان التي تتلقى الدعم. إن هذا الدخل المتأتي من القيام بأعمال لشركات أجنبية يمكن أن يقدم لبعض مجتمعات بلدان العالم، وتحديدًا لبعض الشرائح الإجتماعية والفئات من أصحاب الكفاءات فيها، فرصة التمتع بمعايير وظروف معيشة العالم المتطور المستدامة.
إن استمرار ظاهرة هجرة الوظائف وتوسعها من الدول الغنية إلى الدول الأقل تطورًا والفقيرة، يمكن أن يؤدي مع الوقت إلى تبدل تدريجي في المواقع الإقتصادية النسبية لكل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. فسوق العمل الأميركية الأكثر مرونة وسيولة يحتمل أن تتكيَّف على نحو أكثر سرعة وأكثر نجاحًا مع التغيُّرات الجارية في مواقع العمل والتعليم من سوق العمل الأوروبية الأكثر جمودًا. كما أن هذه الظاهرة لا بد أن تحسِّن المواقع الإقتصادية لعدد من البلدان التي تستقطب أكثر من غيرها هذه الظاهرة، وأن تعزِّز من قدرتها على التقدم خطوة أخرى باتجاه الدول المتقدمة.
[1] - أنظر في هذا الصدد: د. أحمد أبو زيد، أغراب في أوطان أجنبية، مجلة "العربي"، الكويت، العدد 581، 2007، ص 30.
[2] - هذه الأرقام مستقاة من تقرير منظمة العمل الدولية للعام 2005
[3] - د. أحمد أبو زيد، أغراب في أوطان غريبة، مصدر سابق، ص 31
[4] - أنظرRasmussen H.K, “Immigration Policy in Europe”, Copenhagen,1977, p.139 - 141
[5] - أنظر: Tendances des migrations internationales, p 2004
[6] - أنظر: المصدر نفسه
[7] - أنظر:"World Economy and International Economic Relations", Gardariki, Moscow, Edited by R. I. Khasbulatov, Part I, p 570 - 572.
[8] - المصدر نفسه.
[9] - المجاعة الكبرى في إيرلندا التي تفشَّت ما بين العامين 1845 و1849، وقد نجمت عن السياسة الإقتصادية الهدامة التي اتبعتها بريطانيا، وأدت إلى انتشار وباء "فطر البطاطا" Phytophthora infestans)) الذي يصيب حبة البطاطا بالتعفن، ومن ثم يصيب التربة بالمرض. فقد أدت السياسة الإقتصادية التي اتبعتها سلطات الإحتلال البريطانية في مطلع القرن التاسع عشر، إلى انتقال مساحات واسعة من الأراضي الإيرلندية إلى ملكية اللوردات الإنكليز الذين كانوا يعيشون في إنكلترا، ولكنهم دأبوا على جباية ضرائب باهضة جدًا من الفلاحين الإيرلنديين لقاء السماح لهم باستغلال هذه الأراضي. ونتيجة لذلك، كانت الغالبية الساحقة من سكان إيرلندا (حوالى 6/7 السكان) تعيش في فقر مدقع، وكانت زراعة البطاطا هي الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. وقد أدى تفشي الوباء إلى تلف كل محصول البطاطا في البلاد، وإلى انتقال العدوى إلى التربة، بحيث كانت محاصيل السنوات التالية سيئة أيضًا. فانتشرت المجاعة الكبرى في البلاد ما دفع الإيرلنديين إلى الهجرة شبه الجماعية.
[10] - د. أحمد أبو زيد، أغراب في أوطان أجنبية، مصدر سابق، ص 31
[11] - أنظر : Stalker P. “Workers without Frontiers: The Impact of Globalization on International Migration”, Boulder, 2000
[12] - د . طارق يوسف، دور العمالة المهاجرة المتغيِّر في التكامل الإقتصادي العربي، فصل من كتاب التكامل الإقتصادي العربي - التحديات والآفاق، إصدار صندوق النقد العربي، أبو ظبي، 2005، ص 165.
[13] - أنظر: عبد الحليم فضل الله، تحويلات المغتربين إلى لبنان ... مقاربة مختلفة، جريدة الأخبار، بيروت, 10 تشرين الثاني 2007.
[14] - ورد هذا الإقتباس في مقالة ألان س. بلندر، الثورة الصناعية القادمة: هجرة الوظائف، المنشورة في عدد أذار – نيسان 2006 من مجلة "Foreign Affairs"، والتي نشرت ترجمتها العربية في مجلة "الثقافة العالمية"، الكويت، العدد 146، 2008، ص 17.
