- En
- Fr
- عربي
من جيل إلى جيل
ترتبط الشهادة من أجل الوطن بأسمى المشاعر الإنسانية وأنبلها، ويرتقي ذكر الشهداء في الوجدان الجماعي إلى مرتبة القداسة. لذلك تقام لتكريمهم الاحتفالات وتخلّد ذكراهم النصب والتماثيل التي تشهد لتضحياتهم. لكنّ التكريم الفعلي للشهداء لا يكون فقط بإقامة الشعائر، وإنما بحفظ تضحياتهم من خلال روايتها وتناقلها من جيل إلى جيل، لتكون عنصرًا من عناصر حماية الاستقرار والسلم الأهلي، ومنع تكرار التجارب الأليمة.
الجيش في المجتمع المتعدد
من خلال دراساته العديدة كباحث وكأستاذ جامعي، يؤكد الدكتور أنطوان مسرّه (عضو في المجلس الدستوري، ورئيس كرسي الأونيسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف) أهمية دور الجيش في المجتمع المتعدد، كحامٍ للسلم الأهلي. ففي المجتمعات المتنوعة البنية والمهدّدة بالحرب الأهلية ثمة عناصر توحيدية، والجيش احد أهم هذه العناصر. فلكي يكون النسيج الاجتماعي متماسكًا، يحتاج إلى نظام يؤمن الدفاع عنه في مواجهة التدخلات الخارجية التي تهدف إلى تفكيكه. لذلك فإن آليات الشرذمة والتقسيم والحرب الداخلية في المجتمعات المتنوعة، تبدأ بشلّ الجيش الوطني حامي الوحدة.
ووظيفة الجيش كحامٍ للسلم الاهلي وللاستقرار لا ترتبط فقط بفرضه الأمن من خلال قوة الردع التي يتمتع بها، وإنما تتعداها إلى ما يمثله في إدراك المواطنين كتجسيد لفكرة النظام، وإلى إسهامه في عملية التنشئة الاجتماعية. فالمؤسسة العسكرية تمارس عملية التنشئة داخل صفوفها، وتنقلها إلى المجتمع عبر العسكريين والمجندين، وعبر وسائل الإعلام.
ويذكر الدكتور مسرّه في هذا الإطار تجربة خدمة العلم في لبنان، التي اعتمدت لفترة، ثمّ توقف العمل بها من دون ايجاد بديل. وهو يرى أنه من الضروري العودة إلى نظام خدمة العلم الذي يساهم في بناء اللحمة وترسيخ الوحدة ومبادئ العيش المشترك.
كي لا تتكرر التجارب الأليمة
ويتساءل مسرّه: كيف نبني الاستقرار والسلم الأهلي الثابت ونضمن دور لبنان ورسالته خصوصًا بالنسبة الى الأجيال القادمة؟ إن الحروب التي شهدها لبنان أصابت من عايشوها بصدمة، لكنّ هذه الصدمة عززت وعيهم دور الجيش كحامٍ للسلم الأهلي والاستقرار. أما بالنسبة الى شباب اليوم وأبنائهم فليس لدينا ضمانة تؤكّد أن ما حدث لن يتكرر، فما العمل؟
ويتابع: لا بدّ من بناء الذاكرة لتحصين جيل الشباب لكي لا تعود التجارب الأليمة. والذاكرة لا تتكون فقط عبر كتب التاريخ وتعليمه... عادة ما يستقي الإنسان ذاكرته التاريخية من محيطه ومن الأحداث. وفي لبنان لدينا فجوة بين التاريخ المكتوب في الكتب وبين الذاكرة المعيوشة، بالتالي يجب ردم الهوة بين الاثنين. ينقصنا علم الذاكرة. الذاكرة الجماعية هي التي تحمي سويسرا اليوم. فتاريخها يعكس كلفة النزاعات وفوائد التضامن وخطورة التدخلات الخارجية. ويضيف: الجيش معني مباشرة بالسلم الأهلي وببناء ذاكرة جماعية مشتركة انطلاقًا من دوره التوجيهي التربوي. فالمؤسسة العسكرية تضمّ عددًا كبيرًا من المواطنين من جميع المناطق والطوائف، وبالتالي فهي تستطيع إنتاج نماذج مميزة ورائدة في الثقافة المدنية. وللجيش تجارب غنية لكنّها غير مروية، يجب الإفصاح عنها لتساهم في بناء ذاكرة جماعية للّبنانين، وتضحيات الجيش وشهدائه جزء أساسي من هذه الذاكرة.
واخيرًا يقول مسرّه: تكريم شهداء الجيش لا يكون فقط بالاحتفالات، بل يجب أن يتعداه إلى تصريح يعلنه المواطنون بصوت واحد: «جيشنا هو دفاعنا»، لا سيّما بعد ما عاشه من معاناة وتجارب لحماية السلم الأهلي. وهذه يجب أن تنتقل إلى الأجيال القادمة. يجب أيضًا أن يعود نظام خدمة العلم، وأن يصار إلى إجراء دراسات وأبحاث تنشر من خلالها خبرات الجيش المحفوفة بالمصاعب والدماء والتضحية والوفاء، وأن تخلّد في متاحف للذاكرة.