- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
اليَسار غطاء لتطرّف الــــيمين
المرحلة المقبلة من السياسة الإسرائيلية سوف تكون مرحلة التوفيق والتكامل بين الضغط السياسي والدبلوماسي وبين استخدام عصا التأديب العسكرية على جرعات متصاعدة
عندما أقال رئيس الحكومة الإسرائيلية الجنرال آرييل شارون وزراء حزب شينوي (التغيير) الخمسة من حكومته السابقة، على خلفية رفضهم الموافقة على موازنة العام 2005 وخلافاتهم الحادة مع المتدينين الأصوليين حول تقاسم الحصص والمنافع من هذه الموازنة، كان في نيته التوصل إلى تشكيل ائتلاف حكومي جديد أكثر استقراراً وأوسع تمثيلاً، مما يسمح له بالبقاء في الحكم حتى نهاية العام 2006 على أقل تقدير، ومما يخوله أيضاً الاستمرار في مناورة مشروعه الخاص بالانسلاخ عن قطاع غزة من طرف واحد.
وقد سبق لشارون أن أوضح في صيغه بأن التطورات التي حصلت في ساحة الصراعات الحزبية داخل وخارج حكومته السابقة، قد وضعته أمام خيارين لا ثالث لها، وهما: تشكيل حكومة وحدة وطنية ائتلافية مع حزب العمل، أو تقديم موعد الانتخابات العامة. وقد أجمعت أغلبية القيادات الحزبية في داخل الليكود وخارجه بأن الخيار الثاني سيلحق الضرر بالجميع ولا سيما بمصلحة اسرائيل القومية العليا في ظروف تاريخية حساسة ومصيرية. ومن هنا، كان لا مفر من التضامن مع حزب العمل ضمن صفقة محاصصات تم الاتفاق عليها بعد مساومات غير مضنية. وقد قال شارون في هذا الخصوص: «ليس الليكود ولا الدولة بحاجة إلى انتخابات... ونحن في أوج عملية سياسية وخطوات اقتصادية بالغة الأهمية...»
وهكذا انطلقت الحكومة الائتلافية الجديدة، حكومة الوحدة الوطنية في نسختها الجديدة القديمة، لأن مثل هذه الحكومة كانت ستكون في أعقاب زيارة شارون الاستفزازية لباحة المسجد الأقصى في نهاية العام 2000 وسقوط ايهود باراك زعيم حزب العمل في حينه. وتلك الحكومة هي التي نفذت عملية «السور الواقي» عام 2002 وقامت بعملية تطهير عرقي في مخيمات وأحياء بلدة جنين في الضفة الغربية، وهي التي دمّرت البنى التحتية الأساسية للسلطة الوطنية الفلسطينية وعزلت الرئيس الراحل ياسر عرفات في غرفتين ضيقتين في رام الله، وهي التي نفذت الاغتيالات وعمليات القتل الهمجي وذلك تحت امرة وزير الحرب العمالي الجنرال بنيامين بن اليعزر.
واستناداً إلى تجارب الماضي، قام الصحافي الإسرائيلي المعروف ناحوم بارنياع في صحيفة «يديعوت احرونوت» بتاريخ 17/1/2005 بتوصيف واقع وهوية حكومته الجديدة بالقول: «ان قوانين السياسة تشبه قوانين الطبيعة، فهي تفتش عن نقاط توازن. فعندما يقوم حزب معروف بأنه حزب يساري بالانضمام إلى حكومة يمينية، فإن الجانب اليميني في الحكومة يجد نفسه تلقائياً مضطراً للانحياز نحو اليمين أكثر. هذا هو طريق اليمين المتوافر للتقليل من الضرر الذي حلّ برصيده من جراء المشاركة مع اليسار». واعتبر الكاتب في تحليله بأن الحكومة الحالية، المؤلفة من حزبي العمل والليكود بالإضافة إلى المتدينين الأصوليين الاشكناز من حزب «يهودية التوراة» والمتدينين السفارديم من حزب «شاس»، لا يمكن إلا أن تترك الانطباع بأنها مقدمة على اصدار الأوامر العسكرية لتحريك الدبابات إلى مهامها. فاشتراك حزب العمل لا يمكن أن يدعو إلى التفاؤل أو الطمأنينة، بل ان مثل هذه المشاركة، إنما توحي بأن الحكومة الجديدة ستكون أكثر تشدداً وتطرفاً، لأن ما كان يمكن لليمين المتطرف أن يخشى ويتهيب القيام به لوحده في الأوضاع العادية، يصبح أمراً مباحاً ومألوفاً، ومحمياً في ظل ولاية حكومة الوحدة الوطنية. ولا سيما أن مثل هكذا حكومة في ظل ظروف احتلال وتوسع وتناحر قومي وديني، إنما تجد نفسها مضطرة لمزيد من التلاحم والتوحد حول المواقف الأكثر قرباً من مقومات ومتطلبات الحسم العسكري، وهي من الزاوية السياسية، تجد نفسها مرغمة أيضاً للتستير على برامج اليمين المتطرفة في أغلب الأحيان مع الشرعية الدولية والقائمة على تزوير الحق والحقيقة وعلى التوسّع والعنف والعنصرية.