[15] - كينيشي أوهمي، الإقتصاد العالمي، المرحلة التالية؟ تحديات وفرص عالم بلا حدود، الترجمة العربية، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2006، ص 186.
[16] - أنظر: مجموعة من الباحثين، تنمية الموارد البشرية في اقتصاد مبني على المعرفة، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبو ظبي، 2004، ص 270 – 271.
[17] - أنظر: روبين ميريديث، الفيل والتنين، صعود الهند والصين ودلالة ذلك لنا جميعًا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2009، ص 113 - 114.
[18] - أنظر في هذا الصدد: د. نبيل علي و د. نادية حجازي، الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعرفة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2005، ص 428 – 430.
[19] - أنظر خصوصًا في هذا الصدد: دراسة ألان بلندر المذكورة ص ص 17 و24، وكذلك د. نبيل علي، المصدر السابق، ص 420.
[20] - أنظر: روبيم ميريديث، الفيل والتنين، مصدر سابق، ص 110.
[21] ) كينيشي أوهيمي . الإقتصاد العالمي . المرحلة التالية ؟ ... مصدر سابق . ص 208
[22] - أنظر: ألان بندر، مصدر سابق، ص 18 – 19.
Migration of “job opportunities” as a phenomenon of the knowledge economy
The term movement of productivity factors on the international level signifies precisely in economical sciences the transfer of capitals across borders for direct and indirect investments, different loans in addition to the various monetary transfers.
This term used to mean also the movement of work that is the transferor migration of the work force toward other countries in search for job opportunities.
The migration of work force in search for work, which started from ancient times tantamount to the process of supply and demand between third world societies and societies of developed countries.
Societies of developing countries used to offer the surplus of their work force that is unable to find sufficient job opportunities in order to ensure a decent life. However, societies of wealthy nations suffered from insufficient work force which guarantees meeting the required production levels in order to secure the permanence of their development and progress.
Nowadays, when we tackle the movement of productivity factors issue and especially the migration of the work force we find it inevitable to discuss a new phenomenon which emerged in the last couple of years under the influence of increasing economic globalization, huge developments in the field of information technology, the internet revolution and what is now called the knowledge economy.
The term offshoring or offshore outsourcing means the migration of job opportunities from wealthy nations to the less developed one without its association with the migration of the individuals performing these jobs. This can be considered as a reserve migration where jobs, or more precisely certain jobs related to the development of knowledge which past time when the competent employees had to migrate in search for a job that best suits their competences or qualifications.
In this study we will attempt to approach this new phenomenon in modern economy.
In order to achieve this objective we will divide the research in 3 themes.
The first theme will tackle the concept of work movements or work force movement across the borders, the incentives of labor migration and the phases of its development.
The second theme is dedicated to study the economic effects of the International labor migration and it will also discuss the huge effects of the emigrants’ money transfers over the economies of their countries while referring to Lebanon as a distinguished model of the phenomenon.
The third theme will discuss in details the Jobs migration phenomenon by describing it as a new phenomenon in modern economy (knowledge economy).
L’émigration du travail: un des phénomènes de l’économie du savoir/l’influence de la révolution informatique et de la technologie des communications sur le travail.
La discussion sur «les facteurs de l’industrie» au niveau international, signifie en science économique le transfert des capitaux à travers les frontières pour un investissement direct et indirect ainsi que les différents crédits et les transferts en tout genre.
L’émigration de la main d’œuvre à l’étranger à la recherche du travail signifie une opération d’offre et de la demande entre les sociétés du Tiers-monde et les sociétés développées.
De nos jours, en abordant le concept de l’activité des facteurs industriels, surtout l’émigration du travail, il est nécessaire de nous arrêter sur un nouveau phénomène datant des dernières années sous l’influence de la mondialisation économique croissante ainsi que les évolutions énormes dans les domaines de la technologie des communications et de la révolution Internet et ce qu’on appelle «l’économie du savoir». Nous voulons dire par cela l’émigration des emplois des pays riches vers les pays moins développés sans que ce concept soit relié a l’émigration des individus qui accomplissent leur travail que l’économie moderne perçoit.
L’auteur effectue dans cette étude une approche de ce nouveau phénomène dans l’économie moderne afin de réaliser ce but, nous cherchons dans cette recherche à:
-Aborder le concept des influences économiques de l’émigration internationale du travail, en s’arrêtant sur la grande influence pour le transfert de l’émigration dans leur pays d’origine et son influence sur les économies de ces pays, en signalant que le Liban est un modèle spécial pour ce phénomène.
-Cette recherche s’arrête en détail sur le phénomène : l’émigration du travail en la décrivant comme nouveau phénomène de l’économie moderne