- En
- Fr
- عربي
الجيش في عيونهم
استقلال 2022
عسكري كان والدي، يشارك في العروض العسكرية ببزّته المرقّطة. يغادر المنزل باكرًا جدًا في عيدَي الجيش والاستقلال، ونتبعه نحن مع والدتي نلبس بدلاتنا العسكرية ونسرع للوصول كي نقف في الصفوف الأمامية وتتسنّى لنا فرصة رؤيته، على أمل أن يستطيع الوقوف إلى جانبنا لبعض الوقت...
مشهد تكرّر لسنوات طوال، الطريق نفسه. السير دائمًا هرولة للوصول باكرًا. المشاعر نفسها سنة تلو سنة، لا تتبدّل ولا تنقص، بل ربما تزداد عمقًا، فتسري القشعريرة في أجسادنا الصغيرة ونحن ننظر بفخر إلى صفوف العسكر... حب الوطن جرى في عروقنا منذ الصغر، تربينا على حب المؤسسة العسكرية ونشأنا على حب الوطن. كيف لا وأبي «وطن»، وطن علّمنا أن تحية «الوطن» على الحاجز وفي الطرقات وأينما كان، هي واجب نقوم به بكل حب واحترام.«الوطن» كان وما زال رمز الأمان بالنسبة لنا. كنّا نلتف حوله ننظر في عيون الحشود مزهوين نقول من دون كلمات: «هذا والدي، هو الوطن، هو الأمان».
المشهد والذكريات
ذكريات تعود بكل زخمها في كل عيد استقلال عندما أرى من نافذة مكتبي تلامذة المدارس ينتظمون في صفوف طويلة محاولين تقليد خطوات العسكر، يحملون الأعلام ويرتدون البزات الصغيرة المرقّطة وينشدون النشيد الوطني والأغاني المخصصة للجيش والوطن، ويتجهون إلى الثكنات العسكرية لمعايدة حماة الوطن ومصافحتهم، والتجوّل فيها للتعرف على الحياة العسكرية عن كثب.
غاب المشهد الجميل في السنتين الماضيتين بسبب جائحة كورونا، وكاد أن يغيب هذه السنة أيضًا بسبب ارتفاع كلفة النقل والأزمة التي تعيشها البلاد، لكن التلامذة والطلاب توافدوا بالمئات من مدارس لبنان إلى ثكنات الجيش. وفود من: مدرسة بصاليم الرسمية، الصليب الأقدس، الملكارت، القديس يوسف، ثانوية الأمير، مبرات الخوئي، سيدة لورد لراهبات العائلة المقدسة المارونيات، الإنجيلية الأرمنية وغيرها، زاروا وزارة الدفاع الوطني وقاعدة بيروت الجوية وثكنة داني حرب في غوسطا (التابعة للفوج المجوقل) وفوج الأشغال المستقل وغيرها من القطع. ألقوا كلمات في ذكرى الاستقلال، ونفذوا عروضًا مسرحية تحاكي المناسبة وتدعم بالسيناريو الخاص بها الوطن وحماته، وحملوا لافتات تحكي مشاعرهم: «وطني يا حكاية بالعز مضوايي، لبنان الكرامة والشعب العنيد، لبنان يا قطعة سما، كلنا للوطن للعلى للعلم»... جيل فتي كلّه إيمان بنهوض الوطن رغم الأزمات وموجات الهجرة المستمرة. حلمه بلبنان لا ينطفئ، وأمله مدعوم بالصبر والإصرار.
حب الوطن والحلم والأمل
فتيان وفتيات يعيشون على أرض الواقع، نعم، فهم واعون أنّ تحقيق حلم النهوض لن يكون في المدى القريب، لكنهم مدركون أنّهم بعلمهم وشهاداتهم وسواعد أبناء المؤسسة العسكرية سيحققون التغيير والنجاح. لسان حالهم يقول: لا مجال للتراجع، ما دام الجيش يحمينا، لم ينكسر عسكريوه يومًا ولن ينكسروا.
من بين هذه العروض التي شهدتها الثكنات عرض نفّذه ٥٥٠ تلميذًا من مدرسة الملكارت في اللويزة باتجاه وزارة الدفاع الوطني يرافقهم أساتذتهم ويقودون خطاهم. مسيرة ليست بقصيرة، لكن المشاركين فيها كانوا يسيرون بفرح واندفاع. وضعوا لدى وصولهم إكليلًا من الزهر على ضريح الجندي المجهول واستمعوا إلى معزوفات موسيقية. مسيرتهم كانت بمثابة تحية إجلال وإكبار للعسكريين الشهداء ولمن هم في الخدمة الفعلية.
مدير المدرسة السيد سامي متري اعتبر أنّ مثل هذه الخطوات متى طُبّقت في المدارس سنويًا تنمّي في أعماق التلامذة روح الوطنية وحب الوطن واحترام مؤسساتهم، وهذا الحب سيضاعف الأمل بغد مشرق ومستقبل أفضل.
