- En
- Fr
- عربي
بين الأمس واليوم
ذاكرة الأجيال وبهاء زمن الكبار
في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كانت الإذاعة اللبانية «ملكة» الأثير، وكانت رفيقة النهارات والأمسيات. فـ«الترانزستور» الذي خلف الراديو الأسود الكبير المتصدّر الصالون، بات يتنقل من مكان إلى آخر في المنزل. أحيانًا يستقر على حافة نافذة أو شرفة، وأحيانًا يرافق العاملين في الحقول نهارات طويلة.
بؤرة اشعاع
ذلك الزمن الذي يحنّ إليه من عرفوا جماله، كانت الإذاعة اللبنانية شريكًا أساسيًا في صنعه. فهي كانت بؤرة إشعاع فني وثقافي وأدبي، أروقتها تعجّ بكبار المؤلفين والملحنين والكتاب والشعراء والمطربين والمطربات. في تلك الإذاعة قدّم حليم الرومي إلى عاصي الرحباني نهاد حداد الصبية التي تعمل في الكورس والتي أعطاها الرومي إسم فيروز، فكان ما كان من فنّ وجمال وإرث حضاري... وفي تلك الإذاعة اجتمع عدد من الموسيقيين بهدف إطلاق الأغنية اللبنانية والخروج من قوالب الغناء الشائعة آنذاك. فمع الأخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق سكر وفيلمون وهبي وتوفيق الباشا... بدأت تتبلور ملامح أغنية لبنانية، جذورها من أرضنا وعاداتنا وأنماط عيشنا، تلك الأغنية ما لبثت أن أشرقت في الوجدان وعبرت الحدود بصوت فيروز بشكل خاص، وبمجموعة من الأصوات الأخرى الجميلة.
من أقدم الإذاعات العربية
تعتبر الإذاعة اللبنانية من أقدم محطات الإذاعة العربية، أنشئت في العام 1938 خلال فترة الانتداب الفرنسي، وفي ذلك الحين سميت «راديو الشرق». كان مقرّ الإذاعة في السراي الحكومي، وكان ألبير أديب أول من تولى إدارة القسم العربي فيها، ومعه عيّن الشاعر الكبير سعيد عقل مذيعًا باللغة العربية.
في نيسان 1946 تسلّمت الحكومة اللبنانية من الفرنسين الإذاعة التي ألحقت بوزارة الأنباء والسياحة تحت إسم محطة الإذاعة اللبنانية.
في كانون الثاني 1958 وضع حجر الاساس لدار الإذاعة اللبنانية الكبرى في الصنائع. وتولّت شركة Simens الألمانية تنفيذ المشروع الذي يضّم استديوهات ومكتبة تسجيلات ومحطة للإرسال في عمشيت، تبث على موجتين: متوسطة للبرامج العربية وقصيرة للبرامج الغربية.
بين الستينيات والسبعينيات في القرن الماضي، عرفت الإذاعة اللبنانية عصرًا ذهبيًا بكل المقاييس، وتخطى نجاحها حدود الوطن، ليشّع في العالم العربي.
من هنا انطلقوا
من استديوهاتها انطلقت أهم أصوات المطربين اللبنانين والعرب، فالاستديو الكبير فيها كان الأهم في الدول العربية. في الإذاعة اللبنانية سجّلت فيروز مئات الاغاني، وفيها غنّت أم كلثوم «يا ظالمني» لأول مرة، في حفلة مباشرة على الهواء ما زال تسجيلها محفوظًا. ومن استديوهاتها أيضًا صدح صوت محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش، بإلاضافة إلى وديع الصافي وصباح وزكي ناصيف ونور الهدى ونجاح سلام وسواهم.
عبر أثير الإذاعة اللبنانية تعرّف اللبنانيون إلى فولكلورهم مشذبًا ومهذبًا في قوالب غنائية وتمثيلية راقية، واستمتعوا بالميجانا والعتابا وسائر أنواع الغناء البلدي الآتية من حقولهم ووديانهم وأعراسهم وأعيادهم. وإلى كبار المطربين والملحنين والشعراء، تسكن ذاكرة الإذاعة أسماء مذيعين ومذيعات، شكلّ كل منهم مدرسة في الإلقاء والأداء والثقافة، وأسماء ممثلين وكتّاب دراما رافقوا المستمعين وذاعت شهرتهم في العالم العربي.
