- En
- Fr
- عربي
نحن وأولادنا
منذ اندلعت الحرب في غزة، تتعرض المناطق الحدودية في الجنوب بشكل يومي للقصف من جانب العدو الإسرائيلي، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا من مختلف الأعمار وبينهم أطفال، فضلًا عن دمار المنازل والمنشآت، ونزوح عشرات الآلاف من بلداتهم وقراهم إلى مناطق أكثر أمانًا. حتى في المناطق التي لا تتعرض للقصف وتسيرالحياة فيها بشكل طبيعي تبقى مشاهد الحرب العنيفة حاضرة بقوة على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي. فما هو الأثر الذي يتركه ذلك على أطفالنا؟ وما هي تداعياته على سلوكهم وشخصيتهم مستقبلًا؟ وكيف يمكن أن نحميهم من تأثيرات الحرب وما تسببه لهم من ذعر وقلق؟ وهل من الأفضل أن نحيّدهم بشكل تام عن مشاهدها؟
توضح الاختصاصية في علم النفس الدكتورة كريستين نصّار أنّ حضور الأهل ودعمهم هو الأساس، فالأطفال يتطلعون دائمًا إلى والديهم كملاذٍ لهم، ويعتمدون على دعم البالغين ممن حولهم ورعايتهم إذ يستمدون منهم مشاعر السلام والأمان والطمأنينة، وذلك ليس في الأزمات فقط، وإنما في جميع الأوقات. فإذا كان الأهل بجانب أطفالهم، تمر المرحلة الصعبة من دون تداعيات سلبية تذكر. أما إذا كانوا بعيدين عنهم فقد يتملّكهم الشعور بالرعب والهلع وقد لا يكونون قادرين على التعبير عن مشاعرهم في حينها، فيخزّنها عقلهم الباطني لتعود وتظهر في مرحلة لاحقة.
كيف يعبّرون عن خوفهم وقلقهم؟
وتضيف نصّار: يأتي التعبير بطرقٍ مباشرة مثل: الخوف المستمر، التوتر، الضيق، الانزعاج، الغضب، الحركة الزائدة، وطرح الأسئلة بشكلٍ مفرط. أما التعبير غير المباشر فيمكن أن يظهر عبر: اضطرابات في الكلام (التلعثم أو التأتأة)، عدم التحكم في التبول، العودة إلى سلوكيات طفولية غير مناسبة لعمر الطفل (مص الأصابع مثلًا)، اضطرابات في النوم (الأرق، أو الكوابيس...)، وشدة التعلّق بأفراد الأسرة وبخاصةٍ الأهل والالتصاق بهم طوال الوقت خوفًا من فقدانهم.
للدكتورة نصّار العديد من المؤلفات والدراسات، وقد لاحظت من خلالها أنّه حتى الأطفال الذين يعيشون الحرب قد لا يتأثرون كثيرًا فيها إذا كانوا مع ذويهم، وذلك مرتبط بكيفية احتواء الأهل لما يعيشونه وما يشعرون به، وكيفية إخفاء خوفهم أمام أطفالهم كي لا يستمدوا منهم المشاعر السلبية.
الإدراك والنمو
اعتبارًا من أي عمر يبدأ الطفل بالتأثر بما يحيط به من حرب وعنف ودمار وتشرّد؟ يرتبط الأمر بالقدرة على الإدراك، فالطفل في الأشهر الأولى من عمره لا يكون مدركًا لما يحيط به. وإدراكه يتطور بشكلٍ تدريجي كلما كبر إذ تصبح المعالم من حوله أكثر وضوحًا، وبالتالي يزداد وعيه ويصبح أكثر تنبهًا لما يجري حوله من أصوات ومشاهد وواقع حال، فيبدأ بالتفاعل معها عبر التعبير عن شعوره بالخوف مثلًا. أما في ما يتعلّق بالطفل الذي يشاهد الحرب عبر التلفزيون، فترى الدكتورة نصّار أنّ رؤيته لهذه المشاهد قد تندرج ضمن خانة "العادة"، فلا يعود يتأثر مطلقًا بما تراه عيناه. لكن علينا الانتباه إلى عدم ترجمته لهذه المشاهد في البيت، ما قد يعود عليه بالأذى أو يلحق الضرر بإخوته، لا سيما مع الانتشار الهائل لمشاهد العنف على منصات الإعلام، إذ يجد الطفل نفسه محاطًا ببيئةٍ إعلامية مشحونة بمظاهر العنف يسندها الواقع المأساوي.