بدورها، استفاضت الأخت جوزيان البزعوني مديرة مدرسة سيدة لورد لراهبات العائلة المقدسة المارونيات- أنطلياس في توجيه التحيات إلى المؤسسة العسكرية وأبنائها، المؤسسة التي تحمي الوطن بالدماء الغالية والعرق النبيل. حبّها للجيش يتجسّد في إصرارها على زيارة الثكنات العسكرية برفقة طلابها مهما كانت الظروف صعبة.
الصغار وحكايات العسكريين
تنقلت الأخت جوزيان من مدرسة إلى أخرى خلال سنوات طويلة، وحيثما حلّت زرعت في نفوس تلامذتها حب الجيش والوطن، وحرصت على مرافقتهم إلى الثكنات سواء كان الطقس جيدًا أو ممطرًا. ارتفاع كلفة التنقل والجهد الذي تقتضيه قيادة مجموعة كبيرة من التلامذة، لا يشكلان عائقًا بالنسبة لها، طالما أنّ الهدف هو قضاء يوم مع العسكريين. تؤكد أنّ تأثير هذا اليوم كبير في نفوس الصغار، فالتلامذة يعيشون حكايات العسكريين ويختبرون نمط عيشهم، فيستمدون منهم الإيمان بالوطن وحب المؤسسة العسكرية والنظر إلى الغد بعين ملؤها الأمل والعنفوان والإقدام والإصرار. عالم الانضباط والكرامة الذي يعيش العسكريون في ظله مثال يجب على المدارس إظهاره لتلامذتهم فيكونون مثلهم الأعلى برأيها. وهي تقول: عندما يزور أبناؤنا الثكنات العسكرية يلتقون شبابًا تركوا كل شيء وراءهم وتكرسوا للدفاع عن الوطن، اختاروا البارودة رفيقة أيامهم، والبزة العسكرية لباسهم، لباس أبعد عنهم وبإرادتهم الاستمتاع بصخب الحياة وملذاتها، فاستبدلوه بلباس الفخر والعزة والدفاع عن أرضهم المقدسة، تركوا وراءهم الغالي والرخيص فداءً للوطن وأهله». وتضيف: «في الثكنات العسكرية ولو لفترات وجيزة يعيش تلامذتنا مع العسكريين، يأكلون معهم طعامهم المتواضع، يتشاركون معهم الحلم بالغد، يتعرفون على حياتهم داخل الثكنات وينفذون التدريبات العسكرية، وتتسنى لهم فرصة اكتشاف أنواع من الأسلحة لم يروها من قبل. خطوات توقظ أحلامهم بالبطولة فينشأ بعضهم وفي سلّم أولوياته الانخراط في الحياة العسكرية، وأنا فخورة أنّني شجعت عددًا من تلامذتي على الانخراط في الحياة العسكرية، وهذا وسام على صدري.
سأكتب عن شهداء وأبطال
سأستمر على هذا النهج، تقول الأخت جوزيان مؤكدة: «لن أتوقف عنده مع بلوغي مرحلة التقاعد لأنّني عندها، سأتفرغ للكتابة عن مسيرة عسكريين أبطال وشهداء كان لي شرف التعرف إليهم بعد معركة نهر البارد وغيرها من المحطات العسكرية. محطات طبعت في ذاكرتي ولن أنساها ما حييت، حب المؤسسة العسكرية عندي إدمان، إذا فتح لي المجال أن أتحدث عمّا أكنّه لها لن تكفيني صفحات طوال».
وتتابع قائلة: «زرنا هذه السنة ثكنة المجوقل، وسنزور فوج الأشغال المستقل عندما نبدأ بتعريف الطلاب على المهن، فهو فوج مثالي للمهن المتنوعة في ثكنة واحدة وأشغال كثيرة تنفّذها سواعد ترتدي بزة موحّدة ويلتفّ حولها أبناء الوطن الذي لن ينهض إلّا من خلال الجيش».
ود ومحبة لا تبدلهما الأيام
من جهته أكد مدير المؤسسة اللبنانية الحديثة- مدرسة الأب ميشال خليفة، السيد جان سيباستيان عبود أنّ ما يربطه بالمؤسسة العسكرية هو علاقة ود واحترام لن تتبدل مع الأيام. يُخبرنا أنّه لمَس لمس اليد خوف أبناء المؤسسة ضباط وعسكريين على المدنيين بعد انفجار المرفأ. في ذاكرته مشاهد لعسكريين من فوج الأشغال المستقل الذين هرعوا لمساعدة المواطنين في محيط المرفأ. السيد عبود يعتبر أنّ زيارته مع تلامذته لهذا الفوج في ذكرى الاستقلال هي شرف له. وهو يفتخر بانضباط التلامذة خلال الزيارة وبالاحترام الذي أظهروه للعسكريين وبمدى التركيز الذي أبدوه خلال الاستماع إلى الشروحات التي قدمها العسكريون. فضول واهتمام سوف ينعكسان بكل تأكيد حبًا واحترامًا لا يتزعزعان، ولا يتبدلان مهما تقلبت أحوال البلد، فحب الوطن ورجال الوطن ثابت لا يتبدل مهما اشتدت العواصف. «وطني يا حكاية بالعز مضوايي، ليش هلقد بحبك يا غاية الغاية. بحبك يا عينيي وبقلك غنيي تلجك المحبة وشمسك الحرية»...