من سعيد عقل إلى شفيق جدايل (عميد المذيعين العرب)، وناهدة فضلي الدجاني، ورياض شرارة، وحكمت وهبة، وسعاد العشي وناهد وشريف الأخوي وسواهم، أسماء صنعت نجوميتها بالجهد والمثابرة والثقافة، وانطلق العديد منها إلى تلفزيون لبنان في ما بعد، ومن ثمّ إلى إذاعات وتلفزيونات خاصة.
التمسك بطيف الوحدة
مع اندلاع الحرب في لبنان أصبح المجتمع مجتمعات، والهوية هويات، حاولت الإذاعة التي كان اسمها قد أصبح «إذاعة لبنان»، أن تتمسك بطيف الوحدة، وأن تتبنى خطابًا مقبولًا من الجميع.
المواطنون الذين عايشوا تلك الحقبة يتذكرون على الخصوص صوت شريف الأخوي وهو يصف حال الطرقات: سالكة وآمنة، أو سالكة بحذر، قنص متقطع، أو إطلاق نار كثيف... هذه العبارات حلت بدلًا من تلك التي كان يطلقها الأخوي في برنامج «نزهة» متجولًا في المناطق اللبنانية، معرّفًا المستمعين بقراها وبلداتها ومدنها، بسواحلها وجبالها وعاداتها وتقاليدها وأعيادها.
كان أثير الإذاعة اللبنانية شريكًا في صنع اللحمة والهوية، لكنه أصبح أسيرًا يناضل لحفظ ما تبقى. مع الحرب نبتت الإذاعات في الاحياء والزواريب، وصار لكل جهة إذاعتها ولسان حالها. «انفخت الدّف وتفرّق العشاق»... وفي ظلّ الدعم الذي لاقته الإذاعات الناشئة تراجعت إذاعة لبنان. محطات الإرسال تضررت، وكل شيء تغيّر. لكن الجهود المخلصة ظلت تحاول المحافظة على الإذاعة كجسر تواصل بين اللبنانيين حتى في أكثر الظروف قسوة.
الأرشيف: درّة الإذاعة والذاكرة
أرشيف الإذاعة هو كنز كنوزها، فهو يوصف بالأضخم بين المكتبات الصوتية في الشرق الأوسط. ما هي أحوال الأرشيف اليوم؟
يجيبنا مدير الإذاعة الفنان محمد ابراهيم بأن العمل جارٍ منذ العام 2008 (تاريخ تسلّمه الإذاعة) على تحويل 21 ألف شريط ربل من الأغاني، و45 ألف شريط مماثل من البرامج القديمة، إلى نسخ رقمية. يحتاج العمل إلى نحو 4 سنوات لينجز بالكامل، أعطيت الأولية للأغاني ومن ثم البرامج.
يقسم الأرشيف إلى ثلاثة أقسام: الأغاني، البرامج القديمة ومتحف الأصوات. في القسم الأخير تستعاد أصوات رؤساء جمهوريات وقادة وشخصيات في مناسبات ومحطات تاريخية.
في الورشة التي يشهدها الأرشيف حاليًا، أعيد تقسيمه، وقد بات يضم مزيدًا من العناوين: الأغاني، المعزوفات، البرامج، المناسبات والأعياد، المسرحيات والإسكتشات... وداخل كل قسم توجد عناوين عديدة، مثلًا في قسم الأغاني، نجد الأغاني العربية والأغاني الأجنبية والبلدي...
يعتبر أرشيف إذاعة لبنان ثورة وطنية فهو يؤرخ عقودًا من تاريخ لبنان، سياسيًا واقتصاديًا وأدبيًا وفنيًا، بالإضافة إلى ما يحتويه من مواد أخرى نادرة، ولذلك فهو بمثابة منجم للباحثين والطلاب الجامعيين يغرفون من كنوزه. في هذا السياق يقول الأستاذ محمد ابراهيم إن أبواب الأرشيف مفتوحة للأبحاث الأكاديمية، وقد استفادت منه رسائل جامعية كثيرة. في المقابل، يقال إن مواد كثيرة فقدت من الأرشيف خلال سنوات الفوضى الطويلة. ابراهيم يردّ على ذلك بالقول: الأرشيف محفوظ ولا يمكن أن تمتد إليه يدّ. ربما أخذت منه بعض المواد أو النسخ خلال الحرب، هذا وارد، لكن القول إنه سرق ونهب، أمر غير صحيح.
كيف يمكن البحث عن أغنية ما مثلًا في الأرشيف؟ توضح المسؤولة عنه أن البحث يمكن أن يتمّ وفق إسم المغني أو الأغنية، وأيضًا وفق إسم الشاعر أو الملحن. إذًا ثمة عدة أبواب للوصول إلى المطلوب.