لا مفرّ من الواقع
هل يجب أن نتحدث إلى أطفالنا عن موضوع الحرب، وماذا نقول لهم عن الصور المرعبة التي يشاهدونها؟ تجيبنا الدكتورة نصّار عن هذا التساؤل بالقول إنّه من الضروري أن نسمح للأطفال بمشاهدة القليل من المشاهد العنيفة على التلفزيون أو ما يُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي لأنه واقع معاش لا مفر منه، ومهما تجنّبنا ذلك لا بد من أن يأتي وقت يصطدمون فيه بهذا الواقع. لذلك فإنّ الحديث مع الأطفال عن النزاعات والحروب يعتبر مسؤولية وتحديًا على عاتق الوالدين، والأجدر أن يكونا بجانب أطفالهما ليقوما بالتفسير لهم وتبسيط الواقع وتوضيحه من دون تخويفهم. فهم يحتاجون إلى معرفة ما يجري حولهم وتزويدهم مشاعر الطمأنينة والأمان. الأهل هم حائط الدعم الأساسي لأطفالهم وعندما يؤدّون دورهم بالشكل الصحيح، يجنبون أطفالهم الآثار النفسية والسلوكية السلبية. فإذا كانت لدى الأطفال أي أسئلة، يمكننا تبسيط الأجوبة قدر الإمكان ومن ثم إلهاؤهم بأنشطةٍ أخرى تشتّت أفكارهم عن الموضوع المقلق، وتجنب الحديث أمامهم عما يجري بشكلٍ مفصل.
النوم إلى جانب الأهل
ماذا عن النوم إلى جانب الأهل في هذه الظروف؟ تستبعد الدكتورة نصّار هذا الخيار بشكلٍ قاطع، وتشرح: يمكن للأهل أن يناموا إلى جانب أطفالهم لوقتٍ قصير إلى أن يغفوا، فالنقطة الأساس والأهم هي أن يشعر الطفل بالأمان في المنزل كله، وأن يؤكد الأهل على مسمعه أنّهم لن يتخلوا عنه، وأنهم موجدون إلى جانبه دائمًا. يجب طمأنة الطفل بأنّ غرفة أهله بقرب غرفته، إذا احتاج لأيِّ شيء يمكنه أن ينادي أمه أو أباه، فالكلمات هي التي تُعيد بناء الثقة بعد الخوف وتُعدّ أساسية في تجنّب الاضطرابات النفسية. أما إذا تعوّد الطفل على النوم إلى جانب أهله، فقد نقع في مشكلة التبعية وعدم الاستقلالية، وبالتالي نصبح أمام مشكلة أكبر.
آراء ومواقف
تحرص راكيل وزوجها على مشاهدة نشرات الأخبار عندما يخلد طفلاهما (5 و9 سنوات) إلى النوم، خوفًا من التعرّض لمشاهد عنيفة. وتقول راكيل: "نحن نرى أنّ هذا الخيار هو الأفضل فقد صادف أن شاهد ابني صور القصف والضحايا حين كان يلعب لدى الجيران، ويا ليته لم يرَ ذلك. تطلّب الأمر مني جهدًا لأبعد عنه الشعور بالرعب وأطمئنه".
لكريستال ابنتان، (4 و7 سنوات)، ونظرًا إلى طبيعة عملها كمعلمة لا تجد الوقت الكافي لمتابعة كل ما يجري من أحداث وتطورات، وهي صارمة في ما يخص عدم مشاهدة ابنتيها لصور الحرب البشعة، بل تفضّل إشغالهما بنشاطاتٍ تثقيفية مختلفة. في المقابل ترى كريستال أنّه يمكن أن نتشارك مع أطفالنا الرسم واللعب ورواية القصص وغيرها من الأنشطة الكثيرة التي تساعدهم على التعبير والتواصل خلال الظروف الصعبة.
لميراي رأي مختلف إذ تجاوز ولداها مرحلة الطفولة (14 و17 سنة) وهي تترك لهما مساحة من الحرية لمتابعة ما يحصل، سواء تعلّق الأمر بحروبٍ أو زلازل أو غيرها من الكوارث، بما يمكّنهما من معرفة ما يجري وتكوين آرائهما الخاصة وتمكين شخصيتهما. وهي ترى أنّ لوعي الأهل وثقتهم بأولادهم دور أساسي في هذا المجال.
تتعارض الحرب مع أبسط حقوق الأطفال، لا بل تنتهكها بشكلٍ عنيف وتسبب لهم الكثير من المعاناة، وبالتالي فإنّ حمايتهم وتوفير الشعور بالأمان لهم هي مسؤولية كبيرة يتحمّلها الأهل والمجتمع معًا.