من هنا، فإن حكومة الوحدة الوطنية التي نشأت حديثاً في إسرائيل إنما تشكل سفينة خلاص لمجمل طروحات الاحتلال التي ينادي بها اليمين الصهيوني المتطرف في أجواء مكفهرة من عواصف المصالح الدولية المتضاربة، كما وتشكل عاملاً مساعداً كبيراً على عدم تغيير «الوضع القائم» من الاحتلال والقتل وبناء الجدران والطرقات العنصرية. ولقد شهدنا منذ اليوم الأول لانطلاقة هذه الحكومة الهجينة، كيف يتصرف وزراء حزب العمل وكأنهم الناطقون الرسميون باسم شارون في التهجم على السلطة الفلسطينية ورئيسها الجديد محمود عباس (أبو مازن)، لحصره ضمن زاوية معنوية وسياسية ضيقة، إذا لم يكن ضمن غرفتين ضيقتين كما كان يحصل مع الراحل ياسر عرفات، ومثل هكذا حكومة تعود إلى تكتيكاتها القديمة التي لا تسمح للسلطة الفلسطينية إلا بدور محصور في الحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين والمستوطنات، مقابل بعض التسهيلات المعيشية والمساعدات المالية للسلطة وأجهزتها الرازحة تحت أعباء كبيرة من العجز في موازناتها وأوضاعها الإدارية واللوجستية.
لقد كانت حكومة شارون السابقة حكومة المواجهة العسكرية وتحطيم الارادات، أما حكومة الوحدة الحالية، فهي حكومة الاحتواء السياسي لهجوم «الواقعية السياسية» التي يتبناها ابو مازن والتي يأمل من ورائها الحصول على تحوّل جوهري في المنهجية السياسية التي تتبعها كل من أوروبا والولايات المتحدة ضد كل أشكال الرفض أو الممانعة الرسمية أو الشعبية في منطقة الشرق الأوسط الكبير. وما من شك في أن المرحلة الراهنة هي مجرد مرحلة انتقالية تكتيكية من أجل هضم ما يمكن هضمه من أراض فلسطينية محتلة، واستيعاب التعقيدات السياسية والدبلوماسية والأمنية التي يمكن أن تتفاقم، مع المزيد من التصعيد ومن ألاعيب التضليل واستدراك عامل الزمن، التي مارستها حكومة شارون السابقة بصورة دموية وبخبث في الوقت نفسه.
لقد أدت أحداث الحادي عشر من ايلول عام 2001 إلى زيادة هامش التسامح الأمني مع اسرائيل على صعيد السياسة الدولية، وقد استغلت اسرائيل في ظل ولاية جنرالها المتوحش شارون هذا التسامح حتى النهاية استيطاناً وفتكاً بالشعب الفلسطيني. وحكومة الوحدة الوطنية الجديدة تعمل بكل جهد للحفاظ على هذا الهامش من باب اعتبار أن قدسية الأمن الإسرائيلي هي جزء لا يتجزأ من قدسية الأمن الدولي، وأيضاً من باب اعتبار أن صيانة هذا الأمن ورعايته عسكرياً وجيوستراتيجياً، إنما تشكل مسألة مصيرية حتمية لمصالح وأهداف الدول الراعية والمؤيدة له. وكل من لا يرى هذا الرأي هو عدو لإسرائيل وأميركا في الوقت عينه. وإسرائيل التي لا تعتبر نفسها جزءاً عضوياً من هذه المنطقة لها المصلحة في تحريك واستغلال عوامل القوة العسكرية الفريدة من نوعها المتوافرة لديها في ظل اجماع فريد من نوعه داخلياً وخارجياً، من أجل تثبيت مكاسبها الاقليمية، وتوجيه كامل الاهتمام الدولي نحو أهداف تسعى لتحقيقها بالرغم من بعدها عن متناولها الذاتي والفردي. وحالياً يقال إن إسرائيل تشارك في الحرب على العراق وهي تقـوم ليلاً ونهـاراً بالتحريض ضد ايران وضـد سوريا ولبنان والسودان وحتى مصر. وما من شك في أن المرحـلة المقبلة من السياسة الإسرائيلية في ظل الأخوين اللدودين: الليكود والعمل، سوف تكون مرحـلة التوفـيق والتكامل ما بين الضغط السياسي والدبلوماسـي القاسي والمركّز، وبـين استخـدام عصـا التأديب العسكريـة التي ستستخدم على جرعات متوالية ومتصاعدة هـنا وهنـاك وحيـث تدعو الحاجة.