صوت فيروز هوية الإذاعة
من هو الفنان الذي له أكبر عدد من الأغاني في الإذاعة؟ إنها فيروز من دون منازع، إذ يبلغ عدد أغانيها نحو 800 أغنية، يليها وديع الصافي فصباح. ويقول ابراهيم، صوت فيروز هو أشبه بـ«لوغو» بالنسبة إلى إذاعة لبنان، إنه هوية الإذاعة.
مع صوت فيروز يشرق الصباح، هذا ما كان وهذا ما هو قائم الآن، الفترة المخصصة للأغاني اللبنانية، وتلك المخصصة للبلدي وللغناء العربي، ما زالت قائمة، بالإضافة إلى تشكيلة من البرامج المنوّعة التي يتحدى إبراهيم أن تكون لإذاعة أخرى ما يحاكيها، من حيث المساحة المخصصة للثقافة والمستوى.
الإرسال وأمور أخرى
لكن، ماذا عن البث، هل تصل الإذاعة بوضوح إلى مختلف المناطق؟ يجيب عن هذا السؤال قائلًا: نعمل على تقوية البث حاليًا. ماذا عن العوائق؟ يوضح ابراهيم أن الإذاعة تواجه نقصًا حادًا في الكادر البشري، في بعض الدوائر لدينا ثلاثة موظفين أو أربعة في حين أننا نحتاج إلى إثني عشر منهم، منذ ثلاث سنوات تم توظيف 20 شخصًا، لكننا في حاجة ملّحة إلى توظيف ما بين 50 و60.
على مستوى التجهيزات، لا توجد مشكلة، لدى الإذاعة أفضل الاستديوهات والمعدات، فنانون كبار ما زالوا يأتون إلينا ليقوموا بالتمارين ومن بينهم زياد الرحباني.
في إذاعة لبنان سبعة استديوهات، وبمواصفات لا تضاهيها أي استديوهات أذاعية في لبنان. في العام 2008 شهدت الإذاعة العريقة ورشة تأهيل، لكن الشركة العالمية (شركة سويسرية- المانية) التي أشرفت على العملية، لم تمسّ نظام العزل مثلًا، نظرًا الى جودته وكفاءته، علمًا أنه قائم منذ العام 1960.
الهوية والدور
تتمسك إذاعة لبنان بهويتها وبدورها كمؤسسة تعمل على ترسيخ حسّ المواطنة عند اللبنانين. وتحرص على أداء هذا الدور من خلال مجموعة برامج، ومن خلال فترات البث المباشر (ست ساعات يوميًا، موزعة على ثلاث فترات)، وهي تفسح مجالًا واسعًا للتفاعل مع المواطنين.
في السنوات الأخيرة نجحت الإذاعة في تثبيت حضورها بين الإذاعات العربية بعد غياب استمر سنوات بسبب الظروف المعروفة. فما بين 2009، 2011 شاركت الإذاعة في مهرجان الأغنية العربية والمقطوعة الموسيقية وقطفت الجائزة الأولى للسنوات الثلاث على التوالي.
برنامج الجندي
قبل أن نغادر الإذاعة، نسأل عن «برنامج الجندي»، البرنامج الذي رافق اللبنانيين في الستينيات والسبعينيات وكان أحد وجوه الجيش الحضارية. يرافقنا ابراهيم في جولة ونمرّ بالاستديو الخاص بالبرنامج الذي أعادت مديرية التوجيه- قيادة الجيش إحياءه. نلتقي من عائلة البرنامج الزملاء أمير هليّل، عماد ميرزا وحياة حرب، هم يشعرون أنهم في بيتهم، ومدير الإذاعة فخور بأن البرنامج يخرج من أثيرها أولًا، قبل أن تبثه سائر الإذاعات اللبنانية.
وقّف يا اسمر
بمرورنا في الأرشيف حيث تنتظم الذكريات كصفوف العسكر، يهدينا إبراهيم باقة من تسجيلات فيروز القديمة: «وقف يا اسمر»، «القدس»، «خايف أقول»، «وعاللومة» بصوت وردة الجزائرية.
هل استمعتم إلى وردة تغني عاللومة اللومة اللومة؟ اسمعوها من إذاعة لبنان. وهل عرفتم صوت فيروز في بهاءاته الأولى؟ تعرّفوا إليه عبر أثير هذه الاذاعة.